فصل: مطلب: في بيان المردف والمستزاد والمزدوجة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: أبجد العلوم (نسخة منقحة)



.مطلب: في بيان المردف والمستزاد والمزدوجة:

قال السيد العلامة: غلام علي أزاد- رحمه الله تعالى-: الرديف: عبارة عن كلمة مستقلة فصاعدا تتكرر بعد الروي والشعر المشتمل عليه يسمى: مردفا من الترديف وهو يزيد الأشعار جمالا ويلبس بنات الأفكار خلخالا وبه يتنوع الشعر الفارسي على أنواع لا تحصى وأقسام لا تتناهى.
ولا رديف في شعر العرب وإن تكلف أحد بالترديف لا تظهر له جلوة مثل ما تظهر في شعر الفرس فهو في الفارسية بزة العروس وفي العربية رجل الطاووس ولا منشأ له إلا خصوصية اللسان ومن يعرف اللسانين يشاهد أن الرديف في الفارسية طبيعي وفي العربية غير طبيعي وبيانه أن الرديف يجيء في الفارسية عفوا بلا تجشم بل لا يحسن إغزالهم بلا رديف أو وصل بالروي ويجيء في العربية بالتجشم حيث يحتاج إلى فرض رديف يصح معناه في جميع أبيات القصيدة بل ربما يعوق الرديف الذهن عن التطرق إلى المعاني العالية بخلاف الفارسية فإن الرديف فيها يبعث الذهن على المعاني العالية ويهديه إلى الجواهر الغالية وقد سبق أن سبب ذلك: ليس إلا خصوصية اللسان.
ولهذا ما وجدت في كلام العرب العرباء شعرا مردفا وإنما وجدته في كلام الأعاجم على سبيل الشذوذ كما نظم الزمخشري قصيدة مردفة في مدح علاء الدولة- والي خوارزم- مطلعها:
الفضل حصله علاء الدوله ** والمجد أثله علاء الدوله

وكما نظم الشيخ: عبد العزيز اللنباني قصيدة مردفة مطلعها:
بشراك يا من به يستبشر العيد ** ومن به كل ميت ينشر العيد

والآية المكررة في سورة الرحمن من القرآن المجيد وهي: {فبأي آلاء ربكما تكذبان} فيها رائحة من الرديف.
ولا يخفى أن التكرير نوع من التفنن في الكلام وضرب من طلاقة ألسنة الأقلام ورأيت في الرديف فائدة وهي: أن حروف الروي التي قوافيها قليلة كالثاء المثلثة والخاء المعجمة والذال المعجمة والزاي والضاد المعجمة والطاء المهملة والظاء المعجمة والغين المعجمة والكاف إذا وقعت رويا يضطر فيها الإنسان إلى إيراد اللغات الحوشية والألفاظ الغير المأنوسة وبالرديف يتخلص عن هذا الاضطرار ويتسع عليه مضيق القوافي والروي المنون بلا إشباع والمتحرك بلا وصل لا يكون إلا في الشعر المردف لوقوع الروي في وسط الكلام وهو في الشعر المردف من وجه وسط للحوق الرديف به فلا يشبع بل ينتقل فيه الإشباع من الروي إلى الحرف الواقع في آخر الرديف ومن وجه آخر لكون مدار القافية عليه فيشبع فالروي المنون بلا إشباع كما في قولي:
رشأ الأبيرق قاتل والله ** إن المحب لغافل والله

والروي المشبع كقولي أيضا:
جور الحبيبة في منى مرضي ** ذبح المتيم هاهنا مرضي

والروي المتحرك بلا وصل كقولي أيضا:
قدر القلوب من الصفاء يلوح ** ثمن الجواهر بالجلاء يلوح

