فصل: تفسير الآية رقم (72):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآية رقم (72):

{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آَيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (72)}
قلت: {وإذا تُتلى}: عطف على {يعبدون}، وصيغة المضارع؛ للدلالة على الاستمرار التجددي.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {وإِذا تُتلى عليهم} أي: على المشركين {آياتُنا} القرآنية، حال كونها {بيناتٍ}: واضحات الدلالة على العقائد الحقية، والأحكام الصادقة، {تعرِفُ في وجوه الذين كفروا المنكَر} أي: الإنكار بالعبوس والكراهة، فالمُنكَر: مصدر بمعنى الإنكار. {يكادون يَسطُون}: يبطشون، والسطو: الوثب والبطش، أي: يثبون على الذين {يتلُون عليهم آياتنا}؛ من فرط الغيظ والغضب، والتالون هم: النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه. {قلْ} لهم: {أفأنبئُكُم بشرٍّ من ذلكم}؛ من غيظكم على التالين وسطوكم عليهم، أو مما أصابكم من الكراهة والضجر، بسبب ما يتلى عليكم، هو {النارُ وَعَدها اللهُ الذين كفروا} مثلكم، {وبئس المصيرُ} النار، التي ترجعون إليها مخلدين.
الإشارة: من شأن أهل العتو والتكبر أنهم إذا وعظهم الفقراء عنفوا واستنكفوا، ويكادون يسطون عليهم من شدة الغضب، فما قيل لكبراء الكفار يجرُ ذيله على من تشبّه بهم من المؤمنين.

.تفسير الآيات (73- 74):

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73) مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74)}
يقول الحقّ جلّ جلاله: {يا أيها الناس ضُرب مثلٌ} أي: يُبين لكم حالٌ مستغربة، أو قصة بديعة رائقة حقيقة بأن تسمى مَثَلاً، وتنشر في الأمصار والأعصار، {فاستمعوا له}؛ لضرب هذا المثل؛ استماع تدبر وتفكر، وهو: {إِنَّ الذين تدْعُون}، وعن يعقوب: بياء الغيبة، أي: إن الذين تدعونهم آلهة وتعبدونهم {من دون الله لن يخلقُوا ذُبابًا} أي: لن يقدروا على خلقه أبدًا، مع صغره وحقارته. و{لن}: لتأبيد النفي، فتدل على استحالته، {ولو اجتمعوا له} أي: الذباب. ومحله: نصب على الحال، كأنه قال: لا يقدرون على خلقه مجتمعين له، متعاونين عليه، فكيف إذا كانوا منفردين؟! وهذا أبلغ ما أنزل في تجهيل قريش، حيث وَصَفوا بالألوهية- التي من شأنها الاقتدار على جميع المقدورات، والإحاطة بكل المعلومات- صُورًا وتماثيل، يستحيل منها أن تقدر على أضعف ما خلقه الله تعالى وأذله، ولو اجتمعوا له.
{وإِن يسلبْهُمُ الذبابُ شيئًا} من الطيب وغيره، {لا يستنقذوه منه} أي: هذا الخلق الأرذل الأضعف، لو اختطف منهم شيئًا فاجتمعوا على أن يستخلصوه منه، لم يقدروا وعن ابن عباس رضي الله عنه: أنهم كانوا يطلُونها بالعسل والطيب، ويغلقون عليها الأبواب، فيدخل الذبابُ من الكُوِي فيأكله، فتعجز الأصنام عن أخذه. {ضَعُفَ الطالبُ}: الصنمُ بطلب ما سُلب منه، {والمطلوبُ}: الذباب بما سَلَب. وهذا كالتسوية بينهم وبين الذباب في الضعف، ولو حققت لوجدت الطالب أضعفَ وأضعفَ؛ فإنَّ الذباب حيوان والصنم جماد.
