فصل: كيف نصل إلى الرأي الأخير في الشورى؟

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الشورى في ظل نظام الحكم الإسلامي (نسخة منقحة)



.كيف نصل إلى الرأي الأخير في الشورى؟

السؤال الأخير في موضوع الشورى، هو: كيف الوصول إلى الرأي الأخير في الشورى. هل الإمام مخير في أن يقبل مذعنًا لرأي أغلبيتهم أم له أن يرفض ذلك ويعدل إلى رأي القلة؟ وما يجب أن يلتزم بإجماعهم أم له أن يرفض رأيًا أجمعوا عليه ويمضي ويحمل الأمة على رأيه هو وإن خالف هذا الإجماع.
في هذه المسألة نجد للباحثين المعاصرين والمحدثين من المسلمين آراء.
رأي يقول بأن الإمام مخير في قبول رأي الأكثرية من أهل الشورى أو رفض ذلك، والحكم الأخير له مطلقًا سواء وافق آراء الناس أم خالفها ويجب على الأمة-مع ذلك- السمع والطاعة له ما دام أن هذا اجتهاده ورأيه، بل لا يجوز له-في نظر هؤلاء- أن يذعن لآرائهم، وأن يرضخ لجمهورهم..
ويرون أن الشورى بالنسبة للإمام ما هي إلا للاستنارة. والتوضيح فقط. فهي كما يقال إعلام للأمير لا إلزام.
ورأي آخر يقول بل الإمام في الإسلام ملزم برأي الأغلبية، ويجب عليه تنفيذ ما اتفقوا وأجمعوا عليه، ولا يجوز له أن يخالف جمهورهم ولذلك يقولون الشورى ملزمة للأمير لا معلمة له فقط.
ورأي ثالث يقول بل الأمر في ذلك حسب رأي الأمة إن رأت أن تجعل الأمر للأمير مطلقًا فعلت وإن رأت أن تقيده بآراء أكثرية المستشارين فعلت لأن الإمام نائب عن الأمة والأمر دائر على المصلحة فإن وجدت الأمة أن مصلحتها في تفويض الحاكم لكفاءته وظروف الناس كان لها ذلك، وإن رأت أنه يجب تقيد صلاحياته بإجماع أهل الشورى أو برأي أكثريتهم فلها ذلك أيضًا.
ونحن نناقش بحول الله هذه الآراء جميعًا فنعرض حجة كل فريق منهم وأدلتهم ونناقش هذه الأدلة ونرجح بالدليل الرأي الصواب بحول الله وقوته.
أولًا: أدلة القائلين بأن الشورى معلمة فقط:
استدل هؤلاء بالأدلة الآتية:
أ- قول الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم {وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله} فأضاف الشورى للمسلمين، وجعل العزم-وقد فسروه بالرأي الأخير- للرسول وحده. قالوا فهذا دليل على أن الاختيار إنما هو للأمير فقط.
ب- وأما الدليل الثاني فهو قولهم أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه استشار الناس في المرتدين وخالفته الأغلبية وقالت: كيف نقاتل أقوامًا شهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله.. فقال: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة فإن الزكاة حق المال.. والله لو منعوني عقالًا كانوا يؤدونه لرسول الله لقاتلتهم عليه.
وزعموا- فأذعن المسلمون لرأيه ونزلوا عند حكمه وحاربوا المرتدين وتركوا أقوالهم.
ج- وأما دليلهم الثالث فهو زعمهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صنع أشياء كثيرة برأيه ولم يقبل فيها آراء أصحابه: كصلح الحديبية وقتال بني قريظة.
د- والدليل الرابع قولهم أن الحكم بالأغلبية نظام غربي ديمقراطي وليس نظامًا إسلاميًّا، فالقائلون بوجوب الأخذ برأي الأغلبية متأثرون-في زعمهم- بالنزعة الغربية التي تسود الآن المجتمعات الإسلامية.
هـ- وأما دليلهم الخامس فهو قولهم لو كان الحكم برأي الأغلبية شيئًا مقررًا في الشريعة الإسلامية لكان أحد بحوث الفقهاء ولحدد نصاب الشورى في الفقه ووضعت قوانينه ونظمه كما هي بقية بحوث الفقه.
و- إن الكثرة قد جاء ذمها في القرآن في آيات كثيرة كقوله تعالى: {وما أكثر الناس لو حرصت بمؤمنين} هذه الأدلة هي التي تذرع بها القائلون بأن الإمام في الإسلام غير ملزم شرعًا-بل ولا يجوز أن يلزم- برأي الأغلبية.
