فصل: تفسير الآيات (93- 100):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (84- 90):

{قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89) بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (90)}
يقول الحق جل جلاله: {قل} يا محمد لمن أنكر البعث: {لِمن الأرضُ ومن فيها} من المخلوقات؛ عاقلاً أو غيره، أي: من أوجدها، ودبر أمرها، {إن كنتم تعلمون} شيئاً؟ والجواب محذوف، أي: فأخبروني؛ فإن ذلك كاف في الجواب، {سيقولون لله}؛ لأنهم مُقرُّون بأنه الخالق، فإن أقروا بذلك {فقل أفلا تذكرون} فتعلمون أنَّ من قدر على خلق السموات والأرض وما فيهن، كيف لا يقدر على إعادة الخلق بعد عدومها؟ فإن الإعادة أهون من البدء. {قل من ربُّ السموات السبع وربُّ العرش العظيم}، أعيد الرب؛ تنويهاً لشأن العرش، ورفعاً لمحله؛ لئلا يكون تبعاً للسموات والأرض، وجوداً وذكراً، ولقد روعي في الأمر بالسؤال الترقي من الأدنى إلى الأعلى، فإن سألتهم {سيقولون لله} أي: هي لله، كقولك: مَن رب هذا الدار؟ فتقول: هي لفلان، وقال الشاعر:
إذَا قِيل مَن رَبُّ الْمَزالِفِ والْقِرَى ** ورَبُّ الْجِياد الجُرْدِ قيل لخَالِدِ

وقال الأخَفش: اللام زائدة، أي: هو الله، وبعدمه قرأ أهل البصرة، فيه وفيما بعده، واتفقوا على إثباته في الأول، ليطابق السؤال، فإن أجابوا بذلك {فقل أفلا تتقون} أي: أتعلمون ذلك، ولا تتقون عذابه في كفركم وجحودكم قدرته على البعث؟
{قل من بيده ملكوت كل شيء} أي: التصرف التام في كل شيء بقهره وسلطانه، فالملكوت، في أصل اللغة، مبالغة في الملك، زيدت الواو والتاء؛ للمبالغة، كالجبروت؛ مبالغةً في الجبر، وفي عرف الصوفية، الملكوت: ما بطن من أسرار المعاني القائمة بالأواني، أو نقول: ما غاب في عالم الشهادة من أسرار الذات، فحس الأواني مُلك، ومعانيها ملكوت، والجبروت: ما خرج عن دائرة الأكوان من بحر الأسرار، الفائض بأنوار الملكوت، وهذه أسماء لمسمى واحد، وهو بحر الوحدة.
ثم قال تعالى: {وهو يُجير} أي: يغيث، يقال: أجرت فلاناً على فلان: إذا أغثته منه، يعني: وهو يغيث من شاء ممن شاء، {ولا يُجار عليه}: ولا يغيث أحد عليه، أي: لا يمنع أحدٌ أحداً بالنصر عليه. {إن كنتم تعلمون} شيئاً ما، أو تعلمون ذلك، فأجيبوني؟ {سيقولون لله} أي: لله ملكوت كل شيء، وهو يُجير ولا يُجار عليه، {قلْ فأنى تُسحرون} أي: فمن أين تُخدعون وتُصرفون عن الرشد، وعن توحيد الله وطاعته؟ فإنَّ من لا يكون مسحوراً مختل العقل لا يكون كذلك، قال تعالى: {بل أتيناهم بالحق} الذي لا محيد عنه؛ من التوحيد والوعد بالبعث، {وإنهم لكاذبون} فيما قالوا من الشرك وإنكار البعث. وبالله التوفيق.
