فصل: أقسام الاستفهام:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البرهان في علوم القرآن (نسخة منقحة)



.(الثاني): الاستخبار وهو الاستفهام:

الثَّانِي: الِاسْتِخْبَارُ وَهُوَ طَلَبُ خَبَرِ مَا لَيْسَ عندك وهو بمعنى الاستفهام أَيْ: طَلَبُ الْفَهْمِ وَمِنْهُمْ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الِاسْتِخْبَارَ مَا سُبِقَ أَوَّلًا وَلَمْ يُفْهَمْ حَقَّ الْفَهْمِ فَإِذَا سَأَلَتْ عَنْهُ ثَانِيًا كَانَ اسْتِفْهَامًا حَكَاهُ ابْنُ فَارِسٍ فِي فِقْهِ الْعَرَبِيَّةِ.
وَلِكَوْنِ الِاسْتِفْهَامِ طَلَبَ مَا فِي الْخَارِجِ أَوْ تَحْصِيلَهُ فِي الذِّهْنِ لَزِمَ أَلَّا يَكُونَ حَقِيقَةً.
إِلَّا إِذَا صَدَرَ مِنْ شَاكٍّ مُصَدِّقٍ بِإِمْكَانِ الْإِعْلَامِ فَإِنَّ غَيْرَ الشَّاكِّ إِذَا اسْتَفْهَمَ يَلْزَمُ تَحْصِيلُ الْحَاصِلِ وَإِذَا لَمْ يُصَدِّقْ بِإِمْكَانِ الْإِعْلَامِ انْتَفَتْ فَائِدَةُ الِاسْتِفْهَامِ.
وَفِي الِاسْتِفْهَامِ فَوَائِدُ:
الْأُولَى: قَالَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ: مَا جَاءَ عَلَى لَفْظِ الِاسْتِفْهَامِ فِي الْقُرْآنِ فَإِنَّمَا يَقَعُ فِي خِطَابِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى مَعْنَى أَنَّ الْمُخَاطَبَ عِنْدَهُ عِلْمُ ذَلِكَ الْإِثْبَاتِ أَوِ النَّفْيِ حَاصِلٌ فَيَسْتَفْهِمُ عَنْهُ نَفْسَهُ تُخْبِرُهُ بِهِ إِذْ قَدْ وَضَعَهُ اللَّهُ عِنْدَهَا فَالْإِثْبَاتُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ أَصْدَقُ من الله حديثا} وَالنَّفْيُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا} {فهل أنتم مسلمون} وَمَعْنَى ذَلِكَ: أَنَّهُ قَدْ حَصَلَ لَكُمُ الْعِلْمُ بِذَلِكَ تَجِدُونَهُ عِنْدَكُمْ إِذَا اسْتَفْهَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ عَنْهُ فَإِنَّ الرَّبَّ تَعَالَى لَا يَسْتَفْهِمُ خَلْقَهُ عَنْ شَيْءٍ وَإِنَّمَا يَسْتَفْهِمُهُمْ لِيُقَرِّرَهُمْ وَيُذَكِّرَهُمْ أَنَّهُمْ قَدْ عَلِمُوا حَقَّ ذَلِكَ الشَّيْءِ فَهَذَا أُسْلُوبٌ بَدِيعٌ انْفَرَدَ بِهِ خِطَابُ الْقُرْآنِ وَهُوَ فِي كَلَامِ الْبَشَرِ مُخْتَلِفٌ.
