فصل: تفسير الآيات (101- 105):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (101- 105):

{فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ (101) فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (103) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (104) أَلَمْ تَكُنْ آَيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (105)}
يقول الحق جل جلاله: {فإذا نُفخ في الصور} لقيام الساعة، وهي نفخة البعث والنشور، وقيل: فإذا نفخ في الأجسادِ أرواحها، على أن الصور جمع صورة، ويؤيده القراءة بفتح الواو مع الضم، وبه مع كسر الصاد. {فلا أنساب بينهم يومئذٍ} تنفعهم، لزوال التراحم والتعاطف بينهم؛ من فرط الحيرة واستيلاء الدهشة، بحيث يفر المرءُ من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه. قال ابن عباس: (لا يفتخرون بالأنساب والأحساب في الآخرة، كما كانوا يفتخرون في الدنيا) {ولا يتساءلون} لا يسأل بعضهم بعضاً؛ لاشتغال كل منهم بنفسه، ولا يناقضه قوله تعالى: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ} [الصافات: 27]؛ لأن هذا- أي: سكوتهم- عند ابتداء النفخة الثانية، وذلك بعدها؛ لأن يوم القيامة ألوان، تارة يبهتون ولا يتساءلون، وتارة يفيقون، فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون.
وقال ابن عباس: إنما عنى النفخة الأولى، حين يصعق الناس، {فلا أنساب بينهم يومئذٍ ولا يتساءلون}، {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أخرى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ} [الزمر: 68]، {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ}. نقله الثعلبي.
{فمن ثَقُلَتْ موازينهُ} أي: موزونات حسناته من العقائد الصحيحة والأعمال الصالحة، {فأولئك هم المفلحون}؛ الفائزون بكل مرغوب، الناجون من كل مرهوب، {ومن خفت موازينهُ} أي: ومن لم يكن له من العقائد والأعمال ما يوزن- وهم الكفار- لقوله: {فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ القيامة وَزْناً} [الكهف: 105]، وتقدم ما فيه. {فأولئك الذين خسروا أنفسهم}: ضيعوها بتضييع زمان استكمالها، وأبطلوا استعدادها لنيل كمالها، {في جهنم خالدون}، وهو خبر ثان لأولئك، أو بدل من الصلة، وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (يؤخذ بيد العبدِ أو الأمة يوم القيامة، فينصب على رؤوس الأولين والآخرين، ثم ينادي مناد: هذا فلان بن فلان، من كان له حق فليأت إلى حقه، فتفرح المرأة أن يدور لها الحق على ابنها، أو على زوجها، أو على أبيها، أو على أخيها، ثم قرأ ابن مسعود: {فلا أنساب بينهم يومئذٍ ولا يتساءلون}، ثم يقول الرب تعالى: آت هؤلاء حقوقهم، فيقول ربِّ، فنيت الدنيا؛ فمن أين آتيهم؟ فيقول للملائكة: خذوا من حسناته فأعطوا كل إنسان بقدر طلْبته...) إلخ الحديث، انظر النسفي.
قال تعالى: {تلفح وجوهَهُم النار}؛ تحرقها، واللفح كالنفخ، إلاَّ أنه أشد تأثيراً منه، وتخصيص الوجوه بذلك؛ لأنها أشرف الأعضاء. {وهم فيها كالحون}: عابسون من شدة الإحراق، والكلوح: تقلص الشفتين من الإنسان، قال النبي صلى الله عليه وسلم في كالحون: «تَشْوِيهِ النَّارُ فَتَقلَّص شَفَتَهُ العُلْيَا، حَتَّى تَبْلُغَ وَسَطَ رَأَسِهِ، وَتَسْتَرخِي السُّفْلَى حَتَّى تَبْلُغَ سُرَّته» فيقال لهم- تعنيفاً وتذكيراً لما به استحقوا ما ابتلوا به: {ألم تكن آياتي} أي: القرآن {تُتْلَى عليكم} في الدنيا {فكنتم بها تُكذِّبون} حينئذٍ، فذوقوا وبال ما كنتم به تكذبون.