الإشارة: قل: لمن أرض النفوس، وما فيها من الأهوية والحظوظ والعلائق؟ سيقولون: هي لله يتصرف فيها كيف يشاء، فتارة يُملِّكها لعبده، فتكون تحت قهره وسلطانه، فيكون حراً من رق الأشياء، وتارة يُملّكه لها بعدله، فيكون تحت قهرها وسلطانها، تتصرف فيه كيف تشاء، ويكون مملوكاً لها، ينخرط في سلك من اتخذ إلهه هواه، قل: من رب سماوات الأرواح وعرش الأسرار والأنوار، وهو القلب الذي هو بيت الرب، قل: سيقولون: لله، يظهرها متى شاء، ويوصلها إلى أصلها كيف شاء، قل: من بيده ملكوت كل شيء، فيتصرف في النفوس والأرواح؛ بالتقريب والتبعيد، وهو يُجير مِن الحظوظ والأهوية مَن يشاء، ويسلطها على مَن يشاء، ولا يُجار عليه، لا يمينع من قهره أحد، فأنَّى تسحرون.
قال القشيري: أولاً قال: {أفلا تذكرون}، ثم قال بعده: {أفلا تتقون}؛ قدَّمَ التذكرَ على التقوى؛ لأن بتذكيرهم يَصلُون إلى المعرفة، وبعد أن عرفوه، علموا أنه يجب عليهم اتقاءُ مخالفته، ثم بعد ذلك قال: {فأنى تُسْحَرون}؟ أي: بعد وضوح الحجة، أيُّ شَكٍّ بَقِيَ حتى تَنْسِبُوه إلى السِّحر؟. اهـ.

.تفسير الآيات (91- 92):

{مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91) عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (92)}
يقول الحق جل جلاله: {ما اتخذَ الله من ولدٍ}، خلاف ما يقوله النصارى، والعرب التي قالت: للملائكة بنات الله، تعالى عن قولهم علواً كبيراً، {وما كان معه من إلهٍ} يُشاركه في ألوهيته، كما يقول عبدة الأوثان وغيرهم، {إذاً لذهب كل إله بما خلق} أي: لو كان معه آلهة، كما يزعمون، لذهب كل واحد منهم بما خلقه واستبد به؛ ليتميز ملكه من ملك الآخر، ووقع بينهم التغالب والتحارب، كما هو الجاري بين الملوك، {ولعلا بعضُهم على بعضٍ}: ولغلب بعضهم على بعض، وارتفع عليه، كما ترون حال ملوك الدنيا؛ ممالكهم متمايزة وهم متغالبون، وحين لم تروا أثراً لتمايز الممالك والتغالب؛ فاعلموا أنما هو إله واحد.
قال ابن جُزَيّ: وليس هذا البرهان بدليل التمانع، كما فهم ابن عطية وغيره، بل بدليل آخر. وقال في قوله: {لو كان فيها آلهة إلا الله لفسدتا}: قال كثير من الناس: إنه دليل التمانع الذي أورده المتكلمون، والظاهر من اللفظ أنه استدلال آخر أصح منه. ه قال النسفي: ولا يقال: {إذاً} لا تدخل إلا على كلام هو جزاء وجواب، وهو هنا وقع لذهب؛ جزاءً وجواباً، ولم يتقدمه شرط ولا سؤال سائل؛ لأن الشرط هنا محذوف، تقديره: لو كان معه آلهة كما يزعمون لذهب... إلخ، دل عليه: {وما كان معه من إله}، وهو جواب لمن حاجّه من المشركين. اهـ.
{سبحان الله عما يصفون} من الأنداد والأولاد، {عالِمِ الغيبِ والشهادةِ} أي: السر والعلانية، أو ما ظهر من حس الأكوان، وما غاب فيها وعنها، فمن جرّ {عالم}؛ فبدل من الجلالة، او صفة له، ومن رفعه؛ فخبر عن مضمر، أي: هو عالم. {فتعالى عمّا يُشركون} من الأصنام وغيرها، والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها؛ فإنَّ تفرده تعالى بالألوهية والعلم المحيط، موجب لتعاليه عن أن يكون له شريك. والله تعالى أعلم.
