فصل: النَّوْعُ السَّادِسُ وَالْعِشْرُونَ: مَعْرِفَةُ فَضَائِلِهِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البرهان في علوم القرآن (نسخة منقحة)



.فَصْلٌ: فِي حُرُوفٍ مُتَقَارِبَةٍ تَخْتَلِفُ فِي اللَّفْظِ لِاخْتِلَافِ الْمَعْنَى:

مِثْلُ: {وزاده بسطة في العلم والجسم} {وزادكم في الخلق بصطة} {يبسط الرزق لمن يشاء} {والله يقبض ويبصط}، فَبِالسِّينِ السَّعَةُ الْجُزْئِيَّةُ كَذَلِكَ عِلَّةُ التَّقْيِيدِ وَبِالصَّادِ السَّعَةُ الْكُلِّيَّةُ بِدَلِيلِ عُلُوِّ مَعْنَى الْإِطْلَاقِ وَعُلُوِّ الصَّادِ مَعَ الْجَهَارَةِ وَالْإِطْبَاقِ.
وَكَذَلِكَ: {فأتوا بسورة} {في أي صورة} {فضرب بينهم بسور} {ونفخ في الصور} فَبِالسِّينِ مَا يَحْصُرُ الشَّيْءَ خَارِجًا عَنْهُ وَبِالصَّادِ مَا تَضَمَّنَهُ مِنْهُ.
وَكَذَلِكَ: {يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ} {وكانوا يصرون} فَبِالسِّينِ مِنَ السِّرِّ وَبِالصَّادِ مِنَ التَّمَادِي.
وَكَذَلِكَ: {يسحبون في النار} و: {منا يصحبون} فَبِالسِّينِ مِنَ الْجَرِّ وَبِالصَّادِ مِنَ الصُّحْبَةِ.
وَكَذَلِكَ: {نحن قسمنا بينهم} {وكم قصمنا} بِالسِّينِ تَفْرِيقُ الْأَرْزَاقِ وَالْإِنْعَامِ وَبِالصَّادِ تَفْرِيقُ الْإِهْلَاكِ وَالْإِعْدَامِ.
وَكَذَلِكَ {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا ناظرة} بِالضَّادِ مُنَعَّمَةٌ بِمَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَبِالظَّاءِ مُنَعَّمَةٌ بِمَا تَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَهَذَا الْبَابُ كَثِيرٌ يَكْفِي فيه اليسير.

.فصل: في كتابة فواتح السور:

كتبوا الم والمر والر موصولا، إِنْ قِيلَ لِمَ وَصَلُوهُ وَالْهِجَاءُ مُقَطَّعٌ لَا يَنْبَغِي وَصْلُهُ لِأَنَّهُ لَوْ قِيلَ لَكَ مَا هِجَاءُ زَيْدٍ؟
قُلْتَ: زَايٌ يَاءٌ دَالٌ وَتَكْتُبُهُ مُقَطَّعًا لِتُفَرِّقَ بَيْنَ هِجَاءِ الْحُرُوفِ وَقِرَاءَتِهِ.
قِيلَ: إِنَّمَا وَصَلُوهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ هِجَاءً لِاسْمٍ مَعْرُوفٍ وَإِنَّمَا هِيَ حُرُوفٌ اجْتَمَعَتْ يُرَادُ بِكُلِّ حَرْفِ مَعْنًى.
فَإِنْ قِيلَ: لِمَ قَطَعُوا حم عسق ولم يقطعوا المص وكهيعص؟
قِيلَ: حم قَدْ جَرَتْ فِي أَوَائِلِ سَبْعِ سور فَصَارَتِ اسْمًا لِلسُّورِ فَقُطِعَتْ مِمَّا قَبْلَهَا.
وَجَوَّزُوا في: {ق والقرآن المجيد} و: {ص والقرآن} وَجْهَيْنِ: مَنْ جَزَمَهُمَا فَهُمَا حَرْفَانِ وَمَنْ كَسَرَ آخِرَهُمَا فَعَلَى أَنَّهُ أَمْرٌ كُتِبَ عَلَى لَفْظِهِمَا.

