فصل: الباب الأول: في تعريف العلم وتقسيمه وتعليمه وفيه فصول:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: أبجد العلوم (نسخة منقحة)



.الباب الأول: في تعريف العلم وتقسيمه وتعليمه وفيه فصول:

.الفصل الأول: في ماهية العلم:

.الاختلاف في ماهية العلم المطلق:

اعلم أنه اختلف في أن تصور ماهية العلم المطلق هل هو ضروري يتصور ماهيته بالكنه فلا يحد أو نظري يعسر تعريفه أو نظري غير عسير التعريف؟
والأول:
مذهب جماعة منهم الإمام الرازي واستدلوا بما ليس فيه شيء من الدلالة. ويكفي في دفع ما قالوه ما هو معلوم بالوجدان لكل عاقل أن العلم ينقسم إلى ضروري ومكتسب.
والثاني:
رأي قوم منهم إمام الحرمين والغزالي وقالوا: لا طريق إلى معرفته إلا القسمة والمثال وهو متعقب كما بينه شيخنا الشوكاني في إرشاد الفحول.
والثالث:
هو الراجح وبه قال الجمهور.

.تعريفات ماهية العلم:

ثم ذكروا له تعريفات:
الأول: لبعض المتكلمين من المعتزلة أنه اعتقاد الشيء على ما هو به وهو مدخول لدخول التقليد المطابق للواقع. فزيد فيه قيد عن ضرورة أو دليل لكن لا يمنع الاعتقاد الراجح المطابق وهو الظن الحاصل عن ضرورة أو دليل. وبعبارة أخرى هو الذي يوجب لمن قام به اسم العالم ويخرج عنه العلم بالمستحيل فإنه ليس بشيء اتفاقا.
الثاني: معرفة المعلوم على ما هو به وهو مدخول أيضا لخروج علم الله تعالى إذ لا يسمى معرفة أي إجماعا لا لغة ولا اصطلاحا ولذكر المعلوم وهو مشتق من العلم فيكون دورا ولأن معنى على ما هو به هو معنى المعرفة فيكون زائدا وهذا الثاني مختار القاضي أبي بكر الباقلاني.
الثالث: هو الذي يوجب كون من قام به عالما وهو مدخول أيضا لذكر العالم في تعريف العلم وهو دور.
الرابع: هو إدراك المعلوم على ما هو به وهو قول الشيخ أبي الحسن الأشعري وهو مدخول أيضا لما فيه من الدور الحشو كما مر ولأن الإدراك مجاز عن العلم.
الخامس: هو ما يصح لمن قام به إتقان الفعل وهو قول ابن فورك. وفيه أنه يدخل القدرة ويخرج علمنا إذ لا مدخل في صحة الإتقان فإن أفعالنا ليست بإيجادنا وإن في المعلومات ما لا يقدر العالم على إتقانه كالمستحيل.
السادس: تبيين المعلوم على ما هو به وفيه الزيادة المذكورة والدور. مع أن التبيين مشعر بالظهور بعد الخفاء فيخرج عنه علم الله سبحانه وتعالى.
السابع: إثبات المعلوم على ما هو به وفيه الزيادة والدور وأيضا الإثبات قد يطلق على العلم تجوزا فيلزم تعريف الشيء بنفسه.
الثامن: الثقة بأن المعلوم على ما هو به وفيه الزيادة والدور مع أنه لزم كون الباري واثقا بما هو عالم به وذلك مما يمتنع إطلاقه عليه شرعا.
التاسع: هو اعتقاد جازم مطابق لموجب إما لضرورة أو دليل وفيه أنه يخرج عنه التصور لعدم اندراجه في الاعتقاد مع انه علم.
ويخرج علم الله سبحانه وتعالى لأن الاعتقاد لا يطلق عليه ولأنه ليس بضرورة أو دليل. وهذا التعريف للفخر الرازي عرفه به بعد تنزله عن كونه ضروريا.
العاشر: حصول صورة الشيء في العقل أو الصورة الحاصلة عند العقل وفيه أنه يتناول الظن والجهل المركب والتقليد والشك والوهم. قال ابن صدر الدين: هو أصح الحدود عند المحققين من الحكماء وبعض المتكلمين.
