فصل: سادسًا: بحث أحكام المعاملات الحادثة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الشورى في ظل نظام الحكم الإسلامي (نسخة منقحة)



.خامسًا: رقابة الحاكم وتسديده:

الميدان الخامس لعمل أهل الشورى هو رقابة الحكم وتسديد الحاكم فالحاكم في الإسلام ليس حاكمًا مطلقًا ولكنه حاكم مقيد بدستور الشرع ونصوص الكتاب والسنة، وقد أعطى الله سبحانه وتعالى لكل مسلم حق الإنكار للمنكر سواء صدر هذا من عامة الناس أو خاصتهم فالقائد والإمام في الإسلام معرض للنقد والإنكار عليه متى خالف نصًا من كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
وإذا كانت الدساتير في عهود الظلم والجاهلية قد جعلت ذات الحاكم فوق النقد، وجعلت من تعرض لنقده كأنما تعرض لنقد الدولة وقدسية النظام، وبهذا جعل الأمراء والحكام والملوك آلهة تعبد من دون الله سبحانه وتعالى، فالذي يحكم ولا معقب لحكمه هو الله والذي لا يسأل عما يفعل هو الله سبحانه وتعالى وذلك أنه العليم بكل شيء وأما غيره فمعرض للخطأ والزلل والغفلة بل وللهوى والميل مع المصلحة، وقد عجبت أشد العجب عندما ناقشت بعض المتحمسين للإسلام والذين يؤلفون جماعات للدعوة إذ وجدت آراءهم ومعتقداتهم في أنفسهم أنهم فوق النقد، وأن نقدهم إنما هو نقد للنظام ذاته أي للإسلام نفسه.. إن فهمكم هذا لا يختلف عن فهم سدنة الحكم الجاهلي في أشد عهود الطغيان تسلطًا وقهرًا. فإذا كان ذواتكم هي ذوات النظام والنظام عندكم هو الإسلام نفسه لأنكم تدعون السير على هداه إذن أصبح النقد لكم كفرًا بالله تعالى لأنه اعتراض على تشريعه..
وماذا تعترفون أنتم بهذا الفهم عن حكم طغياني أن يقول للناس كما قال فرعون {ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد..} لقد امتاز الإسلام عن جميع مذاهب الأرض أنه جعل كلمة الحق والصدع بها حقًا لكل مسلم بل واجبًا على كل مسلم بل كان مما أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم به العهد على بعض أصحابه «أن يقولوا الحق لا يخافون في الله لومة لائم» قالوا: الحق لنا يجب أن يقال سرًا خوف الفتنة ولغيرنا لا بأس أن يقال جهرًا. قلنا كلامكم هذا هو الفتنة.. لقد دعا عمر الناس إلى قول الحق له وذلك عندما قيل له: اتق الله.. قال: لا خير فيكم إن لم تقولوها ولا خير فينا إن لم نسمعها وقال أبو بكر في خطبة العرش (أطيعوني ما أطعت الله فيكم فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم) فنبذ الطاعة حال معصية الإمام حق للأمة. وقال عمر: (إن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني) ولم يقل فانصحوني سرًا.. حتى لا تقتلوا النظام ولا تهدموا الإسلام. فأنتم بالله خير أم عمر؟ أم أبي بكر؟ ولقد كان الخير في الأمة عندما كانت النصيحة جهرًا، فلما آلت إلى السرية والاستخفاء، فسد الناس أمراء وعامة وليس هذا مجال تفصيل هذا الأمر. والمهم هو أن نعلم أن حق الإنكار على الحاكم حق لكل مسلم بل هو واجب على كل مسلم يعلم أن ثم منكرًا أظهره أمير فعليه بيانه، وبذلك تستقيم أمور شرعية ويستقيم الحاكم لأنه سيخاف الفضيحة والنقد وأما إذا آلت الأمور إلى السرية والمداراة فسدت النفوس وحلت الموعظة واستشرى الشر ووجد الاستبداد.
