فصل: باب اسْتِحْبَابِ التَّعَوُّذِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج المشهور بـ «شرح النووي على مسلم»



.باب سُجُودِ التِّلاَوَةِ:

902- قَوْله: «عَنْ عَبْد اللَّه يَعْنِي اِبْن مَسْعُود رَضِيَ اللَّه عَنْهُ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَرَأَ: {وَالنَّجْم} فَسَجَدَ فيها وَسَجَدَ مَنْ كَانَ مَعَهُ غَيْر أَنَّ شَيْخًا أَخَذَ كَفًّا مِنْ حَصًى أَوْ تُرَاب فَرَفَعَهُ إِلَى جَبْهَته، وَقَالَ: يَكْفِينِي هَذَا».
قَالَ عَبْد اللَّه: (لَقَدْ رَأَيْته بَعْدُ قُتِلَ كَافِرًا) هَذَا الشَّيْخ هُوَ أُمَيَّة بْن خَلَف، وَقَدْ قُتِلَ يَوْم بَدْر كَافِرًا وَلَمْ يَكُنْ أَسْلَمَ قَطُّ.
وَأَمَّا قَوْله: «وَسَجَدَ مَنْ كَانَ مَعَهُ» فَمَعْنَاهُ: مَنْ كَانَ حَاضِرًا قِرَاءَته مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْجِنّ وَالْإِنْس، قَالَهُ اِبْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا وَغَيْره حَتَّى شَاعَ أَنَّ أَهْل مَكَّة أَسْلَمُوا.
قَالَ الْقَاضِي عِيَاض رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى: وَكَانَ سَبَب سُجُودهمْ فِيمَا قَالَ اِبْن مَسْعُود- رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّهَا أَوَّل سَجْدَة نَزَلَتْ.
قَالَ الْقَاضِي رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: وَأَمَّا مَا يَرْوِيه الْإِخْبَارِيُّونَ وَالْمُفَسِّرُونَ أَنَّ سَبَب ذَلِكَ مَا جَرَى عَلَى لِسَان رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الثَّنَاء عَلَى آلِهَة الْمُشْرِكِينَ فِي سُورَة النَّجْم فَبَاطِل لَا يَصِحّ فيه شَيْء لَا مِنْ جِهَة النَّقْل، وَلَا مِنْ جِهَة الْعَقْل؛ لِأَنَّ مَدْح إِلَه غَيْر اللَّه تَعَالَى كُفْر، وَلَا يَصِحّ نِسْبَة ذَلِكَ إِلَى لِسَان رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا أَنْ يَقُولهُ الشَّيْطَان عَلَى لِسَانه، وَلَا يَصِحّ تَسْلِيط الشَّيْطَان عَلَى ذَلِكَ. وَاللَّهُ أَعْلَم.
903- قَوْله: (عَنْ اِبْن قُسَيْط) هُوَ يَزِيد بْن عَبْد اللَّه بْن قُسَيْط بِضَمِّ الْقَاف وَفَتْح السِّين الْمُهْمَلَة.
قَوْله: (سَأَلَ زَيْد بْن ثَابِت رَضِيَ اللَّه عَنْهُ عَنْ الْقِرَاءَة مَعَ الْإِمَام فَقَالَ: لَا قِرَاءَة مَعَ الْإِمَام فِي شَيْء، وَزَعَمَ أَنَّهُ قَرَأَ عَلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَالنَّجْم إِذَا هَوَى} فَلَمْ يَسْجُد) أَمَّا قَوْله: لَا قِرَاءَة مَعَ الْإِمَام فِي شَيْء، فَيَسْتَدِلّ بِهِ أَبُو حَنِيفَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُ وَغَيْره مِمَّنْ يَقُول: لَا قِرَاءَة عَلَى الْمَأْمُوم فِي الصَّلَاة، سَوَاء كَانَتْ سِرِّيَّة أَوْ جَهْرِيَّة، وَمَذْهَبنَا أَنَّ قِرَاءَة الْفَاتِحَة وَاجِبَة عَلَى الْمَأْمُوم فِي الصَّلَاة السِّرِّيَّة وَكَذَا فِي الْجَهْرِيَّة عَلَى أَصَحّ الْقَوْلَيْنِ. وَالْجَوَاب عَنْ قَوْل زَيْد هَذَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدهمَا: أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ قَوْل رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا صَلَاة لِمَنْ لَمْ يَقْرَأ بِأُمِّ الْقُرْآن» وَقَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا كُنْتُمْ خَلْفِي فَلَا تَقْرَءُوا إِلَّا بِأُمِّ الْقُرْآن» وَغَيْر ذَلِكَ مِنْ الْأَحَادِيث، وَهِيَ مُقَدَّمَة عَلَى قَوْل زَيْد وَغَيْره.
وَالثَّانِي: أَنَّ قَوْل زَيْد مَحْمُول عَلَى قِرَاءَة السُّورَة الَّتِي بَعْد الْفَاتِحَة فِي الصَّلَاة الْجَهْرِيَّة، فَإِنَّ الْمَأْمُوم لَا يُشْرَع لَهُ قِرَاءَتُهَا. وَهَذَا التَّأْوِيل مُتَعَيِّن لِيُحْمَل قَوْله عَلَى مُوَافَقَة الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة، وَيُؤَيِّد هَذَا أَنَّهُ يُسْتَحَبّ- عِنْدنَا وَعِنْد جَمَاعَة- لِلْإِمَامِ أَنْ يَسْكُت فِي الْجَهْرِيَّة بَعْد الْفَاتِحَة قَدْر مَا يَقْرَأ الْمَأْمُوم الْفَاتِحَة، وَجَاءَ فيه حَدِيث حَسَن فِي سُنَن أَبِي دَاوُدَ وَغَيْره فِي تِلْكَ السَّكْتَة، يَقْرَأ الْمَأْمُوم الْفَاتِحَة، فَلَا يَحْصُل قِرَاءَته مَعَ قِرَاءَة الْإِمَام، بَلْ فِي سَكْتَته.
وَأَمَّا قَوْله: (وَزَعَمَ أَنَّهُ قَرَأَ) فَالْمُرَاد بِالزَّعْمِ هُنَا الْقَوْل الْمُحَقَّق، وَقَدْ قَدَّمْنَا بَيَان هَذِهِ الْمَسْأَلَة فِي أَوَائِل هَذَا الشَّرْح، وَأَنَّ الزَّعْم يُطْلَق عَلَى الْقَوْل الْمُحَقَّق، وَالْكَذِب، عَلَى الْمَشْكُوك فيه، وَيَنْزِل فِي كُلّ مَوْضِع عَلَى مَا يَلِيق بِهِ، وَذَكَرْنَا هُنَاكَ دَلَائِله.
