فصل: ثالثًا: اختيار الإمام أو الخليفة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الشورى في ظل نظام الحكم الإسلامي (نسخة منقحة)



.أولًا: سياسة الأمة في الحرب والسلم:

الأمة الإسلامية تحمل عقيدة نشطة تلزم أتباعها بالحفاظ عليها أولًا ثم الدعوة إليها، وذلك أنها تحمل كلمة الله وتطبق نظامه وشريعته، ومن أجل ذلك فالأمة تعمل-أو هكذا فرض عليها- لتكون كلمة الله هي العليا، وكلمة الذين كفروا السفلى، وبذلك ينقسم الناس مع هذه الأمة إلى مؤمن موال مؤيد وكافر معاند محارب أو مستأمن مسالم أو معاهد له شروطه ومدته، والأمة في حركتها النشطة بدعوتها، وقيامها بنشر رسالة الإسلام التي تؤمن أنها رسالة الله، وانقسام الناس معها على هذا النحو فإنها تخوض حروبًا، وتبرم عهودًا، وتجنح للسلم أحيانًا، وفي كل هذه الأحوال يحتاج الأمر منها إلى دراسة وافية لقوتها وقوة أعدائها، والشروط التي ينبغي أن توقع العهود بها، ومتى تجنح للسلم، ومتى تنشط في الحرب، وهذا كله لا يحتمله عقل واحد، ولا يحوطه رأي واحد، ولا يستطيع رجل واحد مهما بلغ علمًا وتقوى أن يصدر فيه عن الحق دائمًا، ولذلك كان أول مجالات الشورى في النظام الإسلام هو تنظيم وتخطيط سياسة الأمة في الحرب والسلم، ولأهمية هذا الباب من أبواب الشورى حصر كثير من علماء السلف الشورى فيه فقالوا قوله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: {وشاورهم في الأمر} هو في الحروب ما جرى مجراها. وذلك أنهم رأوا الرسول صلى الله عليه وسلم يكثر من استشارة أصحابه في هذا المجال كما استشارهم في بدر وأحد وفي فداء الأسرى، وفي مصالحة غطفان على ثلث ثمار المدينة.. إلخ.
وأحب في هذا الصدد أن أبين للأخوة الكرام أن هناك فرقًا يجب مراعاته دائمًا بين النص من الكتاب أو السنة، والعمل بهذا النص. فالنص لا يتغير مدلوله وحكمه في أي عصر من عصور الإسلام ولا في أي مكان من الأرض، ولكن ظروف العمل بالنص تختلف حسب المكان والزمان والملابسات- وأرجو أن ننتبه جيدًا إلى هذا حتى لا يفهم كلامي على غير وجهه ولا يؤول إلى ما لا أريد وأقصد.
ففي القتال مثلًا آيات كثيرة بعضها يأمر بقتال من يقاتلنا فقط كقوله تعالى: {وقاتلوا الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا}.
وأخرى تأمر بقتال المشركين كافة كقوله تعالى: {وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة}.