ولنناقش معًا هذه الأدلة لنرى هل هي أدلة صحيحة تقوم بها الحجة أم لا..
أ- الاستدلال بالآية على المراد غير صحيح لأن الآية تلزم بوجوب الشورى ولا تنص على كيفية الوصول للرأي الأخير فالله يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم: {وشاورهم في الأمر} وهذا أمر من الله ظاهره الوجوب وإذا كان واجبًا في حق الرسول فغيره أولى بهذا، ثم يقول له: {فإذا عزمت فتوكل على الله} ولم يبن الله مستند هذا العزم والرأي الأخير الذي يكون عليه العزم هل هو رأي من استشارهم أم رأيه هو بل قال له: {فإذا عزمت} أي على رأي ما ولم ينص ما هذا الرأي هل هو رأي الرسول نفسه بعد الشورى أو رأي من استشارهم. ومن قال هنا أن العزم يكون على رأي الرسول الذي اختاره، ولو كان هو الرأي المخالف لرأي من استشارهم فقد تحكم على القرآن وقال فيه بغير علم وحمل الآية ما لم تحمل.
وقد فسر الرسول صلى الله عليه وسلم الآية عمليًّا عندما استشار أصحابه في أحد فأشار جمهورهم بوجوب الخروج للقاء العدو خارج المدينة مخالفين بذلك رأي الرسول صلى الله عليه وسلم ولما أخذ برأيهم خشوا أن يكونوا قد ألزموا الرسول بشيء يكرهه فأرادوا بعد أن لبس الرسول صلى الله عليه وسلم لأمة الحرب ودرعه أن يتنازلوا عن آرائهم فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يحل لنبي أن يخلع لأمة الحرب بعد إذ لبسها حتى يفصل الله بينه وبين عدوه» وهذا معنى: {فإذا عزمت فتوكل على الله} أي إذا استقر الرأي على أمر فلا يجوز العدول عنه.
وبهذا يتبين أن هذا الدليل لا حجة فيه للقائلين بأن نص في أن الإمام مخير في الأخذ برأي الشورى أو رأي نفسه.
ب- وأما الدليل الثاني وهو الزعم بأن أبا بكر الصديق رضي الله عنه ألزم المسلمين برأيه في حرب المرتدين فهو باطل كل البطلان لأن أبا بكر الصديق لم يلزم المسلمين بشيء على غير إرادتهم ولكنه رأي قتال مانعي الزكاة وإن صلوا وخالفه في هذا جمهور المسلمين كما سلف فناقشهم وأقنعهم أن الزكاة أخت الصلاة ومن منع الزكاة كمن منع الصلاة ولذلك يقول عمر رضي الله عنه وقد كان زعيم هذه المعارضة (فوالله ما رأيت أن الله شرح صدر أبي بكر للقتال حتى علمت أنه الحق) فعمر اقتنع برأي أبي بكر قبل أن يعزم المسلمون على قتال المرتدين ثم جاء الحديث الصحيح الذي قال عبد الله بن عمر موافقًا لرأي أبي بكر وهو قوله صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة فإن فعلوا ذلك فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله» (البخاري ومسلم) فالمسلم لا يأمن سيوف المسلمين بنص الحديث حتى يؤدي الصلاة والزكاة بعد أن يكون شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله.
ولما وضحت هذه الحجج للمسلمين أخذوا برأي أبي بكر الصديق عن اقتناع وإيمان ولم يكن إذعانًا لرأيه وهم مقتنعون بوجوب الطاعة للإمام فقط وإن خالفهم رأيهم.
ولو كان هذا واقعًا- لكان الصحابة آثمين أعني لو أن الصحابة رضوان الله عليهم أطاعوا أبو بكر الصديق رضي الله عنه وهم يرون أن المرتدين لا يجوز قتالهم لأنهم مسلمون لكانوا آثمين أشد الإثم بل وعاصين لله لأنهم أطاعوا أميرهم في معصية عظيمة وهي قتل أناس مسلمين لا يجوز قتالهم. فهل يريد أصحاب هذا الرأي أن يصفوا الصحابة بذلك؟
بالطبع لا.. ولكن أوقعهم في هذا الخطأ الشنيع عدم سير الأمور سيرًا حقيقيًّا وتعجلهم في إصدار الحكم والأخذ بظواهر ظنوها أدلة وما هي بأدلة.