واعلم: أن المستزاد من مستخرجات العجم ثم تناوله العرب وهو كلام موزون يستزاد فيه بعد كل مصراع من البيت جزءان من بحر المستزاد عليه بشرط الالتئام أو بعد كل بيت إلا البيت المصرع فإنه يستزاد فيه جزءان بعد الشطر الأول أيضا كما تراعى فيه القافية والقسم الأول أوفق بالدبيت والقسم الثاني أوفق بالقصيدة.
ولا يخفى على الناقد أن تمكين القافية في زيادة المستزاد قلما يوجد مثله في غيرها فالزيادة فيه كأنها برة في ساق الغادة نعم للذين أحسنوا الحسنى وزيادة على أنها تجلب المعاني الرائقة وتجذب الخيالات الفائقة بخلاف الرديف فإنه يطرد المعاني ويقتل الغواني.
ثم الالتئام بين الزيادة وبين المستزاد عليه تدركه القريحة السليمة ولا يوجد الالتئام في كل وزن من أوزان العروض بل عدة أوزان من الفارسية أما بالعربية فلا يوجد إلا في ثلاثة أوزان:
أحدها: المتقارب والزيادة فيه إما: فعولن فعول سالما ومقبوضا أو: فعولن فعل سالما ومحذوفا أو: فعول فعول مقبوضين أو: فعول فعل مقبوضا ومخدوفا.
وثانيها: ركض الخيل والزيادة فيه إما: فعلن فعلن بتحريك العين فيهما أبو بسكونها فيهما أو بتحريك العين في أحدهما وسكونها في الآخر وكلا البحرين من الدائرة الخامسة من العروض.
وثالثها: الدبيبت وهو في الأصل من مستخرجات العجم استخرجوه من بحر النهرج لا من بحر الكامل- كما زعمه بعضهم- والنهرج: عند الفرس ثمانية مفاعيلن يتركب الدبيت منه ومن بعض فروعه بعد الزحافات.
واختراع الحسن القطان- من أهل خراسان- لضبط أوزانه شجرتين إحداهما: شجرة الأخرب مشتملة على أربعة وعشرين وزنا ووجه تسميتها: أن جزأها الأول: مفعول بضم اللام من مفاعلن بالخرب وهو: حذف الميم والنون من مفاعيلن وأخراهما: شجرة الأخرم أيضا مشتملة على أربعة وعشرين وزنا ووجه تسميتها: أن جزأها الأول مفعولن من مفاعيلن بالخرم وهو: حذف الميم فقط من مفاعيلن ويجوز الجمع بين بعض هذه الأفاعيل وبين بعض آخر في دبيت واحد لا يخل به الوزن.
وأوصل بعضهم أوزانه بضرب بعضها في بعض إلى عشرة آلاف.
ثم الزيادة في مستزاد الدوبيت على قسمين القسم الأول: ما فيه أول الجزأين أخرب وهو مفعول من مفاعيلن- كما مر- والثاني منهما: إما فعول فيكون الجزءان مفعول فعول أو فعل فيكون الجزءان مفعول فعل والقسم الثاني: ما فيه أول الجزأين أخرم وهو مفعول من مفاعيلن- كما سبق- والثاني منهما: إما فاع فيكون الجزءان مفعولن فاع أو فع فيكون الجزءان مفعولن فع والزحافات التي تقع في مفاعيلن وتتولد منه الأجزاء اللواتي في القسمين من الزيادة مذكورة في كتب العروض الفارسية في شرح الرباعي ويجوز الجمع بين هذه الأفاعيل في الزيادات كما يجوز في الأبيات الأصلية.
وعرف صاحب مناظر الإنشاء المستزاد: بأن تستزاد بعد كل مصراع فقرة من النثر وتبعته في سبحة المرجان ثم اختلج في خاطري أن النظم والنثر متضادان كيف يصح الاجتماع بينهما؟ فاستخرجت الوزن للزيادة وعرفت المستزاد بالتعريف الذي تقدم.
وللمستزاد أحكام منها: أن لا يجوز قطع الكلمة بين المصاريع وبين الزيادات في أي محل كان فلا بد من أن يختم كل من المصراع والزيادة على تمام الكلمة لا على بعضها لأن كلا من المصراع الأصلي والزيادة قطعة على حدة لا اتصال بينهما إلا في المعنى.
ففي القسم الأول: أربع قطع وفي القسم الثاني: ثلاث قطع.
ومنها: أن يأتي في العروض والجزء الثاني من زيادتها فعول في وزن الدوبيت كما يجوز في المتقارب المستزاد وغير المستزاد وعلى هذا القياس فاع من غير أن يجعل الحرف الأخير منهما من المصراع الثاني كما يجعل منه أحيانا في غير المستزاد وهذا الأمر يفهم من الحكم الأول أيضا لكن بينته لزيادة التوضيح.
ومنها: أن يجيء في رأس الزيادات ورأس الأعجاز همزة الوصل بالقطع من غير مضايقة لما مر من أن كلا منهما قطعة على حدة.
ولما كان المستزاد من مخترعات شعراء العجم لزم لشعراء العرب أن يعملوا على ما قرره شعراء العجم من قواعدهم والأحسن أن تنسب القصيدة إلى الرويين: روي المصراع الأصلي وروي الزيادة.
ويقال مثلا للقصيدة الأولى من تغزلات هذا الديوان: الألفية الهمزية أما ترتيب الديوان على ترتيب حروف الهجاء فمداره على روي الزيادة.
ولقد أكثر شعراء العرب النظم في وزن الدوبيت لعذوبته وسلاسته لكن ما نظم أحد منهم قصيدة في هذا البحر فضلا أن ينظم المستزاد فيه.
ورأيت في ديوان الشيخ: صفي الدين الحلي موشحا في وزن الدوبيت مشتملا على الزيادة لكنه قسم آخر من الشعر ما هو على طريقة اخترتها.
ولا شك في أن المستزاد طريقه صعب لما فيه من رعاية القافيتين وتحمل الداهيتين فأجريت الكميت في ميدان الدوبيت ونظمت فيه قصائد المستزاد وأسست أساسا جديدا على نهج السداد.
أما المستزاد في المتقارب وركض الخيل فاستخرجته أنا ولم يسبق إليه ذهن قبلي فهو أول بناء أسسته بالعربية ثم شعراء الفرس نظموا المستزاد في الدوبيت وغيره قليلا قليلا لكن ما رتب أحد منهم ديوانا فيه فديواني أول ديوان رتب في المستزاد وأول صيد نشب في حبالة الصياد. انتهى. كلامه.
وقال- رحمه الله- في أول كتابه مظهر البركات: إن المزدوجة من أقسام الموزونات حق للسان الفارسي فإنها فيه طبيعية تأتي عفوا بلا تكلف وضعها شعراء الفرس لنظم القصص والأخبار وسموها: المثنوي أما اللسان العربي فهي فيه غير طبيعية لا تأتي إلا بالتجشم كما أن القصيدة في اللسان الهندي غير طبيعية ليس وجودها فيه أصلا يعرف هذه المراتب من له معرفة تامة بهذه الألسنة.
ولهذا ما نظم المزدوجة من شعراء العرب إلا أشخاص معدودة منهم: الشيخ أبو يعلى: محمد بن الهبارية العباسي نظم الصادح والباغم في الرجز أولها:
الحمد لله الذي حباني ** بالأصغرين القلب واللسان

وإنما فضيلة الإنسان ** وفخره بالعقل والتبيان

ومنهم: الشيخ: بهاء الدين العاملي نظم مزدوجة في الوافر سماها: رياض الأرواح منها:
ألا يا خائضا بحر الأماني ** هداك الله من هذا التواني

ونظم مزدوجة أخرى في الرمل سماها: سوانح سفر الحجاز منها:
يا نديمي ضاع عمري وانقضى ** قم لاستدراك وقت قد مضى

وما رأيت شاعرا عربيا نظم المزدوجة في الخفيف ونظمها فيه شعراء الفرس كثيرا وهو أوفق بالمزدوجة في اللسان العربي أيضا.
فاختلج في خاطري أن أنظم المزدوجة العربية في الخفيف فنظمت هذه المزدوجة وسميتها: مظهر البركات.
ولشعراء الفرس: الرديف وقد نظمت ديوانا مردفا رويه على ترتيب حروف الهجاء لامتحان الطبيعة واختبار القريحة ورأيت أن الرديف في المزدوجة العربية طبيعي يروق المسامع بخلاف القصائد العربية بل الرديف في المزدوجة ربما يعين الطبع على أداء المقاصد ويخرجه عن مضيق القافية ويبين أن هذا من خصائص المزدوجة.
ولشعراء الفرس: الحاجب وهو: عبارة عن الرديف بين القافيتين ويسمى الشعر المشتمل عليه محجوبا ورأيت أن الحاجب أيضا طبيعي في المزدوجة العربية تقبله الطباع بلا إكراه.
واعلم: أن شعراء الفرس والهند دأبهم أن يختاروا لأنفسهم أسماء ويذكروها في أواخر منظوماتهم ليعلم بها من نظمها ويسمي شعراء الفرس هذا الاسم: التخلص والسر في ذلك: أن الاسم الأصلي للشاعر ربما لا تسعه الأوزان فيختارون اسما مختصرا يسعه الوزن.

