فصل: مقدمة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الشورى في ظل نظام الحكم الإسلامي (نسخة منقحة)


الشورى في ظل نظام الحكم الإسلامي

.مقدمة:

- الحمد لله الذي من على هذه الأمة الإسلامية بأن جعلها خير أمة أخرجت للناس طالما كانت آمرة بالمعروف ناهية عن المنكر مؤمنة بالله عز وجل، والحمد لله إذ اختار لهذه الأمة أقوم المناهج، وأسلس السبل، وهداها صراطه المستقيم لتسعد في الدنيا بالسير فيه، وتسعد في الآخرة بجنة الله ورضوانه.
- والصلاة والسلام على عبد ه ورسوله محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وأكرم الناس خلقًا، وأعظمهم سياسة وحكمًا، وخيرهم تابعًا، ملك فحكم بالعدل والمرحمة، وما رؤي متبوع في الأرض كان أكثر مشورة لأصحابه منه، وبذلك وغيره ألف الله له القلوب، وألان له غلاظها.
- وصلاة الله ورضوانه على خلفائه الراشدين الذين ساروا بالإسلام أجمل سيرة، فما استأثروا دون الأمة برأي، ولا حملوها على ما تكره وبذلك فداهم الحر والعبد ، وأحبهم القريب والبعيد إلا من في قلبه إحنة وفي عقيدته زيغ.
وبعد:
- فإن موضوع الشورى في الإسلام من أخطر الموضوعات وأجلها لأنه أهم الأمور في تسيير شئون المسلمين، ورسم سياستهم ولقد كان أيضًا هو أول الأركان هديًا وإقصاء من نظام الحكم الإسلامي كما قال الحسن البصري رحمه الله: (أفسد أمر هذه الأمة اثنان: عمرو بن العاص يوم أشار على معاوية برفع المصاحف، والمغيرة بن شعبة حين أشار على معاوية بالبيعة ليزيد، ولولا ذلك لكانت شورى إلى يوم القيامة) (تاريخ الخلفاء للسيوطي ص79)، ولذلك بقي هذا الحكم معطلًا في ظل الأنظمة الإسلامية التي تلت ذلك اللهم إلا لمحات قليلة كانت الشورى تطبق تطبيقًا جزئيًّا تافهًا. ولذلك فقد فسدت أنظمة الحكم، وسارت وفق الهوى والاستبداد أزمانًا طويلة حتى ألف المسلمون هذا الفساد والاستبداد، وظنوا مع مرور الزمن أن هذا جزءا من النظام الإسلامي نفسه، ومن تشريع رب العالمين.
ولقد هالني يومًا أن يقدم لي أخ مجموعة من المجلات كتب فيها بحثًا عن الشورى فما قرأتها حتى أصابني غم شديد لأن كاتب المقال جعل هذه الصور المشوهة حجة في دين الله عز وجل بل تطاول إلى مقام الرسول صلى الله عليه وسلم فزعم أنه كان يبرم الأمور بغير شورى، وما دام الأمر كذلك عنده فالحاكم المسلم له ذلك. ثم زعم أيضًا أن الأخذ برأي الأغلبية نظام غربي وليس من الإسلام ولا يقول به إلا من تأثر بهذه النظم التي وصفها بالفساد والفشل.
- فرأيت لزامًا علي دفاعًا عن حق الرسول صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين وتصحيحًا لما نسب للإسلام زورًا أن أبين هذا الأمر الخطير، فأصدرت أربع مقالات متتابعة في مجلة البلاغ الكويتية في الرد على تلك المقالات، ثم رأيت أن جلاء أمر الشورى جلاء موضوعيًّا وبحثها بحثًا مستفيضًا كاملًا لا بد له من دراسة أخرى فأخرجت بحمد الله ست مقالات أخرى في جريدة المجتمع تلقاها الناس بقبول حسن، والحمد لله على توفيقه، ثم استكملت بقية بحوث الشورى في فترات متقطعة لزحمة الأعمال حتى ظننت بحمد الله أن الأمر قد جاء وافيًا مبرزًا لهذه الحقيقة موضحًا لها.
