فصل: تفسير الآية رقم (57):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (47- 50):

{وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آَيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (47) فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ (48) قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (49) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50)}
قلت: {لولا} الأولى: امتناعية، وجوابها محذوف، اي: ولولا أنهم قائلون؛ إذا عوقبوا على ما قدّموا من الشرك محتجين علينا: (هلا أرسلت إلينا رسولاً...) إلخ؛ لَمَا أرسلناك.
يقول الحق جل جلاله: {ولولا أن تصيبهم مصيبة}، أي: عقوبة في الدنيا والآخرة، {بما}؛ بسبب ما {قدمت أيديهم} من الكفر والظلم، ولمّا كانت أكثر الأعمال إنما تناول بالأيدي، نسب الأعمال إلى الأيدي، وإن كانت من أعمال القلوب؛ تغليباً للأكثر على الأقل، {فيقولوا} عند نزول العذاب: {ربنا لولا}؛ هلا {أرسلت إلينا رسولاً} يُنذرنا {فنتَّبع آياتك ونكونَ من المؤمنين}، فلولا احتجاجهم بذلك علينا لَمَا أرسلناك، فسبب الإرسال هو قولهم: هلا أرسلت... إلخ.
ولما كانت العقوبة سبباً للقول جعلت العقوبة كأنها سبب الإرسال، فدخلت {لولا} الامتناعية عليها، فرجع المعنى إلى قولك: ولولا قولهم هذا، إذا أصابتهم مصيبة، لما أرسلناك.
{فَلَمَّا جاءهم الحق من عندنا}؛ القرآن المعجز، أو الرسول صلى الله عليه وسلم، {قالوا} أي: كفار مكة؛ اقتراحاً وتعنتاً: {لولا}: هلا {أُوتي} من المعجزات {مثل ما أُوتي}؛ أُعطي {موسى} من اليد والعصا، ومن الكتاب المنزل جملة. قال تعالى: {أوَ لَمْ يكفروا} أي: أبناء جنسهم، ومَنْ مَذهبهم على مذهبهم، وعنادهم مثل عنادهم، وهم الكفرة في زمن موسى عليه السلام، فقد كفروا {بما أُوتي موسى من قبلُ}؛ من قبل القرآن، {قالوا} في موسى وهارون: {ساحران تظاهرا}: تعاونا، أو: في موسى ومحمد- عليهما السلام- بإظهار تلك الخوارق، أو بتوافق الكتابين. وقرأ الكوفيون: {سِحْران}؛ بتقدير مضاف، أي: ذوَا سحر، أو: جعلوهما سحريْن؛ مبالغة في وصفهما بالسحر. {وقالوا} أي: كفرة موسى وكفرة محمد صلى الله عليه وسلم: {إِنا بكلِّ}؛ بكل واحد منهما {كافرون}.
وقيل أن أهل مكة، لمّا كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن؛ فقد كفروا بموسى وبالتوراة، وقالوا في محمد صلى الله عليه وسلم وموسى: ساحران تظاهرا، أو في التوراة والقرآن: سحران تظاهرا، أو: ذلك حين بَعَثُوا الرهط إلى رؤساء اليهود يسألونهم عن محمد، فأخبروهم أنه في كتابهم فرجع الرهط إلى قريش، فأخبروهم بقول اليهود، فقالوا عند ذلك: {ساحران تظاهرا إنا بكل كافرون}.
{قلْ} لهم: {فأتوا بكتابٍ من عند الله هو أهدى منهما}؛ مما أنزل على موسى، وما أنزل عليَّ، {أتَّبِعُه}: جواب: فأتوا، {إن كنتم صادقين} في أنهما ساحران، {فإِن لم يستجيبوا لك} دعاءك إلى الإتيان بالكتاب الأهدى، {فاعلم أنما يتبعون أهواءهم} الزائغة، ولم تبق لهم حجة إلا اتباع الهوى، {وَمَنْ أضلُّ ممن اتبع هواه بغير هُدى من الله} أي: لا أحد أضل ممن اتبع في الدين هواه بغير هدى، أي: بغير اتباع شريعة من عند الله.
و{بغير هدى}: حال، أي: مخذولاً، مُخَلاً بينه وبين هواه، {إن الله لا يهدي القوم الظالمين}؛ الذين ظلموا أنفسهم بالانهماك في اتباع الهوى والتقليد. وبالله التوفيق.
الإشارة: لو احتجاج الناس على الله يوم القيامة، حين تصيبهم نقائص عيوبهم، ما بعث الله في كل زمان نذيراً طبيباً، فإذا ظهر وتوجه لتربية الناس، قالوا: لولا أُوتي مثل ما أُوتي فلان وفلان من كرامات المتقدمين، فيقال لهم: قد كان مَنْ قبلكم من الأولياء لهم كرامات فكذَّبوهم وأنكروا عليهم ورموهم بالسحر والتبدع وغير ذلك وبقوا مع هوى أنفسهم. ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله، أي: بغير تمسك بمن يهديه إلى حضرة الله، إن الله لا يهدي القوم الظالمين إلى معرفته الخاصة.