{ما قَدَروا الله حقَّ قدره}: ما عرفوه حق معرفته، حيث جعلوا هذا الصنم الضعيف شريكًا له، {إِن الله لقويٌّ عزيز} أي: قادر غالب، فكيف يتجه أن يكون العاجز المغلوب شبيهًا له! أو لقوي ينصر أولياءه، عزيز ينتقم من أعدائه. بَعْدَ أن ذكر تعالى أنهم لم يقدروا له قدرًا؛ حيث عبدوا معه من هو منسلخ من صفاته، وسموه باسمه مع عجزه. ختم بصفتين منافيتين لصفات آلهتهم؛ وهي القوة والغلبة. والله تعالى أعلم.
الإشارة: كل من تعلق في حوائجه بغير الله أو ركن بالمحبة إلى شيء سواه، فقد أشرك مع الله أضعف شيء وأقله. فماذا يجدي تعلقُ العاجزُ بالعاجز، والضعيف بالضعيف، ضَعف الطالبُ والمطلوب. فما قدر الله حقَ قدره من تعلق في أموره بغيره. قال الورتجبي: بيَّن سبحانه- بعد ذكر عجز الخلق والخليقة- جلال قدره الذي لا يعرفه غيره، بقوله: ما قدروا الله حق قدره، قال: وهذه شكاية عن إشارة الخلق إليه بما هو غير موصوف به، فذكر غيرته؛ إذ أقبلوا إلى غير من هو موصوف بالقوة الأزلية والعزة السرمدية. ألا ترى كيف قال: {إن الله لقويٌ عزيزٌ}.

.تفسير الآيات (75- 76):

{اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (76)}
يقول الحقّ جلّ جلاله: {الله يصطفي}: يختار {من الملائكة رُسلاً} يرسلهم إلى صفوة خلقه، كجبريل وميكائيل وإسرافيل وغيرهم، {ومن الناسِ}، كإبراهيم وموسى وعيسى ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم يُعرِّفون بجلال الله ومعرفة قدره، حتى يقدروه حق قدره باعتبارهم لا باعتباره؛ فإنَّ الله تعالى لا يمكن لأحد أن يقدرُه حق قدره. قال سيد العارفين: «لا أُحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك». وقيل: نزلت؛ ردًا لما أنكروه من أن يكون الرسول من البشر، وبيانًا أن رُسل الله على ضربين: ملك وبشر. وقيل: نزلت في قولهم: {أَأُنزِلَ عَلَيْهِ الذكر مِن بَيْنِنَا} [ص: 8]. {إِن الله سميع بصير} أي: سميع لقولهم، بصير بمن يختاره للرسالة. أو سميع لأقوال الرسل، بصير بأحوال الأمم في الردِّ والقبول. {يعلم ما بين أيديهم}: ما مضى، {وإِلى الله تُرجع الأمورُ} أي: إليه مرجع الأمور كلها، وليس لأحد أن يعترض عليه في حكمه وتدبيره واختياره مَن شاء من رُسلِه. والله تعالى أعلم.
الإشارة: شرب الخمرة، وهي المحبة الحقيقية والمعرفة الكاملة، لا تكون إلاَّ على أيدي الوسائط، والنادر لا حكم له، فالأنبياء وسائطهم الملائكة، والأولياء وسائطهم خلفاء الأنبياء، وهم أهل العلم بالله الذوقي العِيَاني. وقال الورتجبي- إثر ما تقدم عنه-: فالملائكة وسائط الأنبياء، والأنبياء وسائط العموم، والأولياء للأولياء خاصة. اهـ. وتوسيط الأنبياء للعموم في مطلق المحبة، وتعليم ما يقرب إليها، وأما المحبة الحقيقية فهي خاصة بالأولياء للأولياء، كما قال. وبالله التوفيق.

