فصل: بعض القضايا الشخصية والأمور الفرعية الخارجية عن موضوع النقاش والبحث:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الشورى في ظل نظام الحكم الإسلامي (نسخة منقحة)



.رسول الله صلى الله عليه وسلم والعمل بالشورى:

في المقالين السابقين سقت لكم طائفة من أقوال السلف كابن عطية وابن تيمية والفخر الرازي وابن كثير وكلها تثبت وجوب الشورى على الإمام. وكذلك نقلت لك نقولًا كثيرة طيبة من أقوال علمائنا الأفاضل المعاصرين كمحمد عبد ه، ورشيد رضا، وعبد القادر عودة، وأبي زهرة، وسيد قطب، ومحمد عزة دروزة، ومحمود بابلي، وعبد الله العقيل.
وأظن أنك قد وصلت إلى يقين ثابت بأن الشورى مبدأ واجب على الإمام وليس أمرًا مستحبًا ولا جائزًا، وهذا ما كان عليه سلف الأمة وما عليه العلماء الكرام في عصرنا الحاضر.
وكان المفروض أن يأتيك هذين المقالين قبل أن يصلك رد الأخ محمد سلامة جبر على مقالي الأول الذي كان فاتحة أردت بها تمهيد الطريق، ووضع الأسس للمناقشة التي يراد بها وجه الله تعالى، ولكن شاءت إرادة الله أن يكون ما كان.
ولقد قرأت مقال الأخ محمد سلامة على مقالي الأول فأيقنت أن الطريق الوعر ما زال موجودًا، وأن القضية التي طرحتها في المقال الأول ما زالت قائمة: ألا وهي قضية الرمي بالجهل والفسق والكفر أيضًا بين المسلمين لخلاف الرأي. وهذه القضية أعتبرها أخطر من مناقشة موضوع الشورى.
ورأيت أيضًا أننا سنبتعد كثيرًا عن موضوعنا الأساسي وذلك بالدخول في مسائل شخصية، وقضايا فرعية ليست من صلب الموضوع، ووجدتني مضطرًا أحيانًا-إن واصلت المناقشة- أن أورد الأدلة لأثبت المسلمات والبديهيات والأمور الواضحة الجلية التي لا تخفى على طالب العلم.
فرفعت سماعة المسرة (التليفون)، واتصلت بالأخ جمال النهري (كان رئيس التحرير في مجلة البلاغ في ذلك الوقت) وقلت له: إن الطريق وعر! ولكي أرد على مقال الأخ محمد سلامة فإنني سأحتاج إلى عدة مقالات. فقال: ناقش الموضوع الرئيسي الشورى واترك الموضوعات الفرعية. قلت: كيف أناقش الموضوع الرئيسي وقد أصبحت متهمًا لدى القراء بأنني أفضل من دون الرسول صلى الله عليه وسلم عليه في الدعاء والذكر! قال بين هذا الأمر. قلت هناك أمثلة كثيرة وأخطر من هذا فلقد اتهمت أيضًا من الأخ محمد سلامة بأنني غير راض بحكم الله سبحانه وتعالى وأنني أكاد أن أصرح بهذا وكاد المريب أن يقول خذوني! فقال: ألا تستطيعون يا معشر الإسلاميين أن تلتزموا آداب البحث والمناظرة لتعلموا الناس طريق الحق. قلت: أتمنى ذلك ولكن ما موقفك إن وضعت العقبات في طريقك. قال: فلنعمل على إزالتها. قلت: سيكلفنا هذا وقتًا طويلًا، وسنشد القراء معنا إلى متاهات فرعية قد تشغلهم عن الموضوع الرئيسي وكنت أتمنى أن نفرغ جهدنا في الموضوع ذاته. قال: هذا هو الواقع، ولا يكفي أن تقرر الحق من فوق منبرك بل يجب أن تنزل به إلى واقع الناس، وتناقشهم وتجادلهم بما معك وتتحمل في ذلك عقبات الطريق! قلت: غلبتني وما لكلامك الآن مدفع وأستعين الله في الأمر كله.