.مطلب: في طبقات الشعراء:

اعلم: أن البلغاء طبقاتهم العلية:
1- الجاهلية الأولون.
2- ثم المخضرمون.
3- ثم الإسلاميون.
4- ثم المولدون.
5- ثم المحدثون.
6- والعصريون.
فهذه الطبقات الست ثلاث منها: حازوا قصب السبق في حلبة الرهان معرفة كلامهم فرض كفاية في الإسلام لأنه يستدل به على الكلام العربي الذي تستنبط منه أحكام الحلال والحرام وألحق به بعضهم ما بعده كإثبات لطائف المعاني دون الألفاظ المحكمة المباني ومن حققه لم يكن منه على ثقة.
وإن في الشعر دقائق لم يكشف عنها الغطاء منها: أن أهل المعاني قالوا: إن التعقيد المعنوي واللفظي ينافي الفصاحة.
فقال بعض المتأخرين: إن الألفاظ كلها غير فصيحة لما فيها من التعقيد المعنوي وليس كما قال لأن أبا هلال العسكري قال في كتاب الصناعتين: إنها فصيحة وإن التعقيد إنما يكره إذا لم يقصد فإن قصد فهو فصيح.
ومما يؤيده أن الإسنوي قال في كتابه طراز المحافل: إن من السنة أن يلقي الألغاز على من في مجلسه لتشحيذ الأذهان لما رواه البخاري عن ابن عمر من حديث النخلة.
قال أبو هلال: ومنه نوع بديع سميته: شبه الإلغاز وهو: أن يوصف شيء بصفات تساق على نهج اللغز ليس المقصود الإلغاز. انتهى.
وإن معجزة كل نبي على وفق زمانه وقومه ولما كان أشرف الخلق العرب وأعظم ما عندهم الشجاعة والفصاحة والكرم كان أعظم معجزات نبينا صلى الله عليه وسلم: القرآن المعجز بفصاحته وبلاغته ولما كان خاتم الرسل ولا نبي بعده جعل له معجزة باقية إلى القيامة لا تزال تتلى وجديدة على كثرة الترداد لا تخلق ولا تبلى.
وبلغاء العرب في الشعر والخطب على ست طبقات:
1- الجاهلية الأولى: من قوم عاد وقحطان.
2- والمخضرمون: وهم من أدرك الجاهلية والإسلام.
3- والإسلاميون.
4- والمولدون.
5- والمحدثون.
6- والمتأخرون: ومن ألحق بهم من العصريين.
والثلاث الأول: هم ما هم في البلاغة والجزالة ومعرفة شعرهم رواية ودراية- عند فقهاء الإسلام- فرض كفاية لأنه به تثبت قواعد العربية التي بها يعلم الكتاب والسنة المتوقف على معرفتهما الأحكام التي يتميز بها الحلال والحرام وكلامهم وإن جاز فيه الخطأ في المعاني لا يجوز فيه الخطأ في الألفاظ وتركيب المعاني.
إذا عرفت هذا فاعلم: أن الطبقات الثلاث الأول جمعوا أشعارهم في كتب كثيرة غير الدواوين: كالحماسة والمفضليات وأشعار هذيل وغيرها من الكتب المفيدة.
ثم أورد: الشهاب الخفاجي بعد ذكر هذا من نثرهم ونظمهم جملة صالحة في كتابه ريحانة الألباء وذكر كلام المولدين وبعض شعراء الجاهلية ثم قال: إن المتأخرين وإن تأخر زمانهم عن المتقدمين فقد زاحموهم بالركب وكادوا أن يرقوا إلى أعلى الرتب لا سيما شعراء المغرب فقد أتوا بمعان بديعة وارتقوا إلى مرتبة رفيعة كيزيد بن خالد الإشبيلي له في وصف السفن معان لم يسبق إليها.
ومن شعرائهم: ابن خفاجة.
وقال الأدباء: بدئ الشعر بملك وختم بملك والأول: امرؤ القيس فإنه أول من هلهل الشعر وهذبه ونسج نسيبه ورتبه والثاني: ابن المعتز فإنه ممن أوتي جوامع الكلم: نظما ونثرا وإنشاء وشعرا.
والعامة تقول: كلام الملوك ملوك الكلام وقيل: أبو فراس والأول: أقرب إلى القياس.
ولما بلغ عبد الملك أن الحجاج لا يراعي الشعراء نقم ذلك عليه وكتب إليه:
بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله عبد الملك إلى الحجاج بن يوسف أما بعد: فقد بلغني عنك أمر كذب فراستي فيك وأخلف ظني بك من إعراضك عن الشعر والشعراء فكأنك لا تعرف فضيلة الشعر والشعراء ومواقع سهامهم أو ما علمت يا أخا ثقيف أن بقاء الشعر بقاء الذكر ونماء الفخر وأن الشعر طراز الملك وحلي الدولة وعنوان النعم وتمام المجد ودلائل الكرم وأنهم يحضون على الأفعال الجميلة وينهون عن الأخلاق الذميمة وأنهم سنوا سبل المكارم لطلابها ودلو العفاة على أبوابها وأن الإحسان إليهم كرم والإعراض عنهم لؤم وندم فاستدرك فرط تفريطك وامح بصوابك وحي أغاليطك والسلام.
وبهذا علمت وقع الشعراء عند الملوك وأنه سبيل إلى المكارم مسلوك وأن الشعراء قافلة تحمل الذكر الجميل وأن بضائعهم نافقة عند الكرام كاسدة عند اللئام والسلطان سوق تجلب لها الرغائب وتجبى لها محامد تمتلئ بها الحقائب. انتهى. المقصود منه بالتخليص.

.مطلب: في مدح المنظوم من الكلام والحمائل المنوطة بعواتق الأقلام:

روى الترمذي عن جابر بن سمرة قال: جالست النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من مائة مرة وكان أصحابه يتناشدون الشعر ويتذاكرون أشياء من أمر الجاهلية وهو ساكت وربما يتبسم معهم.
وروي عن عائشة- رضي الله عنها- قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يضع لحسان بن ثابت منبرا في المسجد يقوم عليه قائما يفاخر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وروى مسلم عن عائشة قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: هجاهم حسان فشفى واستشفى.
وقال السيوطي في الخصائص الكبرى: أخرج البيهقي من طريق: يعلى بن الأشدق قال: سمعت النابغة- نابغة بني جعدة- يقول: أنشدت رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الشعر فأعجبه فقال: «أجدت لا يفضض الله فاك» فلقد رأيته ولقد أتى عليه نيف ومائة سنة وما ذهب له سن ثم أخرجه: البيهقي من وجه آخر عن: النابغة وأخرجه: ابن أبي أسامة من وجه آخر عنه وفيه: فكان من أحسن الناس ثغرا فكان إذا سقط له سن نبت له وأخرجه: ابن السكن من وجه آخر عنه وفيه: فرأيت أسنان النابغة أبيض من البرد لدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال الشيخ: محمد حياة السندي المدني في رسالة: الأحاديث المسلسلة عن نابغة بني جعدة الشاعر: لقيت النبي صلى الله عليه وسلم وأنشدته قصيدتي التي أقول فيها:
بلغنا السماء السبع مجدا وسؤددا ** وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا

فقال: أين يا أبا ليلى؟ قلت: إلى الجنة يا رسول الله قال: إلى الجنة- إن شاء الله تعالى-.
وقال كعب بن زهير- رضي الله عنه-:
جاء السخينة كي تغالب ربها ** وليغلبن مغالب الغلاب

فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لقد مدحك الله يا كعب في قولك هذا» وفي رواية:«أن الله لم ينس ذلك لك».
وعقد البيهقي في الدلائل بابا مستقلا في الشعر وقال: باب اختياره صلى الله عليه وسلم الشعر وذكر حديثا طويلا عن جابر- رضي الله عنه- وحاصل الحديث: أنه جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله يريد أبي أن يأخذ مالي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ائت بأبيك عندي» فلما جاء أبوه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يقول ابنك أنت تأخذ ماله قال: سله يا رسول الله لا مصرف لماله إلا عماته وقراباته أما أصرفه على نفسي وعيالي؟ فنزل جبريل- عليه السلام- وقال: يا رسول الله قال هذا الشيخ في نفسه شعرا ما وصل إلى أذنه فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هل قلت في نفسك شعرا؟» فاعترف الشيخ وقال: لا يزال يزيدنا الله- تعالى- بك بصيرة ويقينا وعرض سبعة أبيات نظمها في نفسه وهي:
غذوتك مولودا وصنتك يافعا ** تعل بما أجني عليك وتنهل

إذا ليلة ضاقت بك السقم لم أبت ** لسقمك إلا ساهرا أتململ

تخاف الردى نفسي عليك وإنها ** لتعلم أن الموت حتم موكل

كأني أنا المطروق دونك بالذي ** طرقت به دوني فعيني تهمل

فلما بلغت السن والغاية التي ** أتتك مراما فيه كنت أؤمل

جعلت جزائي غلظة وفظاظة ** كأنك أنت المنعم المتفضل

فليتك إذ لم ترع حق أبوتي ** فعلت كما الجار المجاور يفعل

قال جابر: فبكى رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- ثم أخذ تلابيب ابنه وقال له: «اذهب فأنت ومالك لأبيك». انتهى.
وقد ثبت: تصرف الأب في مال الابن قدر الضرورة بهذا الحديث.
قال الشيخ: بهاء الدين العاملي في بعض مؤلفاته: روي عن قيس بن عاصم قال: وفدت مع جماعة من بني تميم على النبي صلى الله عليه وسلم فدخلت عليه وعنده الصلصال بن الدلهمس فقلت: يا نبي الله عظنا موعظة ننتفع بها فإنا قوم نغير في البرية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا قيس إن مع العز ذلا وإن مع الحياة موتا وإن مع الدنيا آخرة وإن لكل شيء رقيبا وعلى كل شيء حسيبا وإن لكل أجل كتابا وإنه لا بد لك يا قيس من قرين يدفن معك وهو حي وتدفن معه وهو ميت فإن كان كريما أكرمك وإن كان لئيما أسلمك ثم لا تحشر إلا معه ولا تسأل إلا عنه فلا تجعله إلا صالحا فإنه إن صلح أنست به وإن فسد لا تستوحش إلا منه وهو فعلك» فقال: يا نبي الله أحب أن يكون هذا الكلام في أبيات من الشعر نفخر به على من يلينا من العرب وندخره فأمر النبي صلى الله عليه وسلم من يأتيه بحسان فاستبان لي القول قبل مجيء حسان فقلت: يا رسول الله قد حضرني أبيات أحسبها توافق ما تريد فقلت:
تخير خليطا من فعالك إنما ** قرين الفتى في القبر ما كان يفعل