.تفسير الآيات (77- 78):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77) وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78)}
قلت: {ملة أبيكم}: منصوب بمحذوف، أي: اتبعوا ملة إبراهيم.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا} في صلاتكم، وكانوا أول ما أسلموا يصلون بلا ركوع وسجود، فأمروا أن تكون صلاتهم بركوع وسجود، وفيه دليل على أن الأعمال ليست من الإيمان، وأن هذه السجدة للصلاة لا للتلاوة، قاله النسفي. {واعبدوا ربكم} أي: واقصدوا بعبادتكم وجه الله، وأخلصوا فيها، أو هو عطف عام على خاص؛ فإن العبادة أعم. {وافعلوا الخير} كله. قيل: لما كان للذكر مزية على غيره دعا المؤمنين أولاً للصلاة التي هي ذكر خالص؛ لقوله: {وَأَقِمِ الصلاة لذكريا} [طه: 14]، ثم إلى العبادة بغير الصلاة، كالصوم والحج، ثم عم بالحث على سائر الخيرات. وقال ابن عرفة: وافعلوا الخير: راجع للعبادة المتعدية، وما قبله يختص بالقاصرة. قال المحشي: وفيه نظر؛ لشمول العبادة لِمَا هو متعدي النفع، كتعليم العلم، والصدقة ونحو ذلك، بل أمر أولاً بالصلاة، وهي نوع من العبادة، وثانيًا بالعبادة، وهي نوع من فعل الخير، وثالثًا بفعل الخير، وهو أعم من العبادة. فبدأ بخاص ثم عام ثم بأعم. اهـ. {لعلكم تُفلحون}: كي تفوزوا، أي: افعلوا هذا كله، وأنتم راجون للفلاح غير مستيقنين، فلا تتكلوا على أعمالكم.
{وجاهدوا في الله} أي: في ذات الله ومن أجله {حقَّ جهاده}، أمرٌ بالغزو وبمجاهدة النفس والهوى، وهو الجهاد الأكبر، ومنه: كلمة حق عند أمير جائر. قال- عليه الصلاة والسلام-: «أعمال البر كلها، إلى جنب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كنفثة إلى جنب البحر، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى جنب الجهاد في سبيل الله عزّ وجلّ كنفثة في بحر، والجهاد في سبيل الله عزّ وجلّ إلى جنب مجاهدة النفس عن هواها في اجتناب النهي، كنفثة في جنب بحر لجيّ» وهذا على معنى الخبر الذي جاء: «جئتم من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر» يعني: مجاهدة النفس. قاله في القوت.
قال القشيري: حق الجهاد ما يوافق الأمر في القَدْرِ والوقتِ والنوعِ، فإذا حَصَل في شيءٍ منه مخالفة فليس حَقَّ جهاده. اهـ. قلت: موافقة القَدْر، في جهاد النفس، أن يكون بغير إفراط ولا تفريط، فالإفراط يُمل، والتفريط يُخل، وموافقة الوقت أن يكون قبل حصول المشاهدة؛ إذ لا تجتمع مجاهدة ومشاهدة في وقت واحد. والنوع أن يجاهدها بما يُباح في الشرع، لا بمحرم ولا مكروه. وقال في الحاشية: هو الوفاء بالمشروع مع رفع الحرج، بدليل ما بعده، فهو موافق لقوله تعالى: {فاتقوا الله مَا استطعتم} [التّغَابُن: 16]، ومما هو ظاهر في الآية: الذب عن دينه وتغيير المناكر. اهـ.
{هو اجتباكم}: اختاركم لدينه بإظهاره والذب عنه، وهو تأكيد للأمر بالجهاد، أي: وجب عليكم أن تجاهدوا؛ لأنَّ الله اختاركم لإظهار دينه، {وما جعل عليكم في الدين من حَرجٍ}: ضيقٍ، بل وسع عليكم من جميع ما كلفكم به، من الطهارة، والصلاة والصوم والحج، بالتيمم والإيماء، وبالقصر في السفر، والإفطار لعذر، وعدم الاستطاعة في الحج.