ج- وأما الدليل الثالث وهو الزعم بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل أشياء كثيرة بغير شورى كصلح الحديبية الذي كان على خلاف رأي الصحابة وقتال بني قريظة- فهو جهل فاضح أيضًا وقد بينت هذا في مقال طويل وذلك في معرض الرد على الأستاذ محمد سلامة الذي ادعى هذه الدعوى وخلاصة ذلك أن صلح الحديبية كان بأمر من الله تعالى بدليل قول الرسول صلى الله عليه وسلم لعمر «إنه ربي ولن يضيعني»، وأما غزوة قريظة فقد جاء في صحيح البخاري أن جبريل جاء قبل الظهر ليقول للرسول صلى الله عليه وسلم «إن ربك يأمرك أن تخرج إلى بني قريظة».
ونحن نقطع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قطع في أمر ما من أمور المسلمين العامة إلا بوحي أو شورى بل قال أبو هريرة رضي الله عنه (ما رأيت أحدًا أكثر مشورة لأصحابه من رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه).
ولم يثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ برأي الأقلية في أي من الأمور التي شاور فيها أصحابه أبدًا وسيأتي تفصيل ذلك لهذا الأمر عند بيان قول القائلين بوجوب الأخذ برأي الأكثرية.
د- وأما القول بأن الأخذ برأي الأكثرية نظام غربي وديمقراطي وليس من الإسلام هو خطأ من وجوه كثيرة.
أولًا: أنه ليس كل شيء في النظم الغربية باطلًا ومخالفًا للإسلام بل بعض هذه النظم والقوانين لا تخالف الإسلام فكون الحاكم يجب أن يرضى عنه جمهور الأمة، لا ينافي الإسلام وهو أحد القوانين في النظم الديمقراطية وكذلك عزل الحاكم إذا أساء، ولا نستطيع أن نلغي مثل هذه القوانين من نظام الإسلام لأنها أصبحت جزءًا من النظام الديمقراطي.
ثانيًا: حصر عمر رضي الله عنه الحكم في ستة عندما فوضته الأمة في اختيار نائب له فأبى أولًا ثم رضخ بعد إلحاح لهذا ثم أخبر أنه إذا اجتمع أربعة على واحد وخالف اثنان فلا يعتد برأيهما فينصب خليفة للناس وإذا انقسم الستة إلى ثلاثة وثلاثة فعبد الله بن عمر مرجح لأحد الرأيين ولو كان الأخذ بقول الأغلبية منافيًا للإسلام لما وافق الصحابة عمرًا على رأيه هذا ولقالوا له: لقد ابتدعت بدعة عظيمة في الإسلام فكيف يكون الاختيار بترجيح واحد أو بموافقة الأغلبية بل الأمر لك وحدك.
وإقرار الصحابة له وعدم وجوب مخالف في ذلك إلى يومنا هذا دل على أنه إجماع على أن نظام العدد والتصويت معمول به في شريعة الإسلام وفي سنة الراشدين. وليس نظامًا غربيًّا كما يدعي المدعون، فليس رأي الأكثرية عورة يجب نزعها من الإسلام نزعًا ونسبتها للغرب.
هـ- وأما الحجة الخامسة وهي أن نظام العدد والتصويت لو كان من شرائع الإسلام لذكرته كتب الفقه، وحددت نصابه ونظامه فهو أيضًا قول مقذوف على عواهنه. فكتب السير ذكرت حادثة عمر هذه وجعلت بيعة الإمام بموافقة أهل الشورى وجمهور المسلمين بل قال أبو بكر الصديق للأنصار يوم السقيفة (إن العرب لا تجتمع إلا على هذا الحي من قريش) أي أن جمهور العرب يجمعون ويجتمعون على قريش ولا يمكن أن يرضى جمهورهم عن أنصاري.
وسيأتي في بيان مسوغات الأخذ برأي الأغلبية أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ما كان ليخالف جمهور مستشاريه قط بل أن الرسول صلى الله عليه وسلم ليقول لأبي بكر وعمر «ولو اجتمعتما على رأي ما خالفتكما».
وإذا كانت كتب الفقه التي اهتمت بالفروع قد كتبت في عهود تعطل فيها العمل بالشورى في ظل أحكام أخذت الوراثة في الحكم، والاستئثار بالأمر دون المسلمين، فهل يكون هذا الواقع حجة في دين الله؟ إلا أنها حجة واهية.
