فصل: الفصل الثامن: في مراتب العلم وشرفه وما يلحق به:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: أبجد العلوم (نسخة منقحة)



.الفصل الثامن: في مراتب العلم وشرفه وما يلحق به:

وفيه: إعلامات.

.الإعلام الأول: في شرفه وفضله:

واكتفيت مما ورد فيه من الآيات والأخبار بالقليل لشهرته وقوة الدليل. قال الله تعالى: {يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات} وقال تعالى: {قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون}.
وقال تعالى: {شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائما بالقسط}. فانظر كيف ثلث بأهل العلم وناهيك بهذا شرفا وفضلا وإجلالا ونبلا.
وقال: {إنما يخشى الله من عباده العلماء}.
وقال: {قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب}.
وقال: {قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به} فيه تنبيه على أنه اقتدر عليه بقوة العلم. وقال: {وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا}. بين أن عظم قدر الآخرة يعلم بالعلم.
وقال: {وما يعقلها إلا العالمون}.
وقال: {لعلمه الذين يستنبوطنه منهم}.
وقال: {ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم}.
وقال: {فلنقصن عليهم بعلم}.
وقال: {بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم}.
وقال: {خلق الإنسان علمه البيان}. إلى غير ذلك.
وعن معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تعلموا العلم فإن تعلمه لله تعالى خشية وطلبه عبادة ومذاكرته تسبيح والبحث عنه جهاد وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة وبذله لأهله قربة» لأنه معالم الحلال والحرام ومنار سبل أهل الجنة وهو الأنيس في الوحشة والصاحب في الغربة والمحدث في الخلوة والدليل على السراء والضراء والسلاح على الأعداء والتزين عند الأخلاء يرفع الله تعالى به أقواما فيجعلهم في الخير قادة وأئمة تقتفى آثارهم ويقتدي بفعالهم ترغب الملائكة في خلتهم وبأجنحتها تمسحهم يستغفر لهم كل رطب ويابس وحيتان البحر وهوامه وسباع البر وأنعامه لأن العلم حياة القلوب من الجهل ومصابيح الأبصار من الظلم يبلغ العبد بالعلم منازل الأخيار والدرجات العلي في الدنيا والآخرة والتفكر فيه يعدل الصيام ومدارسته تعدل القيام به توصل الأرحام وبه يعرف الحلال والحرام هو إمام والعمل تابعه ويلهمه السعداء ويحرمه الأشقياء.
أورده ابن عبد البر في كتاب جامع بيان العلم بإسناده وقال: هو حديث حسن جدا وفي إسناده ضعف. وروي أيضا من طرق شتى موقوفا على معاذ. وقد يقال: الموقوف في مثل هذا كالمرفوع فإن مثله لا يقال بالرأي.
وعن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاث إلا من صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له» رواه مسلم.
وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة» رواه مسلم.
وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من سلك طريقا يطلب فيه علما سلك الله به طريقا من طرق الجنة وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضا لطالب العلم وإن العالم يستغفر له من في السموات ومن في الأرض والحيتان في جوف الماء وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب وإن العلماء ورثة الأنبياء وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما وإنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر» رواه أحمد والترمذي وأبو داود وابن ماجة والدارمي.
وعن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم رجلان أحدهما عابد والآخر عالم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم». ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله وملائكته وأهل السموات والأرض حتى النملة في جحرها وحتى الحوت ليصلون على معلم الخير». رواه الترمذي.
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الناس لكم تبع وإن رجالا يأتونكم من أقطار الأرض يتفقهون في الدين فإذا أتوكم فاستوصوا بهم خيرا» رواه الترمذي.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الكلمة الحكمة ضالة الحكيم فحيث وجدها فهو أحق بها». رواه الترمذي وقال: غريب.
وإبراهيم بن الفضل الراوي يضعف في الحديث ورواه ابن ماجة. والمراد بالحكمة في هذا الحديث السنة دون الحكمة اليونانية بدليل قوله سبحانه: {ويعلمهم الكتاب والحكمة}.