- وقد قرأت كثيرًا مما كتب الأقدمون والمحدثون بهذا الشأن ولست أدعي مع ذلك إحاطة بالموضوع، ولا وفاء له من كل وجه، ولكنه محاولة أظنها ستسهم كثيرًا في توضيح هذا الأمر الذي تضاربت فيه الأقوال، وتصارعت فيه الآراء. ولقد ظننت أيضًا بعد تمامه أن الموافق لي في الرأي سيفرح بذلك كثيرًا لأنه سيلمس الدليل لمسًا، وأما المخالف فإنه سيغير رأيه إن شاء الله هذا إذا كان خلافه لنقص في الدليل أو لعدم وضوح في الحجة، وأما من اتبع هواه فلا يملك أحد له هداية إلا إذا أقلع عن الهوى.
- وقد قسمت البحث بعد تمامه إلى ستة فصول فالفصل الأول يتحدث عن حقيقة الشورى وماهيتها وهو بمثابة المدخل لهذا البحث، والثاني يتكلم عن ورود هذا المبدأ مجملًا في القرآن ليس تطبيقه حسب ظروف الأمة المسلمة ولذلك فقد طبق لصور كثيرة من سنة الرسول صلى الله عليه وسلم وفي سنة خلفائه الراشدين من خلفائه، والفصل الثالث يتحدث عن طرق العمل بالشورى في الإمامة العامة وهي الخلافة والحكم أو الجماعات الخاصة كجماعة الدعوة وغيرها. والفصل الرابع يتحدث عن مجالات الشورى في الإسلام وهو مقسم إلى ستة أقسام: سياسة الأمة في الحرب والسلم، وأولويات التطبيق للأحكام الشرعية، واختيار الإمام أو الخليفة، وتوجيه النظام المالي، ورقابة الحكم وتسديده، وبحث أحكام المعاملات الحادثة وكل ذلك داخل في العمل الذي يقوم به رجال الشورى.
وأما الباب الخامس فإنه يتحدث عن أهل الشورى وطرق اختيارهم.
والباب السادس هو زبدة البحث وثمرته ويتكلم عن كيفية الوصول إلى الرأي الأخير في الشورى.
وقد ألحقنا بهذا البحث المناقشات التي دارت مع الأستاذ محمد سلامة الذي رددت عليه في مجلة البلاغ وذلك لما في هذه المقالات من فوائد عديدة، ففيها رد على كثير من الشبه حول هذا الموضوع الخطير.
وفي الختام أسأل الله تبارك وتعالى أن ينفع بهذا البحث المخلصين من هذه الأمة وأن يكون في جلائه خروجًا من الاستبداد والظلم الذي تعيشه الأمة، وحماية لجماعات الدعوة الإسلامية من فساد التنظيم، وضعف الإرادة، وإرشادًا للفرد المسلم حتى يؤسس بيته وعمله ونظام حياته وفق الشورى، وأسأله تعالى أن يجعل عملي هذا خالصًا لوجهه الكريم.
عبد الرحمن عبد الخالق
الكويت 20 من المحرم سنة 1395 هـ.
الموافق 2 فبرايـــر سنة 1975م.

.مدخل إلى الشورى:

مر على الناس-في هذه الأرض- أزمان من الظلم والتسلط والاستبداد وكلها كانت من ظلم الإنسان لأخيه الإنسان، فالظلم من طبائع النفوس ولا ينفك عنه إلا من علمه الله ووفقه وهداه.
وكانت رسالات الله إلى الناس داعية أول ما تدعو إلى العدل والإنصاف وهو ثمرة توحيد الله والإيمان به، فالكافرون هم الظالمون والمؤمنون هم الأتقياء العادلون الرحماء. وعلى هدي هذه الرسالات قامت في الأرض في فترات من حياة الناس حياة طيبة زاخرة بالحب والألفة والتراحم والتكافل والعدل. خلصت الناس من عبادة العباد إلى عبادة الإله الواحد سبحانه وتعالى.
والإنسان يتسلط على أخيه الإنسان حالما يملك طريقًا إلى ذلك ولهذا ذاق الناس ظلم الأغنياء لأن المال قوة بأيديهم وظلم ذوي السلطان لأن السلطان قوة بأيديهم ولذلك كان من هدي الإسلام تفتيت هاتين القوتين وتوزيعهما حتى لا تتجمع واحدة منهما في أيد قليلة أو يد واحدة فيقع الناس تحت القهر والظلم.
