فصل: باب الأَمْرِ بِقَضَاءِ النَّذْرِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج المشهور بـ «شرح النووي على مسلم»



.باب تَرْكِ الْوَصِيَّةِ لِمَنْ لَيْسَ لَهُ شيء يُوصِي فِيهِ:

قَوْله: (عَنْ طَلْحَة بْن مُصَرِّف) هُوَ بِضَمِّ الْمِيم وَفَتْح الصَّاد وَكَسْر الرَّاء الْمُشَدَّدَة، وَحُكِيَ فَتْح الرَّاء، وَالصَّوَاب الْمَشْهُور كَسْرهَا.
قَوْله: «سَأَلْت عَبْد اللَّه بْن أَبِي أَوْفَى، هَلْ أَوْصَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالَ: لَا. قُلْت: فَلِمَ كُتِبَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ الْوَصِيَّة؟ أَوْ فَلِمَ أُمِرُوا بِالْوَصِيَّةِ؟ قَالَ: أَوْصَى بِكِتَابِ اللَّه تَعَالَى»، وَفِي رِوَايَة عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا: «مَا تَرَكَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا وَلَا شَاة وَلَا بَعِيرًا وَلَا أَوْصَى بِهِ»، وَفِي رِوَايَة (قَالَ: ذَكَرُوا عِنْد عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّه عَنْهُ كَانَ وَصِيًّا فَقَالَتْ: مَتَى أَوْصَى إِلَيْهِ؟ فَقَدْ كُنْت مُسْنِدَته إِلَى صَدْرِي، أَوْ قَالَتْ حِجْرِي، فَدَعَا بِالطَّسْتِ فَلَقَدْ اِنْخَنَثَ فِي حِجْرِي وَمَا شَعَرْت أَنَّهُ مَاتَ فَمَتَى أَوْصَى؟).
أَمَّا قَوْلهَا: (اِنْخَنَثَ) فَمَعْنَاهُ: مَالَ وَسَقَطَ، وَأَمَّا حِجْر الْإِنْسَان وَهُوَ حِجْر ثَوْبه فَبِفَتْحِ الْحَاء وَكَسْرهَا.
وَأَمَّا قَوْله: (لَمْ يُوصِ)، فَمَعْنَاهُ لَمْ يُوصِ بِثُلُثِ مَاله وَلَا غَيْره إِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَال وَلَا أَوْصَى إِلَى عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ وَلَا إِلَى غَيْره، بِخِلَافِ مَا يَزْعُمهُ الشِّيعَة، وَأَمَّا الْأَرْض الَّتِي كَانَتْ لَهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخَيْبَر وَفَدَك، فَقَدْ سَلَبَهَا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَيَاته وَنَجَّزَ الصَّدَقَة بِهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ.
وَأَمَّا الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة فِي وَصِيَّته صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكِتَابِ اللَّه وَوَصِيَّته بِأَهْلِ بَيْته، وَوَصِيَّته بِإِخْرَاجِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ جَزِيرَة الْعَرَب، وَبِإِجَازَةِ الْوَفْد فَلَيْسَتْ مُرَادَة بِقَوْلِهِ: لَمْ يُوصِ، إِنَّمَا الْمُرَاد بِهِ مَا قَدَّمْنَاهُ، وَهُوَ مَقْصُود السَّائِل عَنْ الْوَصِيَّة، فَلَا مُنَاقَضَة بَيْن الْأَحَادِيث، وَقَوْله: أَوْصَى بِكِتَابِ اللَّه، أَيْ بِالْعَمَلِ بِمَا فيه، وَقَدْ قَالَ اللَّه تَعَالَى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَاب مِنْ شَيْء} وَمَعْنَاهُ: أَنَّ مِنْ الْأَشْيَاء مَا يُعْلَم مِنْهُ نَصًّا، وَمِنْهَا مَا يَحْصُل بِالِاسْتِنْبَاطِ.
وَأَمَّا قَوْل السَّائِل: (فَلِمَ كُتِبَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ الْوَصِيَّة) فَمُرَاده قَوْله تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدكُمْ الْمَوْت إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّة} وَهَذِهِ الْآيَة مَنْسُوخَة عِنْد الْجُمْهُور، وَيَحْتَمِل أَنَّ السَّائِل أَرَادَ بِكَتْبِ الْوَصِيَّة النَّدْب إِلَيْهَا. وَاللَّهُ أَعْلَم.
3086- سبق شرحه بالباب.
3088- سبق شرحه بالباب.