وقد سافر أهل الحديث- كثر الله تعالى سوادهم- في طلبها إلى أقطار الأرض وكانوا أحق بها وأهلها حيث وجدوها بعد الفحص الكثير والبحث الشديد في بلاد شاسعة ومدائن بعيدة فجمعوها في دواوين الإسلام وامتثلوا قوله صلى الله عليه وسلم: «بلغوا عني ولو آية» رواه البخاري عن عبد الله بن عمرو. فجزاهم الله تعالى عنا وعن جميع المسلمين خير الجزاء.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد». رواه الترمذي وابن ماجة. والمراد بالفقه في هذا الحديث وغيره: فهم الكتاب والسنة دون الفقه المصطلح اليوم.
وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «طلب العلم فريضة على كل مسلم وواضع العلم عند غير أهله كمقلد الخنازير الجوهر واللؤلؤ». رواه ابن ماجة ورواه البيهقي في شعب الإيمان إلى قوله مسلم وقال: هذا حديث متنه مشهور وإسناده ضعيف. وقد روي من أوجه كلها ضعيف.
وعن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«من خرج في طلب العلم فهو في سبيل الله حتى يرجع». رواه الترمذي والدارمي.
وعن سخبرة الأزدي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«من طلب العلم كان كفارة لما مضى». رواه الترمذي والدارمي وقال الترمذي: هذا حديث ضعيف الإسناد وأبو داود الراوي يضعف.
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لن يشبع المؤمن من خير يسمعه حتى يكون منتهاه الجنة» رواه الترمذي. والمراد بالخير: العلم. وفيه أن زمان الطلب من المهد إلى اللحد وأن عاقبة طلب العلم الجنة. وهذه بشارة وأي بشارة لمن يعلم أو يتعلم. جعلنا الله من أهليه وحشرنا في زمرة ذويه.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من تعلم علما مما يبتغى به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضا من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة» - يعني ريحها- رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة. وإذا كان هذا القضاء في حق طالب العلم المحمود فما ظنك بطالب العلم المذموم من علوم اليونان.
وعن إبراهيم بن عبد الرحمن العذري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين». رواه البيهقي في كتاب المدخل مرسلا.
وعن الحسن مرسلا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من جاءه الموت وهو يطلب العلم ليحي به الإسلام فبينه وبين النبيين درجة واحدة في الجنة». رواه الدارمي.
اللهم إنك تعلم بطلبي العلم من بدء الشعور إلى هذه الغاية وسأطلبه إن شاء الله تعالى إلى آخر العمر والنهاية. وما مرادي به إلا إحياء السنة المطهرة وإماتة البدعة وهداية المتعلمين ونصيحة المسلمين وإيقاظ النائمين وتنبيه الغافلين. وأنا سمي خليفة رسولك أبي بكر الصديق رضي الله عنه والدرجة الصديقية تلو الدرجة النبوية فصدقني في هذا الرجاء وأوصلني إلى جنتك برحمتك يا أرحم الراحمين. وقد أحببت رسولك وأصحابه وأئمة السلف وأهل الحق من الخلف الذين قالوا بقول رسولك ولم يشركوا ولم يبدعوا فاحشرني معهم واجعلني في جوارهم في دار النعيم والمرء مع من أحب وإن لم يعمل عمله ولم يجهد جهده في الطاعة. اللهم آمين.
وعن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نعم الرجل الفقيه في الدين- أي العالم بالكتاب والسنة- إن احتيج إليه نفع وإن استغني عنه أغنى نفسه». رواه رزين.
وعن واثلة بن الأسقع قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من طلب العلم فأدركه كان له كفلان من الأجر فإن لم يدركه كان له كفل من الأجر» رواه الدارمي.
وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله عز وجل أوحى إلي أنه من سلك مسلكا في طلب العلم سهلت له طريق الجنة وفضل في علم خير من فضل في عبادة وملاك الدين الورع». رواه البيهقي في شعب الإيمان.
وعن ابن عباس قال: «تدارس العلم ساعة من الليل خير من إحيائه». رواه الدارمي.
وفي حديث ابن عمرو مرفوعا: «إنما بعثت معلما». رواه الدارمي.
وعن الأعمش مرفوعا: «آفة العلم النسيان». رواه الدارمي مرسلا.
والأخبار والآثار في شرف العلم وفضل العالم والمعلم والمتعلم وطالب العلم كثيرة جدا لا يسعها هذا المقام. وقد ألف الحافظ الإمام الحجة هادي الناس إلى المحجة محمد بن أبي بكر القيم كتابه مفتاح دار السعادة في مجلدين في فضائل العلم وما يليها وهو كتاب نفيس عزيز المقاصد من الله تعالى به علي وأحسن إلي.