أستميح القارئ عذرًا إن بدأت ببيان المسائل الشخصية. والقضايا الفرعية التي أثيرت في مقال الأخ محمد سلامة ثم ندخل بعد ذلك إلى موضوع الشورى.
قال الأخ محمد سلامة: (لا يحل لك يا أخي أن تذكر قول رسول الله ثم تقول (هكذا)! (صلى الله عليه وسلم).. وعوضك على الله في قليل من الخير والجهد.. وليس من الأدب مع سيد البشر أن نبخل عليه بالصلاة والسلام كلما ذكر اسمه.. بينما حين ذكرت عائشة قلت رضي الله عنها.. وحين ذكرت ابن تيمية قلت رحمه الله.. أما أن تفضل من دون الرسول صلى الله عليه وسلم في الدعاء له، والثناء عليه فأمر مستنكر لا يجوز).
وأقول: يا أخي لقد كنت متبعًا في ذلك إمام أهل السنة أحمد بن حنبل رحمه الله. كما نقل ذلك عنه الإمام السيوطي في تدريب الراوي. وانظر أيضًا الباعث الحثيث لابن كثير رحمه الله وتعليق العلامة الشيخ أحمد شاكر رحمه الله فهل تنكر هذا على إمام أهل السنة أحمد بن حنبل أيضًا؟! واعلم أنني أقول الصلاة في نفسي عند كتابة (ص) وإذا قرأت لا أقرأ (ص) وإنما أقول صلى الله عليه وسلم وهذا صنيع طائفة عظيمة من أهل السنة. وانظر أيضًا قول ابن حجر في فتح الباري عند شرحه لحديث البخاري الأول «إنما الأعمال بالنيات» وانظر كذلك تفسير المنار للشيخ رشيد رضا وكيف يكتب بعد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم.
وهبني فعلت هذا غير متبع لإمام هل يعني هذا أني أفضل عائشة رضي الله عنها، وابن تيمية على رسول الله؟! ولو فعل إنسان هذا لكان كافرًا.. فهل تظن بي ذلك؟!.
- قلت في مقالي الأول: لا يجوز أن تقول يا أخ محمد لمن خالفك الرأي في فهم نص من القرآن أو السنة {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم} لأنني لم أطلب منك التحاكم إلى هواي ونفسي. ولا إلى التوراة أو الإنجيل وإنما قلت كما قال سلف الأمة وعلماؤها جميعًا-إلا من شذ- أن قوله تعالى {وشاورهم في الأمر} تقتضي الوجوب ولا صارف لهذا الوجوب. وقلت أنت بل هي للندب وزعمت أن الرسول ترك الشورى في أمهات المسائل!.
وأكدت قولك هذا بأن سلف الأمة جميعهم على رأيك وقولك. وإنك لم تطلع أبدًا على مخالف لرأيك. وكل منا يقيم الحجة على قوله. وكلنا يزعم التحاكم إلى الكتاب والسنة. وأقوال السلف. فلماذا تقول لي: لست بمؤمن إذا لم تذعن لأمر الله! وهل دعوتك إلى الإذعان لأمره، والتمسك بكتابه. قال الأستاذ محمد سلامة: أنت مريب وكاد المريب أن يقول خذوني! فهل شققت عن قلبي فرأيت فيه الريبة؟! أم فهمت هذا من قولي؟ أرجو أن تنقل من قولي ما تثبت به عقيدتك أو ظنك؟! وليكن هذا نصًّا ليحكم القراء.
- قلت للأخ محمد سلامة: لا ترم أخاك بآية نزلت في شأن اليهود: {وحسبوا أن لا تكون فتنة فعموا وصموا} قال: ألا تعرف أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب؟ أم أنك تجهل ذلك؟! ثم رتب على سؤاله هذا أنني أجهل هذه القاعدة. فقال: (ألا فاعلم علمني الله وإياك).