.النَّوْعُ السَّادِسُ وَالْعِشْرُونَ: مَعْرِفَةُ فَضَائِلِهِ:

وَقَدْ صَنَّفَ فِيهِ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَأَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ وَالنَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُمْ وَقَدْ صَحَّ فِيهِ أَحَادِيثُ بِاعْتِبَارِ الْجُمْلَةِ وَفَى بَعْضِ السور بالتعيين وأما حديث أبي كَعْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي فَضِيلَةِ سُوَرِهِ سُورَةٍ فَحَدِيثٌ مَوْضُوعٌ.
قَالَ: ابْنُ الصَّلَاحِ وَلَقَدْ أَخْطَأَ الْوَاحِدِيُّ الْمُفَسِّرُ وَمَنْ ذَكَرَهُ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ فِي إِيدَاعِهِ تَفَاسِيرَهُمْ.
قُلْتُ: وَكَذَلِكَ الثَّعْلَبِيُّ لَكِنَّهُمْ ذَكَرُوهُ بِإِسْنَادٍ فَاللَّوْمُ عَلَيْهِمْ يَقِلُّ بِخِلَافِ مَنْ ذَكَرَهُ بِلَا إِسْنَادٍ وَجَزَمَ بِهِ كَالزَّمَخْشَرِيِّ فَإِنَّ خَطَأَهُ أَشَدُّ.
وَعَنْ نُوحِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: مِنْ أَيْنَ لَكَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ سُورَةٍ سُورَةٍ فَقَالَ إِنِّي رَأَيْتُ النَّاسَ قَدْ أَعْرَضُوا عَنِ الْقُرْآنِ وَاشْتَغَلُوا بِفِقْهِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَغَازِي مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ فَوَضَعْتُ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ حِسْبَةً ثُمَّ قَدْ جَرَتْ عَادَةُ الْمُفَسِّرِينَ مِمَّنْ ذَكَرَ الْفَضَائِلَ أَنْ يَذْكُرَهَا فِي أَوَّلِ كُلِّ سُورَةٍ لِمَا فِيهَا مِنَ التَّرْغِيبِ وَالْحَثِّ عَلَى حِفْظِهَا إِلَّا الزَّمَخْشَرِيَّ فَإِنَّهُ يَذْكُرُهَا فِي أَوَاخِرِهَا.
قَالَ مَجْدُ الْأَئِمَّةِ عَبْدُ الرَّحِيمِ بْنُ عُمَرَ الْكِرْمَانِيُّ سَأَلْتُ الزَّمَخْشَرِيَّ عَنِ الْعِلَّةِ فِي ذَلِكَ فَقَالَ لِأَنَّهَا صِفَاتٌ لَهَا وَالصِّفَةُ تَسْتَدْعِي تَقْدِيمَ الْمَوْصُوفِ.
وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ حَدِيثَ: «خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ» وَرَوَى أَصْحَابُ السُّنَنِ فِي حَدِيثٍ إِلَهِيٍّ: «مَنْ شَغَلَهُ الْقُرْآنُ عَنْ ذِكْرِي وَمَسْأَلَتِي أَعْطَيْتُهُ أَفْضَلَ ما أعطي السائلين» و: «فضل كَلَامِ اللَّهِ عَلَى سَائِرِ الْكَلَامِ كَفَضْلِ اللَّهِ عَلَى خَلْقِهِ» وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَا تَقَرَّبَ الْعِبَادُ إِلَى اللَّهِ بِمِثْلِ مَا خَرَجَ مِنْهُ» قَالَ أَبُو النَّضْرِ يَعْنِي الْقُرْآنَ.
وَرَوَى أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَهْلُ الْقُرْآنِ هُمْ أَهْلُ اللَّهِ وَخَاصَّتُهُ وَرَوَى مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «إِنَّ اللَّهَ يَرْفَعُ بِهَذَا الْكِتَابِ أَقْوَامًا وَيَضَعُ بِهِ آخَرِينَ» وَقَدَّمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَتْلَى أُحُدٍ فِي الْقَبْرِ أَكْثَرَهُمْ قُرْآنًا.