ولا بد بعد الموت من أن تعده ** ليوم ينادي المرء فيه فيقبل

فإن تك مشغولا بشيء فلا تكن ** بغير الذي يرضى به الله تشغل

فلن يصحب الإنسان من بعد موته ** ومن قبله إلا الذي كان يعمل

أقول: روى البخاري عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن من الشعر حكمة» ولا يخفى على حكماء الكلام والماهرين بسرائر الأقلام أن بعض الشعر وهو الذي كان محمودا شرعا مندرج في مفهوم الحكمة لأن مفهوم الشعر أخص من وجه من مفهوم الحكمة والمقصود من هذا الكلام بيان فضيلة الشعر فينبغي أن يقع الشعر مخبرا عنه ويكون مقدما في الذكر.
وحق العبارة أن يقال: بعض الشعر حكمة ولكن قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن من الشعر حكمة» فأبقى التقدم اللفظي على أصله للاهتمام بشأن الشعر وإفادة الحصر وقلب الأسلوب المعنوي وجعل الحكمة مخبرا عنه للمبالغة في مدح الشعر أي: ماهية الحكمة بعض الشعر فلزم أن يكون أفراد الحكمة بأسرها بعض الشعر ومندرجة تحته فإن اندراج الماهية مستلزم لاندراج جميع الأفراد.
وقصد صلى الله عليه وسلم من إفادة الحصر بتقديم الخبر وإيراد الكلام على أسلوب التأكيد مبالغة فيكون معنى الكلام الأقدس: إنما الحكمة بعض الشعر.
ولله لطف ما أودعه صاحب جوامع الكلم صلى الله عليه وسلم كلامه وهو أن المبالغة لها مناسبة بالشعر فراعى صلى الله عليه وسلم هذه المناسبة الشعرية في كلام أورده في مدح الشعر وأفاد سندا كاملا لجواز المبالغة إذا اقتضت مصلحة دينية.
ومثله: قوله صلى الله عليه وسلم: «إن من البيان لسحرا».
قال الطيبي في تبيانه: من: للتبعيض والكلام فيه تشبيه وحقه أن يقال: إن بعض البيان كالسحر فقلب وجعل الخبر مبتدأ مبالغة في جعل الأصل فرعا والفرع أصلا ووجه التشبيه يتغير بتغير إرادة المدح والذم. انتهى.
يعني: أن السحر له وجهان: المدح والذم ووجه تشبيه البيان به هاهنا الأول.
قال المحقق الشريف في حواشي الكشاف عند تفسير قوله تعالى: {ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين}: فإن قيل: لا فائدة في الإخبار بأن من يقول كذا وكذا من الناس أجيب: بأن فائدته التنبيه على أن الصفات المذكورة تنافي الإنسانية فينبغي أن يجهل كون المتصف بها من الناس ويتعجب منه ورد: بأن مثل هذا التركيب قد يأتي في مواضع لا يتأتى فيها مثل هذا الاعتبار ولا يقصد منها إلا الإخبار بأن من هذا الجنس طائفة متصفة بكذا كقوله تعالى: {من المؤمنين رجال} فالأولى: أن يجعل مضمون الجار والمجرور مبتدأ على معنى: وبعض الناس أو: بعض منهم من اتصف بما ذكر فيكون مناط الفائدة تلك الأوصاف ولا استبعاد في وقوع الظرف بتأويل معناه مبتدأ. انتهى. كلامه.
وروى ابن ماجة: «الكلمة الحكمة ضالة المؤمن حيثما وجدها فهو أحق بها».
وقال صاحب كفاية الحاجة في شرح سنن ابن ماجة: قوله: ضالة المؤمن أي: مطلوبة له أشد ما يتصور من الطلب فاللائق بحال المؤمن أن يطلبها كما يطلب المرء ضالته فهذا الكلام بطريق الإرشاد والتعليم لا الإخبار إذ كم من مؤمن ليس له طلب أصلا؟ أو بطريق الإخبار بحمل المؤمن على الكامل قوله: «حيثما وجدها» أي: ينبغي أن يكون نظر المؤمن إلى المقول لا القائل وهذا كما قيل: انظر إلى ما قال ولا تنظر إلى من قال. انتهى.
والكلمة الحكمة: شاملة للنظم والنثر لعموم اللفظ ويؤيد الأول: قوله صلى الله عليه وسلم: «إن من الشعر حكمة».
ومن العجائب أن الكلمة تطلق على القصيدة كما قال الجوهري وغيره وإذا تمهد هذا فأقول: لو قطع النظر عن المبالغة في الحديث وأخذ أصل المعنى أعني: بعض الشعر حكمة يحصل من انضمامه بالحديث الثاني الشكل الأول من الأشكال المنطقية أعني: بعض الشعر كلمة والكلمة الحكمة ضالة المؤمن فبعض الشعر ضالة المؤمن وإنما زدت لفظ الكلمة في الصغرى لأن الشعر حكمة قولية.
وقد ثبت بهذه النتيجة الصحيحة: طلب النتائج من الشعراء التي تكون موافقة بالشريعة الغراء والدليل القاطع والبرهان الساطع على إثبات النتيجة ما رواه مسلم عن عمرو بن الشريد عن أبيه قال: ردفت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فقال: «هل معك من شعر أمية بن أبي الصلت شيء؟» قلت: نعم قال: هيه فأنشدته بيتا فقال: هيه ثم أنشدته بيتا فقال: هيه حتى أنشدته مائة بيت.
ويستفاد من هذا الحديث: طلب الشعر المحمود الذي هو نتيجة الشكل واستحباب الزيادة في الطلب واستحباب الإنشاد واستحباب الطلب حيثما وجد فإن أمية بن أبي الصلت مات كافرا.
وقد قال صلى الله عليه وسلم فيه: آمن لسانه وكفر قلبه».
وتحقق من هاهنا أن من طلب الشعر المحمود أتى بالعمل المستحب ومن أنكر تركه.
كيف لا؟ وقد روى الترمذي عن أنس- رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة في عمرة القضاء وابن رواحة يمشي بين يديه وهو يقول:
خلوا بني الكفار عن سبيله ** اليوم نضربكم على تنزيله

ضربا يزيل الهام عن مقيله ** ويذهل الخليل عن خليله

فقال له عمر: يا ابن رواحة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي حرم الله تقول شعرا؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «خل عنه يا عمر فهي أسرع فيهم من نضح النبل».
وروى البخاري عن سعيد بن المسيب قال: «مر عمر في المسجد وحسان ينشد فأنكر عليه عمر فقال: كنت أنشد فيه وفيه من هو خير منك ثم التفت إلى أبي هريرة فقال: أنشدك بالله أسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أجب عني اللهم أيده بروح القدس؟ قال: نعم» وفيه منع الإنكار عن الشعر وجواز الإنشاد في المسجد.
قال القسطلاني: هذه المقالة منه صلى الله عليه وسلم دالة على: أن للشعر حقا يتأهل صاحبه لأن يؤيد في النطق به بجبرائيل- عليه السلام- وما هذا شأنه يجوز قوله في المسجد قطعا.
وروي عن ابن سيرين أنه أنشد شعرا فقال له بعض جلسائه: مثلك ينشد الشعر يا أبا بكر؟ فقال: ويلك يا لكع وهل الشعر إلا كلام لا يخالف سائر الكلام إلا في القوافي؟ فحسنه حسن وقبيحه قبيح.
وروى الدار قطني عن عائشة- رضي الله عنها- قالت: ذكر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم الشعر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هو كلام: حسنه حسن وقبيحه قبيح».
والمقصد: أن الشعر ليس في نفسه مذموما بل الحسن والقبح راجعان إلى المفهوم فالمفهوم إذا كان قبيحا فالمنثور والمنظوم من القول سواء ومعنى القبيح: أن يكون فيه فحش أو أذى لمسلم أو كذب والكذب الممنوع في الشعر ما كان مضرا بأمر ديني لا الكذب الذي أتي به لتحسين الشعر فقط فإنه مأذون فيه وإن استغرق الحد وتجاوز المعتاد.
ألا ترى قصيدة كعب بن زهير- رضي الله عنه-؟ فإنه تغزل فيها بسعاد وأتى من الإغراقات والاستعارات والتشبيهات بكل بديع لا سيما تشبيه الرضاب بالشراب في قوله:
تجلو عوارض ذا ظلم إذا ابتسمت ** كأنها منهل بالراح معلول

والنبي صلى الله عليه وسلم سمعه وما أنكر بل صارت هذه القصيدة أحسن الوسائل إلى الشفاعة وأوثق الذرائع إلى الإغماض عن الشناعة وفازت بحسن القبول من جنابه وجازى قائلها بعطية من جلبابه ولله در أبي إسحاق الغزي حيث قال:
جحود فضيلة الشعراء غي ** وتفخيم المديح من الرشاد