.تفسير الآية رقم (51):

{وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (51)}
قلت: يقال: وصلت الشيء: جعلته موصولاً بعضه ببعض، ويقال: وصلت إليه الكتاب: أبلغته.
يقول الحق جل جلاله: {ولقد وصَّلْنا لهم} أي: لقريش ولغيرهم، {القولَ}؛ القرآن، أي: تابعناه موصولاً بعضه ببعض في المواعظ والزواجر، والدعاء إلى الإسلام. قال ابن عطية. وقال ابن عرفة اللُّغَوِي: أي: أنزلناه شيئاً بعد شيء، ليصل بعضه ببعض، ليكونوا له أوعى. اهـ. وتنزيله كذلك؛ ليكون أبلغ في التذكير؛ ولذلك قال: {لعلهم يتذكرون} يعني: أن القرآن أتاهم متتابعاً متواصلاً؛ وعداً، ووعيداً، وقصصاً، وعِبَراً، ومواعظ؛ ليتذكروا فيفلحوا. وقيل: معنى وصلنا: أبلغنا. وهو أقرب؛ لتبادر الفهم، وفي البخاري: أي: بيّنا وأتممنا. وهو عن ابن عباس. وقال مجاهد: فصّلنا. وقال ابن زيد: وَصَلْنَا خير الدنيا بخير الآخرة، حتى كأنهم عاينوا الآخرة في الدنيا.
الإشارة: تفريق المواعظ في الأيام، شيئاً فشيئاً، أبلغ وأنفع من سردها كلها في يوم واحد. وفي الحديث: «كان صلى الله عليه وسلم يَتَخَوَّلُنَا بالموعِظَةِ، مَخَافَة السآمة علينا» والتخول: التعاهد شيئاً فشيئاً. والله تعالى أعلم.

.تفسير الآيات (52- 55):

{الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آَمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53) أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (54) وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ (55)}
قلت: {الذين}: مبتدأ، {وهم به}: خبر.
يقول الحق جل جلاله: {الذين آتيناهم الكتابَ مِن قبله}؛ من قبل القرآن {هُم به} أي: القرآن {يؤمنون}، وهم مؤمنو أهلِ الكتاب، أو: النجاشي وقومه، أو: نصارى نجران، الذين قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، وهم عشرون رجلاً، فآمنوا به. قال ابن عطية: ذكر هؤلاء مُبَاهياً بهم قريشاً. اهـ. أي: فهم الذين يُقدرون قدر هذا الكتاب المنزل لِمَا معهم من العلم الذي ميزوا به الحق، ولذلك قال: {وإِذا يُتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا}؛ لِمَا عرفوا في كتابهم من نعت النبي صلى الله عليه وسلم وكتابه، {إِنَّا كنا من قبله}؛ من قبل القرآن، أو: من قبل محمد صلى الله عليه وسلم، {مسلمين}؛ كائنين على دين الإسلام، مؤمنين بمحمد صلى الله عليه وسلم. فقوله: {إِنه}: تعليل للإيمان به؛ لأن كَوْنَهُ حقاً من عند الله حقيق بأن يُؤْمَنَ به. وقوله: {إِنا}: بيان لقوله: {آمنا}؛ لأنه يحتمل أن يكون إيماناً قريب العهد أو بعيده، فأخبروه بأن إيمانهم به متقادم.
{أولئك يُوْتَون أجرَهم مرتين بما صبروا}؛ بصبرهم على الإيمان بالتوراة، والإيمان بالقرآن، أو: بصبرهم على الإيمان بالقرآن، قبل نزوله وبعده، أو بصبرهم على أذى المشركين وأهل الكتاب. وفي الحديث: «ثلاثةٌ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مرتين: رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه، ثم آمن بمحمد صلى الله عليه وسللم، ورجل مملوك أدى حق الله وحق مواليه، ورجل كانت عنده أمَةٌ فأعتقتها وتزوجها».
{ويدرؤون بالحسنةِ السيئةَ}؛ يدفعون الخصلة القبيحة بالخصلة الحسنة، يدفعون الأذى بالسِلم، والمعصية بالطاعة. {ومما رزقناهم ينفقون}؛ يتصدقون، أو يزكون، {وإذا سمعوا اللغْوَ}؛ الباطل، أو الشتم من المشركين، {أعْرضوا عنه وقالوا} للاغين: {لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلامٌ عليكم}؛ أمان منا عليكم، لا نقابل لغوكم بمثله، {لا نبتغي الجاهلين}؛ لا نريد مخالطتهم وصحبتهم، أو: لا نبتغي دين الجاهلين، أو محاورة الجاهلين وجدالهم، أو: لا نريد أن نكون جهالاً.
وفي السَير: أن أصحاب النجاشي لَمَّا كلمهم جعفر رضي الله عنه في مجمع النجاشي، بَكَوْا، ووقر الإسلام في قلوبهم، فقدِموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، فقرأ عليهم القرآن، فأسلموا وقالوا: {آمنا به إنه الحق من ربنا..} الآية. فلما خرجوا من عنده صلى الله عليه وسلم؛ استقبلتهم قريش فسبوهم، وقالوا: ما رأينا قوماً أحمق منكم، تركتم دينكم لمجلس ساعة مع هذا الرجل، فقالوا لهم: {سلام عليكم...} إلخ.
الإشارة: مَنْ تَحَمَّلَ من العلماء مشقة تَحَمُّلِ العلمِ الظاهر، ثم ركب أهواء النفس ومحاربتَها في تحصيل العلم الباطن، فهو ممن يُوتى أجره مرتين، وينال عز الدارين ضعفين؛ بسبب صبره على العِلْمَيْن، وارتكاب الذل مرتين، إذا اتصف بما اتصف به أولئك، بحيث يدرأ بالحسنة السيئة، وينفق مما رزقه الله من الحس والمعنى، كالعلوم والمواهب، ويعرض عن اللغو- وهو كل ما يشغل عن شهود الله- ويحلم عن الجاهل، ويرفق بالسائل. وبالله التوفيق.

.تفسير الآية رقم (56):

{إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56)}
يقول الحق جل جلاله: {إنك} يا محمد {لا تهدي من أحببتَ}، أي: لا تقدر أن تُدخل في الإسلام كل من أحببت أن يدخل من قومك وغيرهم، يعني: أن خاصية الهداية خاصة بالربوبية، وخاصية الربوبية لا تكون لمخلوق، ولو كان أكمل الخلق. {ولكنَّ الله يهدي من يشاء}؛ يخلق الهداية في قلب من يشاء، {وهو أعلم بالمهتدين}؛ بمن يختار هدايته ويقبلها.
قال الزجاج: اجمع المفسرون أنها نزلت في أبي طالب، وذلك أنه قال عند موته: يا معشر بني هاشم صدقوا محمداً تُفلحوا، فقال صلى الله عليه وسلم: «يا عَمّ تأمُرُهُم بالنَّصِيحة لأنفسهم وتَدعُها لنفسك!» فقال: ما تريد يا ابن أخي؟ فقال: «أُريدُ منك أن تقُول: لا إله إلا الله، أشْهَدُ لك بها عِنْدَ اللهِ» فقال: يا ابن أخي؛ أنا قد علمت أنك صادق، ولكن أكره أن يقال جزع عند الموت. اهـ. وفي رواية قال: (لولا أن تُعيرني نساء قريش، ويقلن: إنه حملني على ذلك الجزع، لأقررتُ بها عينك). وفي لفظ آخر عند البخاري: قال له: «يا عم، قُل: لا إله إلا الله، أُحاجُّ لك بها عند الله» فقال أبو جهل وعبد الله بن أمية: يا أبا طالب، أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فقال: بل على ملّة عبد المطلب، فنزلت الآية.
وفيها دليل على المعتزلة؛ لأنهم يقولون: الهدى هو البيان، وقد هدى الله الناس أجمع، ولكنهم لم يهتدوا بسوء اختيارهم، فدلت الآية على أن وراء البيان ما يسمى هداية؛ وهو خلق الاهتداء، وإعطاء التوفيق والقدرة على الاهتداء. وبالله التوفيق.
الإشارة: الآية ليست خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم، بل هي عامة لكل من يريد الهداية لأحد من خاصته، كتب شيخ أشياخنا، سيدي أحمد بن عبد الله، إلى شيخه، سيدي أحمد بن سعيد الهبري؛ يشكو له ابنه؛ حيث لم ير منه ما تقر به عينه، فكتب إليه: أخبرني: ما الذي بَنَيْتَ فيه؟ دع الدار لبانيها، إن شاء هدمها وإن شاء بناها. اهـ. وفي اللباب- بعد كلام-: قد رضي الله على أقوام في الأزل، فاستعلمهم في أسباب الرضا من غير سبب، وسَخِطَ على أقوام في الأزل، فاستعملهم في أسباب السَّخَطِ بلا سبب. {فَمَن يُرِدِ الله أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ} [الأنعام: 125] الآية.
وهذه الآية تخاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم بقولها: {إنك لا تَهْدي من أحببت}، والحكم عام في كل أحد، وقد خص رسول الله صلى الله عليه وسلم بأتم الفضائل وأعلى الوسائل، حتى لم يُسْبَقْ لفضيلة، ولم يَحْتَجْ لوسيلة، وليس في ذلك نظر، بل سابقة السعادة أيدته، والخصوصية قرَّبته، ولو كان له في التقدير نظر ما مُنع من الشفاعة في عمه أبي طالب، ومن الاستغفار لأبيه. ولو كانت الهداية بيد آدم لهدى قابيل، ولو كانت بيد نوح لهدى ولده كنعان، أو بيد إبراهيم لهدى أباه آزر، أو بيد محمد صلى الله عليه وسلم لأنقذ عمه أبا طالب، جذبت العنايةُ سلمان من فارس، وصاحت على بلال من الحبشة، وأبو طالب على الباب ممنوع من الدخول. سبحان من أعطى ومنع، وضر ونفع. اهـ.

