فصل: مصادر الثروة (بيت المال في النظام الإسلامي):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الشورى في ظل نظام الحكم الإسلامي (نسخة منقحة)



.رابعًا: توجيه النظام المالي:

النظام المالي في الحكم الإسلامي نظام محدد واضح من حيث مصادر الثروة العامة وبيت المال وكذلك وجوه الصرف، وفي كل نصوص واضحة جلية في الكتاب والسنة، ومع ذلك فهناك كثير من الفرعيات لا يمكن البت فيها برأي الفرد الحاكم ولا بد من الرجوع فيها إلى آراء أهل الشورى وحكمهم النهائي، وكذلك هناك كثير من الملابسات والحالات الخاصة الاستثنائية توجب إيقاف العمل ببعض الفرعيات، أو استحداث فرعيات أخرى. وعملية التشريع هذه بالإيقاف أو الأحداث لا يمكن ولا يجوز أن يكون الرجوع فيها كمصدر وحيد للتشريع إلى رأي الفرد الحاكم بل لا بد من الرجوع في ذلك إلى حكم الشورى.
وهذا بيان للإجمال السابق:

.مصادر الثروة (بيت المال في النظام الإسلامي):

.أولا: المصدر الأول من مصادر بيت المال هو الزكاة:

والزكاة نظام محدد في السنة من حيث الأموال التي تجب فيها الزكاة، والمقادير التي يجب إخراجها، ويكاد أن لا يكون لأهل الشورى نظر في هذا الأمر إلا من حيث الإشراف والمراقبة وسيأتي للإشراف والمراقبة باب خاص من أبواب مجالات الشورى إن شاء الله تعالى.

.ثانيًا: الركاز:

الركاز كلمة جاءت في الفقه تحمل معنى الثابت في الأرض من المعادن التي ركزها الله فيها كالذهب والنحاس والبترول والفضة والملح (وليس هذا معدنًا ولكنهم يدخلونه في الركاز، وكذلك ما ركزه الناس من كنوز كالآثار القديمة والأموال). والمعروف أن بيت المال يدخله الخمس من هذا الركاز وأما الأخماس الأربعة فهي لمن حصل باجتهاده وتنقيبه على هذه الكنوز.
وقد تكون هذه القسمة غريبة في وقت ظهرت فيه الثروات الضخمة كالبترول والذهب والنحاس بهذه الكميات الهائلة، وقد يقول قائل وكيف يملك هذا المال كله فرد منقب أو أفراد مشتركين. وهو يجب أن يكون للأمة بكاملها.
وهذا القول خطأ من قائله في التصور والفهم فالشركات المنقبة عن البترول في بلاد العرب وأرض الإسلام والتي تحصل على نصيب الأسد من هذه الكنوز شركات أهلية أجنبية وليست الشركات حكومية، والعجب أن النسبة التي تدفعها هذه الشركات لحكوماتها هي نسبة قريبة مما قرره الرسول صلى الله عليه وسلم منذ أربعة عشر قرنًا وهي تصل أحيانًا إلى 25% أي الربع، والمال القومي في أمريكا مثلًا عماده الأول هو هذه الضريبة على هذه الشركات التي تغزونا وتمتص خيرات بلادنا.
ولو كان مبدأ الحرية الاقتصادية الذي نادى به الإسلام معمولًا به في أرض الإسلام لكانت ثرواتنا جميعها اليوم بأيدينا، وشركاتنا هي التي تستخرج بترولنا من أرضنا بل وتبحث في أماكن أخرى عن مشاركة وإنتاج ولكننا وقعنا في خطأ الغفلة أولًا فأعطينا ثروتنا بعقود جائرة باطلة تسمى عقود الامتياز لأعدائنا، ثم نطالب اليوم بتأميمها وهو خطأ جديد نصحح به خطأ قديمًا، ولست أعني بالتأميم استرداد السيطرة على هذه الثروة بشركات أهلية إسلامية إذا أن سيادتنا على ثرواتنا هي جزء من مفهوم قوله تعالى: {وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين} ولكني أعني به سيطرة الدولة على كل شيء وهذا أمر مرفوض في الإسلام لأنه تكريس للكسل والتضخم الوظيفي وإتلاف للمال العام وأما التأميم بمعنى نقل السيطرة والإشراف على مصادر الدخل من الأيدي الأجنبية إلى أيدي المسلمين فهو أمر واجب لازم.
وخلاصة هذا الأمر أن مبدأ الركاز مقنن معروف في الإسلام ولكن بالظروف الحادثة والمشاكل الجديدة يصبح نظر أهل الشورى لازمًا لإيجاد الصيغة المناسبة لتطبيق هذه الأحكام، ويستحيل عقلًا أن يكون لعقل واحد ورأي واحد النظر الأول والأخير في مثل هذه الأمور الخطيرة. وخاصة أن مثل هذه الأمور قد تحتاج إلى تشريع متدرج يناسب ظروف الانتقال والبنية الاقتصادية بنية معقدة جدًا ليس من اليسير تبديلها وتغييرها سريعًا. وتقدير الظروف والمناسبات وإمكانية التغيير والتبديل لا بد وأن يشترك فيه أهل الخبرة والرأي من المسلمين وهذا هو ميدان الشورى وعملها.