والمراد بالعلم في الأحاديث المذكورة علم الدين والشرع المبين وهو علم الكتاب العزيز والسنة المطهرة لا ثالث لهما. وليس المراد به العلوم المستحدثة في العالم قديمه وجديده التي اعتنى الناس بها في هذه الأزمان وخاضوا فيها خوضا منعهم عن النظر في علوم الإيمان وأشغلهم عن الاشتغال بمراد الله تعالى ورسوله سيد الإنس والجان حتى صار علم القرآن مهجورا وعلم الحديث مغمورا وظهرت صنائع أقوام الكفر والإلحاد وسميت بالعلوم والفنون والكمال المستجاد وهي كل يوم في ازدياد فإنا لله وإنا إليه راجعون.
هذا وقد تكفل كتاباي الحطة بذكر الصحاح الستة والجنة في الأسوة الحسنة بالسنة ببيان فضيلة علم السنة فإن شئت الزيادة على هذا المقدار فارجع إليهما يزيدانك بصيرة كاملة في هذا الباب والله أعلم بالصواب.
وقال الشافعي: من شرف العلم أن كل من نسب إليه ولو في شيء حقير فرح ومن رفع عنه حزن قال الأحنف: كل عز ولم يؤيد بعلم فإلى ذل مصيره.
ثم إن العلوم مع اشتراكها في الشرف تتفاوت فيه فمنه ما هو بحسب الموضوع كالطب فإن موضوعه بدن الإنسان. والتفسير فإن موضوعه كلام الله سبحانه وتعالى ولا خفاء في شرفهما.
ومنه ما هو بسحب الغاية كعلم الأخلاق فإن غايته معرفة الفضائل الإنسانية.
ومنه ما هو بحسب الحاجة إليه كالفقه فإن الحاجة إليه ماسة.
ومنه ما هو بحسب وثاقه الحجة كالعلوم الرياضية فإنها برهانية.
ومن العلوم ما يقوى شرفه باجتماع هذه العبارات فيه أو أكثرها كالعلم الإلهي فإن موضوعه شريف وغايته فاضلة والحاجة إليه ماسة. وقد يكون أحد العلمين أشرف من الآخر باعتبار ثمرته أو وثاقة دلائله أو غايته. ثم إن شرف الثمرة أولى من شرف قوة الدلالة فأشرف العلوم ثمرة العلم بالله سبحانه وتعالى وملائكته ورسله وما يعين عليه فإن ثمرته السعادة الأبدية.

.الإعلام الثاني: في كون العلم ألذ الأشياء وأنفعها:

وفيه: تعليمات.
التعليم الأول: في لذته.
اعلم أن شرف الشيء إما لذاته أو لغيره والعلم حائز الشرفين جميعا لأنه لذيذ في نفسه فيطلب لذاته لذيذ لغيره فيطلب لأجله.
أما الأول: فلا يخفى على أهله أنه لا لذة فوقها لأنها لذة روحانية وهي اللذة المحضة وأما اللذة الجسمانية فهي دفع الألم في الحقيقة كما أن لذة الأكل دفع ألم الجوع ولذة الجماع دفع ألم الامتلاء. بخلاف اللذة الروحانية فإنها ألذ وأشهى من اللذائذ الجسمانية. ولهذا كان الإمام الثاني محمد بن الحسن الشيباني يقول عندما انحلت له مشكلات العلوم: أين أبناء الملوك من هذه اللذة سيما إذا كانت الفكرة في حقائق الملكوت وأسرار اللاهوت ومن لذته التابعة لعزته أنه لا يقبل العزل والنصب مع دوامه لا مزاحمة فيه لأحد لأن المعلومات متسعة مزيدة بكثرة الشركاء.
ومع هذا لا ترى أحدا من الولاة الجهال إلا يتمنون أن يكون عزهم كعز أهل العلم إلا أن الموانع البهيمية تمنع عن نيله.
