فصل: تفسير الآيات (75- 77):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (68- 74):

{أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آَبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (68) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (69) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (70) وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (71) أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (72) وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (73) وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ (74)}
قلت: الهمزة للإنكار، والفاء للعطف على محذوف، أي: أَفعلوا ما فعلوا من النكوص والاستكبار فلم يتدبروا القرآن، و{أم}: منقطعة، فيها معنى الإضراب والتوبيخ في الجميع.
يقول الحق جل جلاله: {أَفَلَمْ يدّبروا القولَ}؛ يتدبروا القرآن ليعرفوا، بما فيه من إعجاز النظم وصحة المدلول، والإخبار عن المغيبات الماضية والمستقبلة، أنه الحق، فيؤمنوا به، ويُذعنوا لمن جاء به، {أم جاءهم}؛ بل أَجاءهم من الكتاب {ما لم يأتِ آباءهم الأولين}، حتى استبعدوه واستبدعوه، فوقعوا فيما وقعوا فيه من الكفر والضلال، {أم لم يعرفوا رسولهم} أي: بل ألم يعرفوه- عليه الصلاة والسلام- بالأمانة والصدق، وحسن الأخلاق، وكمال العلم من غير تعلم ولا مدارسة، وغير ذلك مما حازه من الكمالات اللائقة بالأنبياء قبله، بل عرفوه بذلك {فهم له منكِرون} بغياً وحسداً.
{أم يقولون جِنَّة}؛ جنون، وليس كذلك؛ لأنهم يعلمون أنه أرجحهم عقلاً، وأثقبهم ذهناً، وأتقنهم رأياً، وأوفرهم رزانة، ولقد شهد له بذلك كل من رآه من الأعداء والأحباب، {بل جاءهم بالحق} أي: ليس الأمر كما زعموه في حق الرسول- عليه الصلاة والسلام-، وما جاء به من القرآن، بل جاءهم بالحق الأبلج والصراط المستقيم، وبما خالف أهواهم، من التوحيد الخالص والدين القيم، ولم يجدوا له مرداً ولا مدفعاً، فلذلك نسبوه إلى الجنون، {وأكثرُهُم للحقِّ} من حيث هو حق، لا لهذا بعينه، فلذلك أظهر في موضع الإضمار، {كارهون}؛ لِمَا في جبلتهم من الزيغ والانحراف المناسب للباطل؛ ولذلك كرهوا هذا الحق الأبلج، وزاغوا عن الطريق الأبهج، وفي التعبير بالأكثر دليل على أن أقلهم ما كان كارهاً للحق بل كان تاركاً للإيمان به، أنفةً واستنكافاً من توبيخ قومه، أو لقلة فطنته وعدم تفكره، كأبي طالب وأضرابه. قال ابو السعود: وأنت خبير بأن التعرض لعدم كراهة بعضهم للحق، مع اتفاق الكل على الكفر به، مما لا يساعده المقام أصلاً. اهـ. فحمل الأكثر على الكل.
{ولو اتبع الحقُّ أهواءهم} بأن كان في الواقع آلهة شتى؛ {لفسدتِ السمواتُ والأرضُ ومن فيهن} كما تقدم في قوله: {لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22]، فالاتباع هنا مجاز، أي: لو جاء الوحي على ما يشتهون لفسدت السموات، فالحق هنا هو المذكور في قوله: {بل جاءهم بالحق وأكثرهم للحق كارهون}، والمعنى: لو كان ما كرهوه من الحق، الذي من جملته ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، موافقاً لأهوائهم الباطلة؛ لفسد نظام العالم، وتخصيص العقلاء بالذكر حيث عبَّر بمن؛ لأنَّ غيرهم تبع.
{بل أتيناهم بذكْرهم}: بشرفهم، وهو القرآن الذي فيه فخرهم وشرفهم، كما قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف: 44]؛ لأن الرسول منهم، والقرآن لغتهم، أو بتذكيرهم ووعظهم، أو بالذكر الذي كانوا يتمنونه، ويقولون: {لَوْ أَنَّ عِندَنَا ذِكْراً مِّنَ الأولين} [الصافات: 168]، {فهم عن ذِكْرِهم معرضون} أي: فهم، بما فعلوا من النكوص، عن فخرهم وشرفهم معرضون، وهذا مما جُبِلَتْ عليه النفوس الأَمّارة؛ الإعراض عما فيه خيرها، والرغبة فيما فيه هلاكها، إلا من عصم الله، وفي إسناد الإتيان إلى نون العظمة، بعد إسناده إلى ضميره عليه الصلاة والسلام، ومن التنويه بشأن النبي صلى الله عليه وسلم ما لا يخفى. انظر أبا السعود.