محت بانت سعاد ذنوب كعب ** وأعلت كعبه في كل نادي

وما افتقر النبي إلى قصيد ** مشببة ببين من سعاد

ولكن من إسداء الأيادي ** وكان إلى المكارم خير هاد

وقد قالوا: فضل هذه القصيدة على القصائد الأخر الموشحة بمدحه صلى الله عليه وسلم كفضل الصحابة على التابعين ومن بعدهم هذا وقد شبه واصفه صلى الله عليه وسلم عنقه المقدس بجيد دمية وما أنكره أحد من السلف والخلف.
وقال القفال والصيدلاني قولا صدقا وهو: أن الشعر كذبه ليس بكذب لأن قصد الكاذب: تحقيق قوله وقصد الشاعر: تحسين كلامه فقط.
وبما حررناه ثبت جواز التخييلات الكلامية والتوسع في المضامير الأقلامية وتحقق أن الإنكار من الشعر المحمود هو بترك المستحب وأن لا تسمع لومة لائم في ما عمل به رسول الله صلى الله عليه وسلم وكبار الصحابة والتابعون وأهل العلم وموضع القدوة- رضي الله عنهم.
وقد ورد النهي عن سب الشعراء روى البخاري عن عروة بن الزبير قال: ذهبت أسب حسانا عند عائشة فقالت: لا تسبه فإنه كان ينافح عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ولا شك أن من أنشأ أو أنشد الشعر المحمود فهو تلو للمنافحين حيث يريح المؤمنين بالحكم اليمانية ويدافع عنهم ما يملهم من العوارض النفسانية ويعضده ما روي عن ابن عباس: أنه كان إذا فرغ من درس التفسير والحديث يقول لتلامذته: أحمضوا ويأمرهم بالأخذ في ملح الكلام خوفا عليهم من الملال.
والإحماض: أصله من: الحمض وهو: ما ملح ومر من النبات ومقابله: الخلة وهو: ما كان حلوا تقول العرب: الخلة: خبز الإبل والحمض: فاكهتها لأنها إذا ملت من الخلة مالت إلى الحمض ومنه قولهم للرجل إذا جاء متهددا: أنت مختل فتحمض.
وأما قوله تعالى: {والشعراء يتبعهم الغاوون} فهو في الشعراء المشركين ويستفاد من الآية: أن علة الذم: الهيمان في كل واد من الكذب والباطل وبهذا الاعتبار الشعر مذموم وكل ما ورد من ذمه في القرآن والحديث فهو راجع إلى هذا الاعتبار وهو ممدوح باعتبار اشتماله على الحكم ولذا ميز الله- سبحانه- الشعراء المؤمنين عن هؤلاء المشركين بالاستثناء وأرشد النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك بقوله: «إن من الشعر حكمة».
وأما قوله تعالى: {وما علمناه الشعر وما ينبغي له} فهو رد على الكفار القائلين: بأنه صلى الله عليه وسلم شاعر.
ولا يخفى أن القرآن ليس من جنس الشعر ولا يقول به من له أدنى تمييز لأن الشعر يكون مقفى موزونا وليس القرآن كذلك.
ويمكن أن يكون قولهم مبينا على: أن الشاعر يراعي الوزن والقافية في الكلام فالذي يكون قادرا على الشعر سهل له أن ينشئ الكلام بلا مراعاة الوزن والقافية فما يأتي به هو ناشئ عن سليقته لا كما يدعي أنه منزل من السماء فرد الله- سبحانه- عليهم وقال: {وما علمناه الشعر} لأن أكثره خيالات لا حقيقة لها وتغزلات بالنساء والأمارد وافتخارات باطلة ومدائح من لا يستحق إلى غير ذلك.
والقرآن ليس على هذا الأسلوب ثم أيده بقوله تعالى: {وما ينبغي له} أي: لا يليق بشأنه لأن الشعر قلما يخلو عن الأمور المذكورة وقد امتحنتموه صلى الله عليه وسلم نحوا من أربعين سنة فما وجدتم من أقواله وأفعاله وأحواله ما يناسب شيئا منها.
ولا يخفى أن في قوله- تعالى-: {وما ينبغي له} إشعارا بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان قادرا على الشعر ولم يقله بناء على أنه ما كان ينبغي له فإنه- سبحانه- نفى الانبغاء دون القدرة عليه ثم أيده بقوله- تعالى-: {إن هو إلا ذكر وقرآن مبين} أي: كتاب سماوي ظاهر أنه ليس من كلام البشر لما فيه من الإعجاز.
وقد تبين من هذا: أن في الآية تنزيه النبي صلى الله عليه وسلم عن أن يملي القرآن بسليقته كما هو شأن الشعراء حيث يملون الكلام الموزون بسلائقهم وإذا أمعنت النظر لا تجد فيه ذما للشعر بل تجد مدحا عظيما.
وليت شعري أي شيء يستدعي إلى ذم الشعر مطلقا؟ فإن الحسن والقبح راجعان إلى المعنى- كما تقدم- وإذا كان المعنى حسنا فالمنظوم أزيد حسنا وجمالا من المنثور وأنفع للمتكلم في ما قصده من إيقاع المعاني في نفس المخاطب وللمخاطب في التوجه إليه بالرغبة.
ولقد أجاد البوصيري حيث قال:
فالدر يزداد حسنا وهو منتظم ** وليس ينقص قدرا غير منتظم

وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتمثل بقول طرفة وهو:
ويأتيك بالأخبار من لم تزود

ويقول: «أصدق كلمة قالها الشاعر: كلمة لبيد: ألا كل شيء ماخلا الله باطل».
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة- رضي الله عنها-: «أهديتم الفتاة إلى بعلها؟» قالت: نعم قال: «فبعثتم معها من يغني؟» قالت: ولم نفعل؟ قال: أو ما علمتم أن الأنصار قوم يعجبهم الغزل؟ ألا بعثتم معها من يقول:
أتيناكم أتيناكم ** فحيونا نحييكم

ولولا الحنطة السمرا ** ء لم نحلل بواديكم

وقد ورد في الصحيح أنه قال صلى الله عليه وسلم يوم الخندق:
بسم الله وبه هدينا ** ولو عبدنا غيره شقينا

اللهم لولا أنت ما اهتدينا ** ولا تصدقنا ولا صلينا

فأنزلن سكينة علينا ** وثبت الأقدام إن لاقينا

إن الأولى قد بغوا علينا ** إذا أرادوا فتنة أبينا

ويرفع صوته: «أبينا أبينا» بالموحدة وفي رواية: «أتينا» بالمثناة الفوقية.
واختلف العلماء في صدور الشعر منه صلى الله عليه وسلم ونقل المثبتون أشياء منها قوله صلى الله عليه وسلم حين كان يبني مسجده صلى الله عليه وسلم:
هذا الحمال لا حمال خيبر ** هذا أبر ربنا وأطهر

وكان الزهري يقول: لم يقل صلى الله عليه وسلم شيئا من الشعر إلا قد قيل قبله إلا هذا.
وقد ألف السيد: محمد البرزنجي المدني رسالة في إثبات الكتابة والقراءة والشعر له صلى الله عليه وسلم يقول فيها: لا شك أن الشعر إذا كان حكمة أخبر عنه صلى الله عليه وسلم: «إن من الشعر لحكمة» كمال ولا ينبغي أن يخلو صلى الله عليه وسلم عن كمال ما لأنه نسخة الكاملة الجامعة لجميع صفات الكمالات الإنسانية بل والملكية وإيقاع النفس والتهمة بالنظر إلى القرآن إنما يرد بالنسبة إلى ما قبل نزول الوحي وثبوت النبوة أما بعده: فلا كما قيل في الكتابة والقراءة.
وكل ما صدر عنه من النطق بالشعر فإنما هو بعد النبوة ولم يقل أحد قط أنه صلى الله عليه وسلم ينظم الشعر أو يرويه أو يجالس الشعراء قبلها وأما بعد النبوة: فقد نطق به ورواه واستنشده الصحابة وأنشدت القصائد بحضرته وأصلح من كلا مهم كما أصلح من قصيدة كعب بن زهير- رضي الله عنه- قوله:
من سيوف الهند