وهناك آيات تأمر بالسلم إذا جنح إليه العدو كقوله تعالى: {وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله} وأخرى تأمر بالقتال وعدم الدعوة إلى السلم: {فلا تهنوا وتدعو للسلم وأنتم الأعلون} وليس هناك اختلاف بين هذه الآيات فلكل آية ظروفها وملابساتها وإذا كان هناك نسخ في بعضها قرره العلماء فإنما كان ذلك بحسب المدى الذي وصلت إليه أمة الإسلام، فالمسلمون قبل بدر سمح لهم بالقتال وكان حرامًا عليهم، وسمع لهم بقتال من قاتلهم فقط، والانتصار ممن ظلمهم وأخرجهم من ديارهم، ثم لما تألبت العرب عليهم ورمتهم عن قوس واحدة في الخندق، وأصبح بعد النصر في هذه الغزوة للمسلمين طاقة بقتال الناس والكفار جميعًا أمرهم بذلك. ولا يعني هذا عند من يفهم شيئًا من دين الله عز وجل أن المسلمين في حال ضعفهم مفروض عليهم أن يعلنوا الحرب على الناس جميعًا من أول وهلة، ولكن السياسة الشرعية تقتضيهم أن يعملوا بكل نص حسب ظروفه ومقتضياته وأحواله دون إلغاء لما سواه من النصوص. ألا ترى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد عطل العمل بسهم المؤلفة قلوبهم وقال: لقد كان هذا وفي المسلمين ضعف أما الآن فلا، ولكنه لم يلغ النص ولم يعارضه وإنما ترك العمل به فقط في الظروف الذي أداه اجتهاده إلى أنه لا لزوم للعمل به فيه. وأنه عطل حد السرقة في عام الرمادة ولا يسمى هذا منه إبطالًا أو نسخًا. وملابسات الأمة الإسلامية وظروفها في كل عصر من العصور تلزمها اجتهادًا تضع به كل نص من النصوص في مكانه وملابساته الصحيحة ولا يمكن أن يصدر بهذا رأي رجل واحد، واجتهاد حاكم واحد ولا بد أن يجتمع لذلك ويقرر ذلك مجموع علماء الأمة ومجتهدوها ولا مكان ولا مجال له إلا بالشورى.
وأزيد هذا الأمر وضوحًا وهو واضح-بحمد الله- فأقول: لا يزعم زاعم منا أنه يقوم بكل أوامر الإسلام التي أمره الله بها وإنما يفعل-إن رزقه الله التقوى- في حدود الاستطاعة التي جعلها الله مناطًا للتكليف حيث قال: {فاتقوا الله ما استطعتم} وقال أيضًا: {ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها} فالمؤمن التقي يفعل في حدود استطاعته، ومعنى ذلك أنه يجد ويجتهد ويبذل الوسع والجهد المستطاع ومع ذلك لا يزعم لنفسه أنه قائم بكل ما كلفه الله به من عمل واجب كحضور جماعة الصلاة دائمًا والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله..
وكذلك الشأن بالنسبة للأمة فإن الواجب على الأمة بمجموعها من الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى دين الله هو بحسب إمكانياتها وجهدها ووسعها. وإذا كان الفرد المسلم يستطيع أن يصل بمفرده إلى حدود وسعه وطاقته وما يجب عليه نحو أوامر الله عز وجل. فإن الفرد الواحد لو كان مجتهدًا لا يستطيع وحده أن يقرر مدى طاقة الأمة وما ينبغي عليها أن تقوم به نحو تنفيذ أوامر الله عز وجل لها بقتال الكفار والدعوة إلى دينه ولا يستطيع أيضًا أن يصل إلى الكيفيات والأحوال التي تشن فيها الحرب أو يركن فيها إلى السلم ولذلك كان لا بد من الشورى في هذا الميدان. أعني ميدان سياسة الأمة في الحرب والسلم والمعاهدات والدعوة، وستكون الشورى لاختيار حكم الله المناسب للظروف والحالة والمكان والزمان، ولن يعني هذا مطلقًا تعطيل أحكام أخرى في هذا المقام. وهذا سر قول الرسول صلى الله عليه وسلم لقواده في الغزو: «وإن أنت استنزلت أهل حصن فطلبوا منك أن تنزلهم على حكم الله وحكم رسوله فلا تفعل لأنك لا تدري أتصيب فيم حكم الله أم لا» وقد مضى شرح لهذا النص في موضع آخر من هذا الكتاب.
وخلاصة هذا الأمر أن الميدان الأول من ميادين الشورى هو سياسة الأمة الإسلامية مع غيرها من الأمم قتالًا أو سلامًا أو عهدًا أو صلحًا ولا يقرر هذا الحاكم المسلم بمفرده بل بمجموع آراء الأمة وفكرها، وهذه هي الشورى. وتبادل الرأي في هذا الصدد هو لاختيار حكم الله المناسب للظروف والحكم بحسب قوة الأمة وحالة عدوها..