وَأَمَّا قَوْله: (وَزَعَمَ أَنَّهُ قَرَأَ عَلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَالنَّجْم فَلَمْ يَسْجُد) فَاحْتَجَّ بِهِ مَالِك رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى وَمَنْ وَافَقَهُ فِي أَنَّهُ لَا سُجُود فِي الْمُفَصَّل، وَأَنَّ سَجْدَة النَّجْم وَإِذَا السَّمَاء اِنْشَقَّتْ وَاقْرَأْ بِاسْمِ رَبّك مَنْسُوخَات بِهَذَا الْحَدِيث، أَوْ بِحَدِيثِ اِبْن عَبَّاس: أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَسْجُد فِي شَيْء مِنْ الْمُفَصَّل مُنْذُ تَحَوَّلَ إِلَى الْمَدِينَة، وَهَذَا مَذْهَب ضَعِيف، فَقَدْ ثَبَتَ حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُ الْمَذْكُور بَعْده فِي مُسْلِم قَالَ: «سَجَدْنَا مَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي: {إِذَا السَّمَاءُ اِنْشَقَّتْ} وَ{اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ}» وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّ إِسْلَام أَبِي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُ كَانَ سَنَة سَبْع مِنْ الْهِجْرَة؛ فَدَلَّ عَلَى السُّجُود فِي الْمُفَصَّل بَعْد الْهِجْرَة.
وَأَمَّا حَدِيث اِبْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّه عَنْهُ فَضَعِيف الْإِسْنَاد لَا يَصِحّ الِاحْتِجَاج بِهِ.
وَأَمَّا حَدِيث أَبِي زَيْد فَمَحْمُول عَلَى بَيَان جَوَاز تَرْك السُّجُود، وَأَنَّهُ سُنَّة لَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَيَحْتَاج إِلَى هَذَا التَّأْوِيل لِلْجَمْعِ بَيْنه وَبَيْن حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة. وَاللَّهُ أَعْلَم.
وَقَدْ اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي عَدَد سَجَدَات التِّلَاوَة، فَمَذْهَب الشَّافِعِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ وَطَائِفَة أَنَّهُنَّ أَرْبَع عَشْرَة سَجْدَة: مِنْهَا سَجْدَتَانِ فِي الْحَجّ، وَثَلَاث فِي الْمُفَصَّل، وَلَيْسَتْ سَجْدَة (صَادَ) مِنْهُنَّ، وَإِنَّمَا هِيَ سَجْدَة شُكْر.
وَقَالَ مَالِك رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى وَطَائِفَة هِيَ إِحْدَى عَشْرَة أَسْقَطَ سَجَدَات الْمُفَصَّل.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: هُنَّ أَرْبَع عَشْرَة، أَثْبَتَ سَجَدَات الْمُفَصَّل وَسَجْدَة (صَادَ)، وَأَسْقَطَ السَّجْدَة الثَّانِيَة مِنْ الْحَجّ.
وَقَالَ أَحْمَد وَابْن سُرَيْج مِنْ أَصْحَابنَا وَطَائِفَة: هُنَّ خَمْسَة عَشْرَة أَثْبَتُوا الْجَمِيع، وَمَوَاضِع السَّجَدَات مَعْرُوفَة، وَاخْتَلَفُوا فِي سَجْدَة (حم) فَقَالَ مَالِك وَطَائِفَة مِنْ السَّلَف وَبَعْض أَصْحَابنَا: هِيَ عَقِب قَوْله تَعَالَى: {إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة وَالشَّافِعِيّ- رَحِمَهُمَا اللَّه تَعَالَى- وَالْجُمْهُور: عَقِب: {وَهُمْ لَا يَسْئَمُونَ} وَاللَّهُ أَعْلَم.
905- قَوْله: (عَنْ عَطَاء بْن مِينَاء) هُوَ بِكَسْرِ الْمِيم وَيُمَدّ وَيُقْصَر، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ.
906- قَوْله: (عَنْ صَفْوَان بْن سُلَيْمٍ عَنْ عَبْد الرَّحْمَن الْأَعْرَج مَوْلَى بَنِي مَخْزُوم عَنْ أَبِي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُ) وَفِي الرِّوَايَة الثَّانِيَة: (عَنْ عَبْد اللَّه بْن أَبِي جَعْفَر عَنْ عَبْد الرَّحْمَن الْأَعْرَج عَنْ أَبِي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُ) مِثْله.
قَالَ الْحُمَيْدِيّ فِي الْجَمْع بَيْن الصَّحِيحَيْنِ فِي آخِر تَرْجَمَة أَبِي هُرَيْرَة: الْأَعْرَج الْأَوَّل مَوْلَى بَنِي مَخْزُوم اِسْمه: عَبْد الرَّحْمَن بْن سَعْد الْمُقْعَد، كُنْيَته: أَبُو أَحْمَد، وَهُوَ قَلِيل الْحَدِيث.
وَأَمَّا عَبْد الرَّحْمَن الْأَعْرَج الْآخَر فَهُوَ: اِبْن هُرْمُز، كُنْيَته أَبُو دَاوُدَ، مَوْلَى رَبِيعَة بْن الْحَارِث. وَهُوَ كَثِير الْحَدِيث، وَرَوَى عَنْهُ جَمَاعَات مِنْ الْأَئِمَّة قَالَ: وَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِم عَنْهُمَا جَمِيعًا فِي سُجُود الْقُرْآن قَالَ: فَرُبَّمَا أَشْكَلَ ذَلِكَ قَالَ: فَمَوْلَى بَنِي مَخْزُوم يَرْوِي ذَلِكَ عَنْهُ صَفْوَان بْن سُلَيْمٍ.
وَأَمَّا اِبْن هُرْمُز فَيَرْوِي ذَلِكَ عَنْهُ عُبَيْد اللَّه بْن أَبِي جَعْفَر، هَذَا كَلَام الْحُمَيْدِيّ، وَهُوَ مَلِيح نَفِيس. وَكَذَا قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: إِنَّ الْأَعْرَج اِثْنَانِ يَرْوِيَانِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة، أَحَدهمَا: وَهُوَ الْمَشْهُور عَبْد الرَّحْمَن بْن هُرْمُز، وَالثَّانِي عَبْد الرَّحْمَن بْن سَعْد مَوْلَى بَنِي مَخْزُوم، وَهَذَا هُوَ الصَّوَاب.
وَقَالَ أَبُو مَسْعُود الدِّمَشْقِيّ: هُمَا وَاحِد.
قَالَ أَبُو عَلِيّ الْغَسَّانِيّ الْجَيَّانِيّ: الصَّوَاب قَوْل الدَّارَقُطْنِيِّ. وَاللَّهُ أَعْلَم. وَاعْلَمْ أَنَّهُ يُشْتَرَط لِجَوَازِ سُجُود التِّلَاوَة وَصِحَّته شُرُوط صَلَاة النَّفْل مِنْ: الطَّهَارَة عَنْ الْحَدَث وَالنَّجَس، وَسَتْر الْعَوْرَة، وَاسْتِقْبَال الْقِبْلَة، وَلَا يَجُوز السُّجُود حَتَّى يَتِمّ قِرَاءَة السَّجْدَة، وَيَجُوز عِنْدنَا سُجُود التِّلَاوَة فِي الْأَوْقَات الَّتِي نُهِيَ عَنْ الصَّلَاة فيها؛ لِأَنَّهَا ذَات سَبَب، وَلَا يُكْرَه عِنْدنَا ذَوَات الْأَسْبَاب، وَفِي الْمَسْأَلَة خِلَاف مَشْهُور بَيْن الْعُلَمَاء، وَفِي سُجُود التِّلَاوَة مَسَائِل وَتَفْرِيعَات مَشْهُورَة فِي كُتُب الْفِقْه. وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ.