و- وأما الحجة السادسة لأصحاب القول الأول وهي أن الكثرة قد جاءت مذمومة في القرآن في آيات كثيرة كقوله تعالى: {وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين} الآية في قوله تعالى: {وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله} قالوا وزعموا: ويؤخذ منها أن الكثرة على ضلال، وما دام الأمر كذلك فلا يؤخذ برأيهم ولا يحكم بحكمهم.
ولم أر قولًا في الباطل كهذا القول. إذ هو إنزال للآيات في غير منازلها وتطبيق لها في غير واقعها. فالكثرة المذمومة هنا هي كثرة الكفر والضلال لا مجموع الأمة وجمهور خيارها.
فالأمة بمجموعها معصومة عن الخطأ كما هو مقرر في أصول الفقه، وجمهور الأمة أقرب إلى الصواب من القلة في الأمور التي لا نص فيها فانظر كيف يستدل بالآيات في غير مواضعها، وتنزل على غير أحكامها ومنازلها.
وبهذا النقاش الموضوعي تتداعى تلك الحجج الوهمية التي تذرع بها من قال بأن الإمام في الإسلام غير ملزم برأي الأغلبية ومن قال أن اتباع رأي الأغلبية مناف للشريعة الإسلامية.
ولنأت الآن إلى نقاش أصحاب الرأي الثاني وهم القائلون بأن الشريعة الإسلامية توجب على الإمام الشورى، وتوجب عليه أيضًا الرضوخ لرأي جمهورهم والحكم مطلقًا بالرأي الذي يجمعون عليه وتتلخص حجتهم في الأدلة الآتية:
أ- حدوث وقائع كثيرة تدل على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل عن رأيه لرأي جمهور أصحابه، بل عدم ورود حادثة واحدة تدل على أن الرسول تمسك برأيه في أمر شورى أعني أمرًا ليس موحى به. وكذلك كانت سنة خلفائه الراشدين إنهم ما تمسكوا بآرائهم في وجه الشورى قط بل قضوا دائمًا بالنص أو بما اتفق عليه جمهور الأمة.
ب- قالوا، لا فائدة من الشورى لو أن الأمير له الخيار بعد الشورى أن يختار ما يشاء ولو خالف إجماع أهل الشورى.
ج- قالوا: إنه لو كان هذا مقررًا في الشريعة وهو أن الأمير غير ملزم إلا برأيه لكان هذا مدعاة إلى التسلط والقهر، وإلغاء لرأي الأمة، وإتلافًا لإجماعها وهي معصومة من الخطأ كما تقرر في الأصول، والأمير غير معصوم من الخطأ. فكيف يحكم غير المعصوم على المعصوم.
د- قالوا: لو فرضنا جدلًا أنه ليس في الشريعة الإسلامية ما يقرر بأن الأخذ بحكم الأكثرية واجب وقد اتفقنا على أنه ليس في الشريعة أيضًا ما يحرم ذلك. فإن الأولى والأحرى أن نشرع ذلك الآن لأن المصلحة المرسلة تقتضي ذلك.
هـ- قالوا أيضًا يكفي الأمة ما لاقت من عصور الاستبداد وإبرام الأمور في غيبتها، وإهدار آراء علمائها وذوي الرأي فيها.
هذه هي أصول الأدلة التي استدل بها من يقول بأن الإمام في الإسلام ملزم برأي أغلبية مستشاريه. ولمناقشة هذه الأدلة أيضًا نقاشًا موضوعيًّا.
أ- أما أن الرسول صلى الله عليه وسلم في أمور الشورى وهي غير الأمور التي جاء بها الوحي قد نزل عند رأي أصحابه ولم يخالف رأي جمهورهم قط. فنعم. فقد فرح رسول الله صلى الله عليه وسلم برأي أصحابه الذي استشارهم في بدر فقد وافق أبو بكر على لقاء نفير قريش وكذلك عمر، وقد ألهبت خطبة المقداد المشاعر، وقد سره جدًا أن يكون رأي الأنصار كذلك وذلك في خطبة سعد بن معاذ الخالدة التي قال فيها: (والله لو خضت بنا هذا البحر لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد) ونحن نقطع الآن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لو أشير عليه بالرجوع لرجع إلا أن يكون في الأمر وحي من الله، ولو كان في بدر وحي لما استشار الرسول أصحابه ولقال لهم: إن الله يأمركم بلقاء قريش الآن.
وكذلك في أحد رأينا أنه رضخ لرأي جمهور صحابته الذين تشوقوا للقاء العدو وإن كان هذا على خلاف رأيه، وهو يعلم مقدار الآلام التي ستتحملها الأمة فقد رأى في رؤياه أن بقرًا تذبح وأن ثلمًا في ذباب سيفه وقد أوله صلى الله عليه وسلم بقتل عدد من أصحابه وقتل رجل من أهل بيته. ومع ذلك أذعن رسول الله صلى الله عليه وسلم للخروج.
