فصل: تفسير الآيات (39- 41):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (39- 41):

{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ (39) رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ (40) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ (41)}
قلت: {لسميعُ الدعاء}: من إضافة أمثلة المبالغة إلى مفعوله، أي: لسميع دعاء من دعاءه. و{من ذريتي}: عطف على مفعول {اجعل}، أي: اجعلني وبعض ذريتي مقيمين للصلاة.
يقول الحق جل جلاله: حاكياً عن خليله عليه السلام: {الحمدُ لله الذي وهبَ لي على الكِبَر} أي: مع كبر سني عن الولد، {إسماعيل وإسحاق}، رُوي أنه وُلد له إسماعيل لتسع وتسعين سنة، وإسحاق لمائة وثنتي عشرة سنة، وقيل: غير ذلك. وإنما ذكر كبر سنه؛ ليكون أعظم في إظهار النعمة، وإظهاراً لما فيه من الآية، ولذلك قال: {إنَّ ربي لسميعُ الدعاء} أي: يجيب من دعاه، من قولك: سمع الملك كلامي، إذا اعتنى به. وفيه إشعارٌ بأنه تقدم بأنه تقدم منه سؤال الولد، فسمع منه، وأجابه حين وقع اليأس منه، ليكون من أجلِّ النعم وأجلاها.
ثم طلب الاستقامة له ولولده بقوله: {ربِّ اجعلني مقيم الصلاة} أي: مُتقناً لها، مواظباً عليها، {ومن ذريتي} فاجعل من يُقيمها. والتبعيض؛ لعلمه بالوحي أنَّ مِنْ ولده من لا يقيمها، أو باستقرار عادته في الأمم الماضية أن منهم من يكون كفاراً. {ربنا وتقبل دعاء} أي: استجب، أو تقبل عبادتي. {ربنا اغفر لي ولوالدي}، وكان هذا الدعاء قبل النهي، أو قبل تحقق موتهما على الكفر، أو يريد آدم وحواء. {وللمؤمنين يوم يقول الحسابُ} أي: يثبت ويتحقق وجوده، مستعار من القيام على الرِّجل، كقولهم: قامت الحرب على ساق. أو يقوم إليه أهله، فحذف المضاف، أي: يقوم أهل الحساب إليه، وأسند إليه قيامهم؛ مجازاً.
الإشارة: إتيان النسل البشري، أو الروحاني، من أجلِّ النعم وأكملها على العبد، وفي الحديث: «إذَا مَاتَ العَبْدُ انْقََطََعَ عَمَلُه إِلاَّ مَن ثَلاثٍَ، صدقةٍ جَاريةٍ، أو عَلْم بَثَه في صُدُور الرِّجالِ، أو وَلدٍ صالح يدعُو له بَعدَ مَوتهِ» والولد الروحاني أتم، لتحقق استقامته في الغالب. وطلب ذلك محمود كما فعل الخليل وزكريا، وغيرهما، وقد مدح الله مَنْ فعل ذلك بقوله: {والذين يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ} [الفرقان: 74]. وقرة عين في الذرية: أن يكونوا على الاستقامة في الدين، وسلوك منهاج الصالحين. وكل ما أتوا به من الطاعة والإحسان فللوالدين حظ ونصيب من ذلك، ولا فرق بين الولد الروحاني والبشري، وفي ذلك يقول الشاعر:
والمَرْءُ في ميزانه أَتْبَاعُهُ ** فاقْدِرْ إذنْ قَدْرَ النبيّ مُحَمَّدِ

والله تعالى أعلم.

.تفسير الآيات (42- 45):

{وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ (43) وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ (44) وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ (45)}
قلت: {يوم يأتيهم}: مفعول ثانٍ لأَنذِر، ولا يصح أن يكون ظرفاً. و{نُجبْ دعوتك}؛ جواب الأمر.
يقول الحق جل جلاله: {ولا تحسبنَّ} أيها السامع، أن {اللَّهَ غافلاً عما يعملُ الظالمون}، أو أيها الرسول، بمعنى: دُمْ على ما أنت عليه من أن الله مطلع على أفعالهم، لا تخفى عليه خافية، غير غافل عنهم. وهو وعيد بأنه معاقبهم على قليله وكثيره لا محالة. وقيل: إنه تسلية للمظلوم؛ وتهديد للظالم؛ فالحق تعالى يمهل ولا يهمل. {إنما يؤخرهم}، أي: يؤخر عذابهم {ليوم تشخص فيه الأبصارُ}، أي: تحد فيه النظر، من غير أن تطرف؛ من هول ما ترى.