قلت: والله إني لأعلم القاعدة قبل أن أقرأ مقالتك، ولكن تعال معي: هل تبيح لك هذه القاعدة أن تدخل الأخ المسلم الذي خالفك الرأي في عمومها؟ تعال نتدارس السبب والعموم: عموم الحكم في الآية الصم والعمي الذي أصيب به اليهود عقابًا لهم من الله، وسبب ذلك ما ذكره الله قبل هذه الآية: {لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل وأرسلنا إليهم رسلًا كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم فريقًا كذبوا وفريقًا يقتلون وحسبوا أن لا تكون فتنة فعموا وصموا} الآية.
فالسبب إذن تكذيبهم للرسل وقتلهم لهم، وحسبانهم أن الله لا يعاقبهم على ذلك!.
فهل كذب أخوك الرسول؟! وهل تآمر على قتله؟! لو فعل هذا أو قريبًا منه لاستحق أن يدخل في عموم الآية ولكنه خالفك الرأي فقط!.
- كنت عندما قرأت المقالات الأولى في الشورى للأخ محمد سلامة أصبت بدوار وألم-علم الله- وما ذلك إلا لكراهيتي أن أسمع سب المسلم للمسلم وتكفيره له. والسبب في ذلك أنني أرى أن هذا من جملة التمزيق والضياع الذي تعيش فيه أمتنا. وقلت في مقالي الأول (إلى متى نتجرع هذه الآلام. ونعيش في هذا الضياع؟!) ولكن الأخ محمد سلامة سخر من آلامي وحمد الله أن عافاه منها فقال بالنص: (وقرأت الرد.. وأسفت.. ولكن لم أصب بدوار والحمد لله كالذي أصاب عبد الرحمن كما قال عافاه الله).
وأقول الآن: يا أخ محمد سلامة إنني أحتسب آلامي هذه عند الله وأرجو ثوابها عنده فهل تنكر علي أن أعيش بآلام أمتي، وأن أحيا بآمالها إنني أعتقد أن هذا من فضل الله علي ورحمته لي أن جعلني أشعر هذا الشعور وأحيا هذه الحياة. فابتسام المسلم في وجه أخيه المسلم يحييني ويبهجني ويفرحني، وسب المسلم لأخيه المسلم يؤلمني ويؤرقني. فإن كنت ترى هذه عافية لك وتحمد الله عليها. فلا ألومك لأنها نعمة حرمتها! ولأنني أحب لك ما أحب لنفسي أقول: أذاقك الله شيئًا مما أذوق، وعوضك عنه خيرًا في الدنيا والآخرة.
- كان عنوان رد الأخ محمد سلامة على مقالي الأول على هذا النحو: (إني أراك وأرى نفسي، والصديقي من الجهال إذا قسنا أنفسنا بفقهاء الصحابة).
وأقول أنا لم أقس نفسي بفقهاء الصحابة لا بالنص ولا بالمفهوم فلماذا يتهمني الأخ محمد بشيء ثم يرتب عليه حكمًا من عنده؟ فإن كنت قلت شيئًا من هذا فليذكره الأخ محمد للقراء بالنص. وإن كان قد فهم هذا من كلامي، فليذكر الكلام الذي فهم منهم هذا الفهم ليعرف القراء ويحكموا على فهمه بالصحة أو البطلان.
وأظن أنه لا يجوز أن أقول لإنسان ما: أنت كافر إذا سببت الله! والحال أنه لم يسبه، ولا هو في موضع التعليم، فكذلك لا يجوز أن يقال لي: أنت جاهل إن فعلت كذا وأنا لم أفعل وأنت فاسق إن فعلت كذا وأنا لم أفعل إلا إن كان المتكلم يريد أن يعلمني حكمًا جديدًا. فهل يقصد الأخ محمد أن يعلمني هذا الحكم الجديد! أم أنني جعلت نفسي فعلًا كفقهاء الصحابة؟!.