{أم تسألُهُم خَرْجاً}، هذا انتقال من توبيخهم بما ذكر من قولهم: {أم يقولون به جِنَّة}، إلى التوبيخ بوجه آخر، كأنه قال: أم يزعمون أنك تسألهم عن أداء الرسالة {خَرْجا} أي: جُعلاً، فيتهمونك، أو يثقل عليهم فلذلك لا يؤمنون، {فخراجُ ربك خيرٌ} أي: رزقه في الدنيا، وثوابه في الآخرة، خير لك من ذلك؛ لدوامه وكثرته، أي: لا تسألهم ذلك؛ فإن ما رزقك الله في الدنيا والعقبى خير لك من ذلك؛ وفي التعرض لعنوان الربوبية، مع الإضافة إلى ضميره- عليه الصلاة والسلام-، من تعليل الحكم وتشريفه صلى الله عليه وسلم ما لا يخفى.
والخَرْج والخراج واحد، وهو: الأجر المأخوذ على العمل، ويطلق على الغلة والضريبة كخراج العبد والأرض، وقال النضر بن شُميل: سألت أبا عمرو بن العلاء عن الفراق بين الخراج والخَرْج، فقال: الخراج ما لزمك، والخرج مَا تَبَرَّعْتَ به، وقيل: الخرج أخص من الخراج؛ لأنَّ الخراج يطلق على كل ما يستفيده المرء من غلة، أو أجرة، أو زكاة، والخرج خاص بالأجرة، وفي الخراج إشعار بالكثرة، فلذلك عبَّر به في جانبه- تعالى- والمعنى: أم تسألهم، على هدايتك لهم، قليلاً من عطاء الخلق، فالكثير من عطاء الخالق خير، {وهو خير الرازقين}: أفضل المعطين.
{وإنك لتدعوهم إلى صراط مستقيم} تشهد العقول السليمة باستقامته، ليس فيه شائبة اعوجاج، توجب اتهامهم لك بوجه من الوجوه، ولقد ألزمهم الله- تعالى- الحجة، وأزاح عِللهم في هذه الآيات، حيث حصر أقسام ما يؤدي إلى الإنكار والاتهام من قوله: {أم لم يعرفوا رسولهم...} إلى هنا، وبيَّن انتفاءها، ولم يبق إلا كراهة الحق وعدم الفطنة أو العناد أو المكابرة، {وإنَّ الذين لا يؤمنون بالآخرة عن الصراط}؛ عن طريق الحق {لناكِبُون} أي: لعَادلون عن هذا الصراط المذكور، وهو الصراط المستقيم، وصفهم بعدم الإيمان بالآخرة، تشنيعاً لهم بما هم عليه من الانهماك في الدنيا، وزعمهم ألاَّ حياة إلاَّ حياة الدنيا، وإشعاراً بعِلّيّة الحُكم؛ فإن الإيمان بالآخرة وخوف ما فيها من الدواهي من أمور الدعاوي إلى طلب الحق وسلوك سبيله. والله تعالى أعلم.
الإشارة: كل من أنكر على أهل الخصوصية، ولم يعرف خصوصيتهم؛ فسببه ثلاثة أمور: إما أنه لم يصحبهم ولم يتدبر ما يقولون، ولا ما يأمرون به وينهون عنه، وإنما يرميهم رجماً بالغيب، وإما أنه حسدهم وخاف على جاهه أن يتنقل لغيره، وإما أنهم أتوا بخرق عوائد النفوس التي لم تكن لآبائهم الأولين، فقالوا: {إِنَّا وَجَدْنَا ءَابَآءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى ءَاثَارِهِمِ مُّقْتَدُونَ}، وإنما جاءهم بالحق، وأكثرهم للحق كارهون، وكيف تُخرق للعبد العوائد، وهو لم يخرق من نفسه العوائد؟.