نسأل الله التوفيق والهداية.
الإشارة: قال الترمذي الحكيم: الأنساب كلها منقطعة إلا من كانت نسبته صحيحة في عبودية ربه، فإن تلك نسبة لا تنقطع أبداً، وتلك النسبة المفتخر بها، لا نسبة الأجناس من الآباء والأمهات والأولاد. اهـ. وقال الورتجبي: عند المعاينة والمشاهدة بوجوده ونشر جوده، نسبهم هناك نسب المعرفة والمحبة الأزلية، واصطفائيته القدسية، لا يفتخرون بشيء دونه، من العرش إلى الثرى، ولا يتساءلون؛ شغلاً بما هم فيه. اهـ.
ومعنى كلام الشيخين: أن العبد، إذا صحت نسبته إلى مولاه، وانقطع بكليته إليه، ورفض كل ما سواه، اتصلت نسبته، ودامت محبته وأنسه، ومن تعلق بغيره، وتودد إلى سواه، انقطع ذلك وانفصل، ومن النسب التي تتصل وتدوم، النسبة إلى أولياء الله، والتحبب إليهم وخدمتهم، وهي في الحقيقة من نسبة الله تعالى؛ لأنها سبب معرفته والتحقق بعبوديته، فهي عينها، فمن انتسب إليهم فقد انتسب إلى الله، ومن أحبهم فإنما أحب الله، فمحبتهم، والاجتماع معهم يؤدي إلى محبة الله ورضوانه، وهم الذين يكونون عن يمين الرحمن، يغشى نورُهُم الناس يوم القيامة، يغبطهم النبيون والشهداء؛ لمنزلتهم عند الله. قال عليه الصلاة والسلام: لما سئل عنهم: «هم رجال من قبائل شتى، يجتمعون على ذكر الله ومحبته» أو كما قال صلى الله عليه وسلم كما في الحديث. والله تعالى أعلم.

.تفسير الآيات (106- 114):

{قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ (106) رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (107) قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ (108) إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آَمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ (111) قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ (113) قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (114)}
يقول الحق جل جلاله: {قالوا} أي: أهل النار {ربنا غلبت علينا} أي: ملكتنا {شِقْوَتُنا}: شقاوتنا التي اقترفناها بسوء اختيارنا، كما يُنبئ عنه إضافتها إلى أنفسهم، أي: شقينا بأعمالنا السيئة التي عملناها، ولا يصح حمله على الشقاوة الأزلية؛ لأنهم غير مكلفين بصرفها عنهم؛ إذ ليس في اختيارهم. {وكنا قوماً ضالِّين} عن الحق، ولذلك فعلنا ما فعلنا من التكذيب، وهذا، كما ترى، اعتراف منهم بأن ما أصابهم إنما أصابهم بسوء صنعهم، وأمَّا ما قيل: من أنه اعتذار منهم بغلبة ما كتب عليهم من الشقاوة الأزلية، فلا يصح؛ لأن الله تعالى ما كتب عليهم الشقاء حتى علم أنهم يفعلونه باختيارهم، لا بما كتب عليهم.
ثم قالوا: {ربنا أَخْرِجْنَا منها فَإِن عُدْنا فإِنا ظالمون} أي: أخرجنا من النار، وردنا إلى الدنيا، فإن عدنا بعد ذلك إلى ما كنا عليه من الكفر والمعاصي، فإنا متجاوزون الحد في الظلم، ولو كان اعتقادهم أنهم مجبورون على ما صدر عنهم لما سألوا الرجعة إلى الدنيا، ولما وَعَدوا بالطاعة والإيمان. قال القرطبي: طلبوا الرجعة إلى الدنيا كما طلبوها عند الموت.