قلت: وفيه أن إطلاق اسم العلم عليها يخالف مفهوم العلم لغة واصطلاحا وعرفا وشرعا إذ لا يطلق على الجاهل جهلا مركبا ولا على الظان والشاك والواهم أنه عالم في شيء من تلك الاستعمالات. وأما التقليد فقد يطلق عليه العلم مجازا ولا مشاحة في الاصطلاح والمبحوث عنه في المنطق هو العلم بهذا المعنى لأن المنطق لما كان جمع قوانين الاكتساب فلا بد لهم من تعميم العلم. قاله في كشاف اصطلاحات الفنون.
الحادي عشر: تمثل ماهية المدرك في نفس المدرك وفيه ما في العاشر. وهذان التعريفان للحكماء مبينان على الوجود الذهني والعلم عندهم عبارة عنه. فالأول: يتناول إدراك الكليات والجزئيات. والثاني: ظاهره يفيد الاختصاص بالكليات.
الثاني عشر: هو صفة توجب لمحلها تمييزا بين المعاني لا يحتمل النقيض وهو الحد المختار عند المتكلمين قال في كشاف اصطلاحات الفنون: أي لبراءته عما ذكر من الخلل في غيره وتناوله للتصور مع التصديق اليقيني انتهى.
قلت: إلا أنه يخرج عنه العلوم العادية كعلمنا مثلا بأن الجبل الذي رأيناه فيما مضى لم ينقلب إلى الآن ذهبا فإنها تحتمل النقيض لجواز خرق العادة. وأجيب عنه في محله وقد يزاد فيه بين المعاني الكلية وهذا مع الغنى عنه يخرج العلم بالجزئيات. وهذا المختار عند من يقول: إن العلم صفة ذات تعلق بالمعلوم.
الثالث عشر: هو تمييز معنى عند النفس تمييزا لا يحتمل النقيض بوجه وهو الحد المختار عند من يقول من المتكلمين: إن العلم نفس التعلق المخصوص بين العالم والمعلوم. وفيه أن العلوم المستندة إلى العادة تحتمل النقيض لإمكان خرق العادة بالقدرة الإلهية.
الرابع عشر: هو صفة يتجلى بها المذكور لمن قامت هي به. قال العلامة الشريف: وهو أحسن ما قيل في الكشف عن ماهية العلم لأن المذكور يتناول الموجود والمعدوم والممكن والمستحيل بلا خلاف ويتناول المفرد والمركب والكلي والجزئي والتجلي هو الانكشاف التام.
فالمعنى: إنه صفة ينكشف بها لمن قامت به ما من شأنه أن يذكر انكشافا تاما لا اشتباه فيه فيخرج عن الحد الظن والجهل المركب واعتقاد المقلد المصيب أيضا لأنه في الحقيقة عقدة على القلب فليس فيه انكشاف تام وانشراح ينحل به العقدة انتهى.
وفيه أنه يخرج عنه إدراك الحواس فإنه لا مدخلية للمذكور به فيه إن أريد الذكر اللساني كما هو الظاهر. وإن أريد به ما يتناول الذكر بكسر الذال والذكر بضمها فإنما أن يكون من الجمع. بين معنى المشترك أو من الجمع بين الحقيقة والمجاز وكلاهما مهجور في التعريفات.
الخامس عشر: حصول معنى في النفس حصولا لا يتطرق إليه في النفس احتمال كونه على غير الوجه الذي حصل فيه وهو للآمدي قال: ونعني بحصول المعنى في النفس تمييزه في النفس عما سواه ويدخل في العلم بالإثبات والنفي والمفرد والمركب ويخرج عنه الاعتقادات. إذ لا يبعد في النفس احتمال كون المعتقد والمظنون على غير الوجه الذي حصل فيه انتهى.
السادس عشر: هو حكم لا يحتمل طرفاه أي المحكوم عليه وبه نقيضه وفيه أنه يخرج عنه التصور وهو علم.
السابع عشر: صفة يتجلى بها المدرك بالفتح للمدرك بالكسر وهو كالعاشر وفيه أن الإدراك مجاز عن العلم فيلزم تعريف الشيء بنفسه مع كون المجاز مهجورا في التعريفات ودعوى اشتهاره في المعنى الأعم الذي هو جنس الأخص غير مسلمة.
هذا جملة ما قيل في تعريف العلم وقد عرفت ما ورد على كل واحد منها.
قال شيخنا القاضي العلامة الرباني محمد بن علي الشوكاني رحمه الله في إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول: والأولى عندي أن يقال في تحديده: هو صفة ينكشف بها المطلوب انكشافا تاما وهذا لا يرد عليه شيء مما تقدم فتدبر انتهى.
