فصل: سورة القصص:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (91- 93):

{إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91) وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآَنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (92) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (93)}
يقول الحق جل جلاله: قل لكفار قريش، بعد تبيين أحوال المبعث، وشرح أحوال القيامة، بما لا مزيد عليه: {إنما أُمرتُ أن أعبدَ ربَّ هذه البلدة} أي: مكة، أي: إنما أمرني ربي أن أعبده، وأستغرق أوقاتي في مراقبته ومشاهدته، غير مبالٍ بكم، ضللتم أم رشِدتم، وما عليّ إلا البلاغ، وقد بلغتكم وأنذرتكم. وتخصيص مكة بالإضافة لتفخيم شأنها وإجلال مكانها، {الذي حَرَّمها} أي: جعلها حرماً آمناً، يأمن الملتجأ إليها، ولا يختلي خلاها، ولا يعضد شوكها، ولا ينفّر صيدها. والتعرض لبيان تحريمه إياها تشريف لها بعد تشريف، وتعظيم إثر تعظيم، مع مافيه من الإشعار بعلة الأمر بعبادة ربها، وأنهم مُكلفون بذلك، كما في قوله تعالى: {فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هذا البيت الذي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ} [قريش: 3، 4]. ومن الإشارة إلى غاية شناعة ما فعلوا فيها، ألا يُرى أنهم مع كونها محرمة أن تنتهك حرمتها، ويلحد فيها بإثم، قد استمروا فيها على تعاطي أفجر الفجور، وأشنع الإلحاد، حيث تركوا عبادة ربها، ونصبوا الأوثان، وعكفوا على عبادتها، قاتلهم الله أنَّى يؤفكون. قاله أبو السعود.
ثم قال تعالى: {وله كلُّ شيء} خلقاً وملكاً وتصرفاً، من غير ان يشاركه أحد في شيء من ذلك، تحقيقاً للحق، وتنبيهاً على إن إفراد مكة بالإضافة لما ذكر من التفخيم والتشريف، مع عموم الربوبية لجميع الموجودات. {وأُمرتُ أن أكون من المسلمين} المنقادين له، الثابتين على ما كنا عليه، من ملة الإسلام والتوحيد. الذين أسلموا وجوهم له تعالى، وانقادوا إليه بالكلية.
{وإن أتلوَ القرآن} أي: أُواظب على تلاوته لتنكشف حقائقه الرائقة المخزونة في تضاعيفه شيئاً فشيئاً. أو: على تلاوته على الناس؛ بطريق تكرير الدعوة، وتثنية الإرشاد، فيكون ذلك تنبيهاً على كفايته في الهداية والإرشاد، من غير حاجة إلى إظهار معجزة أخرى.
{فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه} أي: فمن اهتدى بالإيمان به، والعمل بما فيه من الشرائع والأحكام، فإنما منافع هدايته عائدة إليه، لا إلى غيره. {ومن ضلّ} بالكفر به، والإعراض عن العمل بما فيه {فقلْ} في حقه: {إنما أنا من المنذرينَ} وقد خرجتُ من عهدة الإنذار، فليس عليَّ من وبال ضلالته شيء. قال الصفاقسي: جواب {من}: محذوف، يدل عليه ما قبله، أي: فوبال ضلاله عليه، أو: يكون الجواب: {فقل}، ويقدر ضمير عائد من الجواب إلى الشرط؛ لأنه اسم غير ظرف، أي: من المنذرين له. اهـ.
{وقل الحمدُ لله} على ما أفاض عليّ من نعمائه، التي أجلُها نعمة النبوة، المستتبعة لفنون النعم الدينية والدنيوية، ووفقني لتحمل أعبائها، وتبليغ أحكامها إلى كافة الورى، بالآيات البينة والبراهين النيرة، {سيُريكُم آياته} قطعاً في الدنيا، التي وعدكم بها، كخروج الدابة وسائر الأشراط، {فتعرفونها} أي: فتعرفون أنها آيات الله، حين لا تنفعكم المعرفة، أو: سيضطركم إلى معرفة آياته، والإقرار بأنها آيات الله حين ظهورها، {وما ربك بغافل عما تعملون}، بل محيط بعمل المهتدي والضال، غير غافل، فيجازي كلاًّ بما يستحقه.