3089- قَوْله: (عَنْ اِبْن عَبَّاس يَوْم الْخَمِيس وَمَا يَوْم الْخَمِيس) مَعْنَاهُ: تَفْخِيم أَمْره فِي الشِّدَّة وَالْمَكْرُوه فِيمَا يَعْتَقِدهُ اِبْن عَبَّاس، وَهُوَ اِمْتِنَاع الْكِتَاب، وَلِهَذَا قَالَ اِبْن عَبَّاس: الرَّزِيَّة كُلّ الرَّزِيَّة مَا حَال بَيْن رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْن أَنْ يَكْتُب هَذَا الْكِتَاب، هَذَا مُرَاد اِبْن عَبَّاس، وَإِنْ كَانَ الصَّوَاب تَرْك الْكِتَاب كَمَا سَنَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «دَعُونِي فَاَلَّذِي أَنَا فيه خَيْر» مَعْنَاهُ دَعُونِي مِنْ النِّزَاع وَاللَّغَط الَّذِي شَرَعْتُمْ فيه، فَاَلَّذِي أَنَا فيه مِنْ مُرَاقَبَة اللَّه تَعَالَى وَالتَّأَهُّب لِلِقَائِهِ وَالْفِكْر فِي ذَلِكَ وَنَحْوه أَفْضَل مِمَّا أَنْتُمْ فيه.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَخْرِجُوا الْمُشْرِكِينَ مِنْ جَزِيرَة الْعَرَب» قَالَ أَبُو عُبَيْد: قَالَ الْأَصْمَعِيّ: جَزِيرَة الْعَرَب مَا بَيْن أَقْصَى عَدَن الْيَمَن إِلَى رِيف الْعِرَاق فِي الطُّول، وَأَمَّا فِي الْعَرْض فَمِنْ جُدَّة وَمَا وَالَاهَا إِلَى أَطْرَاف الشَّام.
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: هِيَ مَا بَيْن حَفَر أَبِي مُوسَى إِلَى أَقْصَى الْيَمَن فِي الطُّول، وَأَمَّا فِي الْعَرْض فَمَا بَيْن رَمْل يَرِين إِلَى مُنْقَطِع السَّمَاوَة. وَقَوْله: (حَفَر أَبِي مُوسَى) هُوَ بِفَتْحِ الْحَاء الْمُهْمَلَة وَفَتْح الْفَاء أَيْضًا، قَالُوا: وَسُمِّيَتْ جَزِيرَة لِإِحَاطَةِ الْبِحَار بِهَا مِنْ نَوَاحِيهَا وَانْقِطَاعهَا عَنْ الْمِيَاه الْعَظِيمَة، وَأَصْل الْجُزُر فِي اللُّغَة الْقِطَع، وَأُضِيفَتْ إِلَى الْعَرَب لِأَنَّهَا الْأَرْض الَّتِي كَانَتْ بِأَيْدِيهِمْ قَبْل الْإِسْلَام، وَدِيَارهمْ الَّتِي هِيَ أَوْطَانهمْ وَأَوْطَان أَسْلَافهمْ. وَحَكَى الْهَرَوِيُّ عَنْ مَالِك أَنَّ جَزِيرَة الْعَرَب هِيَ الْمَدِينَة، وَالصَّحِيح الْمَعْرُوف عَنْ مَالِك أَنَّهَا مَكَّة وَالْمَدِينَة وَالْيَمَامَة وَالْيَمَن، وَأَخَذَ بِهَذَا الْحَدِيث مَالِك وَالشَّافِعِيّ وَغَيْرهمَا مِنْ الْعُلَمَاء، فَأَوْجَبُوا إِخْرَاج الْكُفَّار مِنْ جَزِيرَة الْعَرَب، وَقَالُوا: لَا يَجُوز تَمْكِينهمْ مِنْ سُكْنَاهَا. وَلَكِنَّ الشَّافِعِيّ خَصَّ هَذَا الْحُكْم بِبَعْضِ جَزِيرَة الْعَرَب وَهُوَ الْحِجَاز، وَهُوَ عِنْده مَكَّة وَالْمَدِينَة وَالْيَمَامَة وَأَعْمَالهَا دُون الْيَمَن وَغَيْره مِمَّا هُوَ مِنْ جَزِيرَة الْعَرَب بِدَلِيلٍ آخَر مَشْهُور فِي كُتُبه وَكُتُب أَصْحَابه.
قَالَ الْعُلَمَاء: وَلَا يُمْنَع الْكُفَّار مِنْ التَّرَدُّد مُسَافِرِينَ فِي الْحِجَاز، وَلَا يُمَكَّنُونَ مِنْ الْإِقَامَة فيه أَكْثَر مِنْ ثَلَاثَة أَيَّام.