ثم يجيبهم الحق تعالى، بعد ألف سنة، بقوله: {قال اخسؤوا فيها} أي: اسكتوا في النار سكوت ذل وهوان، وانزجروا انزجار الكلاب، يقال: خسأت الكلب، إذا زجرته، فخسأ، أي: انزجر. {ولا تُكَلِّمونِ} باستدعاء الإخراج من النار والرجوع إلى الدنيا، أو في رفع العذاب عنكم؛ فإنه لا يرفع ولا يخفف، روي أنه آخر كلام يتكلمون به، ثم لا كلام بعد ذلك إلاَّ الشهيق والزفير، ويصير لهم عُواء كعُواء الكلاب لا يفهمون ولا يُفهمون. قيل: ويرده الخطابات الآتية، وقد يجاب: بأن قبل هذه الكلمة.
ثم علل استحقاقهم لذلك العذاب بقوله: {إنه} أي: الأمر والشأن {كان فريق من عبادي} وهم المؤمنون، او الصحابة، أو أهل الصفة- رضوان الله تعالى عليهم أجمعين- {يقولون} في الدنيا: {ربنا آمنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين فاتخذتموهم سخريا} أي: هزواً، وهو مصدر سخر، زيدت فيه ياء النسب؛ للمبالغة، وفيه الضم والكسر. وقال الكوفيون: المكسور بمعنى الهزء، والمضموم من السخرة، بمعنى الانقياد للخدمة، ولذلك اتفق عليه في الزخرف، أي: اتخذتموهم؛ مهزواً بهم، وتشاغلتم بهم {حتى أَنْسَوْكم ذكري}، من فرط اشتغالكم بالاستهزاء بهم، ولم تخافوني في أوليائي، {وكنتم منهم تضحكون}، وذلك غاية الاستهزاء.
قال تعالى: {إني جَزَيْتُهُم اليوم} جزاء على صبرهم على أذاكم، {أنهم همُ الفائزون} بكل مطلوب دونكم، فأنهم: مفعول {جزيتهم}؛ لأنه يتعدى إلى مفعولين، وقرأ حمزة بالكسر؛ على الإستئناف؛ تعليلاً للجزاء، وبياناً أنه في غاية الحسن، {قال كم لبثتم}، القائل هو الله تعالى، أو الملك، وقرأ المكي وحمزة: {قل}؛ التي بلفظ الأمر للملك، يسألهم: كم لبثوا، {في الأرض} التي دعوا الله أن يردهم إليها، {عدد سنين}، وهو تمييز، أي: كم لبثتم في الأرض عدد السنين، {قالوا لبثنا يوماً أو بعض يوم}، استقصار لمدة لبثهم فيها بالنسبة إلى خلودهم، ولِمَا هم فيه من عذابها؛ لأن الممتحن يستطيل أيام محنته، ويستقصر ما مر عليه من أيام الدعة، {فاسْئَل العادِين} أي: المتمكنين من العد؛ فإنا بما دُهمنا من العذاب بمعزل من العد، أو الملائكة العادين لأعمار العباد وأعمالهم.
{قال} الله تعالى، أو الملك، تصديقاً لهم في مقالهم: {إن لبثتم إلاَّ قليلاً}: ما لبثتم إلا زماناً قليلاً أو لبثاً قليلاً بالنسبة لما بعده، {لو أنكم كنتم تعلمون} شيئاً، أو: لو كنتم من أهل العلم لعلمتم قلة لبثكم فيها، فالجواب محذوف. والله تعالى أعلم.
