فصل: خلافة أبي بكر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الشورى في ظل نظام الحكم الإسلامي (نسخة منقحة)



.خلافة أبي بكر:

فخلافة أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه كانت خيرًا وبركة على الإسلام والمسلمين، ولم يكن لأبي بكر في الصحابة شبيه أو نظير أو مكافئ في الفضل والسبق والمكانة، والمنزلة، ومع ذلك فالصورة التي اختير بها هذا الصحابي الجليل كانت صورة استثنائية تحفظ لا يقاس عليها لأنها كانت ذات ظرف خاص وملابسات معينة حتمت هذه الصورة للاختيار. وحتى أقدم الدليل على كلامي هذا سأثبت للقارئ الكريم تفسير عمر بن الخطاب رضي الله عنه لهذا الظرف وهذه الملابسات وهذا التفسير لعمر يتضمنه أصح كتاب بعد كتاب الله تبارك وتعالى وهو صحيح البخاري، وقد آثرت أن أنقل هذا الأثر بطوله لما فيه من الفوائد العظيمة التي تتعلق بموضوعنا هذا وبموضوعات أخرى لن تصرفنا عن موضوعنا الأساسي وسنستفيد منها فائدة بليغة إن شاء الله تعالى.
روى البخاري بإسناده إلى ابن عباس قال:- كنت أقرئ رجالًا من المهاجرين منهم عبد الرحمن بن عوف، فبينما أنا في منزله بمنى، وهو عند عمر بن الخطاب في آخر حجة حجها إذا رجع إلي عبد الرحمن فقال: لو رأيت رجلًا أتى أمير المؤمنين اليوم فقال: يا أمير المؤمنين هل لك في فلان يقول: لو قد مات عمر لقد بايعت فلانًا، فوالله ما كانت بيعة أبي بكر إلا فلتة فتمت، فغضب عمر ثم قال: إني إن شاء الله لقائم العشية في الناس فمحذرهم هؤلاء الذين يريدون أن يغصبوهم أمورهم، قال عبد الرحمن: فقلت يا أمير المؤمنين لا تفعل، فإن الموسم يجمع رعاع الناس وغوغاءهم، فإنهم هم الذين يغلبون على قربك حين تقوم في الناس، وأنا أخشى أن تقوم فتقول مقالة يطيرها عنك كل مطير، وأن لا يعوها وأن لا يضعوها على مواضعها، فأمهل حتى تقدم المدينة فإنها دار الهجرة والسنة، فتخلص بأهل الفقه وأشراف الناس فتقول ما قلت متمكنًا، فيعي أهل العلم مقالتك، ويضعوها على مواضعها فقال عمر: أما والله-إن شاء الله- لأقومن بذلك أول مقام أقومه بالمدينة.
قال ابن عباس: فقدمنا المدينة في عقب ذي الحجة. فلما كان يوم الجمعة عجلت الرواح حين زاغت الشمس حتى أجد سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل جالسًا إلى ركن المنبر فجلست حوله، تمس ركبتي ركبتيه، فلم أنشب أن خرج عمر بن الخطاب فلما رأيته مقبلًا قلت لسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل: ليقولن العشية مقالة لم يقلها منذ استخلف، فأنكر علي وقال: ما عسيت أن يقول ما لم يقل قبله! فجلس عمر على المنبر فلما سكت المؤذنون قام فأثنى على الله بما هو أهله ثم قال:
أما بعد فإني قائل لكم مقالة قد قدر لي أن أقولها، لا أدري لعلها بين يدي أجلي، فمن عقلها ووعاها فليحدث بها حيث انتهت راحلته، ومن خشي أن لا يعقلها فلا أحل لأحد أن يكذب علي:- إن الله بعث محمدًا صلى الله عليه وسلم بالحق، وأنزل عليه الكتاب فكان مما أنزل الله آية الرجم فقرأناها، وعقلناها، ووعيناها، رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورجمنا بعده فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل، والله ما نجد آية الرجم في كتاب الله، فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله، والرجم في كتاب الله حق على كل من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء إذا قامت البينة أو كان الحبل أو الاعتراف.