.باب صِفَةِ الْجُلُوسِ فِي الصَّلاَةِ وَكَيْفِيَّةِ وَضْعِ الْيَدَيْنِ عَلَى الْفَخِذَيْنِ:

قَوْله: عَنْ اِبْن الزُّبَيْر رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا: «كَانَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَعَدَ فِي الصَّلَاة جَعَلَ قَدَمه الْيُسْرَى بَيْن فَخِذه وَسَاقَهُ، وَفَرَشَ قَدَمه الْيُمْنَى، وَوَضَعَ يَده الْيُسْرَى عَلَى رُكْبَته الْيُسْرَى، وَوَضَعَ يَده الْيُمْنَى عَلَى فَخِذه الْيُمْنَى، وَأَشَارَ بِإِصْبَعِهِ» وَفِي رِوَايَة: «أَشَارَ بِإِصْبَعِهِ السَّبَّابَة وَوَضَعَ إِبْهَامه عَلَى إِصْبَعه الْوُسْطَى وَيُلْقِم كَفّه الْيُسْرَى رُكْبَته» وَفِي رِوَايَة اِبْن عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا: «أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا جَلَسَ فِي الصَّلَاة وَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى رُكْبَته، وَوَضَعَ إِصْبَعه الْيُمْنَى الَّتِي تَلِي الْإِبْهَام فَدَعَا بِهَا، وَيَده الْيُسْرَى عَلَى رُكْبَته بَاسِطهَا عَلَيْهَا»، وَفِي رِوَايَة عَنْهُ: «وَوَضَعَ يَده الْيُمْنَى عَلَى رُكْبَته الْيُمْنَى، وَعَقَدَ ثَلَاثًا وَخَمْسِينَ، وَأَشَارَ بِالسَّبَّابَةِ» هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ مِنْ صِفَة الْقُعُود هُوَ التَّوَرُّك لَكِنَّ قَوْله: «وَفَرَشَ قَدَمه الْيُمْنَى» مُشْكِل، لِأَنَّ السُّنَّة فِي الْقَدَم الْيُمْنَى أَنْ تَكُون مَنْصُوبَة بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاء، وَقَدْ تَظَاهَرَتْ الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة عَلَى ذَلِكَ فِي صَحِيح الْبُخَارِيّ وَغَيْره.
قَالَ الْقَاضِي عِيَاض رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: قَالَ الْفَقِيه أَبُو مُحَمَّد الْخُشَنِيُّ: صَوَابه: «وَفَرَشَ قَدَمه الْيُسْرَى»، ثُمَّ أَنْكَرَ الْقَاضِي قَوْله؛ لِأَنَّهُ قَدْ ذَكَرَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَة مَا يَفْعَل بِالْيُسْرَى، وَأَنَّهُ جَعَلَهَا بَيْن فَخِذه وَسَاقهُ قَالَ: وَلَعَلَّ صَوَابه: «وَنَصَبَ قَدَمه الْيُمْنَى» قَالَ: وَقَدْ تَكُون الرِّوَايَة صَحِيحَة فِي الْيُمْنَى، وَيَكُون مَعْنَى فَرَشَهَا أَنَّهُ لَمْ يَنْصِبهَا عَلَى أَطْرَاف أَصَابِعه فِي هَذِهِ الْمَرَّة، وَلَا فَتَحَ أَصَابِعهَا كَمَا كَانَ يَفْعَل فِي غَالِب الْأَحْوَال. هَذَا كَلَام الْقَاضِي. وَهَذَا التَّأْوِيل الْأَخِير الَّذِي ذَكَرَهُ هُوَ الْمُخْتَار، وَيَكُون فَعَلَ هَذَا لِبَيَانِ الْجَوَاز، وَأَنَّ وَضْع أَطْرَاف الْأَصَابِع عَلَى الْأَرْض وَإِنْ كَانَ مُسْتَحَبًّا يَجُوز تَرْكه. وَهَذَا التَّأْوِيل لَهُ نَظَائِر كَثِيرَة لاسيما فِي بَاب الصَّلَاة، وَهُوَ أَوْلَى مِنْ تَغْلِيط رِوَايَة ثَابِتَة فِي الصَّحِيح، وَاتَّفَقَ عَلَيْهَا جَمِيع نُسَخ مُسْلِم، وَقَدْ سَبَقَ اِخْتِلَاف الْعُلَمَاء فِي أَنَّ الْأَفْضَل فِي الْجُلُوس فِي التَّشَهُّدَيْنِ التَّوَرُّك أَمْ الِافْتِرَاش؟ فَمَذْهَب مَالِك وَطَائِفَة: تَفْضِيل التَّوَرُّك فيهمَا لِهَذَا الْحَدِيث. وَمَذْهَب أَبِي حَنِيفَة وَطَائِفَة: تَفْضِيل الِافْتِرَاش. وَمَذْهَب الشَّافِعِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ وَطَائِفَة: يَفْتَرِش فِي الْأَوَّل وَيَتَوَرَّك فِي الْأَخِير؛ لِحَدِيثِ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيّ وَرُفْقَته فِي صَحِيح الْبُخَارِيّ، وَهُوَ صَرِيح فِي الْفَرْق بَيْن التَّشَهُّدَيْنِ، قَالَ الشَّافِعِيّ رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى: وَالْأَحَادِيث الْوَارِدَة بِتَوَرُّكٍ أَوْ اِفْتِرَاش مُطْلَقَة لَمْ يُبَيِّن فيها أَنَّهُ فِي التَّشَهُّدَيْنِ أَوْ أَحَدهمَا، وَقَدْ بَيَّنَهُ أَبُو حُمَيْدٍ وَرُفْقَته وَوَصَفُوا الِافْتِرَاش فِي الْأَوَّل وَالتَّوَرُّك فِي الْأَخِير، وَهَذَا مُبَيَّنٌ، فَوَجَبَ حَمْل ذَلِكَ الْمُجْمَل عَلَيْهِ. وَاللَّهُ أَعْلَم.
وَأَمَّا قَوْله: «وَوَضَعَ يَده الْيُسْرَى عَلَى رُكْبَته»، وَفِي رِوَايَة، «وَيُلْقِم كَفّه الْيُسْرَى رُكْبَته» فَهُوَ دَلِيل عَلَى اِسْتِحْبَاب ذَلِكَ.
وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاء عَلَى اِسْتِحْبَاب وَضْعهَا عِنْد الرُّكْبَة أَوْ عَلَى الرُّكْبَة، وَبَعْضهمْ يَقُول بِعَطْفِ أَصَابِعهَا عَلَى الرُّكْبَة وَهُوَ مَعْنَى قَوْله: وَيُلْقِم كَفّه الْيُسْرَى رُكْبَته، وَالْحِكْمَة فِي وَضْعهَا عِنْد الرُّكْبَة مَنْعهَا مِنْ الْعَبَث، وَأَمَّا قَوْله: «وَوَضَعَ يَده الْيُمْنَى عَلَى فَخِذه الْيُمْنَى» مُجْمَعٌ عَلَى اِسْتِحْبَابه.
909- سبق شرحه بالباب.
910- وَقَوْله: «أَشَارَ بِإِصْبَعِهِ السَّبَّابَة وَوَضَعَ إِبْهَامه عَلَى إِصْبَعه الْوُسْطَى». وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: «وَعَقَدَ ثَلَاثًا وَخَمْسِينَ» هَاتَانِ الرِّوَايَتَانِ مَحْمُولَتَانِ عَلَى حَالَيْنِ، فَفَعَلَ فِي وَقْت هَذَا وَفِي وَقْت هَذَا، وَقَدْ رَامَ بَعْضُهُمْ الْجَمْعَ بَيْنهمَا بِأَنْ يَكُون الْمُرَاد بِقَوْلِهِ عَلَى إِصْبَعه الْوُسْطَى: أَيْ وَضَعَهَا قَرِيبًا مِنْ أَسْفَل الْوُسْطَى، وَحِينَئِذٍ يَكُون بِمَعْنَى الْعَقْد ثَلَاثًا وَخَمْسِينَ.
وَأَمَّا الْإِشَارَة بِالْمُسَبِّحَةِ فَمُسْتَحَبَّة عِنْدنَا لِلْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَة.
قَالَ أَصْحَابنَا: يُشِير عِنْد قَوْله (إِلَّا اللَّه) مِنْ الشَّهَادَة، وَيُشِير بِمُسَبِّحَةِ الْيُمْنَى لَا غَيْر، فَلَوْ كَانَتْ مَقْطُوعَة أَوْ عَلِيلَة لَمْ يُشِرْ بِغَيْرِهَا لَا مِنْ الْأَصْل بِالْيُمْنَى وَلَا الْيُسْرَى، وَالسُّنَّة أَنْ لَا يُجَاوِز بَصَره إِشَارَته، وَفيه حَدِيث صَحِيح فِي سُنَن أَبِي دَاوُدَ وَيُشِير بِهَا مُوَجَّهَة إِلَى الْقِبْلَة، وَيَنْوِي بِالْإِشَارَةِ التَّوْحِيد وَالْإِخْلَاص. وَاللَّهُ أَعْلَم.
911- سبق شرحه بالباب.
912- وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْله: (عَقَدَ ثَلَاثًا وَخَمْسِينَ) شَرْطه عِنْد أَهْل الْحِسَاب أَنْ يَضَع طَرَف الْخِنْصَر عَلَى الْبِنْصِر وَلَيْسَ ذَلِكَ مُرَادًا هَاهُنَا، بَلْ الْمُرَاد أَنْ يَضَع الْخِنْصَر عَلَى الرَّاحَة وَيَكُون عَلَى الصُّورَة الَّتِي يُسَمِّيهَا أَهْل الْحِسَاب تِسْعَة وَخَمْسِينَ. وَاللَّهُ أَعْلَم.