وأما اللذائذ الحاصلة لغيره: أما في الأخرى فلكونه وسيلة إلى أعظم اللذائذ الأخروية والسعادة الأبدية ولن يتوصل إليها إلا بالعلم والعمل ولا يتوصل إلى العمل أيضا إلا بالعلم بكيفية العمل. فأصل سعادة الدارين هو العلم فهو إذا أفضل الأعمال. وأما في الدنيا فالعز والوقار ونفوذ الحكم على الملوك ولزوم الاحترام في الطباع فإنك ترى أغبياء الترك وأجلاف العرب وأراذل العجم يصادفون طباعهم مجبولة على التوقير لشيوخهم لاختصاصهم بمزيد علم مستفاد من التجربة.
بل البهيمة تجدها توقر الإنسان بطبعها لشعورها بتمييز الإنسان بكل مجاوز لدرجتها حتى إنها تنزجر بزجره وإن كانت قوتها أضعاف قوة الإنسان.
التعليم الثاني: في نفعه.
اعلم: أن السعادة منحصرة في قسمين: جلب المنافع ودفع المضار وكل منهما دنيوي وديني فالأقسام أربعة:
الأول: هو ما ينجلب بالعلم من المنافع الدينية.
وهو خفي وخلقي.
أشار إلى نفعه الأول قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث السابق: «فإن تعلمه لله خشية إلى آخره».
وإلى نفعه الثاني قوله- صلى الله عليه وآله وسلم-: «وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة وبذله لأهله قربة».
الثاني: وهو ما ينجلب بالعلم من المنافع الدنيوية.
وهو وجداني وذوقي وجاهي رتبي والوجداني: إما راحة أو استيلاء والراحة إما من مشقة وجود ظاهر للنفس أو من فقد سار لها بالأنس. وكل منهما إما خارجي وإما ذاتي.
فالراحة أربعة أقسام:
وقوله صلى الله عليه وسلم: «وهو الأنيس في الوحشة» إشارة إلى الأول لأنه يريح بأنسه من كل قلق واضطراب.
وقوله: «والصاحب في الغربة» إشارة إلى الثاني فانه يقر من الغريب عينه ويريحه من كمود النفس من الحزن وانكسارها لفقد سرور الأهل والوطن.
وقوله: «والمحدث في الخلوة» إشارة إلى الثالث لأن العلم يريح المنفرد عن الناس بتحديثه من انقباض الفهم وخموده وهو ألم ذاتي لأهل الكمال وهذا هو السر في استلذاذ المسامرة والمنادمة.
وقوله: «الدليل على السراء والضراء» أي في الماضي والآتي إشارة إلى الرابع الذي هو فقد سار ذاتي أي أن العلوم تقوم مقام الرأي السديد إذا استبشر إذ هو دال لصاحبه على السراء وأسبابها وعلى الضراء وموجباتها فالحيرة وجهل عواقب الأمور مؤلم للنفس لفقد نور البصيرة فالعلم يريح من تلك الهموم والأحزان.
والاستيلاء قسمان:
أحدهما: استيلاء يمحق الشر ويدفع الضر.
وإليه أشار قوله:«والسلاح على الأعداء» فبالعلم يزهق الباطل وتندفع الشبهة والجهالة. قيل: لبعض المناظرين فيم لذتك؟ فقال: في حجة تتبختر إيضاحا وشبهة تتضاءل افتضاحا.
وثانيهما: استيلاء يجلب الخير ويذهب الضر.
وإليه أشار قوله: «والزين عند الأخلاء» أي أن العلم جمال وحسن وكمال يجذب القلوب من الأخلاء كما قيل:
العلم زين وكنز لا نفاد له ** نعم القرين إذا ما عاقلا صحب

القسم الثاني: ما يجلبه العلم من الوجاهة والرتبة وهي إما عند الله سبحانه وتعالى وإما عند الملأ الأعلى وإما عند الملأ الأسفل.
الأول: أشار إليه قوله: «يرفع الله سبحانه وتعالى به أقواما» أي يعلي مقامهم ورتبتهم فيجعلهم في الخير قادة وأئمة أي شرفاء الناس وسادتهم والقادة جمع قائد وهو الذي يجذب إلى الخير إما مع الإلزام كالقاضي والوالي اللذين إلزامهما على الظاهر وكالخطيب والواعظ اللذين إلزامهما على الباطن وكالأئمة الذين بعلمهم يهتدي وبحالهم يقتدي.