. بعض القضايا الشخصية والأمور الفرعية الخارجية عن موضوع النقاش والبحث:

أخي القارئ، هذه بعض القضايا الشخصية والأمور الفرعية الخارجية عن موضوع النقاش والبحث، وقد ضربت صفحًا عن قضايا أخرى كثيرة بعضها أكثر نكارة من بعض ما ذكر آنفًا. وأعتذر إليك من الإطالة ولندخل الآن إلى موضوع الشورى، وحتى لا نتيه في خضم التفصيلات سأحدد معك أصل الموضوع، ومجرى النقاش فيه ومحل الخلاف منه، ولتكون على معرفة تامة بأبعاده.

.أصل الموضوع:

أصل الموضوع: هل يجب على الإمام أن يستشير الناس فيما يعرض له من شؤون المسلمين أم له أن يحكم باجتهاده ورأيه دون الرجوع إليهم. قال الأخ محمد سلامة: لا يجب عليه بل يجوز أو يحسن إذا كان مجتهدًا. وقال عامة السلف كما نقلنا لك أقوالهم: بل يجب عليه، ولا يجوز له أن يقطع في أمر من أمورهم دون الرجوع إليهم لأن الشورى واجبة عليه وليست حقًا له. قال محمد سلامة: ليس هناك دليل على الوجوب. قلنا له: قوله تعالى: {وشاورهم في الأمر} دليل على الوجوب فهي أمر للرسول صلى الله عليه وسلم فغيره أولى. قال: ليست واجبة على الرسول لأن الرسول ترك الشورى في أمهات المسائل فقد تركها في غزوة بني قريظة وفي صلح الحديبية، ومصالحة غطفان، وفي غزوة تبوك. ثم قال أيضًا والذين قالوا بأن هذه الآية للوجوب قد قالوا قولًا منكرًا لم يقل به أحد من سلف الأمة وعلمائها الأعلام.
- قلت: بل سلف الأمة وتابعوهم بإحسان جميعًا-إلا من شذ- على وجوب الشورى على الإمام. قال: دلوني على رجل واحد جزاكم الله خيرًا قلت: هاك من أقوال القدامى: ابن عطية، وابن تيمية، وابن كثير، والفخر الرازي، وكل أولئك نقلنا لك كلامهم بالنص مع أرقام صفحاتهم. ومن المحدثين محمد عبد ه، ورشيد رضا، وعبد القادر عودة، وسيد قطب، وأبي زهرة، ومحمود بابللي، ومحمد عزة دروزة، وعبد الله العقيل. وقد نقلنا لك أيضًا نص كلامهم لا معناه.
قال محمد سلامة: فقد ترك الرسول الشورى في أمهات المسائل: قلت: رسولنا صلى الله عليه وسلم وبأبي هو وأمي ما كان ليخالف أمر ربه سبحانه وتعالى سواء كان أمرًا واجبًا أم أمرًا مستحبًا، فهبني قلت معك أن الأمر في الآية للاستحباب بالنسبة للرسول صلى الله عليه وسلم فهل تظن أن الرسول يترك أمر الاستحباب؟! وهو قدوة الأمة وأسوتها؟! والسباق دائمًا إلى امتثال أمر الله تبارك وتعالى؟! وإذا كنت يا أخ محمد ترمي بالجهل والكفر من أحدث قولًا جديدًا لم يقل به سلف الأمة.
فهل تستطيع أن تدلنا على قائل من السلف قال هذه المقالة (ترك الرسول الشورى في أمهات المسائل).
وسأتساهل معك هل تستطيع أن تنقله عن أحد من الخلف بل هل تستطيع أن تنقله عن أحد من المستشرقين لا المنصفين منهم بل والمتعصبين أيضًا؟! إن استطعت أن تدلنا على نص كهذا.. وإن لم تستطع فأرجو أن تحكم على نفسك!.