فاتبعوا {ملةَ أبيكم إِبراهيم}؛ فإن ما جاءكم به رسولكم موافق لملته في الجملة، لقوله صلى الله عليه وسلم: «جئتكم بالحنيفية السمحة».
وسماه أبًا، وإن لم يكن أبًا للأمة كلها؛ لأنه أبو رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان أبًا لأمته؛ لأن أمة الرسول في حكم أولاده. قال صلى الله عليه وسلم: «إنَمَّا أَنَا لكُمْ مِثْلُ الوَالِدِ».
{هو سماكم المسلمين} أي: الله، بدليل قراءة أُبي: {الله سماكم} أو إبراهيم لقوله: {وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ} [البَقَرَة: 128] {من قبلُ} أي: سماكم من قبل ظهورهم في الكتب السالفة، {وفي هذا} أي: القرآن، فقد فضلكم على سائر الأمم، وسماكم بهذا الاسم الأكرم، {ليكون الرسولُ شهيدًا عليكم} أنه قد بلغكم رسالة ربكم، {وتكونوا شهداء على الناس} بتبليغ الرسل رسالات الله إليهم. وإذا خصكم بهذه الكرامة والأثرة {فأقيموا الصلاة} بواجباتها، {وآتوا الزكاة} لشرائطها، {واعتصموا بالله} أي ثقوا به وتوكلوا عليه، لا بالصلاة والزكاة. أو: ثقوا به في جميع أموركم، ولا تطلبوا الإعانة والنصر إلا منه. {هو مولاكم}: مالككم وناصركم ومتولي أموركم، {فنعم المولى}؛ حيث لم يمنعكم رزقكم بعصيانكم، {ونعمَ النصير} أي: الناصر؛ حيث أعانكم على طاعتكم ومجاهدة نفوسكم وأعدائكم.
الإشارة: يا أيها الذين آمنوا تقربوا إليَّ بأنواع الطاعات وبالمسارعة إلى الخيرات، لعلكم تفوزون بمعرفة أسرار الذات وأنوار الصفات، وجاهدوا نفوسكم بأنواع المجاهدات، كي أجتبِيكم وأنزهكم في أسرار ذاتي، فإني قد اجتبيتكم قبل كونكم في أزل أزلي. وكأنه يشير إلى قوله: «لا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أُحبه، فإذا أحببتُه كنت سمعه الذي يسمع به...» الحديث.
والمأمورُ به من التقرب والمجاهدة قدر الاستطاعة، من غير تشديد ولا تعقيد، لقوله: {وما جعل عليكم في الدين من حَرج}؛ لأن مبني الشرع الكريم على السهولة، فالذي يتوصل إلى رضوانه أو صريح معرفته، لا يشترط أن يستغرق كنه إمكان العبد فيه. «لو كنت لا تصل إليه إلا بعد فناء مساوئك ومحو دعاويك، لم تصل إليه أبدًا، ولكن إذا أراد أن يُوصلك إليه غطى وصفك بوصفه، ونَعْتَكَ بنعته، فوصلك بما منه إليك، لا بما منك إليه». كما في الحِكَم.
وقال الورتجبي: {وما جعل...} الآية، أي: إذا شاهدتم مشاهد جمالي سهل عليكم فناؤكم في جلالي، وسهل عليكم بذل مهجكم إليه. ألا ترى كيف قال: {ملة أبيكم إبراهيم}، ومن ملته: الاستسلام والانقياد، وبذل الوجوه بنعت السخاء والكرم، يا أسباط خليلي، رأى أبوكم استعداد هذه المراتب الشريفة فيكم، قبل وجودكم بنور النبوة، فسماكم المسلمين، أي: منقادين بين يديَّ، عارفين بوحدانيتي.