وأبدله ب: سيوف الله.
فلا إخلال بنبوته ولا تهمة في معجزته بل هو معجزة أخرى وكمال آخر فلا مانع من تجويزه. انتهى. كلامه.
وتمام البيت الذي أصلحه صلى الله عليه وسلم هكذا:
إن الرسول لنور يستضاء به ** مهند من سيوف الله مسلول

أقول: لعل وجه إصلاحه صلى الله عليه وسلم أن لا يقع لفظ مستدرك في الكلام فإن المهند- على ما قال الجوهري-: السيف المطبوع من حديد الهند.
هذا ما سنح لي في فضيلة الشعر المحمود وشرف هذا الكوكب المسعود.
ثم أول من قدر جواهر المنطق بالميزان ونظم اللآلي الخاصة بخزينة الإنسان صفي الله: آدم- عليه السلام- فالشعر المتولد منه آدم الأشعار والجد الأعلى لنتائج الأفكار وأسنده ابن الأثير وغيره من الجم الغفير إلى آدم- عليه السلام- وأنكر جمع كثير من المحققين.
وقال آخرون: رثى آدم هابيل بالسريانية فلما وصل إلى يعرب بن قحطان ترجمها بالعربية.
واختلف في قضية هابيل أين وقعت؟ فمنهم من ذهب إلى أنها وقعت بالهند على جبل نود الذي نزل عليه آدم- عليه السلام- السماء وقيل: بمكة ثم الروايات تعاضدت في: أن آدم نزل بالهند من السماء وتوطن بعد ذلك بهذه. الغبراء.
وقد فصلته في رسالتي: شمامة العنبر فيما ورد في الهند من سيد البشر.
وقد توارث أولاد آدم الشاعرية منهم من سكن الهند.
ولما أظلت ألوية الإسلام على هذا السواد وألقى الإسلاميون رحالهم في هذه البلاد وتكلموا بلسانها وترنموا بألحانها وسمعوا كلام مصاقعها وعرفوا بيان سواجعها وقفوا على أنهم بذلوا غاية الجهد في إبداع المعاني وصرفوا هممهم إلى أقصى حدود الطاقة البشرية في تأسيس المباني.
ثم اعلم: أن الجولان في سوح الأدب حق للأئمة الفصحاء من العرب فإنهم صعدوا في قمم أطواده وبلغوا قصارى أنجاده.
ولعمري إن أزهار الفصاحة باسمة بنسائمهم وأرجاء البلاغة فائحة بشمائمهم جزاهم الله عنا أوفى الأجزية وذكرهم في مجامع القدس بأحسن الأثنية.
ولما ألف الإسلام بين الأمم ووقعت مخالطة العرب والعجم وجلس الخلفاء في بغداد وأمتهم الخلائق من شواسع البلاد اكتسب العجم فن الفصاحة من العرب العرباء وتجاوبوا على سننهم في هذه الدوحة العلياء لا سيما من كان قريبا من دار الخلافة وجارا متصلا بمركز الشرافة كما تشهد به يتيمة الدهر للثعالبي ودمية القصر للباخرزي وغيرهما.
وأما الهند: ففتح في عهد الوليد بن عبد الملك على يد: محمد بن قاسم الثقفي سنة اثنتين وتسعين الهجرية وبلغت راياته المظلة على الفوج من حدود السند إلى أقصى قنوج سنة خمس وتسعين وبعدما عاد عاد ولاة الهند إلى أمكنتهم وبقي الحكام من الخلفاء المروانية والعباسية ببلاد السند.
وفي عهد العباسية كان أبو حفص ربيع بن صبيح السعدي البصري من أتباع التابعين وأعيان المحدثين بالسند وهو أول من صنف في الإسلام قال صاحب المغني: مات بأرض السند سنة ستين ومائة وقصد السلطان: محمود الغزنوي أواخر المائة الرابعة- غزو الهند- وأتى مرارا وغلب وأخذ الغنائم وانتزع السند من الحكام الذين كانوا من القادر بالله بن المقتدر العباسي ولكن السلطان: محمود ما أقام بمملكة الهند وكان أولاده متصرفين من غزنين إلى لاهور حتى استولى السلطان: معز الدين سام الغوري على غزنين وأتى لاهور وقبض على خسرو ملك ختم الملوك الغزنوية وضبط الهند وجعل دهلي دار الملك سنة تسع وثمانين وخمسمائة ومن هذا التاريخ إلى الآن ممالك الهند في يد السلاطين الإسلامية.
ولما انتشر الإسلام في هذه البلاد وطلعت شموسه على الأغوار والأنجاد ظهر جمع من الأدباء الإسلامية ونثروا على بسط الأزمنة لآلئ من السحب الأقلامية وليست كتب القوم حاضرة عندي في حال التحرير حتى أجلوا عرائس تراجمهم على منصة التقرير. انتهى. المراد من تسلية الفؤاد.
ومن أدباء الهند: القاضي: عبد المقتدر بن ركن الدين الشريحي الكندي الدهلوي المتوفى سنة إحدى وتسعين وسبعمائة له قصيدة لامية مشهورة مطلعها:
يا سائق الظعن في الأسحار والأصل ** سلم على دار سلمى وابك ثم سل

ومنهم: الشيخ: أحمد التهانيسري وله- رحمه الله تعالى- قصيدة دالية مطلعها:
أطار لبي حنين الطائر الغرد ** وهاج لوعة قلبي التائه الكمد