.تفسير الآية رقم (57):

{وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آَمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (57)}
قلت: {رزقاً}: حال من {الثمرات}؛ لتخصيصه بالإضافة، أو مصدر لتجبى؛ لأن معناه: نرزق، أو: مفعول له.
يقول الحق جل جلاله: {وقالوا} أي: كفار قريش {إن نتبع الهُدَى} وندخل {معك} في هذا الدين؛ {نُتَخَطّفُ من أرضنا} أي: تخطفنا العرب وتُخرجنا من أرضنا.
نزلت في الحارث بن عثمان بن نوفل، أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: نحن نعلم أنك على الحق، ولكنا نخاف، إن اتبعناك وخالفنا العرب، وإنما نحن أكَلَةُ رأس، أَنْ يتخطفونا من أرضنا، فردّ الله عليهم بقوله: {أوَ لَمْ نُمكِّنْ لهم حَرَماً آمناً}؛ أَوَ لَمْ نجعل مكانهم حرماً ذا آمن بحرمة البيت، يأمن فيه قُطانه، ومن التجأ إليه من غيرهم؛ فَأَنَّى يستقيم أن نعرضهم للتخطف، ونسلبهم الأمن، إذا ضموا إلى حرمة البيت حرمة الإسلام؟.
{تُجْبَى إليه}، أي: تُجمع وتُجلب إليه من كل أَوْب، {ثمراتُ كل شيء} أي: كل صنف ونوع. ومعنى الكُلِّيَّةِ: الكثرة؛ كقوله: {وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ} [النمل: 23]، {رزقاً من لدُنَّا}، ونعمة من عندنا، وإذا كان حالهم، وهم عبدة الأصنام، فكيف إذا أووا إلى كهف الإسلام، وتدرعوا بلباس التوحيد؟
{ولكن أكثرهم لا يعلمون} أي: جهلة، لا يتفطنون ولا يتفكرون حتى يعلموا أنه لا يهملهم من حفظه ورعايته، إن أسلموا. وقيل: يتعلق بقوله: {من لدُنَّا}، أي: قليل منهم يتدبرون، فيعلمون أن ذلك رزق من عند الله؛ وأكثرهم جهلة لا يعلمون ذلك ولو علموا أنه من عند الله؛ لعلموا أن الخوف والأمن من عند الله، ولَمَا خافوا التخطف إذا آمنوا به. والله تعالى أعلم.
الإشارة: ترى كثيراً من الناس، ممن أراد الله حرمانه من الخصوصية، يتعلل بهذه العلل الواهية، يقول: إن دخلنا في طريق القوم؛ رفضَنا الناس، وأنكر علينا أقاربنا، ونخاف الضيعة على أولادنا. يقول تعالى لهم: أو لم أُمَكِّن لأوليائي، المتوجهين إلى حَضْرَةِ القدس، حرماً آمناً تُجبى لأهلها الأرزاق من كل جانب، بلا حرص ولا طمع ولا سبب، ولكن أكثر الناس؛ جهالاً بهذا، وقفوا مع العوائد، فحُرموا الفوائد، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