وفيما ذكرنا من أوصافكم، حبيبي شاهد عليكم، يعرف هذه الفضائل منكم، وهو بلغكم نشر فضائلي عليكم. ثم قال: اطلبوا الاعتصام مني، استعينوا لأقويكم في طاعتي. ثم قال: {فنعم المولى} حيث لا مولى غيره، {ونعم النصير} حيث لا يُخذل من نصره؛ فإن الله عزيز ممتنع من نقائص النقص. قال جعفر في قوله: {حق جهاده}: ألاَّ تختارَ عليه شيئًا، كما لم يختر عليك؛ لقوله: {هو اجتباكم}. اهـ.
وقوله تعالى: {وتكونوا شهداء على الناس...} الآية، أي: اجتباكم واختاركم وسماكم مسلمين، لتكونوا مرضيين عدولاً، تشهدون على الأمم، كما يشهد محمد صلى الله عليه وسلم عليكم ويزكيكم، فهو كقوله تعالى: {جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ} [البَقَرَة: 143] الخ. وإذ قد خصكم بهذه الكرامة والأثرة فاعبدوه وثقوا به، ولا تطلبوا الولاية والنصرة إلا منه فهو خير ولي وناصر، ومن كان الله تعالى مولاه وناصره فقد أفلح وفاز، ولذلك افتتح السورة التي تليها به. وبالله التوفيق. وهو الهادي إلى سواء الطريق.

.سورة المؤمنون:

.تفسير الآيات (1- 11):

{قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9) أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11)}
يقول الحق جل جلاله: {قد أفلح المؤمنون} أي: فازوا بكل مطلوب، ونالوا كل مرغوب، فالفلاح: الفوز بالمرام والنجاة من المكاره والآلام، وقيل: البقاء في الخير على الأبد، وقد تقتضي ثبوت أمر متوقع، فهي هنا لإفادة ثبوت ما كان متوقع الثبوت من قبل، وكان المؤمنون يتوقعون مثل هذه البشارة؛ وهي الإخبار بثبوت الفلاح لهم، فخُوطبوا بما دل على ثبات ما توقعوه. والإيمان في اللغة: التصديق بالقلب، والمؤمن: المصدِّق لِما جاء به الشرع، مع الإذعان بالقلب، وإلا.. فكم من كافر صدّق بالحق ولم يذعن، تكبُّراً وعناداً، فكل من نطق بالشهادتين، مواطئاً لسانُه قلبَه فهو مؤمن شرعاً، قال عليه الصلاة والسلام: «لَمَّا خَلَقَ الله الجَنَّةَ، قَالَ لَهَا: تَكَلَّمِي، فَقَالَتْ: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤمنُون- ثلاثاً- أنا حرامٌ على كلِّ بخيل مُرائي»؛ لأنه بالرياء أبطل العبادات الدينية، وليس له أعمال صافية.
ثم وصف أهل الإيمان بست صفات، فقال: {الذين هم في صلاتهم خاشعون}: خاضعون بالقلب ساكنون بالجوارح، وقيل: الخشوع في الصلاة: جمع الهمة، والإعراض عما سواها، وعلامته: ألا يجاوز بصرُه مصلاه، وألاّ يلتفت ولا يعبث. وعن أبي الدرداء: (هو إخلاص المقال، وإعظام المقام، واليقين التام، وجمع الاهتمام). وأضيفت الصلاة إلى المصلين؛ لانتفاع المصلِّي بها وحده وهي عُدَّته وذخيرته وأما المُصلَّى له فَغَني عنها.
{والذين هم عن اللغو مُعرضون}، اللغو: كل كلام ساقط، حقه أن يُلغَى، كالكذب والشتم ونحوهما. والحق إن اللغو: كل ما لا يَعني من الأقوال والأفعال، وصفهم بالحزم والاشتغال بما يعنيهم وما يقربهم إلى مولاهم في عامة أوقاتهم، كما ينبئ عنه التعبير بالاسم الدال على الثبوت والاستمرار، بعد وصفه لهم بالخشوع؛ ليجمع لهم بين الفعل والترك، الشاقَّين على النفس، اللذَيْن هما قاعدتا التكليف. {والذين هم للزكاة فاعلون}: مؤدون، والمراد بالزكاة: المصدر، الذي هو الإخراج، لا المخرج. ويجوز أن يراد به العين، وهو الشيء المُخْرج، على حذف مضاف، أي: لأداء الزكاة فاعلون. وصفهم بذلك، بعد وصفهم بالخشوع في الصلاة؛ للدلالة على أنهم بلغوا الغاية القصوى من القيام بالطاعة البدنية والمالية، والتجنب عن النقائص، وتوسيط الإعراض عن اللغو بينهما؛ لكمال ملابسته بالخشوع في الصلاة؛ لأن من لزم الصمت والاشتغال بما يعني عَظُم خشوعُه وأُنسه بالله.