الإشارة: ثلاثة إذا تعددت فسد النظام: الإله والسلطان والطبيب؛ فلو تعدد الإله لفسد نظام العالم ولو تعدد الْملك لفسدت الرعية بالهرج والفتن ولو تعدد الطبيب لفسد العلاج. والطبيب على قسمين: طبيب الأبدان وطبيب القلوب وهو شيخ التربية فإذا تعدد على مريد واحد فسدت تربيته؛ لانقسام محبته واختلاف علاجه فالمريد إذا علق قلبه بغير شيخه لا ينهض نهوض من جمع همته على شيخه بل لا يجيء منه شيء. والله تعالى أعلم.
قال القشيري: كل أمر نِيطَ بين اثنين انتفى عنه النظام وصحةُ التربية. اهـ. وقال الورتجبي: نزه الحق- سبحانه- ذاته عن مخايل الزنادقة، وكان منزهاً عن أباطيل إشارة المشبهة، وذاته ممتنعة بكمال أحديته، عن زعم الثنوية، كيف يجوز أن يكون القِدم محل الحوادث؛ إذ القديم المنزه، إذا تجلى بنعت القدم للحدثان، صار معدوماً كالعدم، تعالى الله عن كل وهْم وإشارة. اهـ.

.تفسير الآيات (93- 100):

{قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ (93) رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (94) وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ (95) ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ (96) وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98) حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100)}
يقول الحق جل جلاله: {قل ربّ إِما تُرِيَنَّي} أي: إذا كان لابد أن تريني ما يوعدون من العذاب المستأصل في الدنيا أو عذاب الآخرة، {ربِّ فلا تجعلني في القوم الظالمين} أي: قريباً لهم فيما هم فيه من العذاب، وفيه إيذان بفظاعة ما وُعدوه من العذاب، وأنه يجب أن يستعيذ منه مَن لا يكاد أن يحيق به، وردٍّ لإنكارهم إياه واستعجالهم على طريقة الاستهزاء، وقيل: أمر به صلى الله عليه وسلم هضماً لنفسه، وقيل: إن شؤم الكفرة قد يحيق بمن وراءهم؛ كقوله تعالى: {وَاتَّقُواْ فِتْنَةً...} [الأنفال: 25] إلخ، ورُوي عن الحسن (أنه- تعالى- أخبر نبيه صلى الله عليه وسلم بأن في أمته نقمة، ولم يطلعه على وقتها، فأمر بهذا الدعاء) ويجوز أن يسأل النبيُّ المعصوم ربه ما علم أنه يفعله، وأن يستعيذ به مما علم أنه لا يفعله؛ إظهاراً للعبودية وتواضعاً لربه. والفاء: جواب إما الشرطية، أي: إن نزلت بهم النقمة فاجعلني خارجاً عنهم، وتكرير النداء، وتصدير كل من الشرط والجزاء به- أي: بالدعاء-؛ لإبراز كمال الضراعة والابتهال.
قال تعالى: {وإِنا على أن نُّرِيَكَ ما نَعِدُهم} من العذاب {لقادرون}، ولكنا نؤخره؛ لعلمنا بأن بعضهم، أو بعض أعقابهم، سيؤمنون، أو: لأنا لا نعذبهم وأنت فيهم، وقيل: قد أراهم ذلك، وهو ما أصابهم يومَ بدر وفتح ومكة، وهو بعيد؛ لأن المبادر أن يكون ما استحقوه من العذاب الموعود عذاباً هائلاً مستأصلاً لا يظهر على يديه صلى الله عليه وسلم؛ للحكمة الداعية إليه، وكانوا يضحكون، استهزاءً بهذا الوعد، وإنكاراً له، فقال لنبيه- عليه الصلاة والسلام-: {ادفع بالتي هي أحسنُ السيئةَ} أي: ادفع الخصلة السيئة بالخصلة التي هي أحسن، وهو الصفح عنها والإحسان في مقابلتها، لكن بحيث لا يؤدي إلى وَهَنٍ في الدين وإهانةٍ له. وقيل: السيئة: الشرك، والتي هي أحسن: كلمة التوحيد، وقيل: السيئة: المنكر، والتي هي أحسن: النهي عنه، وقيل: هي منسوخة بآية السيف، وقيل: محكمة؛ إذ المداراة مأمور بها. قال ابن عطية: أمر بمكارم الأخلاق، وما كان منها بهذا المعنى، فهو محكم باق في الأمة أبداً، وما كان بمعنى المواعدة فمنسوخ بآية القتال. اهـ.