.ثالثًا: الغنائم:

المصدر الثالث من مصادر الدخل في الإسلام هو الغنائم ولقد كانت أعظم مصدر من مصادر الدخل يوم كان علم الجهاد في سبيل الله قائمًا، والفتوح تتوالى إثر الفتوح، واليوم يفقد المسلمون هذا المصدر بقعودهم عن الجهاد في سبيل الله، بل يفقدون ما في أيديهم من ديار وأموال. ومع ذلك يردد غوغاؤهم بأن الجهاد فريضة يجب أن تلغى ليس فقط من واقع المسلمين بل ومن عقولهم وحسهم!! ونظام الغنائم في الإسلام نظام مقنن أيضًا فيه نصوص واضحة جلية وقد اختلف المسلمون في عهد عمر بن الخطاب على أرض العراق الزراعية هل تقسم للفاتحين من جنود المسلمين حسب نصيبهم المقدر شرعًا أو توضع عليها ضريبة سنوية ويبقى فيئها للمسلمين على مدار الزمن للإنفاق في عدة الحرب وتجهيز الجيوش. واستطاع عمر رضي الله عنه ببصره الثاقب، واجتهاده الموفق إقناع المسلمين بإبقائها دون قسمة وفرض ضريبة سنوية عليها وهذا ما عرف باسم الخراج.
ولا شك أن ستوجد مثل هذه الغنائم في حالة محاولة المسلمين استرداد أرضهم وأموالهم وشرفهم في فلسطين، ولا بد أن ينشأ لذلك اجتهاد لوضع هذه الأموال مواضعها، وتصريفها حسب مصارفها الشرعية، وهذا كائن لا محالة بإذن الله لأنه مقتضى وعد الرسول صلى الله عليه وسلم الذي يخبر به عن الله تبارك وتعالى {والله لا يخلف الميعاد} ولا يمكن بالطبع الفصل في كل هذه القضايا برأي الحاكم الفرد بل هذا الأمر متروك لأهل الشورى من المسلمين.

.رابعًا: الصدقات:

الزكاة فريضة إجبارية تخرج على كل حال وأما الصدقات فنعني بها هنا التطوع الاختياري ببذل المال في سبيل الله وهذا متروك لتقوى المسلمين واختيارهم في الأحوال العادية، فالأوقاف، والصدقات الجارية وجعل حصة معلومة من المال بعد الموت إلى بيت مال المسلمين كل ذلك ساعد قديمًا على نشر العلم، ورفع علم الجهاد في سبيل الله وبالتالي في نهضة المسلمين وتقدمهم، ولكن هذه الصدقة تصبح إجبارية إلزامية في أحوال الأزمات والحروب، فللدولة في الإسلام أن تفرض فريضة إجبارية إلزامية في أموال المسلمين وذلك في أوقات المجاعات والحروب، وهذه الفريضة بالطبع لا تخضع لاجتهاد الحاكم وحده، بل لا بد أن يشارك في تقديرها علماء الأمة وأهل الرأي فيها، ومن المفروغ منه أنه لا يجوز فرض مثل ذلك إلا في حالة عدم وفاء المصادر السابقة وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: «لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه».

.خامسًا: الضرائب:

المصدر الخامس والأخير من مصادر الثروة أو بيت المال في الإسلام هو الضرائب، والمعروف المشهور أن الضرائب أو ما تسمى في الفقه بالمكوس محرمة شرعًا لأنها أخذ للمال بغير رضى وطواعية.
ولكن بعض علماء السنة كان له نظر في ذلك بحسب المصالح فلم ير هذا الفريق من العلماء بأسًا أن يفرض الحاكم ضريبة ما لسد ثغرة من الثغور في قيام الأمة ونهوضها كالحرب والتعليم والطرق. وفسر المكوس المنهي عنها شرعًا بالمكوس التي تؤخذ من الناس على وجه الظلم ولا يعود على دافعها من نفع منها، أما ما يأخذه الحاكم المسلم وينفقه في مثل الوجوه السابقة من ميزانية الحرب والتعليم والصحة وغير ذلك فإنه يعود بالنفع على مجموع الذين دفعوا هذه الضرائب والمكوس.
والفرق بين الضرائب والصدقات المفروضة أن الضرائب تفرض في الحالات العادية، وأما الصدقات المفروضة فإنها تفرض في حالات الاستثناء فقط.
ولا شك أن تقدير هذه الضرائب يعود إلى رأي أهل الشورى من المسلمين.