وتخصيص الخطاب أولاً به- عليه الصلاة والسلام- وتعميمه ثانياً للكفرة تغليباً، أي: وما ربك بغافل عما تعمل أنت من الحسنات وما تعملون أنتم- أيها الكفرة- من السيئات، فيجازي كلاً بعمله. ومن قرأ بالغيب فهو وعيد محض، أي: وما ربك بغافل عن أعمالهم، فسيعذبهم ألبتة، فلا يحسبوا أن تأخير عذابهم لغفلته تعالى عن أعمالهم، بل يمهل ولا يهمل. والله تعالى أعلم.
الإشارة: إذا فرغ الواعظ من وعظه وتذكيره، أو: العالم من تدريسه وتعليمه، أقبل على عبادة ربه، إما عبادة الجوارح الظاهرة، من صلاة وذكر وتلاوة، أو عبادة القلوب، كتفكر واعتبار، أو استخراج علوم وحكم ودُرر. وإما عبادة الأرواح، كنظرة وفكرة وشهود واستبصار. وهذه عبادة الفحول من الرجال، فمن اهتدى إليها فلنفسه، ومن ضل عنها فقل إنما أنا من المنذرين. والحمد لله رب العالمين- وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً.

.سورة القصص:

.تفسير الآيات (1- 3):

{طسم (1) تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (3)}
يقول الحق جل جلاله: {طسم}، إما مختصرة من أسماء الله تعالى، أقسم على حقّية كتابه، وما يتلى فيه، كأنها مختصرة من طهارته- أي: تنزيهه- وسيادته، ومجده، أو: من أسماء رسوله- وهو الأظهر- أي: أيها الطاهر السيد المجيد {تلك آيات الكتابُ المبين}، إما من بان، أو: أبان، أي: بيِّن خيره وبركتُه، أو مُبين للحلال والحرام، والوعد والوعيد، والإخلاص والتوحيد، {نتلو عليك من نبأ موسى وفرعونَ} أي: بعض خبرهما العجيب. قال القشيري: كرَّر الحقُّ قصةَ موسى؛ تعجيباً بشأنه، وتعظيماً لأمره، ثم زيادة في البيان لبلاغة القرآن، ثم أفاد زوائد من الذكر في كل موضعٍ يُكرره. اهـ.
هذا مع الإشارة إلى نصر المستضعفين، والامتنان عليهم بالظفر والتمكين، ففيه تسلية لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ووعد جميل له ولأمته. وقوله: {بالحق}: حال من فاعل {نتلو}، أو: من مفعوله أو: صفة لمصدر محذوف أي ملتبسين أو: ملتبساً بالحق أو: تلاوة ملتبسة بالحق. {لقومٍ يؤمنون}؛ لمن سبق في علمنا أنه يُؤمن؛ لأن التلاوة إنما تنفع هؤلاء دون غيرهم، فهو متعلق بنتلو. والله تعالى أعلم.
الإشارة: تقديم هذه الرموز، قبل سرد القصص، إشارة إلا أنه لا ينتفع بها كل الانتفاع حتى يتطهر سره، وَيُلْقِيَ سَمْعَهُ، وهو شهيد، فحينئذٍ يكون طاهراً سيداً مجيداً ينتفع بكل شيء، ويزيد إلى الله بكل شيء. ولذلك خص تلاوة قصص موسى بأهل الإيمان الحقيقي؛ لأنهم هم أهل الاعتبار والاستبصار. والله تعالى أعلم.