وقد أطال في كشاف اصطلاحات الفنون في بيان الأقوال السبعة الأول في حد العلم إطالة حسنة ليس إيرادها في هذا المختصر من غرضنا فإن شئت الزيادة على هذا فارجع إليه وإلى مآخذه.

.الفصل الثاني: فيما يتصل بماهية العلم من: الاختلاف والأقوال:

اعلم أنه اختلف في أن العلم بالشيء هل يستلزم وجوده في الذهن كما هو مذهب الفلاسفة وبعض المتكلمين أو هو تعلق بين العالم والمعلوم في الذهن كما ذهب إليه جمهور المتكلمين؟
ثم إنه على الأول لا نزاع في أنا إذا علمنا شيئا فقد تحقق أمور ثلاثة: صورة حاصلة في الذهن وارتسام تلك الصورة فيه وانفعال النفس عنها بالقبول. فاختلف في أن العلم أي هذه الثلاثة فذهب إلى كل منها طائفة. ولذلك اختلف في أن العلم هل هو من مقولة الكيف أو الانفعال أو الإضافة. والأصح أنه من مقولة الكيف على ما بين في محله.
ثم اعلم أن القائلين بالوجود الذهني منهم من قال: إن الحاصل في الذهن إنما هو شبح للمعلوم وظل له مخالف بالماهية غايته أنه مبدأ لانكشافه. لكن دليل البحث لو تم لدل على أن للمعلوم نحوا آخر من الوجود لا كشبحه المخالف له بالحقيقة.
ومنهم من قال: الحاصل في الذهن في نفس ماهية المعلوم لكنها موجودة بوجود ظلي غير أصلي وهي باعتبار هذا الوجود تسمى صورة ولا يترتب عليها الآثار كما أنها باعتبار الوجود الأصلي تسمى عينا ويترتب عليها الآثار.
فهذه الصورة إذا وجدت في الخارج كانت عين العين كما أن العين إذا وجدت في الذهن كانت عين الصورة أي شبح قائم بنفس العالم به ينكشف المعلوم وهي العلم وذو صورة أي ماهية موجودة في الذهن غير قائم به وهي المعلوم وهما متغايران بالذات. فعلى رأي القائلين بالشبح يكون العلم من مقولة الكيف بلا أشكال مع كون المعلوم من مقولة الجوهر أو مقولة أخرى لاختلافهما بالماهية.
وأما على رأي القائلين بحصول الماهيات بأنفسها في الذهن ففي كونه منها أشكال مع أشكال اتحاد الجوهر والعرض بالماهية وهما متنافيان. وأجاب عنه بعض المحققين بأن العلم من كل مقولة من المقولات وإن عدهم العلم مطلقا من مقولة الكيف على سبيل التشبيه به ويرد عليه أنه يصدق على هذا على العلم تعريف الكيف فيكون كيفا. وبعض المدققين جوز تبدل الماهية بأن يكون الشيء في الخارج جوهرا فإذا وجد في الذهن انقلب كيفا كالملحة التي ينقلب الواقع فيها ملحا وهو مبحث مشهور.
وفي أبي الفتح حاشية الحاشية الجلالية: أما القائلون بالوجود الذهني من الحكماء وغيرهم فاختلفوا اختلافا ناشئا من أن العلم ليس حاصلا قبل حصول الصورة في الذهن بداهة واتفاقا وحاصل عنده بداهة واتفاقا.
والحاصل معه ثلاثة أمور:
الصورة الحاصلة وقبول الذهن من المبدأ الفياض وإضافة مخصوصة بين العالم والمعلوم فذهب بعضهم إلى أن العلم هو الصورة الحاصلة فيكون من مقولة الكيف. وبعضهم إلى أنه الثاني فيكون من مقولة الانفعال. وبعضهم إلى أنه الثالث فيكون من مقولة الإضافة. والأصح المذهب الأول لأن الصورة توصف بالمطابقة كالعلم والإضافة والانفعال ويوصفان بها.
لكن القول بأن الصورة العقلية من مقولة الكيف إنما يصح إذا كانت مغارة لذي الصورة بالذات قائمة بالعقل كما هو مذهب القائلين بالشبح والمثال الحاكمين بأن الحاصل في العقل أشباح الأشياء لا أنفسها.