.النوع السابع والعشرون: معرفة خواصه:

وَقَدْ صَنَّفَ فِيهِ جَمَاعَةٌ مِنْهُمُ التَّمِيمِيُّ وَأَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ قَالَ بَعْضُهُمْ وَهَذِهِ الْحُرُوفُ الَّتِي فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ جَعَلَهَا اللَّهُ تَعَالَى حِفْظًا لِلْقُرْآنِ مِنَ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ قَالَ تَعَالَى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وإنا له لحافظون}.
وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ وَقَفَ عَلَى أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يَكْتُبُهَا عَلَى مَا يُرِيدُ حِفْظَهُ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْمَتَاعِ فَيُحْفَظُ.
وَأَخْبَرَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْمَوْصِلِ قَالَ كَانَ إِلْكِيَا الْهَرَّاسِيُّ الْإِمَامُ رَحِمَهُ اللَّهُ إِذَا رَكِبَ فِي رِحْلَةٍ يَقُولُ هَذِهِ الْحُرُوفَ الَّتِي فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ فَسُئِلَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ مَا جُعِلَ ذَلِكَ فِي مَوْضِعٍ أَوْ كُتِبَ فِي شَيْءٍ إِلَّا حُفِظَ تَالِيهَا وَمَالُهُ وَأَمِنَ فِي نَفْسِهِ مِنَ التَّلَفِ وَالْغَرَقِ.
وَحُكِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ شَكَا إِلَيْهِ رَجُلٌ رَمَدًا فَكَتَبَ إِلَيْهِ فِي رُقْعَةٍ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} {فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ اليوم حديد} {للذين آمنوا هدى وشفاء} فَعَلَّقَ الرَّجُلُ ذَلِكَ عَلَيْهِ فَبَرَأَ.
وَكَانَ سُفْيَانُ الثوري يكتب للمطلقة رقعة تعلق على قلبها {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ وَأَلْقَتْ} {فاخرج منها} {فخرج على قومه}.
وَرَوَى ابْنُ قُتَيْبَةَ قَالَ: كَانَ رَجُلٌ مِنَ الصَّالِحِينَ يُحِبُّ الصَّلَاةَ بِاللَّيْلِ وَتَثْقُلُ عَلَيْهِ فَشَكَا ذَلِكَ لِبَعْضِ الصَّالِحِينَ فَقَالَ إِذَا أَوَيْتَ إِلَى فِرَاشِكَ فَاقْرَأْ {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي} إلى قوله: {مددا} ثُمَّ أَضْمِرْ فِي أَيِّ وَقْتٍ أَضْمَرْتَ فَإِنَّكَ تَقُومُ فِيهِ قَالَ فَفَعَلْتُ فَقُمْتُ فِي الْوَقْتِ الْمُعَيَّنِ.
قَالَ الْغَزَالِيُّ وَكَانَ بَعْضُ الصَّالِحِينَ فِي أَصْبَهَانَ أَصَابَهُ عُسْرُ الْبَوْلِ فَكَتَبَ فِي صَحِيفَةٍ الْبَسْمَلَةَ: {وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا} {وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة} {دكا دكا} وَأَلْقَى عَلَيْهِ الْمَاءَ وَشَرِبَهُ فَيَسَّرَ عَلَيْهِ الْبَوْلَ وَأَلْقَى الْحَصَى.
وَحَكَى الثَّعْلَبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى {لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} يُكْتَبُ عَلَى كَاغِدٍ وَيُوضَعُ عَلَى شِقِّ الضِّرْسِ الْوَجِعِ يَبْرَأُ بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَيُحْكَى أَنَّ الشَّيْخَ أَبَا الْقَاسِمِ الْقُشَيْرِيَّ رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَنَامِ فَقَالَ: لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَالِي أَرَاكَ مَحْزُونًا؟ فَقَالَ وَلَدِي قَدْ مَرِضَ وَاشْتَدَّ عَلَيْهِ الْحَالُ فَقَالَ لَهُ أَيْنَ أَنْتَ عَنْ آيات الشفاء: {ويشف صدور قوم مؤمنين} {وشفاء لما في الصدور} {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لقوم يتفكرون} {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ للمؤمنين} {وإذا مرضت فهو يشفين} {قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء} فَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَاتِ عَلَيْهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَبَرَأَ.