وفي الخندق رجع عن رأيه لرأي السعدين: سعد بن معاذ وسعد بن عبادة وذلك بعد أن كتب كتابًا مع رؤساء غطفان، وأقرهم على قطف ثمار المدينة ولكن أحد السعدين أخذ الكتاب ومزقه بل وبصق عليه وقال (والله لا نعطيهم إلا السيف) وهنا نجد أيضًا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أذعن لرأي مستشاريه وهم أصحاب الشأن في ثمار المدينة لأنهم رؤساء الأوس والخزرج.
وفي حصار الطائف أبدى رسول الله صلى الله عليه وسلم رغبته في الرجوع عن حصار الطائف بعد مكث استمر كما قالت بعض الروايات أربعين ليلة وحصل للمسلمين في هذا الحصار بلاء شديد فقد قتل منهم رجال بالنبل، ولما استشار رسول الله صلى الله عليه وسلم نوفل بن معاوية الديلمي فقال ما ترى؟ فقال له معاوية ثعلب في جحر إن أقمت عليه أخذته وإن تركته لم يضرك.. فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرًا أن يؤذن بالرحيل فضج الناس وقالوا: نرحل ولم يفتح علينا الطائف؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعدوا على القتال ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رأيه، ولكن بعد أن أصيبوا بجراحات أخرى من القتال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا قافلون غدًا إن شاء الله تعالى فسروا بذلك وأذعنوا وجعلوا يرحلون ورسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك (انظر زاد المعاد ص197 ج2) وفي هذا دليل ظاهر على نزوله صلى الله عليه وسلم عند رأي أصحابه وعدم إجبارهم عليه لأنه رأي وليس بوحي.
ومن تلك الوقائع كلها يظهر جليًّا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان يعدل عن رأي جمهور أصحابه قط بل قال صلى الله عليه وسلم لأبي بكر وعمر: «لو اجتمعتما على رأي ما خالفتكما».
وكذلك كانت سيرة الراشدين رضي الله تعالى عنهم فإنهم ما حملوا الأمة على رأي كرهته قط، ولا خالفوا جمهورهم أبدًا. بل أن عمر كان يجمع المهاجرون للشورى فإن أجمعوا على رأي قضى به، وذلك كانت سيرتهم محمودة في أصحابهم، وإن كان أخذ على عثمان شيء فإنما هو لعدم الرجوع الدائم للأمة في بعض الشؤون وبذلك انتقضت عليه كثير من الأمور وظهر الإنكار عليه من كثير من الصحابة كعلي وعائشة رضي الله عنهما.
ب- وأما الأمر الثاني وهو أنه لا فائدة من الشورى لو أن الأمير له الرأي النهائي وإن خالف أكثرية الناس، فليس هذا الكلام صحيحًا بإطلاق، ولكنه صحيح من وجه. ففائدة الشورى عندئذ هي تنوير الإمام ليس إلا، وهي بلا شك فائدة جزئية وهي تفيد مع أفذاذ من الناس يملكون البصيرة والخبرة والتقوى وقلما اجتمعت هذه الخصال في رجل، اللهم إلا رجلًا كأبي بكر وعمر وهيهات أن يوجد في الأمة مثال يقرب من ذلك فضلًا أن يكون مثله، فقد قال صلوات الله وسلامه عليه: «وزنت بالأمة فرجحت، ووزن أبو بكر بالأمة لست فيها فرجح، ووزن عمر بالأمة لست فيها وأبو بكر فرجح» (البخاري) فهم رجلان كل منهما كان بباقي الأمة.
ج- وأما الأمر الثالث فهو أن تمكين الإمام من الأخذ برأيه مطلقًا وافق الشورى أو خالف فإنه ذريعة للاستبداد، والنفوس يستحيل أن تبرأ من الهوى مطلقًا ومن المنافع الشخصية أبدًا، وإذا كان قد سلف في الأمة خلفاء لم تكن لهم منفعة شخصية فأنى لنا أن نجد هذا دائمًا. وهذا وجه حسن.