.تفسير الآيات (58- 59):

{وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ (58) وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ (59)}
قلت: {كم}: منصوب بأهلكنا. والبطر: الطغيان عند النعمة. قال في القاموس: البَطَر- محركة: النشاط، والأشر، وقلة احتمال النعمة، والدهش، والحيرة، والطغيان بالنعمة، وكراهة الشيء من غير أن يستحق الكراهية، فعلى الكل: كفرح. اهـ. و{معيشتها} نصب بحذف الجار واتصال الفعل، أي: في معيشتها. وجملة {لم تسكن}: حال، والعامل فيها: الإشارة.
يقول الحق جل جلاله: {وكم أهلكنا من قرية}، أي: كثيراً أهلكنا من أهل قرية، كانت حالهم كحالهم في الأمن والدعة، وخصب العيش، مِنْ وصفها {بَطِرَتْ} في {مَعِيشَتها}، أي: طغت وتجبرت ولم تشكر، بل قابلتها بالبطر والطغيان. قال القشيري: لم يعرفوا قدر نعمتهم، ولم يشكروا سلامة أموالهم، وانتظام أمورهم، فهاموا في أودية الكفران على وجوهم، وخَرُّوا في وَهدة الطغيان على أذقانهم، فدمر الله عليهم وخرب ديارهم.
{فتلك مساكنهم} خاوية، أو: فتلك منازلهم باقية الآثار، يشاهدونها في الأسفار؛ كبلاد ثمود، وقرى لوط، وقوم شعيب، وغيرهم، {لم تُسكن من بعدهم إلا قليلاً} من السكنى، أي: لم يسكنها إلا المسافر، أو مار بالطريق؛ يوماً أو ساعة، {وكنا نحن الوارثين} لتك المساكن من سكانها، أي: لا يملك التصرف فيها غيرنا. وفيه إشارة لوعد النصر لمتبع الهدى، وأن الوراثة له، لا أنه يتخطف كما قد قيل، بل يقع الهلاك على من لم يشكر نعمة الله، ويتبع هواه، فكيف يخاف من تكون عاقبته الظفر ممن يكون عاقبته الدمار والتبار؟ والحاصل: إنما يلحق الخوف من لم يتبع الهدى، فإنه الذي جرت سنة الله في بالهلاك، وأما متبع الهدى؛ فهو آمن والعاقبة له.
{وما كان ربك}؛ وما كانت عادته {مُهلك القرى} بذنب {حتى يبعث في أُمِّها}، أي: القرية التي هي أصلها ومعظمها؛ لأن أهلها يكونون أفطن وأقبل. {رسولاً}؛ لإلزام الحجة وقطع المعذرة، أو: ما كان في حكم الله وسابق قضائه أن يهلك القرى في الأرض حتى يبعث في أمها، وهي مكة؛ لأن الأرض دحيت من تحتها. {رسولاً} يعني: محمداً صلى الله عليه وسلم، {يتلوا عليهم آياتنا}؛ القرآن، {وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلُها ظالمون}، أي: وما أهلكناهم للانتقام، إلا وأهلها مستحقون العذاب بظلمهم، وهو إصرارهم على الكفر والمعاصي، والعناد، بعد الإعذار إليهم. والله تعالى أعلم.
الإشارة: وكم خَرَّبْنَا من قلوب وأخليناها من النور، حيث طغت وتجبرت في معيشتها، وانشغلت بحظوظها وشهواتها، فتلك أماكنها خاوية من النور، لم تُسكن بالنور إلا قليلاً، وكنا نحن الوارثين لها، فأعطينا ذلك النور غيرها، وما فعلنا ذلك حتى بعثنا من يُذكرها ويُنذرها، وما كنا مهلكي قلوبٍ وَمُتْلِفيهَا إلا وأهلها ظالمون، بإيثار الغفلة والشهوة على اليقظة والعفة. والله تعالى أعلم.