.ثانيًا- أولويات التطبيقات للأحكام الشرعية:

المشكلة الأولى التي ستقابل أي حكم إسلامي بمفهوم الكلمة الشرعي-لا بمعنى الكلمة العرفي الكاذب هي أولويات التطبيق للأحكام الشرعية- فالأمة الإسلامية بعد ضياع الخلافة منها، وقيام الدول في أرضها على أسس وطنية أرضية لا على أساس عقائدي إيماني، وإزاحة التشريع الإسلامي من منصة الحكم ومزاحمة القوانين الأخرى للتشريع الإسلامي نشأت فيها بذلك أوضاع بعيدة كل البعد عن تشريع الإسلام وروحه، فقانون العقوبات الإسلامي بوجه عام مبعد مقصي، وكذلك قوانين السياسة الخارجية، وطائفة كبيرة من الأحكام الاقتصادية والاجتماعية بعيدة عن تشريع الإسلام، ولذلك فستكون المشكلة الأولى-كما قلت آنفًا- من أين يبدأ الحاكم الإسلامي تطبيق الشريعة الإسلامية. أمن السياسة الخارجية أم من إقرار قانون العقوبات فيقتل القاتل، ويقطع يد السارق ويرجم الزاني، أم بتعديل النظام الاقتصادي فيحرره من الربا والامتيازات المحرمة، أم بتطهير المجتمع من الرذائل والفسق فيمنع الخمر، ويغلق أماكن الفساد واللهو المحرم ويأمر النساء بالستر والتعفف. وهل يبدأ بهذا كله دفعة واحدة وفي يوم واحد؟ أم يتدرج في الإصلاح والبناء؟ وإذا كان يتدرج فما هم الأهم من ذلك ليقدمه على المهم؟
وهنا يأتي دور الأولويات في تطبيق الشريعة، وهذه الأولويات سيختلف النظر فيها كثيرًا. إذ بينما يرى أناس أن النظام الاقتصادي يأتي في المقدمة سيرى آخرون أن تطهير المجتمع أولى من ذلك، وسيدافع آخرون عن رأيهم بأن السياسة الخارجية هي أهم المهمات، وسينادي آخرون بتطبيق قانون العقوبات أولًا وقبل كل شيء، ولا شك أن مجلسًا للشورى يجتمع فيه أولو العلم والفضل من المسلمين سيقرر بعد نظر ونقاش الخطة التي يراها أمثل لتطبيق الشريعة الإسلامية تطبيقًا كاملًا، وهذا هو المجال الثاني من مجالات الشورى إنه بحث الأولويات في تطبيق شريعة الإسلام وذلك حسب ملابسات الوقت وأحوال الناس واستعداداتهم والقوة المهيأة لحكومة إسلامية تريد تطبيق الإسلام وسط هذا الطوفان الهائل من أفكار الجاهلية ومعتقداتها ووسط طوفان آخر من الفسق والرذائل عم وجه الأرض كلها بالفساد والانحلال ولن تكون هذه مهمة يسيرة أبدًا بل أنها مهمة شاقة للغاية لأنها تقتضي علمًا واسعًا وحكمة عظيمة ولا يفهم هذا إلا من عرف منهج التشريع الرباني وتدرجه حسب استعداد النفوس وقبولها وعرف أيضًا منهج الإسلام في تربية الجماعة المسلمة والأمة المسلمة وأما من أوتوا نصيبًا قليلًا من العلم فإنهم يظنون أن حاكمًا مسلمًا يستطيع أن يطبق الشريعة الإسلامية في الأمة بين عشية وضحاها وهذا سذاجة وجهل وإذا كان الأمر بهذه الأهمية والخطورة فلا يمكن أن يكون لرأي واحد وصول إلى الحق في هذا الأمر الخطير، ولذلك كانت الشورى في هذا الصدد من أهم الأمور.