ففي المال كانت الزكاة، والميراث، ونصيب الفقراء من الفيء والغنائم وتحريم الربا والاحتكار والغش، وكل هذا حتى لا يكون المال متداولًا في أيد قليلة تتسلط بواسطته على رقاب الناس.
وفي السلطات كانت الشورى ومبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وذلك لتولية الحاكم الكفء وعزله إذا ذهبت كفاءته ونصحه إذا ظلم ومعاونته على الخير ومنعه من الغي.
فما الشورى، هذا التشريع الرباني الفريد الذي يقوم نظام الحكم العادل عليه؟ وكيف نستطيع تطبيقه على وجهه الأكمل وذلك في الولايات العامة والإمارات الخاصة؟ هذا ما سأحاول في مقالات متتابعة-مستعينًا بالله عز وجل- أن أجلو وجه حقيقتها وأن أنفي ما علق عليها من شبه الضالين وتحريف المغالين والله سبحانه أسأل القصد والاعتدال، إنه السميع العليم.

.حقيقة الشورى:

عندما ندرس الشورى الإسلامية دراسة شاملة، لا بد لنا من بيان العدد من القضايا التي يقوم عليها هذا النظام وتتلخص في الإجابة عن الأسئلة الآتية:
1- ما حقيقة الشورى في الإسلام؟ وما تعريفها، وما هي حدودها؟
2- أهل الشورى من هم؟ هل هم جميع المسلمين أم أناس مخصوصون؟ وإذا كانوا مخصوصين فما الاعتبار في اختصاصهم؟ وكيف الوصول إليهم؟ وهل هو بتعيين من الإمام؟ أم بالترشيح من الناس أم بغير ذلك؟.
3- ما هو ميدان العمل عند أهل الشورى؟ هل هو ميدان النصوص فهمًا وتطبيقًا؟ أم ميدان الجديد من المعاملات تشريعًا وتقنينًا؟ وهل هو ميدان الحرب والسياسة فقط؟ أم ميدان الحياة بكاملها؟
4- الحكم الأخير في الشورى هل هو لغالبية المستشارين؟ أم لاجتماعهم؟ أم هو للإمام فقط:
ومقال اليوم-إن شاء الله- سيكون لبيان حقيقة الشورى والتعرف عليها ليظهر لنا مدلول لفظها-الشورى- واضحًا جليًّا.
وجاء-أشار- بمعنى استخرج العسل واجتناه من مواضيعه، وجاء معنى أومأ بيده أو برأسه.
فكان المستشير يطلب إشارة الناس إلى مواضع الحق والخير في الأمر المشار فيه.
والمعنى المنقول لكلمة الشورى هو: استطلاع الرأي من ذوي الخبرة فيه للتوصل إلى أقرب الأمور للحق.
وحسب التعريف السابق ندرك الحقائق التالية:
1- لا بد لتحقيق الشورى من تصفح الآراء والأفكار في الأمر المشار فيه من كل صاحب رأي وفكرة.
2- الأمور المقطوع بأنها حق ليست مجالًا للشورى، ولا هي داخلة فيها. فالحقائق الثابتة في أمور الدين والدنيا ليست مجال نقاش وآراء لأنه مجمع على أنها حق ولا مجال للاختلاف فيها.
وحسب ما مضى ندرك-نحن المسلمون- أن حقائق الإسلام الثابتة ليست من مجالات الشورى عندنا: فكون الإسلام حق الصلاة واجبة والجهاد فرض والخمر حرام والزنا حرام أمور قد سلمنا بها بشهادتنا أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وعرض هذه الأمور وأمثالها على الشورى كفر بالإسلام وخروج من دائرته.
وليس بقبيح لو اجتمع قوم من غير المسلمين ليتشاوروا أدين الإسلام حق أم لا؟
بل يجب عليهم أن يتشاوروا ويذكر بعضهم بعضًا بذلك كما وعظهم الله عز وجل بهذا عندما قال تعالى:
{قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة إن هو إلا نذير بين يدي عذاب شديد}.