الثَّانِيَةُ: الِاسْتِفْهَامُ إِذَا بُنِيَ عَلَيْهِ أَمْرٌ قَبْلَ ذِكْرِ الْجَوَابِ فُهِمَ تَرَتُّبُ ذَلِكَ الْأَمْرِ عَلَى جَوَابِهِ أَيَّ جَوَابٍ كَانَ لِأَنَّ سَبْقَهُ عَلَى الْجَوَابِ يَشْعِرُ بِأَنَّ ذَلِكَ حَالُ مَنْ يُذْكَرُ فِي الْجَوَابِ لِئَلَّا يَكُونَ إِيرَادُهُ قَبْلَهُ عَبَثًا فَيُفِيدُ حِينَئِذٍ تَعْمِيمًا نَحْوُ: (مَنْ جَاءَكَ فَأُكْرِمَهُ) بِالنَّصْبِ فَإِنَّهُ لَمَّا قَالَ قَبْلَ ذِكْرِ جَوَابِ الِاسْتِفْهَامِ (أُكْرِمَهُ) عُلِمَ أَنَّهُ يُكْرِمُ مَنْ يَقُولُ الْمُجِيبُ: إِنَّهُ جَاءَ أَيْ جَاءَ كَانَ وَكَذَا حُكْمُ (مَنْ ذَا جَاءَكَ أَكْرِمْهُ) بالجزم.
الثَّالِثَةُ: قَدْ يَخْرُجُ الِاسْتِفْهَامُ عَنْ حَقِيقَتِهِ بِأَنْ يَقَعَ مِمَّنْ يَعْلَمُ وَيَسْتَغْنِي عَنْ طَلَبِ الْإِفْهَامِ.

.أقسام الاستفهام:

وهو قسمان: بمعنى الخبر وبمعنى الإنشاء.

.الاستفهام بمعنى الخبر:

الْأَوَّلُ: بِمَعْنَى الْخَبَرِ وَهُوَ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: نَفْيٌ وَالثَّانِي: إِثْبَاتٌ فَالْوَارِدُ لِلنَّفْيِ يُسَمَّى اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ وَالْوَارِدُ لِلْإِثْبَاتِ يُسَمَّى اسْتِفْهَامُ تَقْرِيرٍ لِأَنَّهُ يُطْلَبُ بالأول إنكار المخاطب وبالثاني إقراره به.

.استفهام الإنكار:

فَالْأَوَّلُ: الْمَعْنَى فِيهِ عَلَى أَنَّ مَا بَعْدَ الْأَدَاةِ مَنْفِيٌّ وَلِذَلِكَ تَصْحَبُهُ (إِلَّا) كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فهل يهلك إلا القوم الفاسقون} وقوله تعالى: {وهل نجازي إلا الكفور}.
وَيُعْطَفُ عَلَيْهِ الْمَنْفِيُّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} أَيْ: لَا يَهْدِي وَهُوَ كَثِيرٌ.
وَمِنْهُ: {أَفَأَنْتَ تنقذ من في النار} أَيْ: لَسْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ.
{أَفَأَنْتَ تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين}.
{أفغير الله أبتغي حكما}.
وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ} {فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ} أَيْ: لَا نُؤْمِنُ.
وَقَوْلِهِ: {أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ ولكم البنون} أي: لا يكون هذا.
وقوله تعالى: {أأنزل عليه الذكر من بيننا} أَيْ: مَا أُنْزِلَ.
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ} أَيْ: مَا شَهِدُوا ذَلِكَ.
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَفَأَنْتَ تسمع الصم أو تهدي العمي} أَيْ: لَيْسَ ذَلِكَ إِلَيْكَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدعاء}.
وقوله تعالى: {أفعيينا بالخلق الأول} أَيْ: لَمْ نَعْيَ بِهِ.
وَهُنَا أَمْرَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْإِنْكَارَ قَدْ يَجِيءُ لِتَعْرِيفِ الْمُخَاطَبِ أَنَّ ذَلِكَ الْمُدَّعَى مُمْتَنَعٌ عَلَيْهِ وَلَيْسَ مِنْ قُدْرَتِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي العمي} لِأَنَّ إِسْمَاعَ الصُّمِّ لَا يَدَّعِيهِ أَحَدٌ بَلِ الْمَعْنَى أَنَّ إِسْمَاعَهُمْ لَا يُمْكِنُ لِأَنَّهُمْ بِمَنْزِلَةِ الصُّمِّ وَالْعُمْيِ وَإِنَّمَا قُدِّمَ الِاسْمُ فِي الْآيَةِ وَلَمْ يَقُلْ: (أَتُسْمِعُ الصُّمَّ) إِشَارَةً إِلَى إِنْكَارٍ مُوَجَّهٍ عَنْ تَقْدِيرِ ظَنٍّ مِنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ يَخْتَصُّ بِإِسْمَاعِ مَنْ بِهِ صَمَّمٌ وَأَنَّهُ ادَّعَى الْقُدْرَةَ عَلَى ذَلِكَ وَهَذَا أَبْلَغُ مِنْ إنكار الفعل.
وَفِيهِ دُخُولُ الِاسْتِفْهَامِ عَلَى الْمُضَارِعِ فَإِذَا قُلْتَ أَتَفْعَلُ أَوْ أَأَنْتَ تَفْعَلُ احْتَمَلَ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إِنْكَارُ وُجُودِ الْفِعْلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لها كارهون} وَالْمَعْنَى: لَسْنَا بِمَثَابَةِ مَنْ يَقَعُ مِنْهُ هَذَا الْإِلْزَامُ وَإِنْ عَبَّرْنَا بِفِعْلِ ذَلِكَ جَلَّ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ ذَلِكَ بَلِ الْمَعْنَى إِنْكَارُ أَصْلِ الْإِلْزَامِ وَالثَّانِي: قَوْلُكُ لِمَنْ يَرْكَبُ الْخَطَرَ: أَتَذْهَبُ فِي غَيْرِ طَرِيقٍ؟ انْظُرْ لِنَفْسِكَ وَاسْتَبْصِرْ فَإِذَا قَدَّمَتَ الْمَفْعُولَ تَوَجَّهَ الْإِنْكَارُ إِلَى كَوْنِهِ بِمَثَابَةِ أَنْ يُوقَعَ بِهِ مِثْلُ ذَلِكَ الْفِعْلِ كَقَوْلِهِ: {قل أغير الله أتخذ وليا} وقوله: {أغير الله تدعون} الْمَعْنَى: أَغَيْرَ اللَّهِ بِمَثَابَةِ مَنْ يُتَّخَذُ وَلَّيًا.
ومنه: {أبشرا منا واحدا نتبعه} لِأَنَّهُمْ بَنَوْا كَفْرَهُمْ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِمَثَابَةِ مَنْ يَتَّبِعُ صِيغَةَ الْمُسْتَقْبَلِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ لِلْحَالِ نَحْوُ: {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا} أو للاستقبال نحو: {أهم يقسمون رحمت ربك}.
الثَّانِي: قَدْ يَصْحَبُ الْإِنْكَارَ التَّكْذِيبُ لِلتَّعْرِيضِ بِأَنَّ المخاطب ادعاه وقصد تكذيبه كقوله تعالى: {أصطفى البنات على البنين} {ألكم الذكر وله الأنثى} {أإله مع الله}.
وَسَوَاءٌ كَانَ زَعْمُهُمْ لَهُ صَرِيحًا مِثْلُ: {أَفَسِحْرٌ هذا أم أنتم لا تبصرون} أو التزاما مثل: {أشهدوا خلقهم} فَإِنَّهُمْ لَمَّا جَزَمُوا بِذَلِكَ جَزْمَ مَنْ يُشَاهِدُ خَلْقَ الْمَلَائِكَةِ كَانُوا كَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ شَهِدَ خَلْقَهُمْ وَتَسْمِيَةُ هَذَا اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ مِنْ أَنْكَرَ إِذَا جَحَدَ وَهُوَ إِمَّا بِمَعْنَى: (لَمْ يَكُنْ) كقوله تعالى: {أفأصفاكم} أو بمعنى: (لا يكون) نحو: {أنلزمكموها}..
وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْإِنْكَارَ قِسْمَانِ إِبْطَالِيٌّ وَحَقِيقِيٌّ:
فَالْإِبْطَالِيُّ: أَنْ يَكُونَ مَا بَعْدَهَا غَيْرَ وَاقِعٍ وَمُدَّعِيهِ كَاذِبٌ كَمَا ذَكَرْنَا وَالْحَقِيقِيُّ: يَكُونُ مَا بَعْدَهَا واقع وأن فاعله ملوم نحو: {أتعبدون ما تنحتون} {غير الله تدعون} {أإفكا آلهة} {أتأتون الذكران} {أتأخذونه بهتانا}.

.استفهام التقرير:

وَأَمَّا الثَّانِي: فَهُوَ اسْتِفْهَامُ التَّقْرِيرِ وَالتَّقْرِيرُ: حَمْلُكَ الْمُخَاطَبَ عَلَى الْإِقْرَارِ وَالِاعْتِرَافِ بِأَمْرٍ قَدِ اسْتَقَرَّ عِنْدَهُ قَالَ أَبُو الْفَتْحِ فِي الْخَاطِرِيَّاتِ: وَلَا يُسْتَعْمَلُ ذَلِكَ بِـ: (هَلْ) وَقَالَ فِي قَوْلِهِ:
جاءوا بمذق هل رأيت الذئب قط

و: (هل) لَا تَقَعُ تَقْرِيرًا كَمَا يَقَعُ غَيْرُهَا مِمَّا هو للاستفهام.
وَقَالَ الْكِنْدِيُّ: ذَهَبَ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ فِي قوله تعالى: {هل يسمعونكم} إِلَى أَنَّ (هَلْ) تُشَارِكُ الْهَمْزَةَ فِي مَعْنَى التَّقْرِيرِ وَالتَّوْبِيخِ إِلَّا أَنِّي رَأَيْتُ أَبَا عَلِيٍّ أَبَى ذَلِكَ وَهُوَ مَعْذُورٌ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ قبيل الإنكار وَنَقَلَ الشَّيْخُ أَبُو حَيَّانَ عَنْ سِيبَوَيْهِ أَنَّ اسْتِفْهَامَ التَّقْرِيرِ لَا يَكُونُ بِـ: (هَلْ) إِنَّمَا تُسْتَعْمَلُ فِيهِ الْهَمْزَةُ ثُمَّ نَقَلَ عَنْ بَعْضِهِمْ أن (هل) تأتي تقريرا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ}.
وَالْكَلَامُ مَعَ التَّقْرِيرِ مُوجَبٌ وَلِذَلِكَ يُعْطَفُ عَلَيْهِ صَرِيحُ الْمُوجَبِ وَيُعْطَفُ عَلَى صَرِيحِ الْمُوجَبِ فَالْأَوَّلُ: كَقَوْلِهِ: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى وَوَجَدَكَ ضَالًّا فهدى} وَقَوْلِهِ: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ وَوَضَعْنَا عَنْكَ وزرك} {ألم يجعل كيدهم في تضليل}.
وَالثَّانِي: كَقَوْلِهِ: {أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا علما} عَلَى مَا قَرَّرَهُ الْجُرْجَانِيُّ فِي النَّظْمِ حَيْثُ جَعَلَهَا مِثْلَ قَوْلِهِ: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ}.
وَيَجِبُ أَنْ يَلِيَ الْأَدَاةَ الشَّيْءُ الَّذِي تَقَرَّرَ بِهَا فَتَقُولُ فِي تَقْرِيرِ الْفِعْلِ: (أَضَرَبْتَ زَيْدًا) وَالْفَاعِلُ نَحْوُ: (أَأَنْتَ ضَرَبْتَ) أَوِ الْمَفْعُولُ (أَزَيْدًا ضَرَبْتَ) كَمَا يَجِبُ فِي الِاسْتِفْهَامِ الْحَقِيقِيِّ.
وَقَوْلِهِ تعالى: {أأنت فعلت} يَحْتَمِلُ الِاسْتِفْهَامَ الْحَقِيقِيَّ بِأَنْ يَكُونُوا لَمْ يَعْلَمُوا أنه الفاعل والتقرير بِأَنْ يَكُونُوا عَلِمُوا وَلَا يَكُونُ اسْتِفْهَامًا عَنِ الْفِعْلِ وَلَا تَقْرِيرًا لَهُ لِأَنَّهُ لَمْ يَلِهِ وَلِأَنَّهُ أَجَابَ بِالْفَاعِلِ بِقَوْلِهِ: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ}.
وَجَعَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنْهُ: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قدير}.
وَقِيلَ: أَرَادَ التَّقْرِيرَ بِمَا بَعْدَ النَّفْيِ لَا التَّقْرِيرَ بِالنَّفْيِ وَالْأَوْلَى أَنْ يُجْعَلَ عَلَى الْإِنْكَارِ أَيْ: أَلَمْ تَعْلَمْ أَيُّهَا الْمُنْكِرُ لِلنَّسْخِ!
وَحَقِيقَةُ اسْتِفْهَامُ التَّقْرِيرِ أَنَّهُ اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ وَالْإِنْكَارُ نَفْيٌ وَقَدْ دَخَلَ عَلَى الْمَنْفِيِّ وَنَفْيُ الْمَنْفِيِّ إِثْبَاتٌ وَالَّذِي يُقَرَّرُ عِنْدَكَ أَنَّ مَعْنَى التَّقْرِيرِ الْإِثْبَاتُ قَوْلُ ابْنُ السَّرَّاجِ: فَإِذَا أَدْخَلْتَ عَلَى (لَيْسَ) أَلِفَ الِاسْتِفْهَامِ كَانَتْ تَقْرِيرًا وَدَخَلَهَا مَعْنَى الْإِيجَابُ فَلَمْ يَحْسُنْ مَعَهَا (أَحَدٌ) لِأَنَّ أَحَدًا إِنَّمَا يَجُوزُ مَعَ حَقِيقَةِ النَّفْيِ لَا تَقُولُ: أَلَيْسَ أَحَدٌ فِي الدَّارِ لِأَنَّ الْمَعْنَى يُؤَوَّلُ إِلَى قَوْلِكَ: أَحَدٌ فِي الدَّارِ وأحد لا تستعمل في الواجب.
وأمثلته كثيرة كقوله تعالى: {ألست بربكم} أَيْ: أَنَا رَبُّكُمْ.
وَقَوْلِهِ: {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى}.
{أوليس الذي خلق السماوات والأرض}.
{أليس الله بكاف عبده}.
{أليس الله بعزيز ذي انتقام}.
{أليس في جهنم مثوى للكافرين}.
{أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب} وَمِنْهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَيَنْقُصُ الرطب إذا جف» وقوله جَرِيرٍ:
أَلَسْتُمْ خَيْرَ مَنْ رَكِبَ الْمَطَايَا

وَاعْلَمْ أَنَّ فِي جَعْلِهِمُ الْآيَةَ الْأُولَى مِنْ هَذَا النَّوْعِ إِشْكَالًا لِأَنَّهُ لَوْ خَرَجَ الْكَلَامُ عَنِ النَّفْيِ لَجَازَ أَنْ يُجَابَ بِنَعَمْ وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُمْ لَوْ قَالُوا: (نَعَمْ) كَفَرُوا وَلَمَا حَسُنَ دُخُولُ الْبَاءِ فِي الْخَبَرِ وَلَوْ لَمْ تُفِدْ لَفْظَةُ الْهَمْزَةِ اسْتِفْهَامًا لَمَا اسْتَحَقَّ الْجَوَابُ إِذْ لَا سُؤَالَ حِينَئِذٍ.
وَالْجَوَابُ يَتَوَقَّفُ عَلَى مُقَدِّمَةٍ وَهِيَ أَنَّ الِاسْتِفْهَامَ إِذَا دَخَلَ عَلَى النَّفْيِ يَدْخُلُ بِأَحَدِ وَجْهَيْنِ:
إِمَّا أَنْ يَكُونَ الِاسْتِفْهَامُ عَنِ النَّفْيِ هَلْ وُجِدَ أَمْ لَا؟ فَيَبْقَى النَّفْيُ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ أَوْ لِلتَّقْرِيرِ كَقَوْلِهِ: أَلَمْ أُحْسِنْ إِلَيْكَ وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} {ألم يجدك يتيما}.
فَإِنْ كَانَ بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ لَمْ يَجُزْ دُخُولُ نَعَمْ فِي جَوَابِهِ إِذَا أَرَدْتَ إِيجَابَهُ بَلْ تَدْخُلُ عَلَيْهِ بَلَى وَإِنْ كَانَ بِالْمَعْنَى الثَّانِي وَهُوَ التَّقْرِيرُ فَلِلْكَلَامِ حِينَئِذٍ لَفْظٌ وَمَعْنًى فَلَفْظُهُ نَفْيٌ دَاخِلٌ عَلَيْهِ الِاسْتِفْهَامُ وَمَعْنَاهُ الْإِثْبَاتُ فَبِالنَّظَرِ إِلَى لَفْظِهِ تُجِيبُهُ بِبَلَى وَبِالنَّظَرِ إِلَى مَعْنَاهُ وَهُوَ كَوْنُهُ إِثْبَاتًا تُجِيبُهُ بِنَعَمْ.
وَقَدْ أَنْكَرَ عَبْدُ الْقَاهِرِ كَوْنَ الْهَمْزَةِ لِلْإِيجَابِ لِأَنَّ الِاسْتِفْهَامَ يُخَالِفُ الْوَاجِبَ وَقَالَ: إِنَّهَا إِذَا دَخَلَتْ عَلَى (مَا) أَوْ (لَيْسَ) يَكُونُ تَقْرِيرًا وَتَحْقِيقًا فَالتَّقْرِيرُ: كقوله تعالى: {أنت قلت للناس} {أأنت فعلت} وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا النَّوْعَ يَأْتِي عَلَى وُجُوهٍ:
الْأَوَّلُ: مُجَرَّدُ الْإِثْبَاتِ كَمَا ذَكَرْنَا.
الثَّانِي: الْإِثْبَاتُ مَعَ الِافْتِخَارِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى عَنْ فِرْعَوْنَ: {أَلَيْسَ لي ملك مصر}.
الثَّالِثُ: الْإِثْبَاتُ مَعَ التَّوْبِيخِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَلَمْ تكن أرض الله واسعة} أَيْ: هِيَ وَاسِعَةٌ فَهَلَّا هَاجَرْتُمْ فِيهَا.
الرَّابِعُ: مَعَ الْعِتَابِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله} قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: مَا كَانَ بَيْنَ إِسْلَامِنَا وَبَيْنَ أَنْ عَاتَبْنَا اللَّهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ إِلَّا أَرْبَعَ سِنِينَ وَمَا أَلْطَفَ مَا عَاتَبَ اللَّهُ بِهِ خَيْرَ خَلْقِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {عَفَا اللَّهُ عنك لم أذنت لهم} وَلَمْ يَتَأَدَّبَ الزَّمَخْشَرِيُّ بِأَدَبِ اللَّهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ.
الْخَامِسُ: التَّبْكِيتُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إلهين} هُوَ تَبْكِيتٌ لِلنَّصَارَى فِيمَا ادَّعُوهُ كَذَا جَعَلَ السَّكَّاكِيُّ وَغَيْرُهُ هَذِهِ الْآيَةَ مِنْ نَوْعِ التَّقْرِيرِ وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَقَعْ مِنْهُ السَّادِسُ: التَّسْوِيَةُ وَهِيَ الدَّاخِلَةُ عَلَى جُمْلَةٍ يَصِحُّ حُلُولُ الْمَصْدَرِ مَحَلَّهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أأنذرتهم أم لم تنذرهم} أَيْ: سَوَاءٌ عَلَيْهِمُ الْإِنْذَارُ وَعَدَمُهُ مُجَرَّدَةً لِلتَّسْوِيَةِ مُضْمَحِلًّا عَنْهَا مَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ.
وَمَعْنَى الِاسْتِوَاءِ فِيهِ اسْتِوَاؤُهُمَا فِي عِلْمِ الْمُسْتَفْهَمِ لِأَنَّهُ قَدْ عُلِمَ أَنَّهُ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ كَائِنٌ.
إِمَّا الْإِنْذَارُ وَإِمَّا عَدَمُهُ وَلَكِنْ لَا يُعَيِّنُهُ وَكِلَاهُمَا مَعْلُومٌ بِعِلْمٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ.
فَإِنْ قِيلَ: الِاسْتِوَاءُ يُعْلَمُ مِنْ لَفْظَةِ سَوَاءٌ لَا مِنَ الْهَمْزَةِ مَعَ أَنَّهُ لَوْ عُلِمَ مِنْهُ لَزِمَ التَّكْرَارُ.
قِيلَ: هَذَا الِاسْتِوَاءُ غَيْرُ ذَلِكَ الِاسْتِوَاءِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ لَفْظَةِ سَوَاءٌ وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ كَانَ الِاسْتِفْهَامُ عَنْ مُسْتَوَيَيْنِ فَجُرِّدَ عَنِ الِاسْتِفْهَامِ وَبَقِيَ الْحَدِيثُ عَنِ الْمُسْتَوَيَيْنِ وَلَا يَكُونُ ضَرَرٌ فِي إِدْخَالِ سَوَاءٌ عَلَيْهِ لِتَغَايُرِهِمَا لِأَنَّ الْمَعْنَى أَنَّ الْمُسْتَوِيَيْنِ فِي الْعِلْمِ يَسْتَوِيَانِ فِي عَدَمِ الْإِيمَانِ وَهَذَا-أَعْنِي حَذْفَ مُقَدَّرٍ وَاسْتِعْمَالُهُ فِيمَا بَقِيَ-كَثِيرٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ كَمَا فِي النِّدَاءِ فَإِنَّهُ لِتَخْصِيصِ الْمُنَادَى وَطَلَبِ إِقْبَالِهِ فَيُحْذَفُ قَيْدُ الطَّلَبِ وَيُسْتَعْمَلُ فِي مُطْلَقِ الِاخْتِصَاصِ نَحْوُ: (اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَنَا أَيَّتُهَا الْعِصَابَةُ) فَإِنَّهُ يَنْسَلِخُ عَنْ مَعْنَى الْكَلِمَةِ لِأَنَّ مَعْنَاهُ مَخْصُوصٌ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْعَصَائِبِ.
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {سَوَاءٌ عَلَيْنَا أجزعنا أم صبرنا}.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ اسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تستغفر لهم}.
{أوعظت أم لم تكن من الواعظين}.
وَتَارَةً تَكُونُ التَّسْوِيَةُ مُصَرَّحًا بِهَا كَمَا ذَكَرْنَاهُ وَتَارَةً لَا تَكُونُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ أَدْرِي أقريب أم بعيد}.
السَّابِعُ: التَّعْظِيمُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ}.
الثامن: التهويل نحو: {الحاقة ما الْحَاقَّةِ} وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ}.
وقوله: {ماذا يستعجل منه المجرمون} تَفْخِيمٌ لِلْعَذَابِ الَّذِي يَسْتَعْجِلُونَهُ.
التَّاسِعُ: التَّسْهِيلُ وَالتَّخْفِيفُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ}.
الْعَاشِرُ: التَّفَجُّعُ نَحْوُ: {مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كبيرة إلا أحصاها}.
الْحَادِي عَشَرَ: التَّكْثِيرُ نَحْوُ: {وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أهلكناها}.
الثَّانِي عَشَرَ: الِاسْتِرْشَادُ نَحْوُ: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يفسد فيها} وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمُ اسْتَفْهَمُوا مُسْتَرْشِدِينَ وَإِنَّمَا فُرِّقَ بَيْنَ العبارتين أدبا وقيلك هي هنا للتعجب.