{وَلَوِ اْتَّبَعَ اْلحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ}، بأن كانت التربية على طريق العوائد، والاستمرار معها لفسد النظام، ولبقي الكون كله ظلمة لجميع الأنام؛ إذ لا يمكن أن يصير الكون نوراً، بظهور الحق فيه، إلا بخرق عوائد النفوس، وإخراجها عن هواها، فحينئذٍ تخرق له ظلمة الكَون، فيفضي إلى شهود المكَوّن، {بل أتيناهم بذكرهم} أي: بشرفهم، بمعرفة الحق على نعت العيان، {وهم عن ذكرهم معرضون}؛ حيث انهمكوا في عوائدهم، ولم يقبلوا من يخرجهم عنها ويعرفهم بالله لله، من غير خراج ولا طمع.
قال تعالى لنبيه- عليه الصلاة والسلام-: {أَمْ تَسْئَلُهُمْ خَرْجاً فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ}. قال القشري: أي: إنَّكَ لا تُطالبهم على تبليغ الرسالة بأجرة، ولا بإعطاءِ عِوَض، حتى تكون في موضع التهمة فيما تأتيهم به من الشريعة، أم لعلك تريد أن يَعْقدُوا لك الرئاسة، ثم قال: والذي لَكَ من الله- سبحانه- من جزيل الثواب، وحسن المآب، يُغْنيك عن التصدي لنيلِ ما يكون في حصوله منهم مطمع. هذه كانت سُنَّة الأنبياء والمرسلين- عليهم السلام-؛ عملوا لله فلم يطلبوا عليه أجراً من غير الله، والعلماء ورثة الأنبياء في التنزه من التَّدَنُّس بالأطماع، والأكل بالدين، فإنه ربا مُضِرٌّ بالإيمان، إن كان العملُ لله فالأجر مُنتظرٌ من الله، وهو موعودٌ مِن قبل الله. اهـ. وراجع ما تقدم في سورة هود؛ فإنه أوفى من هذا.
وقوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَطٍ مُّسْتَقِيمٍ}، وهو طريق الوصول إلى شهود الذات الأقدس، من طريق التربية، التي هي مخالفة الهوى والخروج عن العوائد. وقال القشيري: الصراطُ المستقيمُ: هو شهودُ الحقِّ بنعت الإنفراد في جميع الأشياء، والإيجاف، والاستسلام لقضايا الإلزام، بمواطأة القلب من غير استكراها الحُكمْ. اهـ. وقال الورتجبي عن بعضهم: لولا أن الله- تعالى- أمر بمخالفة النفوس ومباينتها، لاتَّبع الخلق أهواءهم في شهوات النفوس، ولو فعلوا ذلك لضلوا عن طريق العبودية، وتركوا أوامر الله، وأعرضوا عن طاعته، ولزموا المخالفة، ألا ترى الله يقول: {ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السموات والأرض ومن فيهن}.
ثم بيَّن سبحانه أن حبيبه- عليه الصلاة والسلام- يدعوهم إلى تلك المشاهدة بقوله: {وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} أي: مما أوضحه أنوار جماله وشاهَدْتَه، وهي طريق معرفته في قلوب الصِّدّيقين للأرواح القدسية. وتلك الطريقة منتهاها المحبة، وبدايتها الأسوة والمتابعة؛ لقوله: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ الله فاتبعوني يُحْبِبْكُمُ الله} [آل عمران: 31]. اهـ. قلت: المراد بالمحبة محبة الحق لعبده؛ بدليل الآية التي ذكر. وقال ابن عطاء: إنك لتحملهم على مسالك الوصول، وليس كل أحد يصلح لذلك السلوك، ولا يوفق له إلا أهل الإستقامة، وهم الذين استقاموا مع الله ولم يطلبوا معه سواه، ولم يروا لأنفسهم درجة ولا مقاماً. اهـ.
قوله تعالى: {وإن الذين لا يؤمنون بالآخرة} أي: لا يؤمنون بالحياة الآخرة، وهي حياة النفوس بالمعرفة العيانية، بعد موتها بالجهل والوقوف مع الحس والعوائد، ممن لا يصدق بهذه الحياة، وأنكر وجود من يوصل إليها عن طريق الحق الموصلة إليه، لناكبون، فهم في الحيرة والتلف تائهون، عائذاً بالله من ذلك.