ومنهم: السيد غلام: علي بن السيد: نوح البلكرامي المتخلص: بآزاد له: سبعة دواوين والقصيدة: في وصف أعضاء المعشوقة من الرأس إلى القدم سماها: مرآة الجمال وشرحها شرحا لطيفا منها: ديوان مردف وديوان مستزاد وديوان مرجع.
والترجيع: نوع من الشعر أنشأه في نهاية الرقة ولم ينظم الترجيع العربي قبله أحد من الشعراء وسمى الدواوين السبعة: بالسبعة السيارة ونظم الدفاتر السبعة المسماة ب: مظهر البركات مزدوجة في بحر الخفيف في غاية السلاسة والعذوبة ولم ينظم أحد قبله مزدوجة عربية في هذا البحر ولم يتفق لأحد من شعراء العرب والمقلدين لهم من شعراء العجم مزدوجة على هذه الكيفية ونظم الدفتر السابع في سنة 1193 ه ومات- رحمه الله- في سنة 1200 الهجرية وله تصانيف كثيرة في العربية والفارسية كما سيأتي تفصيلها في ترجمته- إن شاء الله تعالى-.
وجملة أشعاره المنظومة في المذكورات: أحد عشر ألفا وما سمع قط من أهل الهند من يكون له ديوان عربي أو شعر عربي على هذه الحالة وهو: حسان الهند مدح- النبي صلى الله عليه وسلم- في دواوينه وقصائده وأوجد في مدحه معاني كثيرة نادرة لم يتيسر مثلها لأحد من الشعراء المفلقين وأبدع فيها مخالص لم يبلغ مداها فرد من الفصحاء المتشدقين وله في التغزل طور خاص قلما يوجد في كلام غيره يعرفه أصحاب الفن.
ومنهم: الشيخ الأجل مسند الوقت الشاه: ولي الله المحدث الدهلوي وله: قصائد حسنة وكلمات غراء في مدحه صلى الله عليه وسلم.
ومنهم: الشيخ: عبد العزيز والشيخ: رفيع الدين والشيخ: محمد إسماعيل الدهلويون- رحمهم الله تعالى- ولهم: منثور ومنظوم لطيف بليغ.
ومنهم: الشيخ الأديب: أوحد الدين البلكرامي- رحمه الله- رأيت له نثرا فصيحا ونظما بليغا وتقاريظ كثيرة على كتب عديدة.
ومنهم: الشيخ الكامل: فضل حق الخير آبادي وكم له من قصائد وأشعار عارض بها الحريري والبديع وأتى فيها بكل لفظ لطيف ومعنى بديع لولا أنه أكثر فيها من التجنيس والاشتقاق والألفاظ الحوشية بلا خلاف.
ومنهم: السميدع الفاضل المولوي: علي عباس الجرياكوثي- حماه الله تعالى- له: ديوان الشعر ومكاتيب وتقاريظ.
ومنهم: الشيخ الفاضل: فيض الحسن السهارنبوري- سلمه الله تعالى- وله قصائد بليغة وأشعار لطيفة لم يتفق مثلها لمعاصريه ولهذين الأخيرين كتابة إلينا ونظم في مدح كتبنا قد طبع بعضها.
ومنهم: أخي من أبي وأمي السيد السند: أحمد حسن القنوجي المتخلص: بالعرشي وبعض قصائده يربو على كلام الأساتذة لا سيما الفارسية منها.
وأما هذا الفقير ليس من هذا العلم في ورد ولا صدر ولا نخل بواديه ولا سدر وهذا الذي نراه من آثاره الباقية في العربية والفارسية وما ذكره في الإتحاف له فإنما هو طل من وابل هؤلاء الأدباء وفيض من ساحل أولئك الكملاء النبلاء فإنه قد صرف برهة من الزمان في تتبع قالهم وقيلهم واتبع آثارهم في ذلك ومشى على سبيلهم ولنعم ما قيل:
فهذا الشذا آثار رفقته معي ** ولست بورد إنما أنا تربه

ثم اعلم: أن المقصود من علم الأدب عند أهل اللسان ثمرته وهي: الإجادة في فني المنظوم والمنثور على أساليب العرب العرباء ومناحي الأدباء القدماء فيجمعون لذلك من حفظ كلام العرب ما عساه تحصل به الملكة: من شعر عالي الطبقة وسجع متساو في الإجادة ومسائل من اللغة والنحو مبثوثة أثناء ذلك متفرقة يستقري منها الناظر في الغالب معظم قوانين العربية مع ذكر بعض من أيام العرب يفهم به ما يقع في أشعارهم منها وكذلك ذكر المهم من الأنساب الشهيرة والأخبار العامة.
والمقصود بذلك كله: أن لا يخفى على الناظر فيه شيء من كلام العرب وأساليبهم ومناحي بلاغتهم إذا تصفحه لأنه لا تحصل الملكة من حفظه إلا بعد فهمه فيحتاج إلى تقديم جميع ما يتوقف عليه فهمه.
ثم إنهم إذا حدوا هذا الفن قالوا: هو حفظ أشعار العرب وأخبارها والأخذ من كل علم بطرف يريدون: من علوم اللسان أو العلوم الشرعية من حيث متونها فقط وهي: القرآن والحديث إذ لا مدخل لغير ذلك من العلوم في كلامهم إلا ما ذهب إليه المتأخرون عند كلفهم بصناعة البديع من التورية في أشعارهم وترسلهم بالاصطلاحات العلمية فاحتاج صاحب هذا الفن حينئذ إلى معرفتها ليكون قائما على فهمها.
وسمعنا من شيوخنا في مجالس التعليم: أن أصول هذا الفن وأركانه: أربعة دواوين وهي: أدب الكاتب لابن قتيبة وكتاب: الكامل للمبرد وكتاب: البيان والتبيين للجاحظ وكتاب: النوادر لأبي علي القالي البغدادي وما سوى هذه الأربعة فتبع لها وفروع عنها وكتب المحدثين في ذلك كثيرة.
وكان الغناء في الصدر الأول من أجزاء هذا الفن لما هو تابع للشعر إذ الغناء إنما هو تلحينه وكان الكتاب والفضلاء من الخواص في الدولة العباسية يأخذون أنفسهم به حرصا على تحصيل أساليب الشعر وفنونه فلم يكن انتحاله قادحا في العدالة والمروءة.
وقد ألف القاضي: أبو الفرج الأصبهاني- وهو ما هو- كتابه في الأغاني جمع فيه: أخبار العرب وأشعارهم وأنسابهم وأيامهم ودولهم وجعل مبناه على الغناء في المائة صوت التي اختارها المغنون للرشيد فاستوعب فيه ذلك أتم استيعاب وأوفاه ولعمري إنه ديوان العرب وجامع أشتات المحاسن التي سلفت لهم في كل فن من: فنون الشعر والتاريخ والغناء وسائر الأحوال ولا يعدل به كتاب في ذلك فيما نعلمه وهو الغاية التي يسمو إليها الأديب ويقف عندها وأنى له بها- والله الهادي للصواب.
هذا آخر ما نقلناه من كتاب عنوان العبر وديوان المبتدأ والخبر وقد نقله أيضا صاحب كشف الظنون لكن بالتلخيص المخل والاختصار الممل فلم أعتمد عليه وأخذت من حيث أخذ مع زيادات زدناها في مواضع شتى من كتب أخرى حرصا على الجمع وطمعا في تمام الفائدة.
ولا غرو إن كان قد وقع بعض تكرار في غير موضع من هذه المطالب بوجوه تظهر عليك عند التأمل فيما لديك- وبالله التوفيق-.