وإذا كان التقويم والتسديد للحاكم حقًا بل واجبًا على كل مسلم كان وجوبه على أهل الشورى ألزم وأحرى فهو المفوضون من الأمة المؤتمنون من الحاكم، ولذلك فإن حق التسديد والتقويم واجب يفرضه الالتزام بالدين ويفرضه أيضًا التفويض من الأمة، والاستئمان من الحاكم فهو واجب مثلث أو قيل هو واجب من ثلاث جهات من الله الذي أخذ العهد على أهل العلم بالبيان وعدم الكتمان ومن الأمير الذي ائتمن أهل الشورى على تقويمه وتسديده، ومن عموم الناس الذين فوضوا في شؤونهم أهل الشورى.
وإذا كانت الدول التي تدعي الديمقراطية قد أعطت النائب في البرلمان أو مجالس الأمة حقًا خاصًا سمي بالحصانة أي براءة الذمة والحماية لقول كلمة الحق. فإن الإسلام قد أعطاها لكل مسلم، فكل مسلم في ظل نظام إسلامي صحيح يحمل هذه الحصانة وهي براءة ذمته من الدخيلة والتهمة حتى يثبت عكس ذلك، وحمايته ليقول كلمة الحق. فكلمة الحق فرض على كل مسلم، ولا تتم هذه الكلمة إلا بحماية وأمانة وأمن، وقد تقرر في أصول الفقه إن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، إذًا يجب على الحاكم المسلم أن يؤمن الحصانة والحماية وبراءة الذمة لكل مسلم ليقول كلمة الحق وذلك أن قول كلمة الحق واجب أوجبه الله عليه ولا يتم هذا الواجب إلا بهذه الحماية فيجب أو توجد الحماية والحصانة.
وإذا كانت هذه النعمة قد سلبها المسلمون مثلما سلبوا كثيرًا من النعم بتهاونهم وتفريطهم فإنها قد أسهمت إسهامًا كبيرًا في إطالة ليلهم وإبعاد نهارهم. فمن تشرق عليهم شمس الحرية؟ فيقول أحدهم كلمة الحق يبذلها الصغير للكبير، والمحكوم للحاكم..؟ وما أرى هذا الليل زائغًا سريعًا وذلك أن كثيرًا من المقلدين الجامدين قد زيفوا مفهوم الطاعة في الإسلام فجعلوها طاعة عمياء خرساء فقد رددوا «اسمعوا وأطيعوا وإن تأمر عليكم عبد » دون فهم ودون وعي، وحجبوا نصوص الطاعة عن نصوص التقويم والتسديد والنصح فخلقوا الاستبداد والطغيان بل أن كثيرًا من المتحمسين للإسلام الذين زعموا الدعوة إلى الله وكونوا الخلايا والتنظيمات أمروا الأتباع بالسمع والطاعة، بلا مناقشة وفهم وأسلطوا عليهم سيفًا أسموه مصلحة الدعوة وسرية الحركة، وقادوهم في هذه العماية إلى التهور تارة والانجحار تارات ثم إلى التمزق والضياع، ولو كانت هناك أعمال تحت الشمس وفي وضح النهار أقول لو كانت هناك نصح وتناصح وتربية على الصدع بكلمة الحق وعلى النقد البناء لجنبوا الدعوة المزالق والتبدد والضياع. ولذلك فإن الليل ليل المسلمين سيطول حتى تنشأ أجيال تتعلم الصراحة والوضوح وكلمة الحق لا تخاف في الله لومة لائم. ولم أر في حياتي كلمة حق واحدة علنية أعقبت فتنة أو عطلت مصلحة؟ ولكنني وجدت أن إخفاء النصيحة والضيق بها يولد قالة السوء في السر ثم يولد الجيوب التي تعمل في الخفاء ثم ينتج الضياع والتمزق. فمن يقدر من قادة المسلمين قيمة الكلمة الطيبة والنصيحة الخالصة العلنية فيقبلوها من قائلها لا يهابون ولا يخافون.