{مُهطعين}: مسرعين إلى الداعي؛ مذلة واستكانة، كإسراع الأسير والخائف ونحوه، أو مقبلين بأبصارهم، لا يطرفون؛ هيبة وخوفاً، {مُقنعي رؤوسهم} رافعيها إلى السماء كرفع الإبل رأسها عند رعيها أعالي الشجر. وذلك من شدة الهول، أو من أجل الغل الذي في عنقه، كقوله: {إِنَّا جَعَلْنَا في أَعْناقِهِمْ أَغْلاَلاً فَهِيَ إِلَى الأذقان فَهُم مُّقْمَحُونَ} [يس: 8]. وقال الحسن في هذه الآية: وجوه الناس يوم القيامة إلى السماء لا ينظر أحد إلى أحد. اهـ. {لا يرتدُّ إليهم طرفهم}، بل تقف أعينهم شاخصة لا تطرف، أو: لا يرجع إليهم نظرهم فينظروا إلى أنفسهم، {وأفئدتهم هواء}: خلاء، محترقة، فارغة من الفهم، لا تعي شيئاً؛ لفرط الحيرة والدهشة. ومنه يُقال للأحمق وللجبان: قلبه هواء، أي: لا رأي فيه ولا قوة. وقيل: خالية من الخير، خاوية من الحق.
{وأنذر الناس} يا محمد، أي: خوفهم هذا اليوم، وهو: {يوم يأتيهم العذابُ}، يعني يوم القيامة، أو يوم الموت؛ فإنه أول مطلع عذابهم، {فيقول الذين ظلموا} بالشرك والتكذيب: {ربنا أخِّرنا إلى أجل قريب} أي: أخِّر العذاب عنا، وردنا إلى الدنيا، وأمهلنا إلى أجل قريب، {نُجب دعوتك} حينئذٍ {ونتبع الرسلَ} ونظيره: {لولا أخرتني إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصالحين} [المنافقون: 10]. قال تعالى لهم: {أو لم تكونوا أقسمتم من قبلُ} أنكم باقون في الدنيا، {ما لكم من زوال} عنها بالموت ولا بغيره، ولعلهم أقسموا بطراً وغروراً. أو دل عليه حالهم؛ حيث بنوا مشيداً، وأمَّلوا بعيداً. أو أقسموا أنهم لا يُنقلون إلى دار أخرى، وأنهم إذا ماتوا لا يُزالون عن تلك الحالة، ولا ينقلون إلى دار الجزاء، كقوله: {وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ الله مَن يَمُوتُ} [النحل: 38].
{وسكنتمُ في مساكن الذين ظلموا أنفسَهم} بالكفر والمعاصي، من الأمم السالفة كعاد وثمود، {وقد تبيّنَ لكم كيف فعلنا بهم} بما تُشاهدون من آثارهم الدارسة، وديارهم الخربة، وما تواتر عندكم من أخبارهم، {و} قد {ضربنا لكم الأمثالَ} من أحوالهم، أي: بيَّنا لكم أنكم مثلهم في الكفر واستحقاق العذاب، أو بيَّنا لكم صفات ما فعلوا، وما فُعل بهم، التي هي في الغرابة كالأمثال المضروبة.
الإشارة: كما أمهل، سبحانه الظالمين إلى دار الشدائد والأهوال، أمهل عباده الصالحين إلى دار الكرامة والنوال؛ لأن هذه الدار لا تسع ما أراد أن يعطيهم من الخيرات؛ لأنها ضيقة الزمان والمكان، فقد أجلَّ مقدارهم أن يجازيهم في دار لا بقاء لها، وتلك الدار باقية لا نفاذ لها، ففيها يتمحض الجمال والجلال. فبقدر ما ينزل على أهل الجلال من الأهوال ينزل على أهل الجمال من الكرامة والنوال. وتأمل ما تمناه أهل الجلال حين نزلت بهم الأهوال من قولهم: {ربنا أخرنا إلى اجل قريب نُجب دعوتك ونتبع الرسل}، ثم بادر إلى إجابة الداعي، واتباع الرسول الهادي، في كل ما جاء به من الأوامر والنواهي، واعتبر بمساكن الذين ظلموا أنفسهم، كيف فعل بهم الزمان؟ وكيف غرتهم الأماني وخدعهم الشيطان، حتى أسكنهم دار الذل والهوان؟ فشد يدك على الطاعة والإحسان والشكر لله على الهداية لنعمة الإسلام، والإيمان، وعلق قلبك بمقام الإحسان؛ فإن الله يرزق العبد على قدر نيته، وبالله التوفيق.