ثم إنا كنا نقرأ فيما نقرأ من كتاب الله أن لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم-أو أن كفرًا بكم أن ترغبوا عن آبائكم- ألا ثم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تطروني كما أطرى عيسى بن مريم، وقولوا عبد الله ورسوله»، ثم أنه بلغني أن قائلًا منكم يقول: والله لو قد مات عمر بايعت فلانًا، فلا يغترن امرؤ أن يقول إنما كانت بيعة أبي بكر فلتة وتمت، ألا وإنها قد كانت كذلك، ولكن وقى الله شرها، وليس فيكم من تقطع الأعناق إليه مثل أبي بكر، من بايع رجلًا من غير مشورة من المسلمين فلا يبايع هو ولا الذي بايعه تغرة أن يقتلا، وأنه قد كان من خيرنا حين توفى الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن الأنصار خالفونا، واجتمعوا وخالف عنا علي والزبير، ومن معهما، واجتمع إلي أبي بكر، فقلت لأبي بكر يا أبا بكر، انطلق بنا إلى إخواننا هؤلاء من الأنصار، فقالا: لا عليكم أن لا تقربوهم، اقضوا أمركم. فقلت: والله لنأتينهم. فانطلقنا حتى أتينا في سقيف بني ساعدة، فإذا رجل مزمن بين ظهرانيهم، فقلت من هذا؟ فقالوا: هذا سعد بن عبادة فقلت ما له؟ قالوا يوعظ. فلما جلسنا قليلًا تشهد خطيبهم فأثنى على الله بما هو أهله ثم قال: أما بعد فنحن أنصار الله وكتيبة الإسلام؟ وأنتم معشر المهاجرين رهط، وقد دفت دافة من قومكم فإذا هم يريدون أن يختزلونا من أصلنا، وأن يَحْضُنُونَا من الأمر فلما سكت أردت أن أتكلم –وكنت قد زورت مقالة أعجبتني أريد أن أقدمها بين يدي أبي بكر- وكنت أداري منه بعض الحد، فلما أردت أن أتكلم قال أبو بكر: على رسلك. فكرهت أن أغضبه، فتكلم أبو بكر فكان هو أحلم مني وأوقر، والله ما ترك من كلمة أعجبتني في تزويري إلا قاله في بديهته مثلها أو أفضل منها حتى سكت فقال: ما ذكرتم فيكم من خير فأنتم له أهل، ولن يعرف هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش، هم أوسط العرب نسبًا ودارًا، وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين فبايعوا أيهما شئتم –فأخذ بيدي ويد أبي عبيدة بن الجراح وهو جالس بيننا- فلم أكره ممن قال غيرها، كان والله أن أقدم فتضرب عنقي، لا يقربني ذلك من إثم أحب إلي من أن أتأمر على قوم فيهم أبو بكر، اللهم إلا أن تسول إلى نفسي عند الموت شيئًا لا أجده الآن، فقال قائل من الأنصار: أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب. منا أمير ومنكم أمير يا معشر المهاجرين، فكثر اللغط، وارتفعت الأصوات حتى فرقت من الاختلاف، فقلت أبسط يدك يا أبا بكر، فبسط يده، فبايعته، وبايعه المهاجرون ثم بايعته الأنصار، ونزونا على سعد بن عبادة، فقال قائل منهم قتلتم سعد بن عبادة، فقلت: قتل الله سعد بن عبادة.
قال عمر: وأنا والله ما وجدنا فيما حضرنا أقوى من مبايعة أبي بكر، خشينا إن فارقنا القوم، ولم تكن بيعة أن يبايعوا رجلًا منهم بعدنا، فأما بايعناهم على ما لا نرضى، وإما أن تخالفهم فيكون فسادًا، فمن بايع رجلًا على غير مشورة من المسلمين فلا يبايع هو والذي بايعه تغرة أن يقتلا.
وهذا الأثر العظيم لعمر بن الخطاب رضي الله عنه وتلك الخطبة التاريخية فيها كثير من الفوائد والأصول لسنا بصدد التعرض لها الآن ولكننا سنناقش فقط مكان الشاهد من هذه الخطبة على ما نحن بصدده ألا وهو اختيار الحاكم فعمر يعلن في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى منبره، أن أمر بيعة الحاكم يجب أن تسبقها الشورى، وأن من تعجل البيعة قبل الشورى فإنه لا يتابع في بيعته، لا الذي بايع، ولا من بويع، ويقول هذا الكلام بالنص الصريح الواضح:
(من بايع رجلًا عن غير مشورة من المسلمين فلا يتابع هو الذي بايعه تغرة أن يقتلا) وقد كرر هذه المقالة في خطبته مرتين: مرة في بداية ذكره لمسألة البيعة ومرة في نهاية خطبته، وهذه الخطبة ليست خطبة مرتجلة بنت تفكير سريع، واستثارة، وإنما هي وليدة تفكير طويل، وإعداد استمر أكثر من أسبوع، فقد عزم عمر على بيان أمر بيعة أبي بكر الصديق رضي الله عنه بموسم الحج وكانت آخر حجة له، ولكن عبد الرحمن بن عوف نصحه بالعدول عن هذا لأن الموسم يجمع غوغاء الناس الذين سيفهم قسم منهم هذه الخطبة على غير وجهها ويطيرها في كل مكان. ولذلك انتظر حتى أتى المدينة ثم خطب بها.