.(باب السلام للتحليل من الصلاة عند فراغها وكيفيته):

914- قَوْله: (إِنَّ أَمِيرًا كَانَ بِمَكَّة يُسَلِّم تَسْلِيمَتَيْنِ فَقَالَ عَبْد اللَّه: أَنَّى عَلِقَهَا إِنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَفْعَلهُ) وَعَنْ سَعْد رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ: «كُنْت أَرَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسَلِّم عَنْ يَمِينه وَعَنْ يَسَاره حَتَّى أَرَى بَيَاض خَدّه» فَقَوْله: أَنَّى عَلِقَهَا؟ هُوَ بِفَتْحِ الْعَيْن وَكَسْر اللَّام، أَيْ مِنْ أَيْنَ حَصَّلَ هَذِهِ السُّنَّة وَظَفِرَ بِهَا. فيه: دَلَالَة لِمَذْهَبِ الشَّافِعِيّ وَالْجُمْهُور مِنْ السَّلَف وَالْخَلَف أَنَّهُ يُسَنّ تَسْلِيمَتَانِ.
وَقَالَ مَالِك وَطَائِفَة: إِنَّمَا يُسَنّ تَسْلِيمَة وَاحِدَة، وَتَعَلَّقُوا بِأَحَادِيث ضَعِيفَة لَا تُقَاوِم هَذِهِ الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة، وَلَوْ ثَبَتَ شَيْء مِنْهَا حَمَلَ عَلَى أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ لِبَيَانِ جَوَاز الِاقْتِصَار عَلَى تَسْلِيمَة وَاحِدَة، وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاء الَّذِينَ يُعْتَدُّ بِهِمْ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِب إِلَّا تَسْلِيمَة وَاحِدَة، فَإِنْ سَلَّمَ وَاحِدَة اُسْتُحِبَّ لَهُ أَنْ يُسَلِّمهَا تِلْقَاء وَجْهه، وَإِنْ سَلَّمَ تَسْلِيمَتَيْنِ جَعَلَ الْأُولَى عَنْ يَمِينه، وَالثَّانِيَة عَنْ يَسَاره، وَيَلْتَفِت فِي كُلّ تَسْلِيمَة حَتَّى يَرَى مَنْ عَنْ جَانِبه خَدّه، هَذَا هُوَ الصَّحِيح وَقَالَ بَعْض أَصْحَابنَا: حَتَّى يَرَى خَدَّيْهِ مَنْ عَنْ جَانِبه. وَلَوْ سَلَّمَ التَّسْلِيمَتَيْنِ عَنْ يَمِينه أَوْ عَنْ يَسَاره أَوْ تِلْقَاء وَجْهه، أَوْ الْأُولَى عَنْ يَسَاره وَالثَّانِيَة عَنْ يَمِينه صَحَّتْ صَلَاته وَحَصَلَتْ تَسْلِيمَتَانِ، وَلَكِنْ فَاتَتْهُ الْفَضِيلَة فِي كَيْفِيَّتهمَا. وَاعْلَمْ أَنَّ السَّلَام رُكْن مِنْ أَرْكَان الصَّلَاة وَفَرْض مِنْ فَرَوْضهَا لَا تَصِحّ إِلَّا بِهِ. هَذَا مَذْهَب جُمْهُور الْعُلَمَاء مِنْ الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ فَمَنْ بَعْدهمْ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: هُوَ سُنَّة، وَيَحْصُل التَّحَلُّل مِنْ الصَّلَاة بِكُلِّ شَيْء يُنَافيها مِنْ سَلَام أَوْ كَلَام أَوْ حَدَث أَوْ قِيَام أَوْ غَيْر ذَلِكَ، وَاحْتَجَّ الْجُمْهُور بِأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُسَلِّم. وَثَبَتَ فِي الْبُخَارِيّ أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» وَبِالْحَدِيثِ الْآخَر: «تَحْرِيمُهَا التَّكْبِير وَتَحْلِيلهَا التَّسْلِيم».
فيه حَدِيث اِبْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا قَالَ: «كُنَّا نَعْرِف اِنْقِضَاء صَلَاة رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالتَّكْبِيرِ» وَفِي رِوَايَة (أَنَّ رَفْعَ الصَّوْت بِالذِّكْرِ حِين يَنْصَرِف النَّاس مِنْ الْمَكْتُوبَة كَانَ عَلَى عَهْد النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّهُ قَالَ اِبْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا: كُنْت أَعْلَم إِذَا اِنْصَرَفُوا بِذَلِكَ إِذَا سَمِعْت) هَذَا دَلِيل لِمَا قَالَهُ بَعْض السَّلَف أَنَّهُ يُسْتَحَبّ رَفْع الصَّوْت بِالتَّكْبِيرِ وَالذِّكْر عَقِب الْمَكْتُوبَة. وَمِمَّنْ اِسْتَحَبَّهُ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ اِبْن حَزْم الظَّاهِرِيّ، وَنَقَلَ اِبْن بَطَّال وَآخَرُونَ أَنَّ أَصْحَاب الْمَذَاهِب الْمَتْبُوعَة وَغَيْرهمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى عَدَم اِسْتِحْبَاب رَفْع الصَّوْت بِالذِّكْرِ وَالتَّكْبِير، وَحَمَلَ الشَّافِعِيّ رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى هَذَا الْحَدِيث عَلَى أَنَّهُ جَهَرَ وَقْتًا يَسِيرًا حَتَّى يُعْلِمهُمْ صِفَة الذِّكْر، لَا أَنَّهُمْ جَهَرُوا دَائِمًا قَالَ: فَاخْتَارَ لِلْإِمَامِ وَالْمَأْمُوم أَنْ يَذْكُرَا اللَّه تَعَالَى بَعْد الْفَرَاغ مِنْ الصَّلَاة وَيُخْفِيَانِ ذَلِكَ، إِلَّا أَنْ يَكُون إِمَامًا يُرِيد أَنْ يُتَعَلَّم مِنْهُ فَيَجْهَر حَتَّى يَعْلَم أَنَّهُ قَدْ تُعُلِّمَ مِنْهُ، ثُمَّ يُسِرُّ، وَحُمِلَ الْحَدِيث عَلَى هَذَا.