.تفسير الآيات (46- 52):

{وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (46) فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (47) يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (48) وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (49) سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (50) لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (51) هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (52)}
قلت: {وإن كان مكرُهم}؛ {إن} نافية، واللام للجحود، ومن قرأ {لّتزول}؛ بفتح اللام، فإن مخففة، واللام فارقة؛ و{يوم تُبدل}: بدل من {يوم يأتيهم}، أو ظرف للانتقام، أو مقدر باذكر، أو {بمخلف وعده}. ولا يجوز ان ينتصب بمخلف؛ لأن ما قبل {إن} لا يعمل فيما بعدها. و{السماوات}: عطف على {الأرض}، أي: وتبدل السماوات.
يقول الحق جل جلاله: {وقد مكروا} بك يا محمد {مكرَهُم} الكلي، واستفرغوا جهدهم في إبطال الحق وتقرير الباطل، {وعند الله مكرُهُم} اي: مكتوب عنده فعلهم، فيجازيهم عليه. أو عند الله ما يمكرهم به جزاء لمكرهم، وإبطالاً له، {وإن كان مكرُهُم} في العظم والشدة، {لِتزولَ منه الجبال} الثوابت لو زالت؛ تقديراً، أو ما كان مكرهم لِتزولَ منه الجبال، أي: الشرائع والنبوات الثابتة كالجبال الواسي. والمعنى على هذا تحقير مكرهم؛ لأنه لا تزول منه تلك الجبال الثابتة الراسخة، أو: وإن مكرهم لَتزولُ منه الجبال من شدته، ولكن الله عصم ووقى. وقيل: الآية متصلة بما قبلها، أي وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم، ومكروا مكرهم في إبطال الحق.
{فلا تحسبن اللهَ مخلفَ وعدِهِ رسلَه}، يعني: وعد النصر على الأعداء، وقدَّم المفعول الثاني، والأصل: مخلف رسله وعده، فقدَّم الوعد؛ ليُعلم أنه لا يخلف الوعد أصلاً على الإطلاق، ثم قال: {رسله}؛ ليعلم أنه لم يخلف وعد أحد من الناس، فكيف يخلف وعد رسله وخيرة خلقه؟! فقدَّم الوعد أولاً بقصد الإطلاق، ثم ذكر الرسل لقصد التخصيص. {إن الله عزيز}: غالب لا يماكر، قادر لا يدافع، {ذو انتقام} لأوليائه من أعدائه.
يظهر ذلك {يوم تُبدَّل الأرضُ غيرَ الأرضِ}، أ اذكر {يوم تبدل الأرض غير الأرض}، فتبدل أرض الدنيا يوم القيامة بأرض بيضاء عفراء، كقُرْصَة النقِيّ، كما في الصحيح. {و} تبدل {السماوات} بأن تنشق وتُطوى كطي السجل للكتب، ويبقى العرش بارزاً، وهو سماوات الجنة.
قال البيضاوي: والتبديل يكون في الذات، كقوله: بدلت الدراهم بالدنانير، وعليه قوله: {بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا} [النساء: 56]، وفي الصفة، كقولك: بدلت الحلقة خاتماً، إذا أذبتها وغيرت شكلها. وعليه قوله: {يُبَدِّلُ الله سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان: 70]. والآية تحتملها، فعن علي رضي الله عنه: تبدل أرضاً من فضة وسماوات من ذهب، وعن ابن عباس رضي الله عنهما: هي تلك الأرض، وإنما تغير صفاتها، ويدل عليه ما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِِ فَتبْسَط، وتُمَدّ مد الأديم العكَاظيّ،» لا ترى فيها عِوجاً ولا أمتا.
قال ابن عطية: وأكثر المفسرين على أن التبديل يكون بأرض بيضاء عَفراءَ لم يُعْصَ اللهُ فيها، ولا سُفِكَ فيها دم، وليس فيها مَعْلم لأحد.