وقالوا أيضًا إجماع الأمة معصوم من الخطأ ورأي الإمام ليس معصومًا فلو كان للإمام أن يخالف مجموع الأمة لجعلنا غير المعصوم حكمًا على المعصوم ثم لا شك أنه إذا تعادلت الآراء فرأي الإمام رأي، والصواب أحرى أن يوجد عند الجماعة منه عند الفرد، وكذلك نسبة الصواب مع المجموعة الكبيرة أكبر من نسبته مع المجموعة الصغيرة.
د- وأما الدليل الرابع وهو أن القول بالأخذ برأي الأغلبية ولزومه للإمام لو لم يكن مقررًا في الشريعة لوجب الأخذ به عملًا بالمصلحة المرسلة فهذا أيضًا دليل جيد إذ قد جاءت الشريعة بمصالح العباد فالمصلحة التي اعتبرتها الشريعة هي مصلحة إلى يوم القيامة، والمصلحة التي أهدرتها هي مفسدة إلى يوم القيامة، وأما المصلحة التي لم يأتي نص بإهدارها ولا باعتبارها فإذا رأيناها مصلحة وجب الأخذ بها أخذًا بالمنافع والمصالح.
وإلزام الحاكم برأي الأغلبية فيه منافع عظيمة للأمة إذ أنه يحول بين الحاكم وبين الاستبداد، ويجعل للرأي مكانة ومنزلة، ولجمهور الشورى مكانهم ومنزلتهم، ويعصم كثيرًا من الآراء الفردية المرتجلة التي قد تدمر الأمة بأسرها. ولعل هذا الدليل هو أقوى الأدلة على وجوب القول بهذا الأمر فقد لاقى المسلمون من الاستبداد بالرأي الفردي ويلات كثيرة ولن تشرق شمسهم إلا في ظل حكم شورى يضع للرأي الجماعي منزلته ومكانته.
هـ- هذه هي مجموع الحجج التي استند إليها القائلون بوجوب أخذ الحاكم برأي الأغلبية وهي كما ترى أمور واضحة صريحة شمسها ساطعة لا يحجبها سحاب أو ضباب.
وأما القول الثالث وهو أن الأمر في هذه المسألة يرجع إلى رأي الأمة فإن رأت الأمة أن تفوض الإمام في اختيار الرأي المناسب من آراء الشورى فعلت وإن شاءت أن تلزمه برأي جمهورها فعلت إذ ليس الشريعة ما يوجب هذا وذلك، وما ينفي هذا أو ذاك. فهو رأي أيضًا ساقط للأدلة التي سقناها إليك أنفًا مبينين أن الآخذ برأي الأغلبية هو السنة التي سار عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم والراشدون من خلفائه وهو الذي تقتضيه المصلحة المرسلة، والظروف المعاشية التي تحياها الأمة إذ يستحيل على الأمة أن ترد جميع أمورها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والعسكرية وغيرها لرأي فرد واحد من الناس مهما كان هذا الأحد في الوقت الحاضر، ولا بد من إشراك الأمة إشراكًا حقيقيًّا ليس بالرأي فقط بل بالاجتهاد الملزم للإمام ما دام أنه رأي الجمهور والأغلبية.
ويمكن أن يقال بأن الرأي الثالث يعمل به أحيانًا في ظروف خاصة حيث تعطي الأمة الإمام الحاكم صلاحيات معينة في اتخاذ قرارات مناسبة في ظرف من الظروف الطارئة كظروف الحروب والقلاقل الاجتماعية وأما في غير ذلك فقد عرفت بالأدلة القاطعة أنه يجب على الإمام الالتزام برأي أغلبية مستشاريه.
وأظن الآن أنه في البيان السابق قد وضح الحكم، واتضحت السبل وعلم يقينًا بالأدلة الصريحة من مقتضيات الحكم الشورى في الإسلام الأخذ برأي الأغلبية المستشارة. والمستشار مؤتمن كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن تستأمنهم الأمة وتوليهم مهمة النظر في أمورها وتصريف سياستها يجب على الحاكم المسلم أن ينفذ ما أجمعوا عليه ويجب أيضًا أن يكون رأي أغلبيتهم هو الرأي الراجح الذي يجب الأخذ به، وليس هذا النظام نظامًا من صنع الغرب، ومن اختراع الديمقراطية كما ادعى المدعون، ولكنه نظام إسلامي خالص، انتقل من حضارتنا إلى حضارة الغرب كما انتقلت حسنات كثيرة، واليوم ينكره فريق منا أشد الإنكار لأنهم عاشوا في ظروف التسلط والقهر، وألفوا نظمًا فاسدة انتسبت للإسلام زورًا، ونسبت تسلطها هذا للإسلام والإسلام الحق بريء من ذلك.