وهذا التركيب أبلغ من ادفع بالحسنة السيئة؛ لما فيه من التنصيص على التفضيل، وتقديم الجار والمجرور على المفعول؛ للاهتمام. {نحن أعلم بما يصفون} من الشرك والولد، أو بما يصفك به، مما أنت على خلافه، من السحر وغيره، فسنجازيهم عليه، وفيه وعيد لهم، وتسلية لرسوله صلى الله عليه وسلم، وإرشاد له إلى تفويض أمره إليه تعالى والاكتفاء بعلمه.
{وقل ربِّ أعوذُ بك من هَمَزاتِ الشياطين} أي: وساوسهم المغرية على خلاف ما أمرت من المحاسن، التي من جملتها دفع السيئة بالحسنة، وأصل الهمز: النخس، ومنه: مهماز الرائض، شبه حثهم للناس على المعاصي بهمز الرائض الدوابَّ على الإسراع والوثب.
وجَمَعَ همزات؛ لتنوُّع الوساوس وتعدد المضاف إليه، {وأعوذ بك ربِّ أن يحضرون}، أمر بالتعوذ من نخساتهم بلفظ المبتهل إلى ربه، والتعوذ من أن يحضروه أصلاً في حال من الأحوال؛ مبالغة في التحذير من ملابستهم، أو أن يحضروه عند التلاوة أو الصلاة، أو عند النزع؛ تشريعاً. وإعادة الفعل، مع تكرير النداء؛ لإظهار كمال الاعتناء بالمأمور به.
ولا تزال الكفرة تصف الحق بما لا يليق به من الشرك، {حتى إذا جاء أحدَهم الموتُ} أي: لا يزالون مشركين حتى يموتوا، فحتى، هنا، ابتدائية، دخلت على جملة الشرط، وهي متعلقة بيصفون، وما بينهما اعتراض مؤكد للإغضاء، لكن لا بمعنى أنه العامل فيه؛ لفساد المعنى، بل بمعنى أنه معمول لمحذوف دل عليه ذلك، أي: تنزيهاً له تعالى عما يصفون، ويستمرون على الوصف المذكور، حتى إذا جاء أحداً منهم الموت الذي لا مرد له، وظهرت له أحوال الآخرة، {قال}؛ تحسراً على ما فَرَّطَ فيه من الإيمان والطاعة: {ربِّ ارجعون} أي: ردني إلى الدنيا، والواو؛ لتعظيم المخاطب، كخطاب الملوك، {لعلي أعملُ صالحاً فيما تركت} أي: في الإيمان الذي تركته، أو في الموضع الذي تركت فيه الإيمان والطاعة؛ وهو الدنيا؛ لأنه ترك الدنيا وصار إلى العقبى.
قال قتادة: ما تمنى أن يرجع إلى أهل ولا عشيرة، ولكن ليتدارك ما فرط.
وعنه، صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إِذَا عَايَنَ المؤمن المَلائِكَةَ قَالُوا له: نُرجِعُكَ إلى الدُّنْيا؟ فَيَقُولُ: إِلَى دارِ الهُمومِ والأحْزانِ؟ بَلْ قُدُوماً إلى اللهِ تبارك، وتعالى، وأمَّا الكافر فَيقُولُ: ارجعون لعلي أعملَ صالحاً...» وقال القرطبي: ليس سؤالُ الرجعة مختصاً بالكافر، فقد يسألها المؤمن، كما في آخر سورة المنافقين، ودلت الآية على أن أحداً لا يموت حتى يعرف: أهو من أولياء الله أم من أعداء الله، ولولا ذلك لما سأل الرجعة، فيعلم ذلك قبل نزول الموت وذواقه. اهـ. قال المحشي الفاسي: ولعل محمل الحديث في المؤمن الكامل غير المقصِّر، والآية في غيره. والله أعلم. اهـ.