.باب الذِّكْرِ بَعْدَ الصَّلاَةِ:

917- فيه حَدِيث اِبْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا قَالَ: «كُنَّا نَعْرِف اِنْقِضَاء صَلَاة رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالتَّكْبِيرِ» وَفِي رِوَايَة (أَنَّ رَفْعَ الصَّوْت بِالذِّكْرِ حِين يَنْصَرِف النَّاس مِنْ الْمَكْتُوبَة كَانَ عَلَى عَهْد النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّهُ قَالَ اِبْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا: كُنْت أَعْلَم إِذَا اِنْصَرَفُوا بِذَلِكَ إِذَا سَمِعْت) هَذَا دَلِيل لِمَا قَالَهُ بَعْض السَّلَف أَنَّهُ يُسْتَحَبّ رَفْع الصَّوْت بِالتَّكْبِيرِ وَالذِّكْر عَقِب الْمَكْتُوبَة. وَمِمَّنْ اِسْتَحَبَّهُ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ اِبْن حَزْم الظَّاهِرِيّ، وَنَقَلَ اِبْن بَطَّال وَآخَرُونَ أَنَّ أَصْحَاب الْمَذَاهِب الْمَتْبُوعَة وَغَيْرهمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى عَدَم اِسْتِحْبَاب رَفْع الصَّوْت بِالذِّكْرِ وَالتَّكْبِير، وَحَمَلَ الشَّافِعِيّ رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى هَذَا الْحَدِيث عَلَى أَنَّهُ جَهَرَ وَقْتًا يَسِيرًا حَتَّى يُعْلِّمهُمْ صِفَة الذِّكْر، لَا أَنَّهُمْ جَهَرُوا دَائِمًا قَالَ: فَاخْتَارَ لِلْإِمَامِ وَالْمَأْمُوم أَنْ يَذْكُرَا اللَّه تَعَالَى بَعْد الْفَرَاغ مِنْ الصَّلَاة وَيُخْفِيَانِ ذَلِكَ، إِلَّا أَنْ يَكُون إِمَامًا يُرِيد أَنْ يُتَعَلَّم مِنْهُ فَيَجْهَر حَتَّى يَعْلَم أَنَّهُ قَدْ تُعُلِّمَ مِنْهُ، ثُمَّ يُسِرُّ، وَحَمَلَ الْحَدِيث عَلَى هَذَا.
قَوْله: (أَخْبَرَنِي هَذَا أَبُو مَعْبِد ثُمَّ أَنْكَرَهُ) فِي اِحْتِجَاج مُسْلِم بِهَذَا الْحَدِيث دَلِيل عَلَى ذَهَابه إِلَى صِحَّة الْحَدِيث الَّذِي يُرْوَى عَلَى هَذَا الْوَجْه مَعَ إِنْكَار الْمُحَدِّث لَهُ إِذَا حَدَّثَ عَنْهُ ثِقَة، وَهَذَا مَذْهَب جُمْهُور الْعُلَمَاء مِنْ الْمُحَدِّثِينَ وَالْفُقَهَاء وَالْأُصُولِيِّينَ. قَالُوا: يُحْتَجّ بِهِ إِذَا كَانَ إِنْكَار الشَّيْخ لَهُ لِتَشْكِيكِهِ فيه، أَوْ لِنِسْيَانِهِ، أَوْ قَالَ: لَا أَحْفَظهُ، أَوْ لَا أَذْكُر أَنِّي حَدَّثْتُك بِهِ وَنَحْو ذَلِكَ، وَخَالَفَهُمْ الْكَرْخِيُّ مِنْ أَصْحَاب أَبِي حَنِيفَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا فَقَالَ: لَا يُحْتَجّ بِهِ، فَأَمَّا إِذَا أَنْكَرَهُ إِنْكَارًا جَازِمًا قَاطِعًا بِتَكْذِيبِ الرَّاوِي عَنْهُ، وَأَنَّهُ لَمْ يُحَدِّثهُ بِهِ قَطُّ؛ فَلَا يَجُوز الِاحْتِجَاج بِهِ عِنْد جَمِيعهمْ؛ لِأَنَّ جَزْم كُلّ وَاحِد يُعَارِض جَزْم الْآخَر وَالشَّيْخ هُوَ الْأَصْل؛ فَوَجَبَ إِسْقَاط هَذَا الْحَدِيث، وَلَا يَقْدَح ذَلِكَ فِي بَاقِي أَحَادِيث الرَّاوِي؛ لِأَنَّا لَمْ نَتَحَقَّق كَذِبه.
919- وَقَوْله: (كُنْت أَعْلَم إِذَا اِنْصَرَفُوا) ظَاهِره أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَحْضُر الصَّلَاة فِي الْجَمَاعَة فِي بَعْض الْأَوْقَات لِصِغَرِهِ.

.باب اسْتِحْبَابِ التَّعَوُّذِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ:

حَاصِل أَحَادِيث الْبَاب اِسْتِحْبَاب التَّعَوُّذ بَيْن التَّشَهُّد وَالتَّسْلِيم مِنْ هَذِهِ الْأُمُور. وَفيه إِثْبَات عَذَاب الْقَبْر وَفِتْنَته، وَهُوَ مَذْهَب أَهْل الْحَقّ خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ. وَمَعْنَى فِتْنَة الْمَحْيَا وَالْمَمَات: الْحَيَاة وَالْمَوْت. وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُرَاد بِفِتْنَةِ الْمَوْت، فَقِيلَ: فِتْنَة الْقَبْر، وَقِيلَ: يَحْتَمِل أَنَّهُ يُرَاد بِهَا الْفِتْنَة عِنْد الِاحْتِضَار.
وَأَمَّا الْجَمْع بَيْن فِتْنَة الْمَحْيَا وَالْمَمَات وَفِتْنَة الْمَسِيح الدَّجَّال وَعَذَاب الْقَبْر فَهُوَ مِنْ بَاب ذِكْر الْخَاصّ بَعْد الْعَامّ وَنَظَائِره كَثِيرَة.
قَوْله: عَنْ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا: «أَنَّ يَهُودِيَّة قَالَتْ: هَلْ شَعَرْت أَنَّكُمْ تُفْتَنُونَ فِي الْقُبُور؟ فَارْتَاعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ: إِنَّمَا تُفْتَن يَهُود، فَلَبِثْنَا لَيَالِي ثُمَّ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ شَعَرْت أَنَّهُ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّكُمْ تُفْتَنُونَ فِي الْقُبُور»، وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: «دَخَلْت عَجُوزَانِ مِنْ عُجُز يَهُود الْمَدِينَة» وَذَكَرَتْ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَدَّقَهُمَا، هَذَا مَحْمُول عَلَى أَنَّهُمَا قَضِيَّتَانِ فَجَرَتْ الْقَضِيَّة الْأُولَى، ثُمَّ أُعْلِمَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ، ثُمَّ جَاءَتْ الْعَجُوزَانِ بَعْد لَيَالٍ فَكَذَّبَتْهُمَا عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا، وَلَمْ تَكُنْ عَلِمْت نُزُول الْوَحْي بِإِثْبَاتِ عَذَاب الْقَبْر، فَدَخَلَ عَلَيْهَا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرْته بِقَوْلِ الْعَجُوزَيْنِ، فَقَالَ صَدَقَتَا، وَأَعْلَمَ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا بِأَنَّهُ كَانَ قَدْ نَزَلَ الْوَحْي بِإِثْبَاتِهِ، وَقَوْلهَا: لَمْ أُنْعِمْ أَنْ أُصَدِّقَهُمَا، أَيْ لَمْ تَطِبْ نَفْسِي أَنْ أُصَدِّقهُمَا، وَمِنْهُ قَوْلهمْ فِي التَّصْدِيق: (أُنْعِم) وَهُوَ بِضَمِّ الْهَمْزَة وَإِسْكَان النُّون وَكَسْر الْعَيْن.
920- سبق شرحه بالباب.
921- سبق شرحه بالباب.
922- سبق شرحه بالباب.