فنحن لا نستنكر اجتماع غير المسلمين للتشاور في شأن دين الإسلام ولكننا نرى أن المسلم يكفر إذا ما دعا الناس للتشاور في شأن القصاص هل هو عدل أم لا، وفي قطع يد السارق هل هو حق أم لا، وفي شأن الخمر هل نحرمها أم لا؟
لأنه بذلك يهدم إسلامه السابق إذ من مقتضى الإيمان الإقرار بحكمة الله وعلمه والإيمان بتشريعه كله سبحانه وتعالى..
3- الأمور التي تدخل في إطار الشورى غالبًا ما يكون الحق والمصلحة فيها مظنون من الجميع ولا يستطيع أحد أن يجزم به، وقد يعلم الحق في بعض أمور الشورى إذا كان عند أحد المستشارين نص واضح جلي من الكتاب أو نص صحيح صريح من السنة وسأضرب لكل نوع مما سبق أمثلة يتضح بها المقام إن شاء الله:
مثال الأمر الأول وهو الذي يظن الحق فيه ولا يقطع به: أمور الحرب والسلام والمعاهدات، فكم من دول دخلت حروبًا وهي تظن أن النصر معها والمصلحة في خوضها ثم باءت بالخيبة.
وكم من دول أخرى أبرمت معاهدات وعقدت صلحًا وهي تظن الخير لها في ذلك وكان العكس هو الصحيح.
وهذا الأمر يعم كل الأمم ولا يخص دولة دون دولة، فقد أبرم رسول الله صلى الله عليه وسلم صلح الحديبية وهو مسلم لأمر الله تبارك وتعالى غير عالم بنتائجه إلا أنه قال: «إنه ربي، ولن أخالف أمره، ولن يضيعني». فقد كان منفذًا لأمر الله تبارك وتعالى مؤمنًا بأن العاقبة ستكون له بمشيئة الله سبحانه وتعالى وقد أنكر صحابته غالبيتهم أمر هذا الصلح إنكارًا شديدًا، ولكن كانت عاقبته أن كان أعظم فتح في الإسلام.
وقد أشار بعض المسلمين على الرسول صلى الله عليه وسلم بالبقاء في المدينة في غزوة أحد، وألح عليهم آخرون بالخروج، والكل يقدر جانب المصلحة في ذلك لم يكن أحد منهم يقطع أين يكون الخير، قد كان احتمال النصر مع الخروج واردًا بل محققًا لولا مخالفة الرماة أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
والشاهد أن أمور الحرب والسلم والسياسة والمعاهدات أمور لا يقطع عند المشاورة فيها بالحق والخير والصواب، وإنما بترجيح جانب المصلحة، ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوصي قواده الذين يرسلهم في الغزو قائلًا:
«وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله فلا تنزلهم على حكم الله ولكن أنزلهم علي حكمك، فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا».
فيستفاد من قول الرسول صلى الله عليه وسلم «فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا» أن حكم الله في هذه الأمور مظنون وليس بمقطوع به. ألم تر أن الله عاتب رسوله والمؤمنين لقبولهم فداء الأسرى في بدر، وأخبرهم أن الحكمة والمصلحة كانت تقتضي قتل الأسرى في هذه الغزوة وذلك حتى تخضد شوكة الكفار فلا تقوم لهم قائمة بعد.
وليس أمام أمير مسلم يحاصر أهل حصن وينزلوا على حكمه احتمال واحد لإبرام الصلح على أساسه بل أمامه عشرات الاحتمالات والشروط وكلها يستند إلى نصوص من الكتاب والسنة، فهل يقتل مقاتلتهم ويسبي نساءهم وذراريهم كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ببني النضير وبني قينقاع. أم يمن عليهم جميعًا، أو يفادي برجالهم أسارى المسلمين ببلاد الكفار كما قال تعالى: {فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منًا بعد وإما فداءًا حتى تضع الحرب أوزارها} وهل يترك لهم معابدهم ويسمح لهم باستحداث شيء جديد، أم يترك لهم الموجود منها فقط أم يصالحهم على هدم البعض وتحويله إلى مساجد؟ وهل يصالحهم على ترك أرضهم لهم أم يأخذها منهم؟.. كل هذه احتمالات واردة وكل منها قد فعله المسلمون في حروبهم وكلها في شأن أمر جزئي وهو:
استنزال قوم من الكفار من حصن من حصونهم، أي قبول بلدة.