والثاني: أشار إليه قوله: «ترغب الملائكة في خلتهم» أي لهم من المنزلة والمكانة في قلوبهم ما استولى على غيوب بواطنهم فرغبوا في محبتهم وأنسوا بملازمتهم وما استولى على ظواهرهم فيتبركون بمسحهم.
والثالث: أشار إليه قوله صلى الله عليه وسلم: «يستغفر لهم كل رطب ويابس» فشمل الناطق والنافس. قيل: سبب استغفار هؤلاء رجوع أحكامهم إليه في صدهم وقتلهم وحلهم وحرمتهم.
القسم الثالث: ما يندفع بالعلم من المضار الدنيوية وهو أيضا نوعان:
الأول: جلب المصالح والمقاصد ودفع المعائب والمفاسد وإليه.
أشار قوله صلى الله عليه وسلم: «به توصل الأرحام» أي بالعلم توصل الأرحام بين الأنام وتدفع مضرة القطيعة وحقدهم وحسدهم ومحاربتهم.
والثاني: مضرة اجتلاب المفساد برفض القانون الشرعي العاصم. من كل ضلال وإليه أشار قوله صلى الله عليه وسلم: «وبه يعرف الحلال والحرام» أي بالعلم يتبين أحدهما من الآخر وهو أساس جميع الخيرات فتأمل في بيان منافع العلم وكيفية جوامع الكلم وأكثر الصلاة على صاحبه عليه الصلاة والسلام.

.الإعلام الثالث: في دفع ما يتوهم من الضرر في العلم وسبب كونه مذموما:

اعلم: أنه لا شيء من العلم من حيث هو علم بضار ولا شيء من الجهل من حيث هو جهل بنافع. لأن في كل علم منفعة ما في أمر المعاد أو المعاش أو الكمال الإنساني وإنما يتوهم في بعض العلوم أنه ضار أو غير نافع لعدم اعتبار الشروط التي تجب مراعاتها في العلم والعلماء فإن لكل علم حدا لا يتجاوزه.
فمن الوجوه المغلطة أن يظن بالعلم فوق غايته كما يظن بالطب أنه يبرئ من جميع الأمراض وليس كذلك فإن منها مالا يبرأ بالمعالجة.
ومنها: أن يظن بالعلم فوق مرتبته في الشرف كما يظن بالفقه أنه أشرف العلوم على الإطلاق وليس كذلك فإن علم التوحيد أشرف منه قطعا.
ومنها: أن يقصد بالعلم غير غايته كمن يتعلم علما للمال أو الجاه فالعلوم ليس الغرض منها الاكتساب بل الاطلاع على الحقائق وتهذيب الأخلاق على أنه من تعلم علما للاحتراف لم يأت عالما إنما جاء شبيها بالعلماء ولقد كوشف علماء ما وراء النهر بهذا ونطقوا به لما بلغهم بناء المدارس ببغداد أقاموا مأتم العلم وقالوا: كان يشتغل به أرباب الهمم العلية والأنفس الزكية الذين يقصدون العلم لشرفه والكمال به فيأتون علماء ينتفع بهم وبعلمهم وإذا صار عليه أجرة تدانى إليه الأخساء وأرباب الكسل فيكون سببا لارتفاعه ومن ههنا هجرت علوم الحكمة وإن كانت شريفة لذاتها.
ومنها: أن يمتهن العلم بابتذاله إلى غير أهله كما اتفق في علم الطب فإنه كان في الزمن القديم حكمة موروثة عن النبوة فصار مهانا لما تعاطاه اليهود فلم يشرفوا به بل زال العلم بهم. وما أحسن قول أفلاطون: إن الفضيلة تستحيل في النفس الردية رذيلة كما يستحيل الغذاء الصالح في بدن السقيم إلى الفساد. ومن هذا القبيل الحال في علم أحكام النجوم فإنه لم يكن يتعاطاه إلا العلماء به للملوك ونحوهم فرذل حتى صار لا يتعطاها غالبا إلا جاهل يروج أكاذيبه.
ومنها: أن يكون العلم عزيز المنال رفيع المرقى قلما يتحصل غايته ويتعاطاه من ليس من أهله لينال بتمويهه عرضا كما اتفق في علوم الكيمياء والسيمياء والسحر والطلسمات. والعجب ممن يقبل دعوى من يدعي علما من هذه العلوم فإن الفطرة قاضية بأن من يطلع على ذبابة من أسرار هذه العلوم يكتمها عن والده وولده.