.تفسير الآيات (4- 6):

{إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4) وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ (6)}
يقول الحق جل جلاله: {إِنَّ فرعونَ علا في الأرض}، وهو استئناف بياني، وكأن قائلاً قال: وكيف كان نبأهما؟ فقال: إنه علا في الأرض، أي: تجبّر وطغى في أرض مصر، وجاوز الحد في الظلم والعدوان. أو: علا عن عبادة ربه، وافتخر بنفسه، ونسي العبودية. وفي التعبير بالأرض تبكيت عليه، أي: علا في محل التذلل والانخفاض، {وجعل أهلَها شِيعاً} أي: فرقاً وأصنافاً في الخدمة والتسخير، كلُّ قوم من بني إسرائيل في شغل مفرد. وقيل: مَلَكَ القبط واستعبد بني إسرائيل. أو: فرقاً مختلفة، يُكرم طائفة ويهين أخرى، فأكرم القبط، وأهان بني إسرائيل. {ويستضعفُ طائفةً منهم} وهم بنو إسرائيل، وهو يُرشد إلى كون المراد بقوله: {وجعل أهلها} لا يُخَصُّ ببني إسرائيل.
{يُذَّبِّحُ أبناءهم} الذكور، {ويستحيي نساءَهم} أي: البنات، يتركهم لخدمته.
وسبب ذبحه للأبناء أن كاهناً قال له: يولد مولود في بني إسرائيل، يذهب ملكك على يده، وفيه دليل على حمق فرعون، فإنه إن صدق الكاهن لم ينفعه القتل؛ إذ لا ينفع حذر من قدر، وإن كذب فلا معنى للقتل. وجملة: {يستضعف}: حال من الضمير في {جعل}، أو صفة لشِيع، أو استئناف. {إنه كان من المفسدين}، أي: الراسخين في الإفساد، ولذلك اجترأ على تلك العزيمة العظيمة، ومن قتل المعصومين من أولاد الأنبياء- عليهم السلام.
{ونريد أن نَمُنَّ} أي: نتفضل {على الذين استُضعفوا في الأرض} على الوجه المذكور بالقتل والتسخير. وهذه الجملة معطوفة على: {إن فرعون}، أو: حال من {يستضعف}، أي: يستضعفهم فرعون ونحن نُريد أن نمنّ عليهم، وإرادة الله تعالى كائنة لا محالة، فَجُعِلَتْ كالمقارنة لاستضعافهم، {ونجعلهم أئمةً} أي: قادة يُقتدى بهم في الخير، أو: دعاة إلى الخير، أو: ولاةً وملوكاً، {ونجعلهم الوارثين} أي: يرثون فرعون وقومه، مُلكهم وكل ما كان لهم.
{ونُمكِّن لهم في الأرض}؛ أرض مصر والشام يتصرفون فيها كيف شاؤوا وتكون تحت مُلكهم وسلطانهم. وأصل التمكن: أن يجعل لهم مكاناً يقعد عليه، ثم استعير للتسليط والتصرف في الأمر. {ونُرِيَ فرعونَ وهامان وجنودَهما منهم}؛ من بني إسرائيل، {ما كانوا يحذَرون}؛ يخافون من ذهاب ملكهم، وهلاكهم على يد مولود منهم. والحذر التوقي من الضرر. ومن قرأ {يري}؛ بالياء ففرعون وما بعده فاعل. وبالله التوفيق.
الإشارة: العلو في الأرض يُورث الذل والهوان. والتواضع والاستضعاف يورث العز والسلطان، والعيش في العافية والأمان؛ من تواضع رفعه الله، ومن تكبر قصمه الله. وهذه عادة الله في خلقه، بقدر ما يَذِلُّ في جانب الله يعزه الله، وبقدر ما يفتقر يغنيه الله، بقدر ما يفقد يجد الله. قال الشيخ أبو الحسن رضي الله عنه: اللهم إن القوم قد حكمت عليهم بالذل حتى عزوا، وحكمت عليه بالفقد حتى وجدوا. وبالله التوفيق.