.باب مَا يُسْتَعَاذُ مِنْهُ فِي الصَّلاَةِ:

925- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذ بِك مِنْ الْمَأْثَم وَالْمَغْرَم» وَمَعْنَاهُ مِنْ الْإِثْم وَالْغُرْم، وَهُوَ الدَّيْن.
926- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا فَرَغَ أَحَدُكُمْ مِنْ التَّشَهُّد الْآخِر فَلْيَتَعَوَّذْ بِاَللَّهِ مِنْ أَرْبَع» فيه: التَّصْرِيح بِاسْتِحْبَابِهِ فِي التَّشَهُّد الْأَخِير، وَالْإِشَارَة إِلَى أَنَّهُ لَا يُسْتَحَبّ فِي الْأَوَّل، وَهَذَا الْحُكْمُ لِأَنَّ الْأَوَّل مَبْنِيٌّ عَلَى التَّخْفِيفِ.
930- قَوْله: (أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُعَلِّمهُمْ هَذَا الدُّعَاء كَمَا يُعَلِّمهُمْ السُّورَة مِنْ الْقُرْآن، وَأَنَّ طَاوُسًا رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى أَمَرَ اِبْنه حِين لَمْ يَدْعُ بِهَذَا الدُّعَاء فيها بِإِعَادَةِ الصَّلَاة) هَذَا كُلّه يَدُلّ عَلَى تَأْكِيد هَذَا الدُّعَاء وَالتَّعَوُّذ وَالْحَثّ الشَّدِيد عَلَيْهِ، وَظَاهِر كَلَام طَاوُسٍ رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى أَنَّهُ حَمَلَ الْأَمْر بِهِ عَلَى الْوُجُوب، فَأَوْجَبَ إِعَادَة الصَّلَاة لِفَوَاتِهِ. وَجُمْهُور الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّهُ مُسْتَحَبّ لَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَلَعَلَّ طَاوُسًا أَرَادَ تَأْدِيب اِبْنه وَتَأْكِيد هَذَا الدُّعَاء عِنْده، لَا أَنَّهُ يَعْتَقِد وُجُوبه. وَاللَّهُ أَعْلَم.
قَالَ الْقَاضِي عِيَاض رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى: وَدُعَاء النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَاسْتِعَاذَته مِنْ هَذِهِ الْأُمُور الَّتِي قَدْ عُوفِيَ مِنْهَا، وَعُصِمَ إِنَّمَا فَعَلَهُ لِيَلْتَزِم خَوْف اللَّه تَعَالَى وَإِعْظَامه وَالِافْتِقَار إِلَيْهِ وَلِتَقْتَدِيَ بِهِ أُمَّته، وَلِيُبَيِّن لَهُمْ صِفَة الدُّعَاء وَالْمُهِمّ مِنْهُ. وَاللَّهُ أَعْلَم.

.باب اسْتِحْبَابِ الذِّكْرِ بَعْدَ الصَّلاَةِ وَبَيَانِ صِفَتِهِ:

931- قَوْله: «إِذَا اِنْصَرَفَ مِنْ صَلَاته اِسْتَغْفَرَ ثَلَاثًا» الْمُرَاد بِالِانْصِرَافِ السَّلَامُ.
933- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَلَا يَنْفَع ذَا الْجَدِّ مِنْك الْجَدُّ» الْمَشْهُور الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُور أَنَّهُ بِفَتْحِ الْجِيم، وَمَعْنَاهُ لَا يَنْفَع ذَا الْغِنَى وَالْحَظّ مِنْك غِنَاهُ. وَضَبَطَهُ جَمَاعَة بِكَسْرِ الْجِيم، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانه مَبْسُوطًا فِي بَاب: مَا يَقُول إِذَا رَفَعَ رَأْسه مِنْ الرُّكُوع.
قَوْله: (عَنْ اِبْن عَوْن عَنْ أَبِي سَعِيد عَنْ وَرَّاد) اِخْتَلَفُوا فِي أَبِي سَعِيد هَذَا، فَالصَّوَاب الَّذِي قَالَهُ الْبُخَارِيّ فِي تَارِيخه وَغَيْره مِنْ الْأَئِمَّة: أَنَّهُ عَبْد رَبّه بْن سَعِيد، وَقَالَ اِبْن السَّكَن: هُوَ اِبْن أَخِي عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا مِنْ الرَّضَاعَة، وَغَلَّطُوهُ فِي ذَلِكَ، وَقَالَ اِبْن عَبْد الْبَرّ: هُوَ الْحَسَن الْبَصْرِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ وَغَلَّطُوهُ أَيْضًا.
936- قَوْله: «ذَهَبَ أَهْل الدُّثُور» هُوَ بِالثَّاءِ الْمُثَلَّثَة وَاحِدهَا دَثَر، وَهُوَ الْمَال الْكَثِير. وَفِي هَذَا الْحَدِيث دَلِيل لِمَنْ فَضَّلَ الْغَنِيّ الشَّاكِر عَلَى الْفَقِير الصَّابِر، وَفِي الْمَسْأَلَة خِلَاف مَشْهُور بَيْن السَّلَف وَالْخَلَف مِنْ الطَّوَائِف. وَاللَّهُ أَعْلَم.
قَوْله فِي كَيْفِيَّة عَدَد التَّسْبِيحَات وَالتَّحْمِيدَات وَالتَّكْبِيرَات: (أَنَّ أَبَا صَالِح رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى قَالَ: يَقُول: اللَّه أَكْبَر وَسُبْحَان اللَّه وَالْحَمْد لِلَّهِ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ مَرَّة) وَذَكَرَ بَعْد هَذِهِ الْأَحَادِيث مِنْ طُرُق غَيْر طَرِيق أَبِي صَالِح، وَظَاهِرهَا أَنَّهُ يُسَبِّح ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ مُسْتَقِلَّة، وَيُكَبِّر ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ مُسْتَقِلَّة، وَيَحْمَد كَذَلِكَ، وَهَذَا ظَاهِر الْأَحَادِيث.
قَالَ الْقَاضِي عِيَاض: وَهُوَ أَوْلَى مِنْ تَأْوِيل أَبِي صَالِح.
وَأَمَّا قَوْل سُهَيْل: إِحْدَى عَشْرَة فَلَا يُنَافِي رِوَايَة الْأَكْثَرِينَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، بَلْ مَعَهُمْ زِيَادَة يَجِب قَبُولهَا، وَفِي رِوَايَة: (تَمَام الْمِائَة لَا إِلَه إِلَّا اللَّه وَحْده لَا شَرِيك لَهُ لَهُ الْمُلْك وَلَهُ الْحَمْد وَهُوَ عَلَى كُلّ شَيْء قَدِير)، وَفِي رِوَايَة: (أَنَّ التَّكْبِيرَات أَرْبَع وَثَلَاثُونَ) وَكُلّهَا زِيَادَات مِنْ الثِّقَات يَجِب قَبُولهَا، فَيَنْبَغِي أَنْ يَحْتَاط الْإِنْسَان فَيَأْتِي بِثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ تَسْبِيحَة، وَمِثْلهَا تَحْمِيدَات وَأَرْبَع وَثَلَاثِينَ تَكْبِيرَة وَيَقُول مَعَهَا: لَا إِلَه إِلَّا اللَّه وَحْده لَا شَرِيك لَهُ... إِلَى آخِرهَا؛ لِيَجْمَع بَيْن الرِّوَايَات.
937- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مُعَقِّبَات لَا يَخِيب قَائِلهنَّ أَوْ فَاعِلهنَّ» قَالَ الْهَرَوِيُّ: قَالَ سَمُرَة: مَعْنَاهُ: تَسْبِيحَات تُفْعَل أَعْقَاب الصَّلَاة.
وَقَالَ أَبُو الْهُشَيْم: سُمِّيَتْ مُعَقِّبَات؛ لِأَنَّهَا تُفْعَل مَرَّة بَعْد أُخْرَى.
وَقَوْله تَعَالَى: {لَهُ مُعَقِّبَات} أَيْ مَلَائِكَة يَعْقُب بَعْضهمْ بَعْضًا، وَاعْلَمْ أَنَّ حَدِيث كَعْب بْن عُجْرَة هَذَا ذَكَرَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي اِسْتِدْرَاكَاته عَلَى مُسْلِم وَقَالَ: الصَّوَاب أَنَّهُ مَوْقُوف عَلَى كَعْب؛ لِأَنَّ مَنْ رَفَعَهُ لَا يُقَاوِمُونَ مَنْ وَقَفَهُ فِي الْحِفْظ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مَرْدُود، لِأَنَّ مُسْلِمًا رَوَاهُ مِنْ طُرُق كُلّهَا مَرْفُوعَة، وَذَكَرَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ أَيْضًا مِنْ طُرُق أُخْرَى مَرْفُوعَة، وَإِنَّمَا رُوِيَ مَوْقُوفًا مِنْ جِهَة مَنْصُور وَشُعْبَة، وَقَدْ اِخْتَلَفُوا عَلَيْهِمَا أَيْضًا فِي رَفْعه وَوَقْفه، وَبَيَّنَ الدَّارَقُطْنِيُّ ذَلِكَ.
وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي الْفُصُول السَّابِقَة فِي أَوَّل هَذَا الشَّرْح أَنَّ الْحَدِيث الَّذِي رُوِيَ مَوْقُوفًا وَمَرْفُوعًا يُحْكَم بِأَنَّهُ مَرْفُوع عَلَى الْمَذْهَب الصَّحِيح الَّذِي عَلَيْهِ الْأُصُولِيُّونَ وَالْفُقَهَاء وَالْمُحَقِّقُونَ مِنْ الْمُحَدِّثِينَ مِنْهُمْ الْبُخَارِيّ وَآخَرُونَ، حَتَّى لَوْ كَانَ الْوَاقِفُونَ أَكْثَر مِنْ الرَّافِعِينَ حُكِمَ بِالرَّفْعِ، كَيْف وَالْأَمْر هُنَا بِالْعَكْسِ؟ وَدَلِيله مَا سَبَقَ أَنَّ هَذِهِ زِيَادَة ثِقَة فَوَجَبَ قَبُولهَا، وَلَا تُرَدّ لِنِسْيَانٍ أَوْ تَقْصِير حَصَلَ بِمَنْ وَقَفَهُ. وَاللَّهُ أَعْلَم.
939- قَوْله: (عَنْ أَبِي عُبَيْد الْمَذْحِجِيّ) هُوَ بِفَتْحِ الْمِيم وَإِسْكَان الذَّال الْمُعْجَمَة ثُمَّ حَاء مُهْمَلَة مَكْسُورَة ثُمَّ جِيم مَنْسُوب إِلَى مَذْحِج قَبِيلَة مَعْرُوفَة.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «دُبُر كُلّ صَلَاة» هُوَ بِضَمِّ الدَّال، هَذَا هُوَ الْمَشْهُور فِي اللُّغَة، وَالْمَعْرُوف فِي الرِّوَايَات.
وَقَالَ أَبُو عُمَر الْمُطَرِّزِيّ فِي كِتَابه الْيَوَاقِيت: دَبْر كُلّ شَيْء بِفَتْحِ الدَّال: آخِر أَوْقَاته، مِنْ الصَّلَاة وَغَيْرهَا، وَقَالَ: هَذَا هُوَ الْمَعْرُوف فِي اللُّغَة.
وَأَمَّا (الْخَارِجَة) فَبِالضَّمِّ، وَقَالَ الدَّاوُدِيّ عَنْ اِبْن الْأَعْرَابِيّ: دُبُر الشَّيْء وَدَبُره بِالضَّمِّ وَالْفَتْح: آخِر أَوْقَاته، وَالصَّحِيح الضَّمّ، وَلَمْ يَذْكُر الْجَوْهَرِيّ وَآخَرُونَ غَيْره.