ومنها: ذم جاهل متعالم لجهله إياه فإن من جهل شيئا أنكره وعاداه كما قيل: المرء عدو لما جهله. أو ذم جاهل متعالم لتعصبه على أهله بسبب من الأسباب فإنك تسمعهم يقولون بتحريم المنطق مع كونه ميزان العلوم وتحريم الفلسفة مع أنها عبارة عن معرفة حقائق الأشياء وليس فيها ما ينافي الشرع المبين والدين المتين غير المسائل اليسيرة التي أوردها أصحاب التهافت وليس في كتب الحنفية القول بتحريم المنطق غير الأشباه فإن كان صاحبه رآه كان المناسب أن ينقل وأما ما في كتب الشافعية من التصريح به فمن رآه كان المناسب أن ينقل. وأما ما في كتب الشافعية من التصريح به فمن قبيل سد الذرائع وصرف الطبائع إلى علوم الشرائع. ولعل المراد من منع الأئمة عن تعليم بعض العلوم وتعلمه تخليص أصحاب العقول القاصرة من تضييع العمر وتوزيبه بلا فائدة فإن في تعليم أمثاله ليس له عائدة وإلا فالعلم إن كان مذموما في نفسه على زعمهم فإنه لا يخلو تحصيله عن فائدة أقلها رد القائلين به قال الغزالي في الإحياء: إن العلم لا يذم لعينه وإنما يذم في حق العباد لأحد أسباب ثلاثة.
الأول: أن يكون مؤديا إلى ضرر ما إما لصاحبه أو لغيره كما يذم علم السحر والطلسمات وهو حق إذ شهد القرآن له.
الثاني: أن يكون مضرا لصاحبه في غالب الأمر كعلم النجوم.
الثالث: الخوض في علم لا يستقل الخائض فيه فإنه مذموم في حقه كتعلم دقيق العلوم قبل جليلها وخفيها قبل جليها وكالبحث عن الأسرار الإلهية.. إلى آخر ما قال وأطال في بيان هذه الأسباب الثلاثة فإن شئت الزيادة فارجع إليه فإنه ينفعك نفعا عظيما.

.الإعلام الرابع: في مراتب العلوم من التعليم:

ولا يخفى أن يقدم الأهم فالأهم فيه والوسيلة مقدمة على المقصد كما أن المباحث اللفظية مقدمة على المباحث المعنوية لأن الألفاظ وسيلة إلى المعاني. ويقدم الأدب على المنطق ثم هما على أصول الفقه. ثم هو على الخلاف والتحقيق أن تقديم العلم على العلم لثلاثة أمور:
إما لكونه أهم منه كتقديم فرض العين على فرض الكفاية وهو على المندوب إليه وهو على المباح.
وإما لكونه وسيلة إليه كما سبق فيقدم النحو على المنطق.
وإما لكون موضوعه جزءا من موضوع العلم الآخر والجزء مقدم على الكل فيقدم الصرف على النحو.
وربما يقدم علم على علم لا لشيء منها بل لفرض التمرين على إدراك المعقولات كما أن طائفة من القدماء قدموا تعليم علم الحساب. وكثيرا ما يقدم الأهون فالأهون ولذا قدم المصنفون في كتبهم النحو على الصرف ولعلهم راعوا في ذلك أن الحاجة إلى النحو أمس، ثم إنه تختلف فروض الكفاية في التأكد وعدمه بحسب خلو الأعصاب والأمصار من العلماء فرب مصر لا يوجد فيه من يقسم الفريضة إلا واحد أو اثنان ويوجد فيه عشرون فقيها فيكون تعلم الحساب فيه آكد من أصول الفقه، واعلم أن الواجب علمه هو فرض عين وهو كل ما أوجبه الشرع على الشخص في خاصة نفسه وما أوجبه على المجموع ليعملوا به لو قام به واحد لسقط عن الباقين ويسمى فرض كفاية، والعلوم التي هي فروض كفاية على المشهور كل علم لا يستغنى عنه في قوام أمر الدنيا وقانون الشرع كفهم الكتاب والسنة وحفظهما من التحريفات ومعرفة الاعتقاد بإقامة البرهان عليه، وإزالة الشبهة ومعرفة الأوقات والفرائض والأحكام الفرعية وحفظ الأبدان والأخلاق والسياسة وكل ما يتوصل به إلى شيء من هذه كعلم اللغة والتصريف والنحو والمعاني والبيان. وكالمنطق وتسيير الكواكب ومعرفة الأنساب والحساب إلى غير ذلك من العوم التي هي وسائل إلى هذه المقاصد. وتفاوت درجاتها في التأكيد بحسب الحاجة إليها.