ورُوي ان النبي صلى الله عليه وسلم قال: «المُؤْمِنُ في وَقْتِ التبديلِ في ظل العرْشِ». ورُويَ عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الناسُ، وقتَ التبديل، على الصِّرَاط» ورُوي أنه قال: «الناس حينئذٍ أضْيَافُ الله؛ فلا يُعجزهم ما».
وفي سراج المريدين لابن العربي: أن الله خلق الأرض مختلفة محدودبة؛ ويخلقها يوم القيامة مستوية، لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً، متماثلة بيضاء كخبرة النقى، كما في الصحيح، وأما تبديل السماوات فليس في كيفيتها حديث، وإنما هو مجهول. وفي حديث مسلم: «أين يكون الناس يوم تبدل الأرض؟ قال: هم على الصراط» قال: يحتمل أنه الصراط المعروف، ويحتمل أنه اسم لموضع غيره، تستقر الأقدام عليه، وكأنه الأظهر؛ للحديث الآخر. وقد سألته عائشة وضي الله عنها أين يكون الناس يوم تبدل الأرض؟ قال صلى الله عليه وسلم: «هُمْ في الظُّلْمَةِ دُونَ الجسْر». والجسر: الصراط. اهـ.
أما تبديل الأرض: فظاهر الآيات أنها قبل البعث والحشر، فلا يقع البعث والحشر، إلا على الأرض المبدلة؛ كقوله: {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الجبال وَتَرَى الأرض بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ} [الكهف: 47]، وقوله: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الجبال فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً} [طه: 105 106].. ثم قال: {يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الداعي} [طه: 108]. وقوله: {إِذَا وَقَعَتِ الواقعة} [الواقعة: 1]، ثم قال: {إِذَا رُجَّتِ الأرض رَجّاً وَبُسَّتِ الجبال بَسّاً} [الواقعة: 4 5] إلى غير ذلك من الآيات. والأرواح حينئذٍ أضياف الله، أو في ظل العرش، أو دون الجسر، حيث يعلم الله. وأما تبديل السماوات فظاهر الأخبار أنه وقت وقوف الناس في المحشر، حيث تشقق السماء بالغمام وتنزل الملائكة تنزيلاً. والله تعالى أعلم.
{وبرزوا للهِ الواحدِ القهار}، أي: وبرزوا من أجداثهم؛ لمحاسبة الواحد القهار، أو لمجازاته. وتوصيفه بالوصفين؛ للدلالة على أنه في غاية الصعوبة، كقوله: {لِّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار} [غافر: 16]، وأن الأمر إذا كان لواحد غلاب لا يغالب فلا مستغاث لأحد إلى غيره، ولا مستجار، {وترى المجرمين يومئذٍ مُقَرَّنين}: قرن بعضهم إلى بعض {في الأصفاد}: في القيود، أو الأغلال، كل واحد قُرن مع صاحبه، على حسب مشاركتهم في العقائد والأعمال، كقوله: {وَإِذَا النفوس زُوِّجَتْ} [التكوير: 7]: أو قُرنوا مع الشياطين، أو مع ما اكتسبوا من العقائد الزائفة والأهوية الفاسدة، أو قرنت أيديهم وأرجلهم إلى رقابهم بالأغلال. فقوله: {في الأصفاد}: متعلق بمقرنين، أو حال من ضميره. والصفد: القيد أو الغل.
{سرابيلُهُم}: قُمصانُهم، والسربال: القميص، {من قَطرانٍ}، وهو الذي يهنأ به الإبل، أي: تدهن به. وللنار فيه اشتعال شديد، فلذلك جُعِل قَميصَ أهل النار. قال البيضاوي: وهو أسود منتن، تشتعل فيه النار بسرعة، يُطلى به جلود أهل النار، حتى يكون طلاؤه لهم كالقميص، ليجتمع عليهم لذغ القطران ووحشة لونه ونتن ريحه، مع إسراع النار في جلودهم.
على أنَّ التفاوت بين القطرانين كالتفاوت بين النارين. اهـ.
{وتغشى وجوهَهُم النار}، أي: تكسوها وتأكلها؛ لأنهم لم يتوجهوا بها إلى الحق، ولم يخضعوا بها إلى الخالق، كما تطلع على أفئدتهم؛ لأنها فارغة من المعرفة والنور، مملوءة بالجهالات والظلمة. ونظيره قوله: {أَفَمَن يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سواء العذاب يَوْمَ القيامة} [الزمر: 24]، وقوله تعالى: {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النار على وُجُوهِهِمْ} [القمر: 48].