الإشارة: إذا تميز المتحابون في الله، المجتمعون على ذكر الله ومحبته وطلب معرفته، وعُرفوا بأنوارهم وأسرارهم، وانحازوا إلى ظل العرش، يوم لا ظل إلا ظله، ورآهم البطالون المنكرون عليهم، وهم في حسرة الحساب، يقولون بلسان الحال أو المقال: {ربنا غلبت علينا شقوتنا}؛ حيث لم نصحب هؤلاء الأولياء، وكنا قوماً ضالين، ربنا أخرجنا من هذه الحسرة، وردنا إلى الدنيا، فإن عدنا إلى البطالة والإنكار عليهم فإنا ظالمون، فيقال لهم: اخسؤوا فيها؛ فقد فات الإبان، إنه كان فريق من عبادي، وهم المنتسبون من أهل التجريد، المتزيون بزي الصوفية أهل التفريد، يقولون: ربنا آمنا بطريق الخصوصية ودخلنا فيها، فاغفر لنا، أي: غط مساوئنا، وارحمنا رحمة تضمنا إلى حضرتك، وأنت خير الراحمين، فاتخذتموهم سخرياً، وانشغلتم بالوقوع فيهم، حتى أنسوكم ذكري، وكنتم منهم تضحكون، إني جزيتهم اليوم، بما صبروا، أنهم هم الفائزون بشهود ذاتي، والقرب من أحبابي، المتنزهون في كمال جمالي، في درجات المقربين من النبيين والصديقين.
قال القشيري: الحق ينتقم من أعدائه بما يُطَيَّبُ به قلوبَ أوليائه، وتلك خَصْمَةُ الحق، فيقول لهم: كان فريقٌ من أوليائي يُفْصِحون بمدحي وإطرائي، فاتخذتموهم سخرياً، فأنا اليوم أُجازيهم، وأنتقم ممن كان يناويهم. اهـ.
قوله تعالى: {قال كم لبثتم...} إلخ، اعلم أن أيام الدنيا كلها تقصر عند انقضاء عمر العبد، فتعود كيوم واحد، أو بعض يوم، فإن أفضى إلى الراحة بعد الموت نسي أيام التعب، وغاب عنها، فتصير كأضغاث أحلام، وإن أفضى إلى التعب، نسي أيام الراحة كأنها طيف منام. قال في الحاشية: الأشياء وإن كانت كثيرة فقد تنقص وتقل بالإضافة إلى ما يرجّى عليها كذلك مدة مقامهم تحت الأرض إن كانوا في الراحة فقد تقل، بالإضافة إلى الراحات التي يلقونها في القيامة، وإن كانت شديدة فقد تتلاشى في جنب رؤية ذلك اليوم؛ لما فيه من أليم تلك العقوبات المتوالية. اهـ.

.تفسير الآيات (115- 118):

{أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116) وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (117) وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (118)}
قلت: {أفحسبتم}: المعطوف محذوف، أي: ألم تعلموا شيئاً فحسبتم، و{عبثاً}: حال، أو مفعول من أجله.
يقول الحق جل جلاله: {أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً} أي: عابثين، أو للبعث من غير حكمة في خلقكم وإظهاركم حتى أنكرتم البعث، {وأنكم إلينا لا ترجعون} للحساب والجزاء، بل خلقناكم للتكليف، ثم للرجوع إلينا، فنُثيب المحسن، ونعاقب المسيء.
{فتعالى الله} أن يخلق شيئاً عبثاً، وهو استعظام له نعالى ولشؤونه التي يُصَرِّف عليهاعباده؛ من البدء والإعادة، والإثابة والعقاب، بموجب الحكمة، أي: ارتفع بذاته، وتنزه عن مماثلة المخلوقين في ذاته وصفاته وأفعاله وعن خلو أفعاله عن الحِكَم والمصالح والغايات الحميدة.
{الملك الحق}؛ الذي يحق له الملك على الإطلاق، إيجاداً وإعداماً، وإحياء وإماته، عذاباً وإثابة، وكل ما سواه مملوك له، مقهور تحت ملكوته، {لا إله إلا هو}، فإنَّ كل ما عداه عبيده، {ربُّ العرش الكريم}، فكيف بما تحته من الموجودات، كائناً ما كان، ووصفه بالكرم: إمّا لأنه منه ينزل الوحي الذي منه القرآن الكريم، والخير والبركة، أو لنسبته إلى أكرم الأكرمين.