ما مصلحة المسلمين، والنزول على حكمهم بعد حصارهم؟
وأقول: من يستطيع اليوم أن يقطع بالحق والخير والمصلحة للمسلمين في شأن يهود فلسطين عندما ينصر الله المسلمين وهذا آت لا محالة بإذن الله! هل يجلون من فلسطين إلى الديار التي أتوا منها، أم تقتل مقاتلتهم وتسبى نساؤهم وذراريهم كما فعل بيهود بني قريظة، أم يمن عليهم ويعيشون كمعاهدين وأهل ذمة؟ وإذا كان ذلك فما هي نوع الحريات التي تعطى لهم والتي تمنع منهم؟ أم يجلى من هاجر بعد عام 1948 ويترك من هاجر منهم قبل ذلك؟ وهل تعود الأرض إلى أربابها الذين تركوها وهاجروا من أهل فلسطين، أم تكون غنيمة للمحاربين؟ وهل توزع أم تكون أرضًا خراجية؟ وأملاك اليهود التي أحدثوها هل تصبح ملكًا للدولة أم للمحاربين؟ احتمالات كثيرة وآراء مختلفة متباينة، ويستطيع كل صاحب رأي من الآراء السابقة أن يدعم أقواله بآية من كتاب الله أو حديث من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن من زعم أن الحق والصواب والمصلحة في رأيه هو فقد أخطأ خطأ بينًا وتحكم في دين الله عز وجل ولا يستطيع أحد أن يجزم بالصواب والمصلحة في مثل هذه الأمور إلا بعد وقوعها ومعرفة نتائجها وعلى قياس هذه النتائج يكون تقدير الرأي والحكم عليه بالمصلحة أو المفسدة.
وللقارئ عذري- إن أطلت في بيان هذا الأمر وضرب الأمثلة من الوقائع السالفة والوقائع المرتقبة والحديثة.
وذلك أن بعض الناس ممن يزعم العلم الديني يفتي في مثل هذه الأمور ويجزم بأن الحق معه ويرم بالجهل والفسق بل والكفر أحيانًا من خالفه الرأي.
ولكن هناك أمورًا أخرى من أمور الشورى قد يعرضها إمام المسلمين للمشاورة ويكون الحق فيها معلومًا بالنص عند بعض الناس، وهذا مثاله الحادثة المشهورة في مشاورة عمر بن الخطاب للمسلمين في دخوله ومن معه أرض الشام بعد أن وقع بها الطاعون، فإن أبا عبيدة بن الجراح قال لعمر: ما أرى أن ترجع بل أنت قادم لأمر لا بد من نفاذه ثم أنفر من قضاء الله!؟ ولكن آخرين وجدوا المصلحة في غير ذلك وقالوا: يا أمير المؤمنين، ارجع بمن معك، ولا تقدمهم على هذا الوباء فتعرض نفسك ومن معك للخطر!!
فشاور عمر المهاجرين الأول ثم الأنصار فلم يختلف عليه اثنان أن يجب عليه الرجوع فقال لأبي عبيدة: يا أبا عبيدة، نفر من قضاء الله إلى قضاء الله! ثم جاء عبد الرحمن بن عوف -وكان غائبًا- فلما علم بذلك قال: عندي في ذلك علم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال رسول الله: «إذا وقع الطاعون بأرض فلا تدخلوها ولا تخرجوا منها» فانحسم الأمر وعرف الحق المقطوع به وليس المظنون لأن مستنده نص ظاهر جلي، ولو علمه عمر أولًا ما استشار الناس في هذا الأمر، ولو علمه أبو عبيدة قبل هذا ما قال لعمر: كيف تفر من قضاء الله؟!
والمقصود بهذه الأمثلة بيان أن بعض أمور الشورى قد يتوصل إلى الحق فيها إذا كان هناك دليل ظاهر جلي وليس هناك دليل مخالف له أو معارض، والبعض الآخر لا يمكن القطع فيه بالحق والخير والمصلحة قبل حدوثه.