وأما إذا كانت متحدة معه بالذات مغايرة له بالاعتبار على ما يدل عليه أدلة الوجود الذهني وهو المختار عند المحققين القائلين بأن الحاصل في الذهن أنفس الأشياء لا أشباحها فلا يصح ذلك. فالحق أن العلم من الأمور الاعتبارية والموجودات الذهنية وإن كان متحدا بالذات مع الموجود الخارجي إذا كان المعلوم من الموجودات الخارجية سواء كان جوهرا أو عرضا كيفا أو انفعالا أو إضافة أو غيرها انتهى.
قال الرازي: قد اضطرب كلام ابن سينا في حقيقة العلم فحيث بين أن كون الباري عقلا وعاقلا ومعقولا يقتضي كثرة في ذاته فسر العلم بتجرد العالم والمعلوم من المادة. ورد بأنه يلزم منه أن يكون كل شخص إنساني عالما بجميع المجردات فإن النفس الإنسانية مجردة عندهم. وحيث قرر اندراج العلم في مقولة الكيف بالذات وفي مقولة الإضافة بالعرض جعله عبارة عن صفة ذات إضافة.
وحيث ذكر أن تعقل الشيء لذاته ولغير ذاته ليس إلا حضور صورته عنده جعله عبارة عن الصورة المرتسمة في الجوهر العاقل المطابقة لماهية المعقول. وحيث زعم أن العقل البسيط الذي لواجب الوجود ليس عقليته لأجل صور كثيرة بل لأجل فيضانها عنه حتى يكون العقل البسيط كالمبدأ الخلاق للصور المفصلة في النفس جعله عبارة عن مجرد إضافة انتهى.

.الفصل الثالث: في تقسيم العلم:

قالوا: للعلم تقسيمات.
الأول: إلى الحصولي والحضوري، فالحصولي: هو بحصول صورة الشيء عن المدرك ويسمى بالعلم الانطباعي أيضا لأن حصول هذا العلم بالشيء إنما يتحقق بعد انتقاش صورة ذلك الشيء في الذهن لا بمجرد حضور ذلك الشيء عند العالم.
والحضوري: هو بحضور الأشياء أنفسها عند العالم كعلمنا بذواتنا والأمور القائمة بها ومن هذا القبيل علمه تعالى بذاته وبسائر المعلومات.
ومنهم من أنكر العلم الحضوري وقال: إن العلم بأنفسنا وصفاتنا النفسانية أيضا حصولي وكذلك علم الواجب تعالى وقيل:
علمه تعالى بحصول الصورة في المجردات فإن جعل التعريف للمعنى الأعم الشامل للحضوري والحصولي بأنواعه الأربعة من الإحساس وغيره وبما يكون نفس المدرك وغيره فالمراد بالعقل الذات المجردة ومطلق المدرك وبالصورة ما يعم الخارجية والذهنية أي ما يتميز به الشيء مطلقا وبالحصول الثبوت والحضور سواء كان بنفسه أو بمثاله وبالمغايرة المستفادة من الظرفية أعم من الذاتية والاعتبارية وبقي معنى عندكما اختاره المحقق الدواني ولا يخفى ما فيه من التكلفات البعيدة عن الفهم وإن جعل التعريف للحصولي كان التعريف على ظاهره، والمراد بالعقل قوة للنفس تدرك الغائبات بنفسها والمحسوسات بالوسائط. وبصورة الشيء ما يكون آلة لامتيازه سواء كان نفس ماهية الشيء أو شبحا له والظرفية على الحقيقة.
اعلم أن القائلين بأن العلم هو الصورة فرقتان:
فرقة تدعي وتزعم أن الصور العقلية مثل وأشباح للأمور المعلومة بها مخافة لها بالماهية. وعلى قول هؤلاء لا يكون للأشياء وجود ذهني بحسب الحقيقة بل بحسب المجاز. كأن يقال مثلا النار موجودة في الذهن ويراد به يوجد فيه شبح له نسبة مخصوصة إلى ماهية النار بسببها كان ذلك الشبح علما بالنار لا بغيرها من الماهيات ويكون العلم من مقولة الكيف ويصير العلم والمعلوم متغايرين ذاتا واعتبارا.
وفرقة تدعي أن تلك الصورة مساوية في الماهية للأمور المعلومة بها بل الصور هي ماهيات المعلومات من حيث إنها حاصلة في النفس فيكون العلم والمعلوم متحدين بالذات مختلفين بالاعتبار. وعلى قول هؤلاء يكون للأشياء وجودان خارجي وذهني بحسب الحقيقة والتعريف الثاني للعلم مبني على هذا المذهب. وعلى هذا قال الشيخ: الإدراك الحقيقة المتمثلة عند المدرك.