وأعيد القول هنا أيضًا بأن الشورى من أوليات تطبيق الحكم الشرعي لا تعني مطلقًا أن الحكم الذي تأخر في التطبيق قد كفر به وجحد، وإنما تعني أن وسع الأمة وطاقتها لم تحتمله بعد، وهكذا تتدرج الأمة في مراقي العمل بالشريعة كما يتدرج الفرد فيتكلف من الأعمال ما يطيق شيئًا فشيئًا حتى يبلغ الكمال الذي قدره الله له، وهكذا تتدرج الأمة في تطبيق الأحكام حسب استطاعتها حتى تبلغ الكمال المقدر لها، ولا يستطيع تقدير هذه الاستطاعة إلا أهل الرأي والخبرة والمشورة من المسلمين.

.ثالثًا: اختيار الإمام أو الخليفة:

الأمير أو الإمام أو الخليفة.
الأسماء الثلاثة السابقة أطلقها المسلمون على من يتولى شؤونهم. وسر اختيار هذه الأسماء ليس غامضًا، ولا بعيدًا، فالأمير بمعنى الآمر وقد اختار هذه التسمية عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما قيل له: يا خليفة خليفة رسول الله فقال: أنتم المؤمنون، وأنا أميركم. فسمي أمير المؤمنين، وأما الخليفة فهو من يأتي بعد سابق له، وقد سمي بذلك أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه لأنه خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم في القيام بشؤون المسلمين، وتوحيدهم، والدعوة إلى الإسلام وقتال المخالفين، وإقامة شرع الله في الأرض.
وأما الإمام فهو المقدم في الأمر ويطلق على من يتقدم للصلاة بالناس وقد أطلق على الأمير والخليفة والإمام لأنه المقدم في أمور المسلمين عامة، وفي الصلاة خاصة، والمقتدي برأيه.
والحاصل أن الحاكم في الإسلام يطلق عليه الخليفة لأنه يخلف من سبقه في القيام بشؤون المسلمين ويطلق عليه الأمير والإمام.
وهذا المنصب عظيم خطير لأن المسؤولية فيه مزدوجة فالإمام في الإسلام مسئول عن أعماله أمام الله تبارك وتعالى، ومسئول أمام الأمة أيضًا فهو ليس حاكمًا مطلقًا لا يسأل عما يفعل بل يسأل ويراجع ويناقش لقوله تبارك وتعالى: {وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول} الآية، فبعد أن أمر تبارك وتعالى بطاعة أولي الأمر أخبر أنه قد يحصل التنازع في أمر ما وعند ذلك يجب رد ما تنوزع فيه إلى حكم الله وحكم رسوله صلى الله عليه وسلم، ومعنى هذا إقرار لمبدأ اختلاف وجهة نظر الناس مع وجهة نظر ولي الأمر، ولم يقل سبحانه وتعالى مثلًا: وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ولا تنازعوهم في شيء، بل اسمعوا لهم وأطيعوا مطلقًا، وذلك أن أولياء الأمور ليسوا بمعصومين لا بمنجاة من الخطأ بل هم معرضون لذلك، وقد يوفق إلى الصواب غيرهم، وهنا كانت القاعدة الربانية للوصول إلى الحق في أمور الاختلاف. وهي رد ما تنوزع فيه إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
ولذلك أعلن الصديق أبو بكر من أول يوم تولى فيه خلافة المسلمين هذا المبدأ (أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم).
وأعلنه عمر بن الخطاب أيضًا رضي الله عنه حيث قال: (إذا أحسنت فأعينوني وإذا أسأت فقوموني)..
وأما المسؤولية أمام الله تبارك وتعالى فقد نص عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله المشهور: «كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، فالإمام راع وهو مسئول عن رعيته..» الحديث.