واعلم أن مقالتك هذه في حق الرسول صلى الله عليه وسلم تدمي قلب كل رجل مسلم. فهي اتهام للرسول بأنه كان يخالف أمر ربه تبارك وتعالى. وحاشاه صلى الله عليه وسلم أن يترك امتثال أمر واجب أو أمر مستحب لأنه هو القائل: «إن أعلمكم بالله، وأتقاكم لله أنا» (رواه البخاري) ثم قال الأخ محمد سلامة: ألم يترك الرسول المشورة في الأمور السابقة؟.
قلت: كلا بل كان مأمورًا من ربه جل وعلا وما كان الرسول مأمورًا فيه. فلا يدخل في مجال الشورى. أما في غزوة بني قريظة فقد أتاه الأمر الصريح الواضح من جبريل: «إن ربك يأمرك أن تخرج إلى بني قريظة!» قال محمد سلامة: إن صح الحديث قلت به وعلى العين والرأس قلت: يا أخ محمد سلامة أحسنت إذ تقبل الحديث وتضعه على العين والرأس وهذا شأن المؤمن، ولكن العلماء، لا يقولون هذه العبارة: (إن صح الحديث قلت به) إلا فيما خبروا سنده ورأوه غير صحيح عندهم وظنوا أنه ربما كانت له طريق أخرى صحيحة وهذا الحديث ليس شأنه هكذا فلو أنك أتعبت نفسك قليلًا وفتحت صحيح البخاري أو مسلم أو مسند الإمام أحمد أو شيئًا من كتب السيرة والتاريخ لوقفت على عدد من الأحاديث في هذا الصدد بهذا النص وبهذا المعنى أيضًا وسأسوق لك بعضها:
1- روى البخاري بإسناده عن عائشة رضي الله عنها قالت: «لما رجع النبي صلى الله عليه وسلم من الخندق ووضع السلاح واغتسل أتاه جبريل فقال: قد وضعت السلاح؟! والله ما وضعناه. فاخرج إليهم! قال: فإلى أين؟! قال: ها هنا وأشار إلى بني قريظة. فخرج النبي صلى الله عليه وسلم».
2- روى البخاري أيضًا بإسناده عن أنس بن مالك قال: كأني أنظر إلى الغبار ساطعًا في زقاق بني غنم موكب جبريل حين سار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني قريظة.
وروى الإمام أحمد بإسناد صحيح إلى عائشة رضي الله عنها: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فرغ من الأحزاب دخل المغتسل ليغتسل، وجاء جبريل فرأيته من خلل البيت. وقد عصب رأسه الغبار. فقال: يا محمد! قد وضعتم أسلحتكم؟ فقال: وضعنا أسلحتنا! فقال: إنا لم نضع أسلحتنا بعد. انهض إلى بني قريظة!».
وروى البيهقي بإسناده أيضًا عن عائشة: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عندها. قالت: فسلم علينا رجل ونحن في البيت فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فزعًا، وقمت في إثره فإذا بدحية الكلبي فقال: هذا جبريل أمرني أن أذهب إلى بني قريظة!..» الحديث.. وانظر أيضًا سيرة ابن هشام ففيها هذا الحديث بإسناد الزهري الصحيح.
وقال الأخ محمد سلامة في مقال الرد بعد إيراده لحديث جبريل الذي ذكرته به:-
(إن صح الحديث.. أسلم به.. ولكن سقوط دليل أو أكثر من عديد الأدلة التي أوردتها لا يكفي لسقوط المدلول) قلت: ولكن تذكر أن هذه كانت من الأمهات التي زعمت أن الرسول صلى الله عليه وسلم خالف فيها أمر الشورى.