.تفسير الآيات (75- 77):

{وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (75) وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ (76) حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (77)}
يقول الحق جل جلاله: {ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضُرّ}، كقحط وجدب، {لَلَجُّوا}: لتمادَوا {في طغيانهم}: إفراطهم في الكفر والعتو والإستكبار وعداوة الرسول- عليه الصلاة والسلام- والمؤمنين، {يعمهون}: يترددون عامهين عن الهدى. قال ابن عباس: لما أَسْلَمَ ثُمَامَةُ بن أَثالٍ الحنفي، ورجع إلى اليَمَامَةِ، مَنَعَ المِيرَةَ عَنْ أَهْلِ مَكَّة، وَأَخَذَهُمُ الله تعالى بالسنين حَتَّى أَكلَّوا العِلْهِزَ، جَاءَ أبو سُفْيانَ إلى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فقال له: أَنْشدُك الله والرَّحِمَ، ألسْتَ تزعمُ أَنّك بُعثْتَ رَحْمَة للعالَمين؟ قال: بَلَى، قال: قتلتَ الآباءَ بالسَّيف، والأبنَاءَ بالجوعِ، فنزلت. قال ابن جُزي: وفيه نظر؛ فإن الآية مكية باتفاق، وإنما دعا النبي صلى الله عليه وسلم على قريش بعد الهجرة، حسبما ورد في الحديث. اهـ.
قلت: والتحقيق: أن القحط نزل بهم مرتين، أحدهما قبل الهجرة، حين دعا عليهم- صلى الله عليه وسلم- بقوله: «اللهم أَعنِّي عليهم بسبع كسبع يوسف»، فأخذتهم سَنَةٌ حصدت كل شيء، حتى أكلوا الميتة والعظام، وكانوا يرون كهيئة الدخان من الجوع، فجاء أبو سفيان فقال: يا محمد، جئت تأمر بصلة الرحم، وإن قومك قد هلكوا، فادعُ الله يغيثنا، فدعا لهم.. الحديث. وفيه نزل الله تعالى: {فارتقب يَوْمَ تَأْتِى السمآء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ} [الدخان: 10] الآية، وقوله هنا: {ولو رحمناهم وكشفنا...} الآية. ومرة أخرى بالمدينة؛ حين استغاثوا به عليه السلام وهو يخطب، ولعله هو الذي ذكره ابن عباس في إسلام ثمامة، ولعل قوله: فنزلت الآية سهو؛ لأنها نزلت قبل الهجرة، إلاّ أن تكون الآية مدنية في السورة المكية، وقول ابن جزي: دعا عليهم بعد الهجرة، التحقيق، أنه دعا عليهم قبلُ وبعدُ. والله أعلم.
والمعنى: لو رحمناهم، وكشفنا ما بهم من القحط والهزال؛ برحمتنا إياهم، ووجدوا الخصب، لارتدوا إلى ما كانوا عليه من الكفر والاستكبار، ولذهب عنهم هذا الخلق والتعلق بك، وهذا كقوله تعالى في الدخان: {إِنَّكُمْ عَآئِدُونَ} [الدخان: 15]، قيل: المراد بالضر: العذاب الأخروي، فيكون كقوله: {وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ} [الأنعام: 28].
{ولقد أخذناهم بالعذاب}، وهو ما أصابهم يوم بدر من القتل والأسر، وهو قوله- تعالى- في الدخان {يَوْمَ نَبْطِشُ البطشة الكبرى} [الدخان: 16]. {فما استكانُوا لربهم} بذلك، أي: لم يخضعوا ولم يتذللوا. و{استكانوا}: افتعل من السكون، والألف زائدة، أو استفعل من الكون، أي: انتقل من كون إلى كون، كاستحال، إذا انتقل من حالٍ إلى حال؛ لأن الخاضع ينتقل من كون إلى كون {وما يتضرعون} أي: وليس من حالهم التضرع إليه تعالى، وعبَّر بالمضارع، ليدل على الاستمرار، أي: ليس شأنهم التضرع في هذه الحالة وغيرها، أو: فما استكانوا فيما مضى، وما يتضرعون فيما ينزل بهم في المستقبل، والمعنى: تالله لقد أخذناهم بالعذاب، وقتلناهم بالسيوف، وما جرى عليهم يوم بدر من قتل صناديدهم، فما وُجدت، بعد ذلك، منهم استكانة ولا تضرع.
{حتى إذا فتحنا عليهم باباً ذا عذابٍ شديد}، وهو عذاب الآخرة، {إذا هم فيه مبلسون}: متحيرون آيسون من كل خير، وهذا هو الصواب من حمل العذاب على عذاب الآخرة، بدليل وصفه بالشدة والإياس. والله تعالى أعلم.