ومهمة الحاكم في الإسلام مهمة شاقة عسيرة لأنها ذات طرفين: الطرف الأول القيام بشؤون الدين تطبيقًا وتحكيمًا والطرف الثاني القيام بشؤون الدنيا، ورعاية مصالح الأمة في هذه الدار. وأما الحاكم في غير النظام الإسلامي فمهمته دنيوية خالصة لا يضيره عند قومه أن يكون جاهلًا بالدين غير عالم به.
وإذا كانت مهمة الأمير في الإسلام ذات شقين وميدانين، فإن من مقتضيات هذا أن يكون الأمير عالمًا بالدين مجتهدًا فيه، عالمًا بالدنيا ذا رأي وسياسة وحكمة في معرفة شؤونها. وليس هذا بالطبع أمرًا سهلًا ميسورًا، فدراسة الدين دراسة واسعة عظيمة تحتاج إلى اجتهاد وانقطاع وتوفر زمنًا ليس قصيرًا ودراسة الدنيا تحتاج إلى معرفة بأنواع الناس، وعوائدهم، وأفكارهم، وعقائدهم وبسياسات الحرب والسلم، وعلم بالتاريخ ومجاري الأمور وكل هذه الآن علوم عظيمة مستقلة، لا بد من الإلمام بشيء كثير منها لمن يتصدى لمثل هذه الأمور، ومن الجهل والغباء الظن بأن الصحابة والخلفاء رضي الله عنهم قد ساسوا الدنيا وفتحوها ولم يكونوا على علم بهذه الأمور. وليس المجال الآن مجال بيان المدى الذي وصله الخلفاء الراشدون ومن بعدهم من علم ودراية بهذه الأمور الدنيوية ومكان هذا كتب التاريخ والرجال.
هذا المنصب الخطير العظيم، الإمامة العامة للمسلمين ليس هناك من طريق سليم شرعي للوصول إليه إلا طريق الشورى، فالشورى هي النظام الإسلامي الوحيد الذي يأتي عن طريقه الإمام أو الحاكم أو الأمير أو الخليفة كما يحلو لنا أن نسميه.
وقد يكون هذا مخالفًا لما دونه علماء السياسة من المسلمين الذين جعلوا من طرق الوصول إلى الحكم التغلب العام (الغلبة) وحيازة الشوكة (والشوكة هي القوة الضابطة للنظام والأمن) وأعطوا الشرعية ووجوب الطاعة لمن توصلوا إلى الحكم والخلافة على هذا النحو.
إلا أن كلامهم هذا ليس في حقيقته إقرارًا لهذا المبدأ، ولكن رضوخًا له في ظروف استثنائية، وهو كما يقولون من باب (ارتكاب أخف الضررين) فالخروج على طاعة الإمام والخليفة الذي جاء إلى الحكم تسلطًا وقهرًا وحاز الشوكة والغلبة أكثر ضررًا من الرضوخ له، وإقراره، وهذا ما جعل بعض كتاب الغرب يتهم الإسلام بمساندة الظلم، وإقرار التسلط. واتهامهم هذا في حقيقته قصور نظر، وعدم إدراك. وليس هذا مجال الرد على هذه الشبهة.
فالمهم هنا إثبات أن المبدأ الأساسي في الظروف الطبيعية الآمنة لاختيار الحاكم هو الشورى، وليس هناك طريق غير ذلك، وإن كان يتجاوز عن هذا المبدأ إذا وصل الحاكم المسلم المنفذ لشرع الله للحكم عن طريق الغلبة وفرض السلطان ويفتي بطاعته ويحرم الخروج عليه، وليس من هذا إقرار لطريقة وصوله إلى الحكم- فالتسلط وفرض السلطان بالقوة مرفوض شرعًا ولكن حقنًا للدماء وارتكابًا لأخف الضررين.
وإذا كانت الشورى هي المبدأ الأساسي لوصول الحاكم إلى الحكم فالواجب أن لا يجعل الواقع التاريخي دليلًا شرعيًّا يتبع ويقاس عليه، وذلك أن الواقع التاريخي خاضع تمامًا للظروف والملابسات التي تأخذ مجراها، وتفرض نفسها.