وَحَكَى ابْنُ الْجَوْزِيِّ عَنِ ابْنِ نَاصِرٍ عَنْ شُيُوخِهِ عَنْ مَيْمُونَةَ بِنْتِ شَاقُولَةَ الْبَغْدَادِيَّةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ آذَانَا جَارٌ لَنَا فَصَلَّيْتُ رَكْعَتَيْنِ وَقَرَأْتُ مِنْ فَاتِحَةِ كُلِّ سُورَةٍ آيَةً حَتَّى خَتَمْتُ الْقُرْآنَ وَقُلْتُ اللَّهُمَّ اكْفِنَا أَمْرَهُ ثُمَّ نِمْتُ وَفَتَحْتُ عَيْنِي وَإِذَا بِهِ قَدْ نَزَلَ وَقْتَ السَّحَرِ فَزَلَّتْ قَدَمُهُ فَسَقَطَ وَمَاتَ.
وَحُكِيَ عَنِ ابْنِهَا أَنَّهُ كَانَ فِي دَارِهَا حائط له جوف فَقَالَتْ هَاتِ رُقْعَةً وَدَوَاةً فَنَاوَلْتُهَا فَكَتَبَتْ فِي الرُّقْعَةِ شَيْئًا وَقَالَتْ دَعْهُ فِي ثَقْبٍ مِنْهُ فَفَعَلْتُ فَبَقِيَ نَحْوًا مِنْ عِشْرِينَ سَنَةً فَلَمَّا ماتت ذكرت ذلك القرطاس فقمت فأخذته موقع الْحَائِطُ فَإِذَا فِي الرُّقْعَةِ {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا} يا ممسك السموات وَالْأَرْضِ أَمْسِكْهُ.

.تَنْبِيهٌ:

هَذَا النَّوْعُ وَالَّذِي قَبْلَهُ لَنْ يَنْتَفِعَ بِهِ إِلَّا مَنْ أَخْلَصَ لِلَّهِ قَلْبَهُ وَنِيَّتَهُ وَتَدَبَّرَ الْكِتَابَ فِي عَقْلِهِ وَسَمْعِهِ وَعَمَّرَ بِهِ قَلْبَهُ وَأَعْمَلَ بِهِ جَوَارِحَهُ وَجَعَلَهُ سَمِيرَهُ فِي لَيْلِهِ وَنَهَارِهِ وَتَمَسَّكَ بِهِ وَتَدَبَّرَهُ هُنَالِكَ تَأْتِيهِ الْحَقَائِقُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِهَذِهِ الصِّفَةِ كَانَ فِعْلُهُ مُكَذِّبًا لِقَوْلِهِ كَمَا رُوِيَ أَنَّ عَارِفًا وَقَعَتْ لَهُ وَاقِعَةٌ فَقَالَ لَهُ صَدِيقٌ لَهُ نَسْتَعِينُ بِفُلَانٍ فَقَالَ أَخْشَى أَنْ تَبْطُلَ صَلَاتِي الَّتِي تَقَدَّمَتْ هَذَا الْأَمْرَ وَقَدْ صَلَّيْتُهَا قَالَ صَدِيقُهُ وَأَيْنَ هَذَا مِنْ هَذَا؟ قَالَ لِأَنِّي قُلْتُ في الصلاة {إياك نعبد وإياك نستعين} فَإِنِ اسْتَعَنْتُ بِغَيْرِهِ كَذَبْتُ وَالْكَذِبُ فِي الصَّلَاةِ يُبْطِلُهَا وَكَذَلِكَ الِاسْتِعَاذَةُ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ لَا تَكُونُ إِلَّا مَعَ تَحَقُّقِ الْعَدَاوَةِ فَإِذَا قَبِلَ إِشَارَةَ الشَّيْطَانِ وَاسْتَنْصَحَهُ فَقَدْ كَذَّبَ قَوْلَهُ فَبَطُلَ ذكره.