وإذا كان الإسلام قد أعطى كل فرد في الجماعة الإسلامية حق النصح والتقويم والتسديد لقائده وأميره، فإن هذا الحق بل الواجب في ذمة أهل الشورى وهم أهل الحل والعقد أشد وجوبًا ولزومًا لأن هذا جزء من مهمتهم الأساسية التي رشحوا من أجلها.
وغير خاف أن إعطاء الحصانة للنائب عن الأمة في النظام الديمقراطي مفخرة لهذا النظام يجب أن نعترف بها، ويجب أيضًا أن نعترف أن التطبيقات السيئة لنظام الإسلام في الحكم قد حجبت طويلًا كلمة الحق عن الظهور وهذه التطبيقات السيئة ليست حدثًا شاذًا للأسف وإنما مرت عبر عصور طويلة ما زالت إلى يومنا هذا حتى أن كثيرًا من المنتسبين للإسلام لا يفهم من قيام دولة للإسلام إلا القتل والصلب ومنع الرأي المخالف. وهذا خطأ في الفهم.
ونحن إذ نعترف بأن الإسلام قد أعطى الحماية والحصانة لكل فرد في الأمة أن يقول كلمة الحق التي يراها ويظنها حقًا، فإنما نعترف بشيء واقع في الإسلام قدمنا عليه الأدلة والبراهين ولا يوهن هذا الحق سوء التطبيق في عصور التسلط والقهر.
وعلى هذا فأي مجلس شورى في ظل نظام إسلامي صحيح ستكون إحدى مهامه الرئيسية تقويم الحاكم ونصحه وإرشاده، كما كان لها من قبل توليته وعزله وإلغاؤه. ولذلك فالحاكم نائب عن الأمة في تنفيذ حكم الله سبحانه وتعالى التي اختارته وهي التي تملك عزله. وهي التي وكل إليها تقويمه إذا حاد، وتسدده إذا أخطأ.
وليس الحاكم في الإسلام نائبًا عن الله-حاشا وكلا- ولو كان ذلك صحيحًا لكان منصوصًا عليه من الله بأن فلان قد اخترته لكم فاسمعوا وأطيعوا وذلك كما تقول الشيعة بأن الإمام لا بد وأن يكون منصوصًا عليه من الله، ولذلك اعتقدوا في الأئمة النصحة وأنهم لا يقولون خطأ أبدًا، وأما عند أهل السنة قاطبة فالإمام نائب الأمة وهو يصيب ويخطئ الأمة هي التي تملك توليته وهي تملك عزله، ويجب عليها وجوبًا شرعيًّا نصحه وتسديده وتقويمه. وفي هذا الإطار عليهم له حق الطاعة ما دام لم يأمر بمعصية ولم ينه عن طاعة.
وبهذا نعلم أن من الواجبات الأساسية لمجلس شورى في ظل نظام إسلامي نصح الحاكم وتسديده وهو واجب القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

.سادسًا: بحث أحكام المعاملات الحادثة:

في كل يوم تستجد للناس معاملات وأقضيات لم تكن في أسلافهم، وقد أتم الله سبحانه وتعالى دينه في حياة رسوله صلى الله عليه وسلم، فلا شرع إلا ما شرع، وبعض هذه المعاملات الحديثة قد يشتبه بما حرم الله أمثاله، فيخاف المسلم الوقوع في الحرام، ولذلك شرع لنا الاجتهاد لإلحاق كل معاملة بأصولها من الحل والحرمة. فالأطعمة والأشربة التي تتصف بما حلل الله من الطيبات وتلحق بالحلال والأطعمة والأشربة التي يتصف بالوصف التي جعله الله علة في التحريم كالخبث والإسكار فإنها تلحق بأصولها من الحرام. والمعاملات التي غلب عليها التراضي والعدل ألحقت بالحلال، والمعاملات التي غلب عليها الغش والحيلة والحظ والغرر ألحقت بأصولها من التحريم. وهكذا وهناك معاملات تنشأ يشتبه الحرام فيها والحلال فيغلب بعض الناس فيها الحلال لما فيها من الحل والخير ويغلب بعض الناس الحرام لما فيها من الحرام والشر وهكذا والوصول إلى الحكم الصحيح وخاصة في معاملات سيبنى عليها قضايا وحقوقًا واجب في ظل حكم إسلامي والحكم في الإسلام أصلًا هو حكم الله ولذلك كان المجتهد يجتهد إلى ما يظن أنه حكم الله وقد مضى هذا مشروحًا في أول بحث الشورى.