{والذين هم لفروجهم حافظون}: ممسكون لها، ويشمل فرجَ الرجل والمرأة، {إلا على أزواجهم}، الظاهر أن {على} بمعنى عن أي: إلا عن أزواجهم، فلا يجب حفظها عنهن، ويمكن أن تبقى على بابها، تقول العرب: احفظ عليّ عنان فرسي، أي: أمسكه، ويجوز أن يكون ما بعد الإستثناء حالاً، أي: إلا والين على أزواجهم، من قولك: كان زياد على البصرة، أي: والياً عليها، والمعنى: أنهم لفروجهم حافظون في كافة الأحوال، إلا في حالة تزوجهم أو تسريهم.
أو يتعلق {على} بمحذوف يدل عليه: {غير ملومين}، كأنه قيل: يُلامون إلا على أزواجهم، أي: يلامون على كل مباشرة إلا على ما أبيح لهم، فإنهم غير ملومين عليه، {أو ما ملكت أيمانهم} أي: سراريهم، وعبَّر عنهن بما؛ لأن المملوك يجري مجرى غير العقلاء، لأنه يباع كما تباع البهائم. وقال في الكشاف: وإنما قال: {ما}، ولم يقل مَن؛ لأن الإناث يجرين مجرى غير العقلاء. اهـ. يعني: لكونهن ناقصات عقل، كما في الحديث. وفيه احتراس من الذكور بالملك، فلا يباح إتيانهم والتمتع بهم للمالك ولا للمالكة، بإجماع.
وقوله تعالى: {فإنهم غير مَلومين} أي: لا لوم عليهم في عدم حفظ فروجهم عن نسائهم وإمائهم. {فمن ابتغى وراء ذلك}؛ طلب قضاء شهوته في غير هذين، {فأولئك هم العادُون}: الكاملون في العدوان، وفيه دليل على تحريم المتعة والاستمتاع بالكف لإرادة الشهوة؛ لأن نكاح المتعة فاسد، والمعدوم شرعاً كالمعدوم حساً، ويدل على فساده عدم التوارث فيه بالإجماع، وكان في أول الإسلام ثم نُسخ.
{والذين هم لأمانتهم وعهدهم} أي: لما يؤتمنون عليه، ويُعَاهَدون عليه من جهة الحق أو الخلق، {راعون}: حافظون عليها قائمون بها، والراعي: القائم على الشيء بحفظ وإصلاح، كراعي الغنم. {والذين هم على صلواتهم} المفروضة عليهم {يحافظون}: يداومون عليها في أوقاتها. وأعاد الصلاة؛ لأنها أهم، ولأن الخشوع فيها زائد على المحافظة عليها، وَوُحِّدَت أولاً؛ ليُفاد أَن الخشوع في جنس الصلاة أيَّةَ صلاة كانت، وجُمعت ثانياً؛ ليُفاد المحافظة على أنواعها من الفرائض والواجبات والسنن والنوافل. قاله النسفي.