الثاني: إلى أن العلم الحادث إما تصور أو تصديق، والعلم القديم: لا يكون تصورا ولا تصديقا.
الثالث: إلى أن الأشياء المدركة أي المعلومة تنقسم إلى ما لا يكون خارجا عن ذات المدرك أي العالم وإلى ما يكون.
أما في الأول: فالحقيقة الحاصلة عند المدرك هي نفس حقيقتها.
وأما في الثاني: فهي تكون غير الحقيقة الموجودة في الخارج بل هي إما صورة منتزعة من الخارج إن كان الإدراك مستفادا من خارج كما في العلم الانفعالي أو صورة حصلت عند المدرك ابتداء سواء كانت الخارجية مستفادة منها كما في العلم الفعلي أو لم تكن.
وعلى التقديرين فإدراك الحقيقة الخارجية بحصول تلك الصورة الذهنية عند المدرك والاحتياج إلى الانتزاع إنما هو في المدرك المادي لا غير كذا في شرح الإشارات وفي شرح الطوالع: الشيء المدرك إما نفس المدرك أو غيره. وغيره إما خارج عنه أو غير خارج عنه. والخارج عنه إما مادي أو غير مادي.
فهذه أربعة أقسام الأول: ما هو نفس المدرك.
والثاني: ما هو غيره لكنه غير خارج عنه.
والثالث: ما هو خارج عنه لكنه مادي.
والرابع: ما هو خارج عنه لكنه غير مادي. والأولان منها إدراكهما بحصول نفس الحقيقة عند المدرك فيكون إدراكهما حضوريا والأول بدون الحلول والثاني بالحلول والآخران لا يكون إدراكهما بحصول نفس الحقيقة الخارجية بل بحصول مثال الحقيقة سواء كان الإدراك مستفادا من الخارجية أو الخارجية مستفادة من الإدراك. والثالث إدراكه بحصول صورة منتزعة عن المادة مجردة عنها. والرابع لم يفتقر إلى الانتزاع.
الرابع: إلى واجب أي ممتنع الانفكاك عن العالم كعلمه بذاته وممكن كسائر العلوم.
الخامس: إلى فعلي ويسمى كليا قبل الكثرة وهو ما يكون سببا لوجود المعلوم في الخارج كما نتصور السرير مثلا ثم نوجده. وانفعالي ويسمى كليا بعد الكثرة وهو ما يكون مسببا عن وجود العالم بأن يكون مستفادا من الوجود الخارجي كما نجد أمرا في الخارج كالسماء والأرض ثم نتصوره فالفعلي ثابت قبل الكثرة والانفعالي بعدها. فالعلم الفعلي كلي يتفرع عليه الكثرة وهي الأفراد الخارجية. والعلم الانفعالي كلي يتفرع على الكثرة. وقد يقال إن لنا كليا مع الكثرة لكنه من قبيل العلم ومبني على وجود الطبائع الكلية في ضمن الجزئيات الخارجية.
قال الحكماء: علم الله سبحانه بمصنوعاته فعلي لأنه السبب لوجود الممكنات في الخارج لكن كون علمه تعالى سببا لوجودها لا يتوقف على الآلات بخلاف علمنا بأفعالنا ولذلك يتخلف صدور معلومنا عن علمنا. وقالوا: إن علمه تعالى بأحوال الممكنات على أبلغ النظام وأحسن الوجوه بالقياس إلى الكل من حيث هو كل هو الذي استند عليه وجودها على هذا الوجه دون سائر الوجوه الممكنة وهذا العلم يسمى عندهم بالعناية الأزلية.
وأما علمه تعالى بذاته فليس فعليا ولا انفعاليا أيضا بل هو عين ذاته بالذات وإن كان مغايرا له بالاعتبار.
السادس: إلى ما يعلم بالفعل وهو ظاهر وما يعلم بالقوة، كما إذا في يد زيد اثنان فسئلنا أزوج هو أم فرد؟ قلنا: نعلم إن كل اثنين زوج وهذا اثنان فنعلم أنه زوج علما بالقوة القريبة من الفعل وإن لم نكن نعلم أنه بعينه زوج. وكذلك جميع الجزئيات المندرجة تحت الكليات فإنها معلومة بالقوة قبل أن يتنبه للاندراج. فالنتيجة حاصلة في كبرى القياس هكذا قال بعض المتكلمين.