فعل ذلك بهم؛ {لِيَجْزِيَ الله كُلَّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ} من الإجرام، أو ما كسبت مطلقاً؛ لأنه إذا بيَّن أن المجرمين معاقبون لأجرامهم؛ علم أن المطيعين يُثابون لطاعتهم. ويتعين ذلك إذا علق اللام ببرزوا. {إن الله سريع الحساب}، فيحاسب الناس في ساعة واحدة؛ لأنه لا يشغله حسابٌ عن حساب، فكل شخص يظهر له أنه واقف بين يديه، يُحاسب في وقتِ حسابِ الآخر؛ لأن ذلك وقت خرق العوائد.
{هذا} القرآن، أو ما فيه من الوعظ والتذكير، أو ما وصفه من قوله: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الله غَافِلاً...} [إبراهيم: 42] إلخ، {بلاغ للناس}؛ أي: كفاية لهم عن غيره في الوعظ وبيان الأحكام، يقال: أعطيته من المال ما فيه بلاغ له، أي: كفاية، أو بلاغ؛ أي: تبليغ لهم، كقوله: {إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ البلاغ} [الشورى: 48] {وَمَا عَلَى الرسول إِلاَّ البلاغ} [النور: 54]. وقوله: {وليُنذروا به}: عطف على محذوف، أي: ليُنصحوا به، ولينذروا به، أو متعلق بمحذوف، أي: ولينذروا به أنزلناه، {وليعلموا أنما هو إله واحد} بالنظر والتأمل فيما فيه من الآيات الدالة على وحدانيته تعالى، أو المنبهة على ما يدل عليه. {وليذَّكَّر} أي: ليتعظ به {أولو الألباب} أي: القلوب الصافية بالتدبر في أسرار معانيه وعجائب علومه وحكمه، فيرتدعوا عما يُرديهم، ويتذرعوا بما يحظيهم. واعلم أنه سبحانه ذكر لهذا البلاغ ثلاث فوائد هي الغاية والحكمة في إنزال الكتاب: تكميل الرسل للناس، واستكمالهم القوة النظرية التي منتهى كمالها التوحيد، وإصلاح القوة العملية التي هي التدرع بكمال التقوى. جعلنا الله من الفائزين بغايتها. قال معناه البيضاوي. الإشارة: قد مكر أهلُ الغفلة بالأولياء، قديماً وحديثاً، واحتالوا على إطفاء نورهم، فأبى الله إلا نصرهم وعزهم؛ {إن الله عزيز ذو انتقام} فينتقم لهم وينصرهم. ووقت نصرهم هو حين يتحقق فناؤهم عن الرسول والأشكال، فتبدل الأرض عندهم غير الأرض والسماوات؛ فتنقلب كلها نوراً مجموعاً ببحر الأنوار، وبمحيطات أفلاك الأسرار، فتذهب ظلمة الأكوان بتجلي نور المكون {الله نُورُ السماوات والأرض} [النور: 35]. وبرزوا من سجن الأكوان لشهود الواحد القهار.
وقال الورتجبي: يريد أن أرض الظاهر وسماء الظاهر، تبدل من هذه الأوصاف، وظلمة الخلقية، إلا أنها منورة بنور جلال الحق عليها، وأنها صارت مَشْرق عيان الحق للخلق حين بدا سطوات عزته، بوصف الجبارية والقهارية بقوله: {وَأَشْرَقَتِ الأرض بِنُورِ رَبِّهَا} [الزمر: 69] وهناك يا أخي يدخل الوجود تحت أذيال العدم؛ من استيلاء قهر أنوار القدم، قال: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} [القصص: 88]. وقيل: فأين الأشياء إذ ذاك؟ قال: عادت إلى مصادرها. وقال: متى كانوا شيئاً حتى صاروا لا شيء؟! لأنهم أقل من البهاء في الهواء في جنب الحق. اهـ.
وترى المجرمين، وهم الغافلون، مقرنين في قيود الأوهام، والشكوك، مسجونين في محيطات الأكوان، سرابيلهم ظلمة الغفلة، تغشى وجوههم نارُ القطيعة، لا تظهر عليها بهجة المحبين، ولا أسرار العارفين. فعل ذلك بهم؛ ليظهر فضيلة المجتهدين. هذا بلاغ للناس، وليُنذوا به وبال الغفلة والحجاب، وليتحقق أولو الألباب أن الوجود إنما هو للواحد القهار. وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق.