فصل: الرَّابِعَةُ: جَوَابُ الشَّرْطِ أَصْلُهُ الْفِعْلُ الْمُسْتَقْبَلُ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البرهان في علوم القرآن (نسخة منقحة)



.الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ إِلَّا بِمُسْتَقْبَلٍ:

فَإِنْ كَانَ مَاضِيَ اللَّفْظِ كَانَ مُسْتَقْبَلَ الْمَعْنَى كَقَوْلِكَ إن مت على اإسلام دَخَلْتُ الْجَنَّةَ ثُمَّ لِلنُّحَاةِ فِيهِ تَقْدِيرَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْفِعْلَ يُغَيَّرُ لَفْظًا لَا مَعْنًى فَكَانَ الْأَصْلُ إِنْ تَمُتْ مُسْلِمًا تَدْخُلِ الْجَنَّةَ فَغَيَّرَ لَفْظَ الْمُضَارِعِ إِلَى الْمَاضِي تَنْزِيلًا لَهُ مَنْزِلَةَ الْمُحَقَّقِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَغَيُّرُ مَعْنًى وَإِنَّ حَرْفَ الشَّرْطِ لَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ قَلَبَ مَعْنَاهُ إِلَى الِاسْتِقْبَالِ وَبَقِيَ لَفْظُهُ عَلَى حَالِهِ.
وَالْأَوَّلُ أَسْهَلُ لِأَنَّ تَغْيِيرَ اللَّفْظِ أَسْهَلُ مِنْ تَغْيِيرِ الْمَعْنَى.
وَذَهَبَ الْمِبْرَدُ إِلَى أَنَّ فِعْلَ الشَّرْطِ إِذَا كَانَ لَفْظُ كَانَ بَقِيَ عَلَى حَالِهِ مِنَ الْمُضِيِّ لِأَنَّ كَانَ جُرِّدَتْ عِنْدَهُ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الزَّمَنِ الْمَاضِي فَلَمْ تُغَيِّرْهَا أَدَوَاتُ الشَّرْطِ وَقَالَ إِنَّ كَانَ مُخَالِفَةٌ فِي هَذَا الْحُكْمِ لِسَائِرِ الْأَفْعَالِ وَجُعِلَ مِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إن كنت قلته} {وإن كان قميصه} وَالْجُمْهُورُ عَلَى الْمَنْعِ وَتَأَوَّلُوا ذَلِكَ ثُمَّ اخْتَلَفُوا.
فقال ابن عصفور والشلوبين وَغَيْرُهُمَا: إِنَّ حَرْفَ الشَّرْطِ دَخَلَ عَلَى فِعْلٍ مُسْتَقْبَلٍ مَحْذُوفٍ أَيْ إِنْ أَكُنْ كُنْتُ قُلْتُهُ أَيْ إِنْ أَكُنْ فِيمَا يُسْتَقْبَلُ مَوْصُوفًا بِأَنِّي كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ فَفِعْلُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ مَعَ هَذَا وَلَيْسَتْ (كَانَ) الْمَذْكُورَةُ بَعْدَهَا هِيَ فِعْلُ الشَّرْطِ.
قَالَ ابْنُ الضَّائِعِ: وَهَذَا تَكَلُّفٌ لَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ بَلْ {كُنْتُ} بَعْدَ {إِنْ} مَقْلُوبَةُ الْمَعْنَى إِلَى الِاسْتِقْبَالِ وَمَعْنَى: {إِنْ كُنْتُ} إِنْ أَكُنْ فَهَذِهِ الَّتِي بَعْدَهَا هِيَ الَّتِي يُرَادُ بِهَا الِاسْتِقْبَالُ لَا أُخْرَى مَحْذُوفَةٌ وَأَبْطَلُوا مَذْهَبَ الْمُبَرِّدِ بِأَنْ كَانَ بَعْدَ أَدَاةِ الشَّرْطِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ قَدْ جَاءَتْ مُرَادًا بها الاستقبال كقوله تعالى: {وإن وإن كنتم جنبا فاطهروا}.
وَقَدْ نُبِّهَ فِي (التَّسْهِيلِ) فِي بَابِ الْجَوَازِمِ عَلَى أَنَّ فِعْلَ الشَّرْطِ لَا يَكُونُ إِلَّا مُسْتَقْبَلَ الْمَعْنَى وَاخْتَارَ فِي كَانَ مَذْهَبَ الْجُمْهُورِ إِذْ قَالَ وَلَا يَكُونُ الشَّرْطُ غَيْرُ مُسْتَقْبَلِ الْمَعْنَى بِلَفْظِ كَانَ أَوْ غَيْرِهَا إِلَّا مُؤَوَّلًا.
وَاسْتُدْرِكَ عَلَيْهِ (لَوْ) وَ: (لَمَّا) الشَّرْطِيَّتَيْنِ فَإِنَّ الْفِعْلَ بَعْدَهُمَا لَا يَكُونُ إِلَّا مَاضِيًا فَتَعَيَّنَ اسْتِثْنَاؤُهُ مِنْ قَوْلِهِ: لَا يَكُونُ إِلَّا مُسْتَقْبَلَ الْمَعْنَى.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أزواجك} إِلَى {إِنْ وَهَبَتْ} فَوَقَعَ فِيهَا (أَحْلَلْنَا) الْمَنْطُوقُ بِهِ أَوِ الْمُقَدَّرُ عَلَى الْقَوْلَيْنِ جَوَابُ الشَّرْطِ مَعَ كَوْنِ الْإِحْلَالِ قَدِيمًا فَهُوَ مَاضٍ وَجَوَابُهُ أَنَّ الْمُرَادَ: (إِنْ وَهَبَتْ فَقَدْ حَلَّتْ) فَجَوَابُ الشَّرْطِ حَقِيقَةُ الْحِلِّ الْمَفْهُومِ مِنَ الْإِحْلَالِ لَا الْإِحْلَالُ نَفْسِهِ وَهَذَا كَمَا أَنَّ الظَّرْفَ مِنْ قَوْلِكَ: (قُمْ غَدًا) لَيْسَ هُوَ لِفِعْلِ الْأَمْرِ بَلْ لِلْقِيَامِ الْمَفْهُومِ مِنْهُ.
وَقَالَ الْبَيَانِّيُونَ: يَجِيءُ فِعْلُ الشَّرْطِ مَاضِيَ اللَّفْظِ لِأَسْبَابٍ:
مِنْهَا: إِيهَامُ جَعْلِ غَيْرِ الْحَاصِلِ كَالْحَاصِلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا رأيت ثم رأيت نعيما}.
وَمِنْهَا: إِظْهَارُ الرَّغْبَةِ مِنَ الْمُتَكَلِّمِ فِي وُقُوعِهِ كَقَوْلِهِمْ: إِنْ ظَفِرْتَ بِحُسْنِ الْعَاقِبَةِ فَذَاكَ وَعَلَيْهِ قوله تعالى: {إن أردن تحصنا} أَيِ: امْتِنَاعًا مِنَ الزِّنَا جِيءَ بِلَفْظِ الْمَاضِي وَلَمْ يَقُلْ يُرِدْنَ إِظْهَارًا لِتَوْفِيرِ رِضَا اللَّهِ وَرَغْبَةً فِي إِرَادَتِهِنَّ التَّحْصِينَ.
وَمِنْهَا: التَّعْرِيضُ بِأَنْ يُخَاطِبَ وَاحِدًا وَمُرَادُهُ غَيْرُهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَئِنْ أشركت ليحبطن عملك}.

.الرَّابِعَةُ: جَوَابُ الشَّرْطِ أَصْلُهُ الْفِعْلُ الْمُسْتَقْبَلُ:

وَقَدْ يَقَعُ مَاضِيًا لَا عَلَى أَنَّهُ جَوَابٌ فِي الْحَقِيقَةِ نَحْوُ: إِنْ أَكْرَمْتُكَ فَقَدْ أَكْرَمْتَنِي اكْتِفَاءً بِالْمَوْجُودِ عَنِ الْمَعْدُومِ.
وَمَثَلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ} وَمَسُّ الْقَرْحِ قَدْ وَقَعَ بِهِمْ وَالْمَعْنَى: إِنْ يُؤْلِمْكُمْ مَا نَزَلْ بِكُمْ فَيُؤْلِمُهُمْ مَا وَقَعَ فَالْمَقْصُودُ ذِكْرُ الْأَلَمِ الْوَاقِعِ لِجَمِيعِهِمْ فَوَقَعَ الشَّرْطُ وَالْجَزَاءُ عَلَى الْأَلَمِ وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنْ كنت قلته فقد علمته} فَعَلَى وُقُوعِ الْمَاضِي مَوْقِعَ الْمُسْتَقْبَلِ فِيهِمَا دَلِيلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} أَيْ: {إِنْ كُنْتُ قلته} تَكُنْ قَدْ عَلِمْتَهُ وَهُوَ عُدُولٌ إِلَى الْجَوَابِ إِلَى مَا هُوَ أَبْدَعُ مِنْهُ كَمَا سَبَقَ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كنا صادقين} فَالْمَعْنَى- وَاللَّهُ أَعْلَمُ-: مَا أَنْتَ بِمُصَدِّقٍ لَنَا وَلَوْ ظَهَرَتْ لَكَ بَرَاءَتُنَا بِتَفْضِيلِكَ إِيَّاهُ عَلَيْنَا وَقَدْ أَتَوْهُ بِدَلَائِلَ كَاذِبَةٍ وَلَمْ يُصَدِّقْهُمْ وَقَرَّعُوهُ بقولهم: {إنك لفي ضلالك القديم} وَإِجْمَاعُهُمْ عَلَى إِرَادَةِ قَتْلِهِ ثُمَّ رَمْيُهُمْ لَهُ فِي الْجُبِّ أَكْبَرُ مِنْ قَوْلِهِمْ: {وَلَوْ كُنَّا صادقين} عِنْدَكَ.

.الْخَامِسَةُ: أَدَوَاتُ الشَّرْطِ حُرُوفٌ:

وَهِيَ إِنْ وَأَسْمَاءٌ مُضَمَّنَةٌ مَعْنَاهَا ثُمَّ مِنْهَا مَا لَيْسَ بظرف كمن وَمَا وَأَيُّ وَمَهْمَا وَأَسْمَاءٌ هِيَ ظُرُوفٌ أَيْنَ وأينما ومتى وحيثما وإذ ما.
وَأَقْوَاهَا دَلَالَةً عَلَى الشَّرْطِ دَلَالَةُ (إِنْ) لِبَسَاطَتِهَا وَلِهَذَا كَانَتْ أُمَّ الْبَابِ وَمَا سِوَاهَا فَمُرَكَّبٌ مِنْ مَعْنَى (إِنْ) وَزِيَادَةٍ مَعَهُ فَمَنْ مَعْنَاهُ كُلٌّ فِي حُكْمِ إِنْ وَمَا مَعْنَاهُ كُلُّ شيء إن وأينما وحيثما يدلان على المكان وعلى إن وإذ ما ومتى يَدُلَّانِ عَلَى الشَّرْطِ وَالزَّمَانِ.
وَقَدْ تَدْخُلُ (مَا) عَلَى (إِنْ) وَهِيَ أَبْلَغُ فِي الشَّرْطِ مِنْ (إن) ولذلك تتلقى بِالنُّونِ الْمَبْنِيِّ عَلَيْهَا الْمُضَارِعُ نَحْوُ: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ من قوم خيانة فانبذ} وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كلاهما}.
وَمِمَّا ضُمِّنَ مَعْنَى الشَّرْطِ (إِذَا) وَهِيَ كَـ: (إِنْ) وَيَفْتَرِقَانِ فِي أَنَّ (إِنْ) تُسْتَعْمَلُ فِي الْمُحْتَمَلِ الْمَشْكُوكِ فِيهِ وَلِهَذَا يَقْبُحُ: إِنِ احْمَرَّ الْبُسْرُ كَانَ كَذَا وَإِنِ انْتَصَفَ النَّهَارُ آتِكَ وَتَكُونُ (إِذَا) لِلْجَزْمِ فَوُقُوعُهُ إِمَّا تَحْقِيقًا نَحْوُ: إذا أطلعت الشمس كان كذا أو اعتبارا كنا سَنَذْكُرُهُ.
قَالَ ابْنُ الضَّائِعِ: وَلِذَلِكَ إِذَا قِيلَ: (إِذَا احْمَرَّ الْبُسْرُ فَأَنْتِ طَالِقٍ) وَقَعَ الطَّلَاقُ في الحال عند مالك لأنه شيء لابد مِنْهُ وَإِنَّمَا يُتَوَقَّفُ عَلَى السَّبَبِ الَّذِي قَدْ يَكُونُ وَقَدْ لَا يَكُونُ وَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ فِيهِمَا.
وَقَدْ تُسْتَعْمَلُ (إِنْ) فِي مَقَامِ الْجَزْمِ لِأَسْبَابٍ:
مِنْهَا: أَنْ تَأْتِيَ عَلَى طَرِيقَةِ وَضْعِ الشُّرْطِيِّ الْمُتَّصِلِ الَّذِي يُوضَعُ شَرْطُهُ تَقْدِيرًا لِتَبْيِينِ مَشْرُوطِهِ تَحْقِيقًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ إِنْ كَانَ للرحمن ولد} وقوله تَعَالَى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ} وقوله تعالى: {قل لو كان معه آلهة}.
وَمِنْهَا: أَنْ تَأْتِيَ عَلَى طَرِيقِ تَبْيِينِ الْحَالِ عَلَى وَجْهٍ يَأْنَسُ بِهِ الْمُخَاطِبُ وَإِظْهَارًا لِلتَّنَاصُفِ فِي الْكَلَامِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ ربي}.
وَمِنْهَا: تَصْوِيرُ أَنَّ الْمَقَامَ لَا يَصْلُحُ إِلَّا بِمُجَرَّدِ فَرْضِ الشَّرْطِ كَفَرْضِ الشَّيْءِ الْمُسْتَحِيلِ كَقَوْلِهِ تعالى: {ولو سمعوا ما استجابوا لكم} والضمير للأصنام ويحتمل منه ما سبق فيه قوله تعالى: {إن كان للرحمن ولد}.
وَمِنْهَا: لِقَصْدِ التَّوْبِيخِ وَالتَّجْهِيلِ فِي ارْتِكَابِ مَدْلُولِ الشَّرْطِ وَأَنَّهُ وَاجِبُ الِانْتِفَاءِ حَقِيقٌ أَلَّا يَكُونَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كنتم قوما مسرفين} فيمن يكسر (إِنْ) فَاسْتُعْمِلَتْ (إِنْ) فِي مَقَامَ الْجَزْمِ بِكَوْنِهِمْ (مُسْرِفِينَ) لِتَصَوُّرِ أَنَّ الْإِسْرَافَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مُنْتَفِيًا فَأَجْرَاهُ لِذَلِكَ مَجْرَى الْمُحْتَمَلِ الْمَشْكُوكِ.
وَمِنْهَا: تَنْبِيهُ الْمُخَاطَبِ وَتَهْيِيجُهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إياه تعبدون} وَالْمَعْنَى: عِبَادَتُكُمْ لِلَّهِ تَسْتَلْزِمُ شُكْرَكُمْ لَهُ فَإِنْ كُنْتُمْ مُلْتَزِمِينَ عِبَادَتَهُ فَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَاشْكُرُوهُ وَهَذَا كَثِيرًا مَا يُورَدُ فِي الْحِجَاجِ وَالْإِلْزَامِ تَقُولُ: (إِنْ كَانَ لِقَاءُ اللَّهِ حَقًّا فَاسْتَعَدَّ لَهُ).
وَكَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مؤمنين}.
وَمِنْهَا: التَّغْلِيبُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ كُنْتُمْ فِي ريب من البعث} وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا على عبدنا} فَاسْتَعْمَلَ (إِنْ) مَعَ تَحَقُّقِ الِارْتِيَابِ مِنْهُمْ لِأَنَّ الْكُلَّ لَمْ يَكُونُوا مُرْتَابِينَ فَغَلَّبَ غَيْرَ الْمُرْتَابِينَ مِنْهُمْ عَلَى الْمُرْتَابِينَ لِأَنَّ صُدُورَ الِارْتِيَابِ مِنْ غَيْرِ الِارْتِيَابِ مَشْكُوكٌ فِي كَوْنِهِ فَلِذَلِكَ اسْتَعْمَلَ (إِنْ) عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ: {إِنْ عُدْنَا فِي ملتكم}.
وَاعْلَمْ أَنَّ (إِنْ) لِأَجْلِ أَنَّهَا لَا تُسْتَعْمَلُ إِلَّا فِي الْمَعَانِي الْمُحْتَمَلَةِ كَانَ جَوَابُهَا مُعَلَّقًا عَلَى مَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ وَأَلَّا يَكُونَ فَيُخْتَارُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ بِلَفْظِ الْمُضَارِعِ الْمُحْتَمِلِ لِلْوُقُوعِ وَعَدَمِهِ لِيُطَابِقَ اللَّفْظَ وَالْمَعْنَى فَإِنْ عُدِلَ عَنِ الْمُضَارِعِ إِلَى الْمَاضِي لَمْ يُعْدَلْ إِلَّا لِنُكْتَةٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لو تكفرون} فَأَتَى الْجَوَابُ مُضَارِعًا وَهُوَ (يَكُونُوا) وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ وَهُوَ (يَبْسُطُوا) مُضَارِعًا أَيْضًا وَأَنَّهُ قَدْ عَطَفَ عَلَيْهِ (وَدُّوا) بِلَفْظِ الْمَاضِي وَكَانَ قِيَاسَهُ الْمُضَارِعُ لِأَنَّ الْمَعْطُوفَ عَلَى الْجَوَابِ جَوَابٌ وَلَكِنَّهُ لَمَّا لَمْ يَحْتَمِلْ وِدَادَتَهُمْ لِكُفْرِهِمْ مِنَ الشَّكِّ فِيهَا مَا يَحْتَمِلُهُ أَنَّهُمْ إِذَا ثَقِفُوهُمْ صَارُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَبَسَطُوا أَيْدِيَهُمْ إِلَيْهِمْ بِالْقَتْلِ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالشَّتْمِ أَتَى فِيهِ بِلَفْظِ الْمَاضِي لِأَنَّ وِدَادَتَهُمْ فِي ذَلِكَ مَقْطُوعٌ بِهَا وَكَوْنَهُمْ أَعْدَاءً وَبَاسِطِي الْأَيْدِي وَالْأَلْسُنِ بِالسُّوءِ مَشْكُوكٌ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَعْرِضَ مَا يَصُدُّهُمْ عَنْهُ فَلَمْ يُتَحَقَّقْ وُقُوعُهُ.
وَأَمَّا (إِذَا) فَلَمَّا كَانَتْ فِي الْمَعَانِي الْمُحَقَّقَةِ غُلِّبَ لَفْظُ الْمَاضِي مَعَهَا لِكَوْنِهِ أَدَلَّ عَلَى الْوُقُوعِ بِاعْتِبَارِ لَفْظِهِ فِي الْمُضَارِعِ قَالَ تَعَالَى: {فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه} بِلَفْظِ الْمَاضِي مَعَ (إِذَا) فِي جَوَابِ الْحَسَنَةِ حَيْثُ أُرِيدَ مُطْلَقُ الْحَسَنَةِ لَا نَوْعٌ مِنْهَا وَلِهَذَا عُرِّفَتْ تَعْرِيفَ الْعَهْدِ وَلَمْ تُنَكَّرْ كَمَا نُكِّرَ الْمُرَادُ بِهِ نَوْعٌ مِنْهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عند الله} وَكَمَا نُكِّرَ الْفِعْلُ حَيْثُ أُرِيدَ بِهِ نَوْعٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ الله} وَبِلَفْظِ الْمُضَارِعِ مَعَ إِنْ فِي جَانِبِ السَّيِّئَةِ وَتَنْكِيرُهَا بِقَصْدِ النَّوْعِ.
وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يقنطون} لَفْظُ الْمَاضِي مَعَ (إِذَا) وَالْمُضَارِعُ مَعَ (أَنْ) إِلَّا أَنَّهُ نُكِّرَتِ الرَّحْمَةُ لِيُطَابِقَ مَعْنَى الْإِذَاقَةِ بِقَصْدِ نَوْعٍ مِنْهَا وَالسَّيِّئَةُ بِقَصْدِ النَّوْعِ أَيْضًا.
وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ} أتى بـ: (إذا) لَمَّا كَانَ مَسُّ الضُّرِّ لَهُمْ فِي الْبَحْرِ مُحَقَّقًا بِخِلَافِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ من دعاء الخير وإن مسه الشر فيؤوس قنوط} فإنه لم يقيد مس الشر ها هنا بَلْ أَطْلَقَهُ.
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشر كان يؤوسا} فَإِنَّ الْيَأْسَ إِنَّمَا حَصَلَ عِنْدَ تَحَقُّقِ مَسِّ الضُّرِّ لَهُ فَكَانَ الْإِتْيَانُ بِإِذَا أَدَلُّ عَلَى الْمَقْصُودِ مِنْ أَنْ بِخِلَافِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عريض} فَإِنَّهُ لِقِلَّةِ صَبْرِهِ وَضَعْفِ احْتِمَالِهِ فِي مَوْقِعِ الشَّرِّ أَعْرَضَ وَالْحَالُ فِي الدُّعَاءِ فَإِذَا تَحَقَّقَ وقوعه كان يئوسا وأما قوله: {إن امرؤ هلك} مَعَ أَنَّ الْهَلَاكَ مُحَقَّقٌ لَكِنْ جُهِلَ وَقْتُهُ فَلِذَلِكَ جِيءَ بِإِنْ.
وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ} فَأَتَى بِإِنِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلشَّكِّ وَالْمَوْتُ أَمْرٌ مُحَقَّقٌ ولكن وقته مَعْلُومٍ فَأُورِدَ مَوْرِدَ الْمَشْكُوكِ فِيهِ الْمُتَرَدِّدِ بَيْنَ الْمَوْتِ وَالْقَتْلِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمنين} مَعَ أَنَّ مَشِيئَةَ اللَّهِ مُحَقَّقَةٌ فَجَاءَ عَلَى تَعْلِيمِ النَّاسِ كَيْفَ يَقُولُونَ وَهُمْ يَقُولُونَ فِي كُلِّ شَيْءٍ عَلَى جِهَةِ الِاتِّبَاعِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إلا أن يشاء الله} فَيَقُولُ الرَّجُلُ فِي كُلِّ شَيْءٍ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ عَلَى مُخْبَرٍ بِهِ مَقْطُوعًا أَوْ غَيْرَ مَقْطُوعٍ وَذَلِكَ سُنَّةٌ مُتَّبَعَةٌ.
وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ» وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ لِلْإِبْهَامِ فِي وَقْتِ اللُّحُوقِ مَتَى يَكُونُ.
تَنْبِيهٌ: سَكَتَ الْبَيَانِّيُونَ عَمَّا عَدَا (إِذَا) وَ: (إِنْ) وَأَلْحَقَ صَاحِبُ الْبَسِيطِ وَابْنُ الْحَاجِبِ (مَتَى) بِإِنْ قَالَ: لَا تَقُولُ: مَتَّى طَلَعَتِ الشَّمْسُ؟ مِمَّا عُلِمَ أَنَّهُ كَائِنٌ بَلْ تَقُولُ: مَتَى تَخْرُجْ أَخْرُجْ وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْفَصْلِ بَيْنَ (مَتَى) وَ: (إِذْ): إن متى للوقت المبهم وَإِذَا لِلْمُعَيَّنِ لِأَنَّهُمَا ظَرْفَا زَمَانٍ وَلِإِبْهَامِ مَتَى جُزِمَ بِهَا دُونَ إِذَا.

.السَّادِسَةُ: (قَدْ يُعَلَّقُ الشَّرْطُ بِفِعْلٍ مُحَالٍ يَسْتَلْزِمُهُ مُحَالٌ آخَرُ):

قَدْ يُعَلَّقُ الشَّرْطُ بِفِعْلٍ مُحَالٍ يَسْتَلْزِمُهُ مُحَالٌ آخَرُ وَتَصْدُقُ الشرطية دون مُفْرَدَيْهَا أَمَّا صِدْقُهَا فَلِاسْتِلْزَامُ الْمُحَالِ وَأَمَّا كَذِبُ مُفْرَدَيْهَا فَلِاسْتِحَالَتِهِمَا وَعَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فأنا أول العابدين} وقوله تَعَالَى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لفسدتا} وقوله تعالى: {قل لو كان معه آلهة كما يقولون} الْآيَةَ.
وَفَائِدَةُ الرَّبْطِ بِالشَّرْطِ فِي مِثْلِ هَذَا أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا: بَيَانُ اسْتِلْزَامِ إِحْدَى الْقَضِيَّتَيْنِ لِلْأُخْرَى وَالثَّانِي: أَنَّ اللَّازِمَ مُنْتَفٍ فَالْمَلْزُومُ كَذَلِكَ.
وَقَدْ تَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ الشَّرْطَ يُعَلَّقُ بِهِ الْمُحَقِّقُ الثُّبُوتِ وَالْمُمْتَنِعُ الثُّبُوتِ وَالْمُمْكِنُ الثُّبُوتِ.