السابع: إلى تفصيلي وإجمالي، والتفصيلي كمن ينظر إلى أجزاء المعلوم ومراتبه بحسب أجزائه بأن يلاحظها واحدا بعد واحد والإجمالي كمن يعلم مسألة فيسأل عنها فإنه يحضر الجواب الذي هو تلك المسألة بأسرها في ذهنه دفعة واحدة وهو أي ذلك الشخص المسئول متصور للجواب لأنه عالم بأنه قادر عليه ثم يأخذ في تقرير الجواب فيلاحظ تفصيله ففي ذهنه أمر بسيط هو مبدأ التفاصيل والتفرقة بين الحالة الحاصلة دفعة عقيب السؤال وبين حالة الجهل الثابتة قبل السؤال.
وملاحظة التفصيل ضرورية وحدانية إذ في حالة الجهل المسماة عقلا بالفعل ليس إدراك الجواب حاصلا بالفعل بل النفس في تلك الحالة تقوى على استحضاره بلا تجشم كسب جديد فهناك قوة محضة.
وفي الحالة الحاصلة عقيب السؤال قد حصل بالفعل شعور وعلم ما بالجواب لم يكن حاصلا قبله. وفي الحالة التفصيلية صارت الأجزاء ملحوظة قصدا. ولم يكن حاصلا في شيء من الحالتين السابقتين وشبه ذلك بمن يرى نعما كثيرة تارة دفعة فإنه يرى في هذه الحالة جميع أجزائه ضرورة وتارة بأن يحدق البصر نحو واحد فيفصل أجزاءه. فالرؤية الأولى إجمالية الثانية تفصيلية.
وأنكر الإمام الرازي العلم الإجمالي والعلم الإجمالي على تقدير جواز ثبوته في نفسه هل يثبت لله تعالى أو لا؟ جوزه القاضي والمعتزلة ومنعه كثير من أصحابنا وأبو الهاشم. والحق أنه إن اشترط في الإجمالي الجهل بالتفصيل امتنع عليه تعالى وإلا فلا.
الثامن: إلى التعقل والتوهم والتخيل والإحساس.
التاسع: إلى الضروري والنظري، وعلم الله تعالى عند المتكلمين لا يوصف بضرورة ولا كسب فهو واسطة بينهما. وأما المنطقيين فداخل في الضروري.
والفرق بين العلم بالوجه وبين العلم بالشيء من وجه أن معنى الأول حصول الوجه عند العقل. ومعنى الثاني أن لاشيء حاصل عند العقل لكن لا حصولا تاما فإن التصور قابل للقوة والضعف كما إذا تراءى لك شبح من بعيد فتصورته تصورا ما ثم يزداد انكشافا عندك بحسب تقاربك إليه إلى أن يحصل في عقلك كمال حقيقته.
ولو كان العلم بالوجه هو العلم بالشيء من ذلك الوجه ما على ظنه من لا تحقيق له لزم أن يكون جميع الأشياء معلومة لنا مع عدم توجه عقولنا إليها وذلك ظاهر الاستحالة. كذا في شرح المطالع في بحث الموضوع. وقال عبد الحكيم في حاشية شرح المواقف في المقصد الرابع من مقاصد العلم في الموقف الأول: إنهم اختلفوا في علم الشيء بوجه وعلم وجه الشيء فقال من لا تحقيق له: إنه لا تغاير بينهما أصلا وقال المتقدمون بالتغاير بالذات إذ في الأول الحاصل في الذهن نفس الوجه وهو آلة لملاحظة الشيء والشيء معلوم بالذات. وفي الثاني الحاصل في الذهن صورة الوجه وهو المعلوم بالذات من غير التفات إلى الشيء ذي الوجه.
وقال المتقدمون بالتغاير بالاعتبار: إذ لا شك في أنه لا يمكن أن يشاهد بالضاحك أمر سواه. إلا أنه إذا اعتبر صدقه على أمر واتحاده معه كما في موضوع القضية المحصورة كان علم الشيء بالوجه. وإذا اعتبر مع قطع النظر عن ذلك كان علم الوجه كما في موضوع القضية الطبيعية انتهى.
وأثبت أبو هاشم علما لا معلوم له كالعلم بالمستحيل فإنه ليس بشيء والمعلوم شيء. وهذا أمر اصطلاحي محض لا فائدة فيه والله أعلم.