.وجوه الصرف في النظام المالي الإسلامي:

المصادر السابقة للدخل بعضها قد حدد له سلفًا الوجوه التي ينفق فيها وذلك بنصوص شرعية واضحة. فالزكاة قد حددت مصارفها من قبل الله تبارك وتعالى، وكذلك الغنائم فصلت قسمتها، وهناك مصادر أخرى يحدد مصارفها الضرورة والحاجة. فالصدقات في الضرورات كالأزمات والحروب والضرائب في حاجات الأمة المختلفة. وإذا كان هذان المصدران محتاجين إلى موافقة الأمة المتمثلة في أهل الشورى لإقرارهما. فإن الصرف أيضًا يحتاج إلى تقدير الأمة وإشرافها.
والمصارف السابقة المحددة بنصوص قابلة هي الأخرى للاجتهاد والرأي من وجهين:

.الوجه الأول:

تقدير حاجة كل قسم من الأقسام التي تصرف فيها الزكاة وإعطاؤه حسب الدخل الحاصل من هذه الفريضة. فالفقراء والمساكين والعاملون عليها، والمؤلفة قلوبهم، والرقاب والغارمون وأبناء السبيل والإنفاق في سبيل الله العام. كل قسم من هذه الأقسام يحتاج أن تقدر له حاجته حسب دراسة منظمة وتقدير صحيح.

.وأما الوجه الثاني:

فهو أن بعض هذه الأقسام المنصوص عليه شرعًا قد نضطر إلى الاستغناء عنه فترة ما لأنه لا يوجد مثلًا، أو لا فائدة في وقت ما من القسم له. ولذلك منع عمر بن الخطاب رضي الله عنه العطاء لمن أعطاهم الرسول تأليفًا لقلوبهم كالأقرع بن حابس وعيينة بن حصين الفزاري محتجًا أن ذلك وقد كان في المسلمين ضعف، وأن الآن فقد أغنى الله المسلمين عنهم. وأعز الإسلام. فإما ثبتوا على الإسلام، وإلا فالسيف حكم.
والعجيب أن الإمام أبو حنيفة أفتى بأن سهم المؤلفة قلوبهم قد انقطع بإعزاز الله للإسلام، واستدل بفعل عمر هذا، ولم يجعل هذه المسألة من مسائل الوقت والظروف، وفي هذا نسخ الآية من القرآن باجتهاد صحابي، وهو أمر مرفوض، والحق الذي لا مراء فيه إن شاء الله وهو ما قرره الإمام الشوكاني وغيره حيث قال: (والظاهر جواز التأليف عند الحاجة إليه، فإن كان في زمن الإمام قوم لا يطيعونه إلا للدنيا، ولا يقدر على إدخالهم تحت الطاعة إلا بالقسر والغلب فله أن يتألفهم ولا يكون لفشو الإسلام تأثير لأنه لم ينفع في خصوص هذه الواقعة).
وهذا ما ارتضاه أيضًا الشيخ رشيد رضا رحمه الله حيث أورد القول السابق وعقب عليه بقوله: (وهذا هو الحق في جملته، وإنما يجيء الاجتهاد في تفصيله من حيث الاستحقاق، ومقدار الذي يعطي الصدقات، ومن الغنائم إن وجدت، وغيرها من أموال المصالح والواجب فيه الأخذ برأي أهل الشورى كما كان يفعل الخلفاء في الأمور الاجتماعية، وفي اشتراط العجز عن إدخال الإمام إياهم تحت طاعته بالغلب نظر فإن هذا لا يطرد بل الأصل فيه ترجيح أخف الضررين، وخير المصلحتين).
وخلاصة الأمر أن النظام المالي في الإسلام خاضع كلية للشورى في الإسلام: أما من حيث الإشراف والمراقبة أو من حيث تقدير الضرورة والحاجة والمصلحة في تشريع مصادر إضافية لجمع المال كالصدقات والضرائب أو من حيث تقدير حاجة كل قسم وهذا ميدان عظيم من ميادين الشورى في الإسلام.
بقي أن أسجل في نهاية هذا الفصل أن أمم الغرب-وهذا من أسباب رقيها الدنيوي وتغلبها علينا- وقد طبقت جوانب هامة من هذا النظام من حيث الأخذ بحكم الإسلام في الركاز وجعل هذا ميدانًا للعمل الحر والشركات الأهلية التي تفرض الدولة عليها ضريبة للدخل تقارب كما قلت ما نص عليه الرسول صلى الله عليه وسلم، وبذلك استطاعت هذه الشركات الأهلية أن تنمي مصادر دخلها، وأن تعزز ميزانية دولها، والاستعمار الاقتصادي الذي نعاني منه الآن إنما هو استعمار لشركات أهلية أجنبية وليس لحكومات أجنبية. ولذلك فإني أوصي في هذا المقام أن ترفع الدول الإسلامية يدها عن كل أنواع الركاز، وتطرح هذا للشركات الأهلية الإسلامية وستستطيع أي شركة ناجحة أن تقوم مقام الشركات الأجنبية فالخبرة البشرية تشترى وكذلك المعدات والآلات، والمال نملكه والحمد لله، وستستطيع هذه الشركات الأهلية الإسلامية-إن وجدت- أن تستخرج أعظم ثروة وهي البترول من أرضنا، بل وستجد لها مجالًا في بلاد أخرى للتنقيب عن البترول والمعادن.