.النَّوْعُ الثَّامِنُ وَالْعِشْرُونَ: هَلْ فِي الْقُرْآنِ شَيْءٌ أَفْضَلُ مِنْ شَيْءٍ:

وَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ فَذَهَبَ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ وَالْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ وَأَبُو حَاتِمِ بْنُ حِبَّانَ وَغَيْرُهُمْ إِلَى أَنَّهُ لَا فَضْلَ لِبَعْضٍ عَلَى بَعْضٍ لِأَنَّ الْكُلَّ كَلَامُ اللَّهِ وَكَذَلِكَ أَسْمَاؤُهُ تَعَالَى لَا تَفَاضُلَ بَيْنَهُمَا وَرُوِيَ مَعْنَاهُ عَنْ مَالِكٍ قَالَ يَحْيَى بْنُ يَحْيَى تَفْضِيلُ بَعْضِ الْقُرْآنِ عَلَى بَعْضٍ خَطَأٌ وَكَذَلِكَ كَرِهَ مَالِكٌ أَنْ تُعَادَ سُورَةٌ أَوْ تُرَدَّدُ دُونَ غَيْرِهَا احْتَجُّوا بِأَنَّ الْأَفْضَلَ يُشْعِرُ بِنَقْصِ الْمَفْضُولِ وَكَلَامُ اللَّهِ حَقِيقَةٌ وَاحِدَةٌ لَا نَقْصَ فِيهِ.
قَالَ ابْنُ حِبَّانَ فِي حَدِيثِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رَضِيَ الله عنه ما أنزل الله في التوارة وَلَا فِي الْإِنْجِيلِ مِثْلَ أُمِّ الْقُرْآنِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُعْطِي لِقَارِئِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ مِنَ الثَّوَابِ مِثْلَ مَا يُعْطِي لِقَارِئِ أُمِّ الْقُرْآنِ إِذِ اللَّهُ بِفَضْلِهِ فَضَّلَ هَذِهِ الْأُمَّةَ عَلَى غَيْرِهَا مِنَ الْأُمَمِ وَأَعْطَاهَا مِنَ الْفَضْلِ عَلَى قِرَاءَةِ كَلَامِهِ أَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَى غَيْرَهَا مِنَ الْفَضْلِ عَلَى قِرَاءَةِ كَلَامِهِ قَالَ وَقَوْلُهُ أَعْظَمُ سُورَةٍ أَرَادَ بِهِ فِي الْأَجْرِ لَا أَنَّ بَعْضَ الْقُرْآنِ أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ.
وَقَالَ قَوْمٌ بِالتَّفْضِيلِ لِظَوَاهِرِ الْأَحَادِيثِ ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَقَالَ بَعْضُهُمْ الْفَضْلُ رَاجِعٌ إِلَى عِظَمِ الْأَجْرِ وَمُضَاعَفَةِ الثَّوَابِ بِحَسْبِ انْفِعَالَاتِ النَّفْسِ وَخَشْيَتِهَا وَتَدَبُّرِهَا وَتَفَكُّرِهَا عِنْدَ وُرُودِ أَوْصَافِ الْعُلَا وَقِيلَ بَلْ يَرْجِعُ لِذَاتِ اللَّفْظِ وَأَنَّ مَا تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرحيم} وَآيَةُ الْكُرْسِيِّ وَآخِرُ سُورَةِ الْحَشْرِ وَسُورَةُ الْإِخْلَاصِ مِنَ الدَّلَالَاتِ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ وَصِفَاتِهِ لَيْسَ مَوْجُودًا مثلا في {تبت يدا أبي لهب وتب} وَمَا كَانَ مِثْلَهَا فَالتَّفْضِيلُ إِنَّمَا هُوَ بِالْمَعَانِي الْعَجِيبَةِ وَكَثْرَتِهَا لَا مِنْ حَيْثُ الصِّفَةُ وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ.
وَمِمَّنْ قَالَ بِالتَّفْضِيلِ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ وَغَيْرُهُ مِنَ الْعُلَمَاءِ.
وَتَوَسَّطَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ فَقَالَ: كَلَامُ اللَّهِ فِي اللَّهِ أَفْضَلُ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ فِي غَيْرِهِ، فَـ: {قُلْ هو الله أحد} أفضل من {تبت يدا أبي لهب وتب} وَعَلَى ذَلِكَ بَنَى الْغَزَالِيُّ كِتَابَهُ الْمُسَمَّى بِجَوَاهِرِ الْقُرْآنِ وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ لِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدِ بْنِ الْمُعَلَّى فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ: «إِنِّي لَأُعَلِّمُكَ سُورَةً هِيَ أَعْظَمُ السُّوَرِ فِي الْقُرْآنِ قَالَ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}» وَلِحَدِيثِ أُبَّيِ بْنِ كَعْبٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَيُّ آيَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ أَعْظَمُ قُلْتُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ يَا أُبَيُّ أَتَدْرِي أَيُّ آيَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ أَعْظَمُ قَالَ قُلْتُ: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} قَالَ فَضَرَبَ فِي صَدْرِي وَقَالَ: لِيَهْنِكَ الْعِلْمُ أَبَا الْمُنْذِرِ».
وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ سَيِّدَةُ آيِ الْقُرْآنِ آيَةُ الْكُرْسِيِّ.
وَفِي التِّرْمِذِيِّ غَرِيبًا عَنْهُ مَرْفُوعًا: «لِكُلِّ شَيْءٍ سَنَامٌ وَإِنَّ سَنَامَ الْقُرْآنِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ فِيهَا آيَةُ الْكُرْسِيِّ».
وَرَوَى ابْنُ عُيَيْنَةَ فِي جَامِعِهِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْهُ «فِيهَا آيَةُ الْكُرْسِيِّ وَهَى سَنَامُ آيِ الْقُرْآنِ وَلَا تُقْرَأُ فِي دَارٍ فِيهَا شَيْطَانٌ إِلَّا خَرَجَ مِنْهَا» وَهَذَا لَا يُعَارِضُ مَا قَبْلَهُ بِأَفْضَلِيَّةِ الْفَاتِحَةِ لِأَنَّ تِلْكَ بِاعْتِبَارِ السُّوَرِ وَهَذِهِ بِاعْتِبَارِ الْآيَاتِ.
وَقَالَ الْقَاضِي شَمْسُ الدِّينِ الْخُوَيِّيُّ كَلَامُ الله أَبْلَغُ مِنْ كَلَامِ الْمَخْلُوقِينَ وَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ بَعْضُ كَلَامِهِ أَبْلَغُ مِنْ بَعْضٍ؟ جَوَّزَهُ بَعْضُهُمْ لِقُصُورِ نَظَرِهِمْ وَيَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِ الْقَائِلِ هَذَا الْكَلَامُ أَبْلَغُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ هَذَا فِي مَوْضِعِهِ لَهُ حُسْنٌ وَلُطْفٌ وَذَاكَ فِي مَوْضِعِهِ لَهُ حُسْنٌ وَلُطْفٌ وَهَذَا الْحَسَنُ فِي مَوْضِعِهِ أَكْمَلُ مِنْ ذَاكَ فِي مَوْضِعِهِ فَإِنَّ مَنْ قَالَ إن {قل هو الله أحد} أبلغ من {تبت يدا أبي لهب وتب} يَجْعَلُ الْمُقَابَلَةَ بَيْنَ ذِكْرِ اللَّهِ وَذِكْرِ أَبِي لَهَبٍ وَبَيْنَ التَّوْحِيدِ وَالدُّعَاءِ عَلَى الْكَافِرِينَ وَذَلِكَ غَيْرُ صَحِيحٍ بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ: {تَبَّتْ يدا أبي لهب وتب} دُعَاءٌ عَلَيْهِ بِالْخُسْرَانِ فَهَلْ تُوجَدُ عِبَارَةٌ لِلدُّعَاءِ بِالْخُسْرَانِ أَحْسَنُ مِنْ هَذِهِ وَكَذَلِكَ فِي {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} لَا تُوجَدُ عِبَارَةٌ تَدُلُّ عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ أَبْلَغُ مِنْهَا فَالْعَالِمُ إِذَا نَظَرَ إِلَى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} فِي بَابِ الدُّعَاءِ وَالْخُسْرَانِ وَنَظَرَ إِلَى {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} فِي بَابِ التَّوْحِيدِ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَقُولَ أَحَدُهُمَا أَبْلَغُ مِنَ الْآخَرِ وَهَذَا الْقَيْدُ يَغْفُلُ عَنْهُ بَعْضُ مَنْ لَا يَكُونُ عِنْدَهُ عِلْمُ الْبَيَانِ.