الإشارة: أهل الغفلة والبُعد لا يرجعون إلى الله في السراء ولا في الضراء؛ لانهماكهم في الغفلة والقساوة، وأهل اليقظة يرجعون إلى الله في السراء والضراء، في السراء بالحمد والشكر، وفي الضراء بالصبر والرضا والتسليم، مع التضرع والابتهال؛ عبوديةً، والمقتصدون يرجعون إليه- تعالى- في الضراء، ويغفلون عن الشكر في السراء، والأول ظالم لنفسه، والثاني سابق، والثالث مقتصد. وبالله التوفيق.

.تفسير الآيات (78- 83):

{وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (78) وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (79) وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (80) بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ (81) قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82) لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآَبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (83)}
يقول الحق جل جلاله: {وهو الذي أنشأ}: خلق {لكم السمع والأبصار}؛ لتشاهدوا بها عجائب مصنوعاته ودلائل قدرته، أو لتتوصلوا إلى شهود آياته الكونية والتنزيلية، {والأفئدة}؛ لتتفكروا بها فيما تشاهدونه منها وتعتبروا، وخصها بالذكر؛ لأنه يتعلق بها من بالمنافع ما لا يتعلق بغيرها، وقدَّم السمع؛ لأنَّ أكثر العلوم إنما تُنال به، {قليلاً ما تشكرون} أي: شكراً قليلاً غير معتد به تشكرون تلك النعم الجليلة؛ لأن العمدة في الشكر: صرف تلك القوى- التي هي في أنفسها نِعمَ باهرة- إلى ما خلقت له، وأنتم تنتحلون بها ضلالاً عظيماً. {وهو الذي ذرأكم في الأرض} أي: خلقكم وبثكم فيها بالتناسل، {وإليه تُحشرون} أي: تجمعون يوم القيامة بعد تفرقكم، فيجازيكم على إحسانكم وإساءتكم.
{وهو الذي يُحيي ويميت}، من غير أن يشاركه في ذلك أحد ولا شيء من الأشياء، {وله اختلافُ الليل والنهار} أي: المؤثر في اختلافهما، {أفلا تعقلون} فتعرفون بالنظر والتأمل أن الكل منا، وأن قدرتنا تعم جميع الممكنات، التي من جملتها البعث والحساب، وقُرئ {يعقلون}؛ بالغيب، على الالتفات؛ لحكاية سوء حال المخاطبين، {بل قالوا} عطف على مضمر يقتضيه المقام، أي: فلم يعقلوا {بل قالوا مثلَ ما قال الأولون} أي: آباؤهم ومن دان دينهم، {قالوا أئذا مِتْنا وكنا تراباً وعظاماً أئنا لمبعوثون}، هو تفسير لما أبهم قبله، أي: قالوا: أُنبعث بعد هذه الحالة، {لقد وُعِدْنَا نحن وآباؤنا هذا} البعث {من قبل}: متعلق بالفعل من حيث إسناده إلى آبائهم لا إليهم، أي: وُعِدَ هذا آباؤنا من قبلُ، أو حال من آبائنا، أي: كائنين من قبل، {إنْ هذا} أي: ما هذا {إلا أساطير الأولين} أي: أكاذيبهم التي سطروها، وهي جمع أسطورة كأُحدوثة وأُعجوبة، أو جمع أسطار، جمع سطر، فيكون جمع الجمع. والله تعالى أعلم.
الإشارة: ذكر في الآية خمس نِعَم، يجب على العبد شكر كل واحدة منها، فشُكْر نعمة السمع: أن تسمع به ما ينفع، وتكفه عما لا ينفع، وإذا سمعت خيراً أفشيته، وإذا سمعت شراً دفنته. وشكر نعمة البصر: أن تنظر به في ملكوت السموات والأرض وما بينهما، فتعرف عظمة الصانع، أو تشاهده وتوحده فيها. وشكر نعمة القلوب: أن تعرف بها علام الغيوب، وتُفرده بالوجود في كل مرغوب ومرهوب. وشكر نعمة الإيجاد: أن تكون له عبداً في كل حال. وشكر نعمة الإعادة: أن تتأهب للقائه في كل لحظة وساعة. {وهو الذي يحيي ويميت}؛ يحيي قلوباً بالمعرفة بعد الجهل، ويميت قوباً بالغفلة والجهل بعد العلم واليقظة، وذلك بالسلب بعد العطاء والعياذ بالله. وله اختلاف ليل القبض ونهار البسط على العبد، ثم يُخرجه عنهما؛ ليكون مع الله لا مع شيء سواه. وبالله التوفيق.