قَالَ الشَّافِعِيّ وَمُوَافِقُوهُ: إِلَّا مَكَّة وَحَرَمهَا فَلَا يَجُوز تَمْكِين كَافِر مِنْ دُخُوله بِحَالٍ، فَإِنْ دَخَلَهُ فِي خُفْيَة وَجَبَ إِخْرَاجه، فَإِنْ مَاتَ وَدُفِنَ فيه نُبِشَ وَأُخْرِجَ مَا لَمْ يَتَغَيَّر. هَذَا مَذْهَب الشَّافِعِيّ وَجَمَاهِير الْفُقَهَاء.
وَجَوَّزَ أَبُو حَنِيفَة دُخُولهمْ الْحَرَم، وَحُجَّة الْجَمَاهِير قَوْل اللَّه تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَس فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِد الْحَرَام بَعْد عَامهمْ هَذَا} وَاللَّهُ أَعْلَم.
وَقَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَأَجِيزُوا الْوَفْد بِنَحْوِ مَا كُنْت أُجِيزهُمْ» قَالَ الْعُلَمَاء: هَذَا أَمْر مِنْهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِجَازَةِ الْوُفُود وَضِيَافَتهمْ وَإِكْرَامهمْ تَطْيِيبًا لِنُفُوسِهِمْ، وَتَرْغِيبًا لِغَيْرِهِمْ مِنْ الْمُؤَلَّفَة قُلُوبهمْ وَنَحْوهمْ وَإِعَانَة عَلَى سَفَرهمْ قَالَ الْقَاضِي عِيَاض: قَالَ الْعُلَمَاء سَوَاء كَانَ الْوَفْد مُسْلِمِينَ أَوْ كُفَّارًا؛ لِأَنَّ الْكَافِر إِنَّمَا يَفِد غَالِبًا فِيمَا يَتَعَلَّق بِمَصَالِحِنَا وَمَصَالِحهمْ.
قَوْله: (وَسَكَتَ عَنْ الثَّالِثَة، أَوْ قَالَهَا فَأُنْسِيتهَا) السَّاكِت اِبْن عَبَّاس، وَالنَّاسِي سَعِيد بْنُ جُبَيْر، قَالَ الْمُهَلَّب: الثَّالِثَة هِيَ تَجْهِيز جَيْش أُسَامَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُ، قَالَ الْقَاضِي عِيَاض: وَيَحْتَمِل أَنَّهَا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَتَّخِذُوا قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَد»، فَقَدْ ذَكَرَ مَالِك فِي الْمُوَطَّأ مَعْنَاهُ مَعَ إِجْلَاء الْيَهُود مِنْ حَدِيث عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ.
وَفِي هَذَا الْحَدِيث فَوَائِد سِوَى مَا ذَكَرْنَاهُ، مِنْهَا: جَوَاز كِتَابَة الْعِلْم، وَقَدْ سَبَقَ بَيَان هَذِهِ الْمَسْأَلَة مَرَّات، وَذَكَرْنَا أَنَّهُ جَاءَ فيها حَدِيثَانِ مُخْتَلِفَانِ؛ فَإِنَّ السَّلَف اِخْتَلَفُوا فيها ثُمَّ أَجْمَعَ مَنْ بَعْدهمْ عَلَى جَوَازهَا، وَبَيَّنَّا تَأْوِيل حَدِيث الْمَنْع.
وَمِنْهَا: جَوَاز اِسْتِعْمَال الْمَجَاز لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَكْتُب لَكُمْ» أَيْ آمُر بِالْكِتَابَةِ، وَمِنْهَا: أَنَّ الْأَمْرَاض وَنَحْوهَا لَا تُنَافِي النُّبُوَّة، وَلَا تَدُلّ عَلَى سُوء الْحَال.
قَوْله: (قَالَ أَبُو إِسْحَاق إِبْرَاهِيم حَدَّثَنَا الْحَسَن بْن بِشْر حَدَّثَنَا سُفْيَان بِهَذَا الْحَدِيث) مَعْنَاهُ أَنَّ أَبَا إِسْحَاق صَاحِب مُسْلِم سَاوَى مُسْلِمًا فِي رِوَايَة هَذَا الْحَدِيث عَنْ وَاحِد عَنْ سُفْيَان بْن عُيَيْنَةَ فَعَلَا هَذَا الْحَدِيث لِأَبِي إِسْحَاق بِرَجُلٍ.