وأما صلح الحديبية يا صاحبي فلم يكن إلا بأمر الله عز وجل يدلك على ذلك أن ناقة الرسول بركت قبل مكة وفسر الصحابة بروكها بقولهم (خلأت الناقة) فأجابهم الرسول «ما خلأت ولا هو لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل عن مكة» وهل كان حابس الفيل إلا أمر الله للفيل (محمود) مقدم لجيش أبرهة بأن لا يخطو خطوة واحدة عندما وصل وادي محسر. وأليس في هذه إشارة صريحة من الله للرسول صلى الله عليه وسلم بعدم تعدي هذا المكان والقبول بما يعرضه العدو. وجاء المشركون يريدون الحرب واستفزوا الرسول صلى الله عليه وسلم فمال عن طريقهم وأرسل الهدي في وجوههم ثم رغبت قريش في الصلح فأذعن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأملوا عليه شروطهم القاسية فوافق رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يستشر الصحابة بالطبع على هذه لأنه كان مأمورًا من الله أن يقبل ولقائل أن يقول وما دليلك على أنه مأمور. قلت أتريدون أصرح من قول الرسول صلى الله عليه وسلم عن نفسه! استمعوا له يقول لعمر رضي الله عنه وقد اعترض عليه:
«أنا عبد الله، ورسوله، ولن أخالف أمره، ولن يضيعني».
أتريدون أصرح من هذا! ليس عندي أصرح من هذا إلا قول الله تبارك وتعالى: {إنا فتحنا لك فتحًا مبينًا} وهذا الفتح هو صلح الحديبية. وقد أقسم الرسول لعمر أنه فتح لما قرأ عليه صلى الله عليه وسلم هذه السورة عند عودته من غزوة الحديبية. فالله يقول {إنا فتحنا لك..} فهو الذي فعل سبحانه وتعالى وليس هذا الأمر مما يحتاج إلى مشورة.
قال محمد سلامة: أما قوله صلى الله عليه وسلم: «أنه ربي ولن يضيعني» فلم يفهم منه أنه وحي، وإلا لما استمر عمر في عناده مثقال ذرة!.
قلت: أتريد مني أن أجيب لك عن عمر؟! كلا لن أجيب عنه، ولكن سأقدمه هو رضوان الله عليه ليجيب عن نفسه.
اسمع إلى الزهري إمام أهل السنة وحافظتهم في عصره يقول:.. فلما انتهى سهيل بن عمرو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تكلم فأطال الكلام، وتراجعا ثم جرى بينهما الصلح، فلما التأم الأمر، ولم يبق إلا الكتاب وثب عمر فأتى أبا بكر الصديق فقال يا أبا بكر أليس برسول الله؟! قال: بلى. قال: أو لسنا بالمسلمين؟! قال: بلى. قال: أو ليسوا بالمشركين؟! قال: بلى. قال: فعلام نعطى الدنية من ديننا؟ قال أبو بكر: يا عمر الزم غرزه!! فإني أشهد أنه رسول الله. قال عمر: وأنا أشهد أنه رسول الله! ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: يا رسول الله ألست برسول الله؟ قال: «بلى». قال: فعلام نعطى الدنية من ديننا؟! قال: «أنا عبد الله ورسوله، ولن أخالف أمره، ولن يضيعني!!» وكان عمر يقول: (ما زلت أصوم وأتصدق وأصلي وأعتق من الذي صنعت يومئذ مخافة كلامي الذي تكلمته يومئذ) انتهى بالنص هل تريد جوابًا أشفى من هذا واعتذارًا أبلغ من هذا من فم عمر نفسه رضي الله عنه وأرضاه. اسمع أيضًا قول الصحابي الجليل سهل بن حنيف يحذر من الرأي في مواجهة النص فيقول:
(أيها الناس اتهموا الرأي في الدين فلقد كدت أن أرد على رسول الله أمره يوم حادثة أبي جندل!) (البخاري كتاب الاعتصام ص75 ج9) وهل هذا اليوم إلا يوم الحديبية؟ وهل أبو جندل إلا ابن سهيل بن عمر الذي عقد صلح الحديبية مع الرسول وهل أمر الرسول إلا رسالته وهي التي كان الصحابي الجليل سهل بن حنيف سيردها لولا لطف الله به وتثبيته إياه.