ولم يعرف تاريخ الإسلام ولا يجوز أن يعرف الوصول إلى الحكم الشرعي بطريق التصويت لأنه حكم الله سبحانه وتعالى لا يعرف بالكثرة أو القلة وإنما يعرف بالنص فإن لم يكن فبالاجتهاد كما مضى، وليست الأصوات والكثرة دليلًا على الحق في ذاته، ولذلك فلا يجوز قطعًا في التعرف على حكم شرعي أن نراعي فيه كثرة القائلين أو قلتهم، وإنما الإجماع فقط جعل حجة شرعية لأن الأمة كلها يستحيل أن تجمع على الباطل فإن الله قد عصمها من ذلك ولو هذه العصمة لما كان هذا محللًا ولكن الله لم يعصم الكثرة من الوقوع فيه، بل قد يكون الباطل مع الكثرة والحق مع القلة ولهذا أمثلة كثيرة.
والحاكم المسلم سيحتاج في الوصول إلى أحكام شرعية في معاملات كثيرة كثر فيها الرأي والخلاف. والطريقة لمعرفة الحق والصواب في هذا الأمر إنما هو الاجتهاد ولا بد أن يكون مجتهدًا لأن الاجتهاد شرط من شروط صحة الإمامة العامة، فالإمام العام لا يكون مقلدًا قط اللهم في حالات الضرورة والقهر، ذلك يكون كالميتة والدم ولحم الخنزير وما ذبح لغير الله يؤكل ذلك كله اضطرارًا. وكذلك يذعن لحكم المقلد اضطرارًا لا اختيارا وقد أخطأ خطأ فاحشًا من قاس حالات الضرورة على حالات الاختيار والشورى والمهم أن الحاكم المسلم بصدد الوصول إلى حكم شرعي لحادثة أو معاملة جديدة سيجتهد، ومن أركان هذا الاجتهاد أن يسأل أهل العلم، وأهل الشورى هم أهل العلم أو أهل العلم يجب أن يكونوا أهل شورى، وكذلك كان القراء وهم الحفاظ الفقهاء هم أصحاب الشورى في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وبسؤال أهل العلم يصل الحاكم أو الأمير إلى ما يظن أنه حكم الله في هذه الحادثة أو المعاملة الجديدة.
وهكذا كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا نزل به الأمر لا يعرف حكمه بالنص من الكتاب والسنة جمع له المهاجرون فسألهم ثم الأنصار فسألهم فيما كان عند أحدهم من نص حكم به، فإن اجتمعوا على شيء قضى به. فإن اختلفوا اجتهد رأيه رضي الله عنه. وهذا هو المسلك الصحيح في الوصول إلى الحكم الشرعي. الحكم بالنص فإن لم يكن فالحكم بإجماع أهل الفضل والعلم في الأمة فإن لم يحصل اجتهد الإمام رأيه ونسب القول إليه فيقال حكم عمر في هذه المسألة بكذا وقضى فيها بكذا.
وذلك حتى يكون لمن بعده الاختيار في نقض هذا الحكم إذا خالف الحق أو حدثت منه مفسدة أو وجد الخير بخلافه.
وسيأتي تفصيل طريق الوصول إلى الحكم الأخير في الشورى في الفصل الخامس بذلك إن شاء الله تعالى والمهم هنا أن نعلم أن من مهمات الشورى. إبداء الرأي فيما يجد من معاملات وأقضيات وحوادث لاستنارة الإمام وتوجيهه إلى الرشد.