ثم يعلل عمر رضي الله عنه النهي عن متابعة البيعة لمن بايع إمامًا بغير مشورة بقوله (تغرة أن يقتلا) والمعنى كما قال ابن حجر والقسطلاني أن من فعل ذلك فقد غرر بنفسه وبصاحبه، وعرضهما للقتل. وذلك لمخالفة جماعة المسلمين وجمهورهم، وانفرادهما واستعجالهما بالأمر دون المشورة العامة في المسلمين.
ثم علل عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقوع بيعة أبي بكر الصديق على هذا الأمر الذي ينهى عنه بأن ظروف تلك البيعة كانت ملجئة وقاهرة، فقد اجتمع الأنصار لمبايعة أمير منهم ولو تم ذلك ما كان للمهاجرين أن يخالفوهم وإلا حدث شر كبير، وما كانت لتجتمع العرب بأسرها على رجل من أهل المدينة الذين كانت لهم ثارات وحروب قديمة مع بعضهم البعض، فالأوسي لا يرضى عن الخزرجي وكذلك العكس فكيف بسائر العرب، وكانت لقريش منزلة خاصة عند سائر العرب حيث كانت تحترم وتقدم في الجاهلية وتقول العرب أهل بيت الله فلا نؤذيهم ولا نتعرض لهم. ولذلك قال أبو بكر للأنصار في خطبة السقيفة: (ما ذكرتم من خير فأنتم له أهل، ولن يعرف هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش) ويعني بالأمر الخلافة.
ولخشية عمر من مبايعة الأنصار رجلًا منهم تعجل أبي بكر ولم تكن عن مشورة كاملة، ثم أخبر بأن أبا بكر ليس في المسلمين مثله سابقة وعلمًا ودراية بالسياسة والدين ولين جانب وقوة في الحق، ولذلك اجتمعت عليه القلوب سريعًا ولم ينازعه في الأمر أحد إلا ما كان من غضب سعد بن عبادة الخزرجي لنفسه، وتأخر بيعة علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه ثم لحوقه المسلمين في ذلك، وإعلان هذا على الملأ.
ولذلك قال عمر: (أنا والله ما وجدنا فيما حضرنا أقوى من مبايعة أبي بكر، خشينا إن فارقنا القوم، ولم تكن بيعة أن يبايعوا رجلًا منهم بعدنا، فأما بايعناهم على ما لا نرضى، وأما أن نخالفهم فيكون فسادًا).
وقال أيضًا في شأن أبي بكر: (وليس فيكم من تقطع الأعناق إليه مثل أبي بكر) ومعنى هذا أنه بلغ في السبق والمنزلة بحيث من أراد أن يلحقه تقطع عنقه من النظر والمبايعة ولا يستطيع ذلك.
ومعنى هذا أن بيعة أبي بكر الصديق حالة فريدة تحفظ ولا يقاس عليها غيرها.
وقد مهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه لهذا الأصل الذي أعلنه أمام جمهور الصحابة، وأعني أصل المشاورة لاختيار الحاكم بأن هناك من القرآن ما هو منسوخ تلاوة لا حكمًا ودلل على ذلك بآية الرجم وآية النهي عن الانتساب إلى غير الآباء التي يقول فيها الرسول صلى الله عليه وسلم: «من انتسب إلى غير أبيه-وهو يعلمه- إلا كفر» وكذلك هناك من السنة والقواعد الدينية ما قد لا نجد النص الصريح المفرد عليه وقد يكون هذا الأمر من الظهور والوضوح بحيث لا يحتاج إلى نص فكون الإمام في الإسلام يجب أن يكون عن شورى عامة هو من القواعد الجلية الواضحة، والمسلمات البديهية التي لا تحتاج إلى نصوص مفردة لإثباتها، ولولا الخوف من أن يطول مقام الشرح لهذا الأمر لأوردت عشرات من الآيات والأحاديث التي تدل على هذا بما يفهم منها وما يستنبط لا بالنص الظاهر، ولذلك وافق الصحابة جميعهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه فيما قاله ولم يعترض عليه معترض واحد، وهو الذي كان يسمح للمرأة بأن تعترض عليه.. أقول لم يعترض عليه معترض واحد من الصحابة وفيهم الفرسان والشجعان وهو يكرر هذه العبارة مرتين: (من بايع رجلًا عن غير مشورة من المسلمين فلا يتابع هو والذي بايعه تغرة أن يقتلا).
ولم يقل له أحد: اثبت ما لم يثبت الشرع، وزدت في الدين ما ليس منهم، وخالفت سنة رسول الله، وتزيدت على القرآن بل جميعهم رضي الله عنهم أقروه فيما قال، وفهموه عنه تعليله لوقوع بيعة أبي بكر الصديق على ما وقعت عليه. وليس هناك إجماع أبلغ من هذا.