في هذا الباب كتاب أدب الطلب لشيخنا العلامة المجتهد محمد بن علي الشوكاني- رحمه الله- أبان فيه طريق العلم والتدرج فيه وهو كتاب لم يؤلف قبله مثله وإنه نفيس جدا.

.الإعلام الخامس: في تعليم الولدان واختلاف مذاهب الأمصار الإسلامية في طرقه:

اعلم أن تعليم الولدان للقرآن شعار من شعائر الدين أخذ به أهل الملة ودرجوا عليه في جميع أمصارهم لما يسبق فيه إلى القلوب من رسوخ الإيمان وعقائده من آيات القرآن وبعض متون الأحاديث وصار القرآن أصل التعليم الذي يبتني عليه ما يحصل بعد من الملكات، وسبب ذلك أن تعليم الصغر أشد رسوخا وهو أصل لما بعده لأن السابق الأول للقلوب كالأساس للملكات وعلى حسب الأساس وأساليبه يكون حال ما يبتني عليه، واختلفت طرقهم في تعليم القرآن للولدان باختلافهم باعتبار ما ينشأ عن ذلك التعليم من الملكات.
فأما أهل المغرب: فمذهبهم في الولدان الاقتصار على تعليم القرآن فقط وأخذهم أثناء المدارسة بالرسم ومسائله واختلاف حملة القرآن فيه لا يخلطون ذلك بسواه في شيء من مجالس تعليمهم لا من حديث ولا من فقه ولا من شعر ولا من كلام العرب إلى أن يحذق فيه أو ينقطع دونه فيكون انقطاعه في الغالب انقطاعا عن العلم بالجملة، وهذا مذهب أهل الأمصار بالمغرب ومن تبعهم من قرى البربر أمم المغرب في ولدانهم إلى أن يجاوزوا حد البلوغ إلى الشبيبة. وكذا في الكبير إذا راجع مدارسة القرآن بعد طائفة من عمره فهم لذلك أقوم على رسم القرآن وحفظه من سواهم. وأما أهل الأندلس: فمذهبهم تعليم القرآن والكتاب من حيث هو وهذا هو الذي يراعونه في التعليم. إلا أنه لما كان القرآن أصل ذلك وأسه ومنبع الدين والعلوم جعلوه أصلا في التعليم فلا يقتصرون لذلك عليه فقط بل يخلطون في تعليمهم للولدان رواية الشعر في الغالب والترسل وأخذ هم بقوانين العربية وحفظها وتجويد الخط والكتاب.
ولا تختص عنايتهم في التعليم بالقرآن دون هذه بل عنايتهم فيه بالخط أكثر من جميعها إلى أن يخرج الولد من عمر البلوغ إلى الشبيبة وقد شدا بعض الشيء في العربية والشعر والبصر بهما وبرز في الخط والكتاب وتعلق بأذيال العلم على الجملة لو كان فيها سند لتعليم العلوم ولكنهم ينقطعون عند ذلك فانقطاع سند التعليم في آفاقهم ولا يحصل بأيديهم إلا ما حصل من ذلك التعليم الأول وفيه كفاية لمن أرشده الله تعالى واستعداد إذا وجد المعلم.
وأما أهل إفريقية: فيخلطون في تعليمهم للولدان القرآن بالحديث في الغالب ومدارسة قوانين العلوم وتلقين بعض مسائلها إلا أن عنايتهم بالقرآن واستظهار الولدان إياه ووقوفهم على اختلاف رواياته وقراءاته أكثر مما سواه وعنايتهم بالخط تبع لذلك. وبالجملة فطريقتهم في تعليم القرآن أقرب إلى طريقة أهل الأندلس لأن سند طريقتهم في ذلك متصل بمشيخة الأندلس الذين أجازوا عند تغلب النصارى على شرق الأندلس واستقروا بتونس وعنهم أخذ ولدانهم بعد ذلك.