.تفسير الآيات (7- 9):

{وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7) فَالْتَقَطَهُ آَلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ (8) وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (9)}
يقول الحق جل جلاله: {وأوحينا إلى أمِّ موسى}؛ بالإلهام، أو بالرؤيا، أو بإخبار ملك كما كان لمريم، وليس هذا وحي رسالة، فلا يلزم أن تكون رسولاً، واسمها: يوحانة، وقيل: يوخابذ بنت يَصهرُ بن لاوي بن يعقوب. وقيل: يارخا. ذكره في الإتقان. وقلنا: {أن أرضعيه}؛ {أن}: مفسرة، أي: أرضعيه، أو: مصدرية، بأن أرضعيه ما أمكنك إخفاؤه، {فإذا خِفْتِ عليه} من القتل {فألقيه في اليمِّ}. البحر، وهو نيل مصر، {ولا تخافي} عليه من الغرق والضياع، {ولا تحزني} لفراقه، {إنا رادوه إليك} بوجه لطيف؛ لتُربيه، {وجاعلوه من المرسلين}. وفي هذه الآية: أمران، ونهيان، وخبران، وبشارتان.
والفرق بين الخوف والحزن؛ أن الخوف: غم يلحق الإنسان لِتَوَقُّعِ مكروه، والحزن: غم يلحق الإنسان لواقع أو ماضي، وهو الآن فراقه والإخطار به. فنُهيت عنهما، وبُشرت برده وجعله من المرسلين. رُوي أنه ذبح، في طلب موسى، تسعون ألف وليدٍ. ورُوي أنها حين ضربها الطلق- وكانت بعض القوابل من الموكلات بحَبَالى بني إسرائيل مَصافية لها، فعالجتها، فلما وقع إلى الأرض هالها نور بين عينيّه، ودخل حُبُه قلبها، فقالت: ما جئتُ إلا لأقتل ولدك وأُخبر فرعون، ولكن وجدت لابنك حباً ما وجدت مثله، فاحفظيه، فلما خرجت القابلة، جاءت عيون فرعون فلفَّتْه في خرقة، ووضعته في تنور مسجور، ولم تعلم ما تصنع؛ لِما طاش من عقلها، فطلبوا فلم يجدوا شيئاً، فخرجوا، وهي لا تدري مكانه، فسمعت بكاءه من التنور، فانطلقت إليه، وقد جعل الله النار عليه برداً وسلاماً. فلما ألح فرعون في طلب الولدان أوحى الله إليها بإلقائه في اليمِّ، فألقته في اليم بعد أن أرضعته ثلاثة أشهر.
رُوي أنها لفته في ثيابه، وجعلت له تابوتاً من خشب، وقيل: من بردى، وسدت عليه بقفل، وأسلمته؛ ثقة بالله وانتظاراً لوعده سبحانه. قال ابن مخلص: ألقته في البحر بالغداة، فرده إليها قبل الظهر. حُكي أن فرعون كانت له بنتٌ برصاء، أعيت الأطباء، فقال الأطباء والسحرة: لا تبرأ إلا من قِبل البحر، يؤخذ من شبه الإنسان، فيؤخذ من ريقه وتلطخ به برصها، فتبرأ، فقعد فرعون على شفير النيل، ومعه آسية امرأته، فإذا بالتابوت يلعب به الموج، فأخِذ له، ففتحوه، فلم يطيقوا، فدنت آسية، فرأت في وجه التابوت نوراً لم يره غيرُها، لِلذي أراد الله أن يكرمها، ففتحه، فإذا الصبي بين عينيه نور وقد جعل الله رزقه في إبهامه، يمصه لبناً، فأحبته آسية وفرعون، فلطخت بنت فرعون برصها فبرئت، فقبَّلته وضمته إلى صدرها. فقال بعض القواد من قوم فرعون: نظن هذا المولود الذي نحذر منه، فهمّ فرعون بقتله- والله غالب على أمره- فقالت: آسية: {قُرة عين لي ولك.