{أولئك} الجامعون لهذه الأوصاف {هم الوارثون} الأحقاء بأن يُسَمَّوُا وارثين، دون غيرهم ممن ورث رغائِب الأموال والذخائر وكرائمها، وقيل: إنهم يرثون من الكفار منازلهم في الجنة، حيث فوَّتُوها على أنفسهم، لأنه تعالى خلق لكل إنسان منزلاً في الجنة ومنزلاً في النار، ففي الحديث: «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إلاّ ولَهُ مَنْزِلاَنِ: مَنْزِلٌ في الجنة ومَنْزِلٌ في النَّارِ، فَإِن مَاتَ ودَخَلَ الجَنَّة، وَرٍثَ أَهْلُ النَّارِ مَنْزِله، وإِنْ مَات ودَخَلَ النَّارَ، وَرثَ أَهْلُ الجَنَّةَ مَنْزِلَهُ».
ثم ترجم الوارثين بقوله: {الذين يرثون الفردوس}، هو في لغة الروم والحبشة: البستان الواسع، الجامع لأصناف الثمر، والمراد: أعلى الجنان، استحقوا ذلك بأعمالهم المتقدمة حسبما يقتضيه الوعد الكريم، {هم فيها خالدون}، أنث الفردوس بتأويل الجنة، أو لأنه طبقة من طبقاتها، وهي العليا. والله تعالى أعلم.
الإشارة: قال القشيري: الفلاح: الفوزُ بالمطلوب، والظَّفَرُ بالمقصود. والإيمان: انتسامُ الحقِّ في السريرة، ومخامرة التصديق بخُلاصة القلب، واستكمال التحقيق من تامور الفؤاد. والخشوع في الصلاة: إطراق السِّرِّ على بساط النَّجوى، باستكمال نَعْتِ الهيبة، والذوبانِ تحت سلطان الكشف، والانمحاءِ عند غلبات التَّجلِّي. اهـ.
قلت: كأنه فسر الفلاح والإيمان والخشوع بغايتهن، فأول الفلاح: الدخول في حوز الإسلام بحصول الإيمان، وغايته: إشراق شمس العرفان، وأول الإيمان: تصديق القلب بوجود الرب، من طرق الاستدلال والبرهان، وغايته: إشراق أسرار الذات على السريرة، فيصير الدليل محل العيان، فتَبتَهج السريرة بمخامرة الذوق والوجدان، وأوا الخشوع: تدبر القول فيما يقول، وحضوره عندما يفعل، وغايته: غيبته عن فعله في شهود معبوده، فينمحي وجود العبد عند تجلي أنوار الرب، فتكون صلاته شكراً لا قهراً، كما قال سيد العارفين صلى الله عليه وسلم: «أفلا أكون عبداً شكوراً».
ولا تتحقق هذه المقامات إلا بالإعراض عن اللغو، وهو كل ما يشغل عن الله، وتزكية النفوس ببذلها في مرضاة الله، وإمساك الجوارح عن محارم الله، وحفظ الأنفاس والساعات، التي هي أمانات عند العبد من الله.
قال في القوت: قال بعض العارفين: إن الله- عز وجل- إلى عبده سرّيْن يُسِرهما إليه، يُوجده ذلك بإلهام يُلهَمهُ، أحدهما: إذا وُلِد وخرج من بطن أمه، يقول له: «عبدي، قد أخرجتك إلى الدنيا طاهراً نظيفاً، واستودعتك عُمرك، ائتمنتك عليه، فانظر كيف تحفظ الأمانة، وانظر كيف تلقاني كما أخرجتك،» وسِرٌ عن خروج روحه، يقول له: «عبدي، ماذا صنعت في أمانتي عندك؟ هل حفظتها حتى تلقاني على العهد والرعاية، فالقاك بالوفاء والجزاء؟ أو أضعتها فألقاك بالمطالبة والعقاب؟» فهذا داخل في قوله عز وجل: {والذين هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} وفي قوله عز وجل: {وَأَوْفُواْ بعهدي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} [البقرة: 40] فعُمْر العبد أمانة عنده، إن حفظه أدى الأمانة، وإن ضيَّعه فقد خان، {إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الخائنين} [الأنفال: 58]. اهـ.