.الفصل الرابع: في العلم المدون وموضوعه ومباديه ومسائله وغايته:

اعلم أن لفظ العلم كما يطلق على ما يرادفه وهو أسماء العلوم المدونة كالنحو والفقه فيطلق كأسماء العلوم تارة على المسائل المخصوصة كما يقال: فلان يعلم النحو. وتارة على التصديقات بتلك المسائل عن دليلها. وتارة على الملكة الحاصلة من تكرر تلك التصديقات أي ملكة استحضارها.
وقد يطلق الملكة على التهيؤ التام وهو أن يكون عنده ما يكفيه لاستعلام ما يراد. والتحقيق أن المعنى الحقيقي للفظ العلم هو الإدراك ولهذا المعنى متعلق هو المعلوم. وله تابع في الحصول يكون وسيلة إليه في البقاء وهو الملكة. فإطلاق لفظ العلم على كل منها إما حقيقة عرفية أو اصطلاحية أو مجاز مشهور. وقد يطلق على مجموع المسائل والمبادئ التصورية والمبادئ التصديقية والموضوعات ومن ذلك يقولون: أجزاء العلوم ثلاثة. وقد تطلق أسماء العلوم على مفهوم كلي إجمالي يفصل في تعريفه فإن فصل نفسه كان حدا اسميا وإن بين لازمه كان رسما اسميا. وأما حده الحقيقي فإنما هو بتصور مسائله أو بتصور التصديقات المتعلقة بها فإن حقيقة كل علم مسائل ذلك العلم أو التصديقات بها.
وأما المبادئ وآنية الموضوعات فإنما عدت جزءا منها لشدة احتياجها إليها وفي تحقيق ما ذكرنا بيانات ثلاثة:

.البيان الأول: في بحث الموضوع:

اعلم أن السعادة الإنسانية لما كانت منوطة بمعرفة حقائق الأشياء وأحوالها بقدر الطاقة البشرية وكانت الحقائق وأحوالها متكثرة متنوعة تصدى الأوائل لضبطها وتسهيل تعليمها فأفردوا الأحوال الذاتية المتعلقة بشيء واحد أو بأشياء متناسبة ودونوها على حدة وعدوها علما واحدا وسموا ذلك الشيء أو الأشياء موضوعا لذلك العلم لأن موضوعات مسائله راجعة إليه.
فموضوع العلم ما تنحل إليه موضوعات مسائله وهو المراد بقولهم في تعريفه بما يبحث فيه عن عوارضه الذاتية. فصار كل طائفة من الأحوال بسبب تشاركها في الموضوع علما منفردا ممتازا بنفسه عن طائفة متشاركة في موضوع آخر، فتمايزت العلوم في أنفسها بموضوعاتها وهو تمايز اعتبروه مع جواز الامتياز شيء آخر كالغاية والمحمول. وسلكت الأواخر أيضا هذه الطريقة الثانية في علومهم وذلك أمر استحسنوه في التعليم والتعلم. وإلا فلا مانع عقلا من أن يعد كل مسألة علما برأسه ويفرد بالتعليم والتدوين ولا من أن يعد مسائل متكثرة غير متشاركة في الموضوع علما واحدا يفرد بالتدوين وإن تشاركت من وجه آخر ككونها متشاركة في أنها أحكام بأمور على أخرى، فعلم أن حقيقة كل علم مدون المسائل المتشاركة في موضعها واحد وأن لكل علم موضوعا وغاية. وكل علم له جهة وحدة تضبط تلك المسائل المتكثرة وتعد باعتبارها علما واحدا. إلا أن الأولى جهة وحدة ذاتية والثانية جهة وحدة عرضية. ولذلك تعرف العلوم تارة باعتبار الموضوع فيقال في تعريف المنطق مثلا: علم يبحث فيه عن أحوال المعلومات وتارة باعتبار الغاية فيقال في تعريفه: آلة قانونية تعصم مراعاتها الذهن عن الخطأ في الفكر، ثم إن الأحوال المتعلقة بشيء موحد أو أشياء مناسبة تناسبا معتدا به إما في أمر ذاتي كالخط والسطح والجسم التعليمي المتشاركة في مطلق المقدار الذي هو ذاتي لها كعلم الهندسة أو في أمر عرضي كالكتاب والسنة والإجماع والقياس المتشاركة في كونها موصلة إلى الأحكام الشرعية كعلم أصول الفقه فنكون تلك الأحوال من الأعراض الذاتية التي تلحق الماهية من حيث هي لا بواسطة أمر أجنبي.