قُلْتُ: وَلَعَلَّ الْخِلَافَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يَلْفِتُ عَنِ الْخِلَافِ الْمَشْهُورِ إِنَّ كلام الله شيء واحد أولا عِنْدَ الْأَشْعَرِيِّ أَنَّهُ لَا يَتَنَوَّعُ فِي ذَاتِهِ إِنَّمَا هُوَ بِحَسَبِ مُتَعَلِّقَاتِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكتاب وأخر متشابهات} فَجَعَلَهُ شَيْئَيْنِ وَأَنْتُمْ تَقُولُونَ بِعَدَمِهِ وَأَنَّهُ صِفَةٌ وَاحِدَةٌ.
قُلْنَا: مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ لَا مَزِيَّةَ لِشَيْءٍ مِنْهُ عَلَى شَيْءٍ ثُمَّ قَوْلُنَا: شَيْءٍ مِنْهُ يُوهِمُ التَّبْعِيضَ وَلَيْسَ لِكَلَامِ اللَّهِ الَّذِي هُوَ صِفَتُهُ بَعْضٌ وَلَكِنْ بِالتَّأْوِيلِ وَالتَّفْسِيرِ وَفَهْمِ السَّامِعِينَ اشْتَمَلَ عَلَى جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْمُخَاطَبَاتِ وَلَوْلَا تَنَزُّلُهُ فِي هَذِهِ الْمَوَاقِعِ لَمَا وَصَلْنَا إِلَى فَهْمِ شَيْءٍ مِنْهُ.
وقال الحليمي قد ذكرنا أخبار تدل على جوار الْمُفَاضَلَةِ بَيْنَ السُّوَرِ وَالْآيَاتِ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {نأت بخير منها أو مثلها} وَمَعْنَى ذَلِكَ يَرْجِعُ إِلَى أَشْيَاءَ:
أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ آيَتَا عَمَلٍ ثَابِتَتَانِ فِي التِّلَاوَةِ إِلَّا أَنَّ إِحْدَاهُمَا مَنْسُوخَةٌ وَالْأُخْرَى نَاسِخَةٌ فَنَقُولُ إِنَّ النَّاسِخَ خَيْرٌ أَيْ أَنَّ الْعَمَلَ بِهَا أَوْلَى بِالنَّاسِ وَأَعْوَدُ عَلَيْهِمْ وَعَلَى هَذَا فَيُقَالُ آيَاتُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ خَيْرٌ مِنْ آيَاتِ الْقَصَصِ لِأَنَّ الْقَصَصَ إِنَّمَا أُرِيدَ بِهَا تَأْكِيدُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالتَّبْشِيرِ وَلَا غِنَى بِالنَّاسِ عَنْ هَذِهِ الْأُمُورِ وَقَدْ يَسْتَغْنُونَ عَنِ الْقَصَصِ فَكُلُّ مَا هُوَ أَعْوَدُ عَلَيْهِمْ وَأَنْفَعُ لَهُمْ مِمَّا يَجْرِي مَجْرَى الْأُصُولِ خَيْرٌ لَهُمْ مِمَّا يَحْصُلُ تَبَعًا لِمَا لَا بُدَّ مِنْهُ.
وَالثَّانِي: أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْآيَاتِ الَّتِي تَشْتَمِلُ عَلَى تَعْدِيدِ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَبَيَانِ صِفَاتِهِ وَالدَّلَالَةِ عَلَى عَظْمَتِهِ وَقُدْسِيَّتِهِ أَفْضَلُ أَوْ خَيْرٌ بِمَعْنَى أَنَّ مُخْبَرَاتِهَا أَسْنَى وَأَجَلُّ قَدْرًا.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يُقَالَ: سُورَةٌ خَيْرٌ مِنْ سُورَةٍ أَوْ آيَةٌ خَيْرٌ مِنْ آيَةٍ بِمَعْنَى أَنَّ الْقَارِئَ يَتَعَجَّلُ بِقِرَاءَتِهَا فَائِدَةً سِوَى الثَّوَابِ الْآجِلِ وَيَتَأَدَّى مِنْهُ بِتِلَاوَتِهَا عِبَادَةٌ كَقِرَاءَةِ آيَةِ الْكُرْسِيِّ وَسُورَةِ الْإِخْلَاصِ وَالْمُعَوِّذَتَيْنِ فَإِنَّ قَارِئَهَا يَتَعَجَّلُ بِقِرَاءَتِهَا الِاحْتِرَازَ مِمَّا يَخْشَى وَالِاعْتِصَامَ بِاللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ وَيَتَأَدَّى بِتِلَاوَتِهَا مِنْهُ لِلَّهِ تَعَالَى عِبَادَةً لِمَا فِيهَا مِنْ ذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى جَدُّهُ بِالصِّفَاتِ الْعُلَا عَلَى سَبِيلِ الِاعْتِقَادِ لَهَا وَسُكُونِ النَّفْسِ إِلَى فَضْلِ الذِّكْرِ وَبَرَكَتِهِ فَأَمَّا آيَاتُ الْحِكَمِ فَلَا يَقَعُ بِنَفْسِ تِلَاوَتِهَا إِقَامَةُ حُكْمٍ وَإِنَّمَا يَقَعُ بِهَا علم.
قَالَ: ثُمَّ لَوْ قِيلَ فِي الْجُمْلَةِ: إِنَّ الْقُرْآنَ خَيْرٌ مِنَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالزَّبُورِ بِمَعْنَى أَنَّ التَّعَبُّدَ بِالتِّلَاوَةِ وَالْعَمَلِ وَاقِعٌ بِهِ دُونَهَا والثواب بحسب بِقِرَاءَتِهِ لَا بِقِرَاءَتِهَا أَوْ أَنَّهُ مِنْ حَيْثُ الْإِعْجَازُ حُجَّةُ النَّبِيِّ الْمَبْعُوثِ وَتِلْكَ الْكُتُبُ لَمْ تَكُنْ مُعْجِزَةً وَلَا كَانَتْ حُجَجَ أُولَئِكَ الْأَنْبِيَاءِ بَلْ كَانَتْ دَعْوَتُهُمْ وَالْحُجَجُ غَيْرَهَا وَكَانَ ذَلِكَ أَيْضًا نَظِيرَ مَا مَضَى.
وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّ سُورَةً أَفْضَلُ مِنْ سُورَةٍ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى اعْتَدَّ قِرَاءَتَهَا كَقِرَاءَةِ أَضْعَافِهَا مِمَّا سِوَاهَا وَأَوْجَبَ بِهَا مِنَ الثَّوَابِ مَا لَمْ يُوجِبْ بِغَيْرِهَا وَإِنْ كَانَ الْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ بَلَغَ بِهَا هَذَا الْمِقْدَارَ لَا يَظْهَرُ لَنَا كَمَا يقال إن قوما أفضل من قوم وَشَهْرًا أَفْضَلُ مِنْ شَهْرٍ بِمَعْنَى أَنَّ الْعِبَادَةَ فِيهِ تَفْضُلُ عَلَى الْعِبَادَةِ فِي غَيْرِهِ وَالذَّنَبَ يَكُونُ أَعْظَمَ مِنَ الذَّنْبِ مِنْهُ فِي غَيْرِهِ وَكَمَا يُقَالُ إِنَّ الْحَرَمَ أَفْضَلُ مِنَ الْحِلِّ لأنه يتأدى فيه من المناسك مالا يَتَأَدَّى فِي غَيْرِهِ وَالصَّلَاةُ فِيهِ تَكُونُ كَصَلَاةٍ مُضَاعَفَةٍ مِمَّا تُقَامُ فِي غَيْرِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.