والآن بقي دليل واحد مما استدل به الأخ محمد سلامة على أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد ترك الشورى في أمهات المسائل-وحاشاه صلوات الله وسلامه عليه- وهو أنه غزا تبوك دون استشارة أصحابه وهنا لن أرد على هذا الدليل أيضًا وإنما سيرد ابن عباس ومجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وقتادة والضحاك وغيرهم وابن كثير فاستمع إليهم.
- قال ابن كثير في البداية والنهاية ج5 ص2: (روى ابن عباس ومجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وقتادة والضحاك وغيرهم أنه لما أمر الله تعالى (رسوله) أن يمنع المشركين من قربان المسجد الحرام في الحج وغيره قالت قريش:
لينقطعن عنا المتاجر والأسواق أيام الحج، وليذهبن ما كنا نصيب منها فعوضهم الله عن ذلك بالأمر بقتال أهل الكتاب حتى يسلموا، أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون. قلت-أي ابن كثير وهذا تتمة كلامه-: فعزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على قتال الروم لأنهم أقرب الناس إليه، وأولى الناس بالدعوة إلى الحق لقربهم إلى الإسلام وأهله) انتهى. فإن كان الأخ محمد سلامة يملك دفعًا لهذه الأقوال عن السلف فليفعل وليناقش ابن كثير فيما ذهب إليه وسأرقب مع القراء كيف تكون نتيجة المعركة بين علماء السلف السابقين الذين يقولون بأن الرسول كان مأمورًا بذلك ولهذا نفذ بلا مشورة وبين الأستاذ محمد سلامة جبر الذي يقول ذهب الرسول إلى تبوك بغير مشورة!.
والآن لا أجد بين يدي دليلًا آخر مما استدل به الأخ يحتاج إلى نقاش بشأن ترك الرسول الشورى في أمهات المسائل! فهل يملك الأخ سوى ما سبق؟!!.
والآن أحدد مطالبي من الأخ سلامة على هذا النحو:
قائل يقول معه بأن الرسول ترك الشورى في أمهات المسائل وسأرضى أن يكون من السلف أو الخلف أو متعصبي المستشرقين. ولعل القارئ يسأل عن سر تمسكي بهذا الأمر، ولا بأس أن أبين السبب وقد وضحت شيئًا منه سابقًا:
السبب هو أن المستشرقين المتعصبين منهم لم يستطيعون أن يقدحوا في الرسول صلى الله عليه وسلم بشأن الشورى إلا بأنه كان يستشير الناس كما أمره الله ولكنه كان ينفرد برأيه وسموا هذا استبدادًا ولا أعلم أحدًا منهم-فيما قرأت- اتهم الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه ترك المشاورة في أمهات المسائل.
والأمر الثاني: ما رأي الأخ محمد سلامة في العلماء القدامى والمحدثين الذين نقلنا أقوالهم بالنص في وجوب الشورى. أرجو أن يناقشهم وهم يحكم عليهم.
أثبت لي حادثة واحدة ترك فيها الرسول الشورى صلى الله عليه وسلم. بل أعطني مثالًا واحدًا ترك فيه الرسول صلى الله عليه وسلم التزام الأمر المستحب!! أي أمر الشورى أم غيرها من الأمور المستحبة.
والآن لم يبق إلا أن يدخل الأخ محمد فيما دخل فيه عموم المسلمين من القول بوجوب الشورى وتنزيه الرسول صلى الله عليه وسلم من مخالفة أمر ربه سواء كان أمرًا واجبًا أم أمرًا مستحبًا. فإن فعل ناقشنا معه القضية الثانية وهي إمامة المقلد، وإن لم يفعل وكان عنده شبهات جديدة جلوناها بحول الله وقوته. ولن ندخل في مسألة ثانية حتى ننتهي من المسألة الأولى هذه والحمد لله أولًا وأخيرًا.

??

??

??

??

4