وأما التي جميع مباحث العلم راجعة إليها فهي إما راجعة إلى نفس الأمر الذي هو الواسطة كما يقال في الحساب: العدد إما زوج أو فرد أو إلى جزئي تحته كقولنا: الثلاثة فرد وكقولنا في الطبيعي: الصورة تفسد وتخلف به لا عنه أو إلى عرض ذاتي له كقولنا: المفرد إما أول أو مركب.
وأما العرض الغريب وهو ما يلحق الماهية بواسطة أمر عجيب إما خارج عنها أعم منها أو أخص فالعلوم لا تبحث عنه فلا ينظر المهندس في أن الخط المستدير أحسن أو المستقيم ولا في أن الدائرة نظير الخط المستقيم أو ضده لأن الحسن والتضاد غريب عن موضوع علمه وهو المقدار فإنهما يلحقان المقدار لا لأنه مقدار بل لوصف أعم منه كوجوده أو كعدم وجوده.
وكذا الطبيب لا ينظر في أن الجرح مستدير أم غير مستدير لأن الاستدارة لا تلحق الجسم من حيث هو جريح بل لأمر أعم منه كما مر وإذا قال الطبيب هذه الجراحة مستديرة والدوائر أوسع الأشكال فيكون بطيء البرء لم يكن ما ذكره من علمه.
ثم اعلم أن موضوع علم يجوز أن يكون موضوع علم آخر وأن يكون أخص منه أو أعم وأن يكون مباينا عنه لكن يندرجان تحت أمر ثالث وأن يكون مباينا له غير مندرجين تحت ثالث لكن يشتركان بوجه دون وجه ويجوز أن يكونا متباينين مطلقا فهذه ستة أقسام:
الأول: أن يكون موضوع علم عين موضوع علم آخر.
فيشترط أن يكون كل منهما مقيدا بقيد غير قيد الآخر وذلك كأجرام العالم فإنها من حيث الشكل موضوع الهيئة ومن حيث الطبيعة موضوع لعلم السماء والعالم من الطبيعي فافترقا بالحيثيتين.
ثم إن اتفق أبحاث بعض المسائل فيها بالموضوع والمحمول فلا بأس إذ يختلف بالبراهين كقولهم بأن الأرض مستديرة وهي وسط السماء في الصور والمعاني لكن البرهان عليهما من حيث الهيئة غير البرهان من جهة الطبيعي.
الثاني والثالث: أن يكون موضوع علم أخص من علم آخر أو أعم منه.
فالعموم والخصوص بينهما إما على وجه التحقيق بأن يكون العموم والخصوص بأمر ذاتي له مثل كون العام جنسا للخاص أو بأمر عرضي. فالأول كالمقدار والجسم التعليمي فإن الجسم التعليمي أخص والمقدار جنس له وهو موضوع الهندسة والجسم التعليمي موضوع المجسمات.
وكموضوع الطب وهو بدن الإنسان فإنه نوع من موضوع العلم الطبيعي وهو الجسم المطلق والثاني كالموجود والمقدار فإن الموجود موضوع العلم الإلهي والمقدار موضوع الهندسة وهو أخص من الموجود لا لأنه جنسه بل لكونه عرضا عاما له.
الرابع: أن يكون الموضعان متباينين.
لكن يندرجان تحت أمر ثالث كموضوع الهندسة والحساب فإنهما داخلان تحت الكم فيسميان متساويين.
الخامس: أن يكونا مشتركين بوجه دون وجه.
مثل موضوعي الطب والأخلاق فإن لموضوعيهما اشتراكا في القوى الإنسانية. السادس: أن يكون بينهما تباين كموضوع الحساب والطب فليس بين العدد وبدن الإنسان اشتراك ولا مساواة.
تنبيه: اعلم أن الموضوع في علم لا يطلب بالبرهان لأن المطلوب في كل علم هي الأعراض الذاتية الموضوعة والشيء لا يكون عرضيا ذاتيا لنفسه بل يكون إما بينا بنفسه أو مبرهنا عليه في علم آخر فوقه بحيث يكون موضوع هذا العلم عرضا ذاتيا لموضوعه إلى أن ينتهي إلى العلم الأعلى الذي موضوعه الموجود لكن يجب تصور الموضوع في ذلك العلم والتصديق بهيئته بوجه ما. فكون علم فوق علم أو تحته مرجعه إلى ما ذكرنا فافهم.