{ومن يدعُ مع الله إلهاً آخر}، يعبده فرداً أو اشتراكاً، من صفته {لا برهان له به} على صحة عبادته. وفيه تنبيه على أن التدين بما لا دليل عليه باطل، فكيف بما شهدت بديهة العقول بخلافه؟ {فإنما حسابُه عند ربه}،. فهو مُجازٍ له على قدر ما يستحقه، {إنه} أي: الأمر والشأن {لا يُفلح الكافرون}؛ لا فوز لهم ولا نجاة.
بدئت السورة الكريمة بتقرير فلاح المؤمنين، وختمت بنفي فلاح الكافرين؛ تحريضاً على الإيمان، وعلى ما يوجب بقاءه وتنميته، من التمسك بما جاء به التنزيل، وبما جاء به النبي الجليل، ليقع الفوز بالفلاح الجميل.
ثم علَّمنا سؤال المغفرة والرحمة؛ لأن شؤم المعاصي يؤدي إلى سوء الختام، فقال: {وقل ربِّ اغفرْ وارحمْ وأنت خير الراحمين}، وفيه إيذان بأنهما من أهم الأمور الدينية، حيث أمر به من قد غفَر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فكيف بمن عداه؟ نسأل الله- تعالى- المغفرة الشاملة، والرحمة الكاملة، لنا ولإخواننا ولجميع المسلمين.. آمين.
روي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه مرَّ بمصابٍ مبتلى، فقرأ في أذنه: {أفحسبتم أنما...} إلخ السورة، فبرئ من حينه. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ماذا قرأت في أذنه؟» فأخبره، فقال: «والذي نفسي بيده لو أن رجلاً مؤمناً قرأها على جبل لزال».
الإشارة: ما أظهر الله الكائنات إلا ليُعرف بها، ويُظْهِرَ فيها أسرار ذاته وأنوار صفاته، وفي الأثر القدسي: «كنت كنزاً لم أُعرف، فأحببتُ أن أعرف، فخلقت الخلق، فتعرفت لهم، فبي عرفوني».
وفي إيجاد المخلوقات حِكَم بليغه وأسرار عجيبة، لا يحصيها إلا من خلقها ودبّرها. فمن المخلوقات من خلقهم ليظهر فيهم أثر رحمته وكرمه وإحسانه، وهم أهل الإيمان والطاعة، ومنهم من خلقهم ليظهر فيهم حلمه وعفوه، وهم أهل العصيان، ومنهم من خلقهم ليظهر فيهم عدله وقهره ونقمته، وهم أهل الكفر والطغيان. وقال الحكيم الترمذي رضي الله عنه: إن الله خلق الخلق عبيداً ليعبدوه، فيثيبهم على العبادة، ويعاقبهم على تركها، فإنْ عبدوه فهم اليوم له عبيد، أحرار كرام من رق الدنيا، ملوك في دار السلام، وإن رفضوا العبودية فهم اليوم عبيد أُباق، سُقاط، لئام، أعداء في السجون بين أطباق النيران. اهـ.
وقال بعضهم: إنما أظهر الله الكون لأجل نبينا صلى الله عليه وسلم تشريفاً له، فهو من نوره. قال ابن عباس رضي الله عنه: أوحى الله تعالى إلى عيسى عليه السلام: يا عيسى ابن مريم؛ آمن بمحمد، ومُر أمتك أن يؤمنوا به، فلولا محمد ما خلقت آدم، ولولا محمد ما خلقت الجنة والنار... الحديث.
قال القشيري: حسابُه على الله في آجله، وعذابُه من الله له في عاجله، وهو ما أودعَ قلبَه حتى رَضِيَ أنْ يَعْبُدَ معه غيره، لقوله: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى الله زلفى} [الزمر: 3]، كلامٌ حاصلٌ عن غير دليل عقل، ولا شهادة خبرٍ ونقل، فما هو إلا إفك وبهتان، وقولٌ ليس يساعده برهان. ه وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق- وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد، وآله وصحبه وسلم تسليماً، والحمد لله رب العالمين.