.باب مَا يُقَالُ بَيْنَ تَكْبِيرَةِ الإِحْرَامِ وَالْقِرَاءَةِ:

940- قَوْله (سَكَتَ هُنَيَّة) هِيَ بِضَمِّ الْهَاء وَفَتْح النُّون وَتَشْدِيد الْيَاء بِغَيْرِ هَمْزَة، وَهِيَ تَصْغِير (هَنَة) أَصْلهَا هَنْوَة فَلَمَّا صُغِّرَتْ صَارَتْ (هُنَيْوَة) فَاجْتَمَعَتْ وَاو وَيَاء وَسُبِقَتْ إِحْدَاهُمَا بِالسُّكُونِ فَوَجَبَ قَلْب الْوَاو يَاء فَاجْتَمَعَتْ يَاءَانِ فَأُدْغِمَتْ إِحْدَاهُمَا فِي الْأُخْرَى فَصَارَتْ (هُنَيَّة)، وَمَنْ هَمَزَهَا فَقَدْ أَخْطَأَ. وَرَوَاهُ بَعْضهمْ (هُنَيْهَة) وَهُوَ صَحِيح أَيْضًا. وَفِي هَذَا الْحَدِيث أَلْفَاظ تَقَدَّمَ شَرْحهَا فِي بَاب مَا يَقُول إِذَا رَفَعَ رَأْسه مِنْ الرُّكُوع. وَفيه دَلِيل لِلشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَة وَأَحْمَد وَالْجُمْهُور أَنَّهُ يُسْتَحَبّ دُعَاء الِافْتِتَاح، وَجَاءَتْ فيه أَحَادِيث كَثِيرَة فِي الصَّحِيح مِنْهَا هَذَا الْحَدِيث، وَحَدِيث عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ فِي: «وَجَّهْت وَجْهِيَ» إِلَى آخِره. ذَكَرَهُ مُسْلِم بَعْد هَذَا فِي أَبْوَاب صَلَاة اللَّيْل وَغَيْر ذَلِكَ مِنْ الْأَحَادِيث، وَقَدْ جَمَعْتهَا مُوَضَّحَة فِي شَرْح الْمُهَذَّب.
وَقَالَ مَالِك رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: لَا يُسْتَحَبّ دُعَاء الِافْتِتَاح بَعْد تَكْبِيرَة الْإِحْرَام، وَدَلِيل الْجُمْهُور هَذِهِ الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة.
942- قَوْله: «وَقَدْ حَفَزَهُ النَّفَس» هُوَ بِفَتْحِ حُرُوفه وَتَخْفِيفهَا أَيْ ضَغَطَهُ لِسُرْعَتِهِ.
قَوْله: «فَأَرَمَّ الْقَوْم» هُوَ بِفَتْحِ الرَّاء وَتَشْدِيد الْمِيم أَيْ سَكَتُوا.
قَالَ الْقَاضِي عِيَاض: وَرَوَاهُ بَعْضهمْ فِي غَيْر صَحِيح مُسْلِم: «فَأَزَّمَ» بِالزَّايِ الْمَفْتُوحَة وَتَخْفِيف الْمِيم مِنْ الْأَزْم وَهُوَ الْإِمْسَاك، وَهُوَ صَحِيح الْمَعْنَى.
943- قَوْله: «اللَّه أَكْبَر كَبِيرًا» أَيْ كَبَّرْت كَبِيرًا. وَفِي الرِّوَايَة الْأُولَى دَلِيل عَلَى أَنَّ بَعْض الطَّاعَات قَدْ يَكْتُبُهَا غَيْر الْحَفَظَة أَيْضًا.

.باب اسْتِحْبَابِ إِتْيَانِ الصَّلاَةِ بِوَقَارٍ وَسَكِينَةٍ وَالنَّهْيِ عَنْ إِتْيَانِهَا سَعْيًا:

944- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا أُقِيمَتْ الصَّلَاة فَلَا تَأْتُوهَا تَسْعُونَ وَأْتُوهَا تَمْشُونَ وَعَلَيْكُمْ السَّكِينَة، فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا. وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا» فيه: النَّدْب الْأَكِيد إِلَى إِتْيَان الصَّلَاة بِسَكِينَةٍ وَوَقَار، وَالنَّهْي عَنْ إِتْيَانهَا سَعْيًا، سَوَاء فيه صَلَاة الْجُمُعَة وَغَيْرهَا، سَوَاء خَافَ فَوْت تَكْبِيرَة الْإِحْرَام أَمْ لَا. وَالْمُرَاد بِقَوْلِ اللَّه تَعَالَى: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْر اللَّه} الذَّهَاب، يُقَال سَعَيْت فِي كَذَا أَوْ إِلَى كَذَا إِذَا ذَهَبْت إِلَيْهِ، وَعَمِلْت فيه، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} قَالَ الْعُلَمَاء: وَالْحِكْمَة فِي إِتْيَانهَا بِسَكِينَةٍ وَالنَّهْي عَنْ السَّعْي أَنَّ الذَّاهِب إِلَى صَلَاة عَامِد فِي تَحْصِيلهَا وَمُتَوَصِّل إِلَيْهَا، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُون مُتَأَدِّبًا بِآدَابِهَا، وَعَلَى أَكْمَل الْأَحْوَال. وَهَذَا مَعْنَى الرِّوَايَة الثَّانِيَة: فَإِنَّ أَحَدكُمْ إِذَا كَانَ يَعْمِد إِلَى الصَّلَاة فَهُوَ فِي صَلَاة.
وَقَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا أُقِيمَتْ الصَّلَاة» إِنَّمَا ذَكَرَ الْإِقَامَة لِلتَّنْبِيهِ بِهَا عَلَى مَا سِوَاهَا؛ لِأَنَّهُ إِذَا نَهَى عَنْ إِتْيَانهَا سَعْيًا فِي حَال الْإِقَامَة مَعَ خَوْفه فَوْت بَعْضهَا فَقَبْل الْإِقَامَة أَوْلَى، وَأَكَّدَ ذَلِكَ بِبَيَانِ الْعِلَّة فَقَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَإِنَّ أَحَدكُمْ إِذَا كَانَ يَعْمِد إِلَى الصَّلَاة فَهُوَ فِي صَلَاة». وَهَذَا يَتَنَاوَل جَمِيع أَوْقَات الْإِتْيَان إِلَى الصَّلَاة، وَأَكَّدَ ذَلِكَ تَأْكِيدًا آخَر قَالَ: فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا، فَحَصَلَ فيه تَنْبِيه وَتَأْكِيد لِئَلَّا يَتَوَهَّم مُتَوَهِّم أَنَّ النَّهْي إِنَّمَا هُوَ لِمَنْ لَمْ يَخَفْ فَوْت بَعْض الصَّلَاة، فَصَرَّحَ بِالنَّهْيِ وَإِنْ فَاتَ مِنْ الصَّلَاة مَا فَاتَ، وَبَيَّنَ مَا يُفْعَل فِيمَا فَاتَ.
945- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَإِنَّ أَحَدكُمْ إِذَا كَانَ يَعْمِد إِلَى الصَّلَاة فَهُوَ فِي صَلَاة» دَلِيل عَلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبّ لِلذَّاهِبِ إِلَى الصَّلَاة أَنْ لَا يَعْبَث بِيَدِهِ، وَلَا يَتَكَلَّم بِقَبِيحٍ، وَلَا يَنْظُر نَظَرًا قَبِيحًا، وَيَجْتَنِب مَا أَمْكَنَهُ مِمَّا يَجْتَنِبهُ الْمُصَلِّي، فَإِذَا وَصَلَ الْمَسْجِد وَقَعَدَ يَنْتَظِر الصَّلَاة كَانَ الِاعْتِنَاء بِمَا ذَكَرْنَاهُ آكَد.
946- وَقَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَا فَاتَكُمْ» دَلِيل: عَلَى جَوَاز قَوْل: فَاتَتْنَا الصَّلَاة، وَأَنَّهُ لَا كَرَاهَة فيه، وَبِهَذَا قَالَ جُمْهُور الْعُلَمَاء، وَكَرِهَهُ اِبْن سِيرِينَ، وَقَالَ: إِنَّمَا يُقَال لَمْ نُدْرِكهَا.
وَقَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا». هَكَذَا ذَكَرَهُ مُسْلِم فِي أَكْثَر رِوَايَاته. وَفِي رِوَايَة: «وَاقْضِ مَا سَبَقَك» وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي الْمَسْأَلَة: فَقَالَ الشَّافِعِيّ وَجُمْهُور الْعُلَمَاء مِنْ السَّلَف وَالْخَلَف: مَا أَدْرَكَهُ الْمَسْبُوق مَعَ الْإِمَام أَوَّل صَلَاته وَمَا يَأْتِي بِهِ بَعْد سَلَامه آخِرهَا، وَعَكَسَهُ أَبُو حَنِيفَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُ وَطَائِفَة وَعَنْ مَالِك وَأَصْحَابه رِوَايَتَانِ كَالْمَذْهَبَيْنِ، وَحُجَّة هَؤُلَاءِ: «وَاقْضِ مَا سَبَقَك». وَحُجَّة الْجُمْهُور أَنَّ أَكْثَر الرِّوَايَات: «وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا» وَأَجَابُوا عَنْ رِوَايَة: «وَاقْضِ مَا سَبَقَك» أَنَّ الْمُرَاد بِالْقَضَاءِ الْفِعْل لَا الْقَضَاء الْمُصْطَلَح عَلَيْهِ عِنْد الْفُقَهَاء، وَقَدْ كَثُرَ اِسْتِعْمَال الْقَضَاء بِمَعْنَى الْفِعْل فَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {فَقَضَاهُنَّ سَبْع سَمَاوَات} وَقَوْله تَعَالَى: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِككُمْ} وَقَوْله تَعَالَى: {فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلَاة} وَيُقَال: قَضَيْت حَقّ فُلَان، وَمَعْنَى الْجَمِيع الْفِعْل.
947- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا ثُوِّبَ بِالصَّلَاةِ» مَعْنَاهُ إِذَا أُقِيمَتْ، سُمِّيَتْ الْإِقَامَة تَثْوِيبًا؛ لِأَنَّهَا دُعَاء إِلَى الصَّلَاة بَعْد الدُّعَاء بِالْأَذَانِ مِنْ قَوْلهمْ: ثَابَ إِذَا رَجَعَ.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَعَلَيْهِ السَّكِينَة وَالْوَقَار» قِيلَ: هُمَا بِمَعْنًى، وَجَمَعَ بَيْنهمَا تَأْكِيدًا، وَالظَّاهِر أَنَّ بَيْنهمَا فَرْقًا، وَأَنَّ السَّكِينَة التَّأَنِّي فِي الْحَرَكَات وَاجْتِنَاب الْعَبَث وَنَحْو ذَلِكَ، وَالْوَقَار فِي الْهَيْئَة وَغَضّ الْبَصَر وَخَفْض الصَّوْت وَالْإِقْبَال عَلَى طَرِيقه بِغَيْرِ اِلْتِفَات، وَنَحْو ذَلِكَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
948- قَوْله: «فَسَمِعَ جَلَبَة» أَيْ أَصْوَاتًا لِحَرَكَتِهِمْ وَكَلَامهمْ وَاسْتِعْجَالهمْ.
قَوْله: (حَدَّثَنَا شَيْبَانُ بِهَذَا الْإِسْنَاد) يَعْنِي حَدَّثَنَا شَيْبَانُ عَنْ يَحْيَى بْن أَبِي كَثِير بِإِسْنَادِهِ الْمُتَقَدِّم، وَكَانَ يَنْبَغِي لِمُسْلِمٍ أَنْ يَقُول: عَنْ يَحْيَى؛ لِأَنَّ شَيْبَانَ لَمْ يَتَقَدَّم لَهُ ذِكْرٌ، وَعَادَة مُسْلِم وَغَيْره فِي مِثْل هَذَا أَنْ يَذْكُرُوا فِي الطَّرِيق الثَّانِي رَجُلًا مِمَّنْ سَبَقَ فِي الطَّرِيق الْأَوَّل، وَيَقُولُوا بِهَذَا الْإِسْنَاد حَتَّى يُعْرَف، وَكَأَنَّ مُسْلِمًا رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى اِقْتَصَرَ عَلَى شَيْبَانَ لِلْعِلْمِ بِأَنَّهُ فِي دَرَجَة مُعَاوِيَة بْن سَلَّامٍ السَّابِق، وَأَنَّهُ يَرْوِي عَنْ يَحْيَى بْن أَبِي كَثِير. وَاللَّهُ أَعْلَم.