وأما أهل المشرق فيخلطون في التعليم كذلك على ما يبلغنا ولا أدري بم عنايتهم منها والذي ينقل لنا أن عنايتهم بدراسة القرآن وصحف العلم وقوانينه في زمن الشبيبة ولا يخلطون بتعليم الخط بل لتعليم الخط عندهم قانون ومعلمون له على انفراده كما تتعلم سائر الصنائع ولا يتداولونها في مكاتب الصبيان. وإذا كتبوا لهم الألواح فبخط قاصر عن الإجادة. ومن أراد تعلم الخط فعلى قدر ما يسنح له بعد ذلك من الهمة في طلبه ويبتغيه من أهل صنعته.
فأما أهل إفريقية والمغرب فأفادهم الاقتصار على القرآن القصور عن ملكة اللسان جملة وذلك أن القرآن لا ينشا عنه في الغالب ملكة لما أن البشر مصروفون عن الإتيان بمثله فهم مصروفون لذلك عن الاستعمال على أساليبه والاحتذاء بها وليس لهم ملكة في غير أساليبه فلا يحصل لصاحبه ملكة في اللسان العربي وحظه الجمود في العبارات وقلة التصرف في الكلام.
وربما كان أهل إفريقية في ذلك أخف من أهل المغرب لما يخلطون في تعليمهم القرآن بعبارات العلوم في قوانينها كما قلناه فيقتدرون على شيء من التصرف ومحاذاة المثل بالمثل إلا أن ملكتهم في ذلك قاصرة عن البلاغة لما أن أكثر محفوظهم عبارات العلوم النازلة عن البلاغة كما سيأتي في موضعه.
وأما أهل الأندلس فأفادهم التفنن في التعليم وكثرة رواية الشعر والترسل ومدارسة العربية من أول العمر حصول ملكة صاروا بها أعرف في اللسان العربي وقصروا في سائر العلوم لبعدهم عن مدارسة القرآن والحديث الذي هو أصل العلوم وأساسها فكانوا لذلك أهل حظ وأدب بارع أو مقصر على حسب ما يكون التعليم الثاني من بعد تعليم الصبا.
ولقد ذهب القاضي أبو بكر بن العربي في كتاب رحلته إلى طريقة غريبة في وجه التعليم وأعاد في ذلك وأبدأ وقدم تعليم العربية والشعر على سائر العلوم كما هو مذهب أهل الأندلس: قال لأن الشعر ديوان العرب. ويدعو إلى تقديمه وتعليم العربية في التعليم ضرورة فساد اللغة ثم ينتقل منه إلى الحساب فيتمرن فيه حتى يرى القوانين ثم ينتقل إلى درس القرآن فإنه يتيسر عليه بهذه المقدمة.
ثم قال: ويا غفلة أهل بلادنا في أن يؤخذ الصبي بكتاب الله في أول أمره يقرأ مالا يفهم وينصب في أمر غيره أهم عليه.
قال: ثم ينظر في أصول الدين ثم أصول الفقه ثم الجدل ثم الحديث وعلومه.
ونهى مع ذلك أن يخلط في التعليم علمان إلا أن يكون المتعلم قابلا لذلك بجوده الفهم والنشاط.
هذا ما أشار إليه القاضي أبو بكر رحمه الله وهو لعمري مذهب حسن إلا أن العوائد لا تساعد عليه وهي أملك بالأحوال ووجه ما اختصت به العوائد من تقدم دراسة القرآن إيثارا للتبرك والثواب وخشية ما يعرض للولد في جنون الصبا من الآفات والقواطع عن العلم فيفوته القرآن فإنه ما دام في الحجر منقاد للحكم فإذا تجاوز البلوغ وانحل من ربقة القهر فربما عصفت به رياح الشبيبة فألقته بساحل البطالة فيغتنمون في زمان الحجر وربقه الحكم تحصيل القرآن لئلا يذهب خلوا منه.
ولو حصل اليقين باستمراره في طلب العلم وقبوله التعليم لكان هذا المذهب الذي ذكره القاضي أولى مما أخذ به أهل المغرب والمشرق ولكن الله تعالى يحكم ما يشار لا معقب لحكمه. وهو أحكم الحاكمين.