..} الآية.
وهذا معنى قوله: {فالتقطه آلُ فرعون}؛ أخذه. قال الزجّاج: وكان فرعون من أهل فارس، من إصْطَخْر. والالتقاط: وجدان الشيء من غير طلب ولا إرادة، ومنه: اللُّقَطَةُ، لما وُجد ضالاً. وقوله: {ليكونَ لهم عَدُواً وحَزَناً} أي: ليصير الأمر ذلك، لا أنهم أخذوه لهذا، فاللام للصيرورة؛ كقولهم: لدوا للموت وابنوا للخراب. وقال صاحب الكشاف: هي لام كي التي معناها التعليل، كقولك: جئت لتكرمني. ولكن معنى التعليل فيها وارد على طريق المجاز؛ لأن ذلك لما كان نتيجة التقاطم له شبه بالداعي الذي يفعل الفاعل الفعلَ لأجله. اهـ. وتسمى بالاستعارة التبعية.
وفي الحَزَن لغتان؛ الفتح، والضم، كالعدم والعدم.
{إنَّ فرعونَ وهامانَ وجنودَهما كانوا خاطئين}، أي: مذنبين، فعاقبهم الله تعالى بأن ربَّى عدوهم، ومن هو سبب هلاكهم على يديهم. أو: كانوا خاطئين في كل شيء، فليس خطؤهم في تربية عدوهم ببدع منهم.
{وقالت امرأةُ فرعون}، لمّا هم فرعون بقتله- لقول القواد: هو الذي نحذر هو: {قرةُ عين لي ولك}، فقال فرعون: لكِ، لا لي. قال صلى الله عليه وسلم: «لو قال مثل ما قالت لهداه الله مثل ما هداها»، وهذا على سبيل الفرض، أي: لو كان غير مطبوع عليه الكفر لقال مثل قولها. ثم قالت: {لا تقتلوه}، خاطبته خطاب الملوك، أو خاطبت القُواد.
{عسى أن ينفعنا}؛ فإن فيه مَخَايلَ اليُمنِ ودلائلَ النفع، وذلك لِمَا عَايَنَتْ من النور وبرْءِ البرصاء. {أو نتخذه ولدا}؛ أو: نتبناه؛ فإنه أهل لأَن يكون ولد الملوك. قال تعالى: {وهم لا يشعرون} ما يكون من أمره وأمرهم، أو: لا يشعرون أن هلاكهم على يديه، أو: لا يشعرون أنهم على خطأ عظيم في التقاطه ورجاء النفع منه. والله تعالى أعلم.
الإشارة: يقال لمن يعالج تربية مريد: أرضعه من لبن علم الغيوب، فإذا خفت عليه الوقوف مع الشرائع، فألقه في اليم؛ في بحر الحقائق، ولا تخف ولا تحزن، إنا رادوه إلا بر الشرائع، ليكون من الكاملين، لأن من غرق في بحر الحقيقة، على يد شيخ كامل، لابد أن يخرجه إلى بر الشريعة ويسمى البقاء، وهو القيام برسم الشرائع، فالبقاء يطلب الفناء، فمن تحقق بمقام الفناء؛ فلابد أن يخرج إلى البقاء، كما يخرج من فصل الشتاء إلى الربيع. والله تعالى أعلم.
وقوله تعالى: {ليكون لهم عدواً وحزناً}، ما كان التقاط فرعون لموسى إلا للمحبة والفرح، فخرج له عكسه. ومن هذا كان العارفون لا يسكنون إلى الشيء ولا يعتمدون على شيء؛ لأن العبد قد يخرج له الضرر من حيث النفع وقد يخرج له النفع من حيث يعتقد الضرر، وقد ينتفع على أيدي الأعداء، وَيُضَرُّ على أيدي الأَحِبَّاءِ، فليكن العبد سلْماً بين يدي سيده، ينظر ما يفعل به. {والله يعلم وأنتم لا تعلمون}.