{كَلاَّ} أي: لا رجوع له أصلاً، وهو ردع عن طلب الرجعة، واستبعاد لها، {إِنها} أي: قوله: {رب ارجعون}، {كلمةٌ}، والمراد: طائفة من الكلام، وهو {ربِّ ارجعون...} إلخ، {هو قائلها}، ولا فائدة له فيها، ولا حقيقة لها؛ لعدم حصول مضمونها، أو هو قائلها لا محالة؛ لتسليط الحسرة والندم عليه، فلا يقدر على السكوت عليها، {ومن ورائهم} أي: أمامهم، والضمير للجماعة؛ لأن أحدهم بمعنى كلهم، {برزخٌ}: حائل بينهم وبين الرجعة، {إلى يوم يُبعثون}: يوم القيامة، وهو إقناط كلي عن الرجوع إلى الدنيا، لما علِم أنه لا رجعة يوم القيامة إلى الدنيا، وإنما الرجوع فيه إلى الحياة الأخرية.
والله تعالى أعلم.
الإشارة: ما قاله صلى الله عليه وسلم في تضرعه إلى الله تعالى- كما أمره الحق تعالى- يقوله كل عارف ومتيقظ، فيقول: ربِّ إما تُريني ما يُوعدهُ أهل الغَفلة والبطالة من التحسر والندم، عند انقراض الدنيا وإقبال الآخرة، فلا تجعلني في القوم الظالمين، أي: لا تسلك بي مسلكهم حتى أتحسر معهم فإذا أوذي في الله- كما هو شأن أهل الخصوصية- يقال له: ادفع بالتي هي أحسنُ السيئةَ، وقابل الإساءة بالإحسان، وإياك والانتصار لنفسك، وتعوذ بالله من همزات الشياطين، إن قامت عليك نفسك وأرادت الانتصار، كما هو شأن أهل الغفلة، في كونهم منهمكين في الغفلة، مملوكين في أيدي أنفسهم، مستمرين على ذلك، حتى إذا حضر أجلهم طلبوا من الله الرجعة، هيهات هيهات، {كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَآئِلُهَا وَمِن وَرَآئِهِمْ بَرْزَخٌ إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون: 100]، وفي الأثر: «ما منكم من أحد إلا وسيندم عند الموت، إن كان محسناً أن لو زاد، وإن كان مسيئاً أن لو تاب» أو كما قال.
ولأجل هذا المعنى شد أهل اليقظة الحُزُم، وشمروا عن ذراعهم في طاعة مولاهم، وعمروا أوقاتهم بما يقربهم إلى محبوبهم، وتنافسوا في ذلك أيَّ تنافس، وفي ذلك يقول القائل:
السِّباقَ السِّباقَ قولاً وفِعْلاً ** حَذِّرِ النَّفْس حَسْرَة المسْبُوقِ

وكان بعض العباد حفر قبراً في بيته، فإذا صلى العشاء دخل فيه، وقرأ: {قال رب ارجعون لعلي أعمل صالحاً...} الآية، فيقول لنفسه: ستطلبين الرجعة ولا تُمكنين منها، وأنت اليوم متمكنة من الرجوع، قومي إلى خدمة مولاك، قبل أن يحال بينك وبينها، فيبيت قائماً يُصلي. وهكذا شأن اهل اليقظة؛ يُقدمون الندم والجد قبل فوات إبَّانِهِ. أعاننا الله على اغتنام طاعته، وما يقربنا إلى حضرته. آمين.