3090- «قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِين اِشْتَدَّ وَجَعه: اِئْتُونِي بِالْكَتِفِ وَالدَّوَاة أَوْ اللَّوْح وَالدَّوَاة أَكْتُب لَكُمْ كِتَابًا لَنْ تَضِلُّوا بَعْده أَبَدًا، فَقَالُوا: إِنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَهْجُر»، وَفِي رِوَايَة: «فَقَالَ عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: إِنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ غَلَبَ عَلَيْهِ الْوَجَع، وَعِنْدكُمْ الْقُرْآن، حَسْبنَا كِتَاب اللَّه، فَاخْتَلَفَ أَهْل الْبَيْت فَاخْتَصَمُوا، ثُمَّ ذُكِرَ أَنَّ بَعْضهمْ أَرَادَ الْكِتَاب، وَبَعْضهمْ وَافَقَ عُمَر، وَأَنَّهُ لَمَّا أَكْثَرُوا اللَّغْو وَالِاخْتِلَاف، قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُومُوا». اِعْلَمْ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعْصُوم مِنْ الْكَذِب، وَمِنْ تَغْيِير شَيْء مِنْ الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة فِي حَال صِحَّته وَحَال مَرَضه، وَمَعْصُوم مِنْ تَرْك بَيَان مَا أُمِرَ بَيَانه، وَتَبْلِيغ مَا أَوْجَبَ اللَّه عَلَيْهِ تَبْلِيغه، وَلَيْسَ مَعْصُومًا مِنْ الْأَمْرَاض وَالْأَسْقَام الْعَارِضَة لِلْأَجْسَامِ وَنَحْوهَا مِمَّا لَا نَقْص فيه لِمَنْزِلَتِهِ، وَلَا فَسَاد لِمَا تَمَهَّدَ مِنْ شَرِيعَته.
وَقَدْ سُحِرَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى صَارَ يُخَيَّل إِلَيْهِ أَنَّهُ فَعَلَ الشَّيْء وَلَمْ يَكُنْ فَعَلَهُ وَلَمْ يَصْدُر مِنْهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي هَذَا الْحَال كَلَام فِي الْأَحْكَام مُخَالِف لِمَا سَبَقَ مِنْ الْأَحْكَام الَّتِي قَرَّرَهَا. فَإِذَا عَلِمْت مَا ذَكَرْنَاهُ فَقَدْ اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي الْكِتَاب الَّذِي هَمَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِ، فَقِيلَ: أَرَادَ أَنْ يَنُصّ عَلَى الْخِلَافَة فِي إِنْسَان مُعَيَّن لِئَلَّا يَقَع نِزَاع وَفِتَن، وَقِيلَ: أَرَادَ كِتَابًا يُبَيِّن فيه مُهِمَّات الْأَحْكَام مُلَخَّصَة؛ لِيَرْتَفِع النِّزَاع فيها، وَيَحْصُل الِاتِّفَاق عَلَى الْمَنْصُوص عَلَيْهِ، وَكَانَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَمَّ بِالْكِتَابِ حِين ظَهَرَ لَهُ أَنَّهُ مَصْلَحَة أَوْ أُوحِيَ إِلَيْهِ بِذَلِكَ، ثُمَّ ظَهَرَ أَنَّ الْمَصْلَحَة تَرْكه، أَوْ أُوحِيَ إِلَيْهِ بِذَلِكَ، وَنُسِخَ ذَلِكَ الْأَمْر الْأَوَّل، وَأَمَّا كَلَام عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ فَقَدْ اِتَّفَقَ الْعُلَمَاء الْمُتَكَلِّمُونَ فِي شَرْح الْحَدِيث عَلَى أَنَّهُ مِنْ دَلَائِل فِقْه عُمَر وَفَضَائِله، وَدَقِيق نَظَره؛ لِأَنَّهُ خَشِيَ أَنْ يَكْتُب صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمُورًا رُبَّمَا عَجَزُوا عَنْهَا؛ وَاسْتَحَقُّوا الْعُقُوبَة عَلَيْهَا لِأَنَّهَا مَنْصُوصَة لَا مَجَال لِلِاجْتِهَادِ فيها، فَقَالَ عُمَر: حَسْبنَا كِتَاب اللَّه؛ لِقَوْله تَعَالَى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَاب مِنْ شَيْء} وَقَوْله: {الْيَوْم أَكْمَلْت لَكُمْ دِينكُمْ} فَعُلِمَ أَنَّ اللَّه تَعَالَى أَكْمَلَ دِينه فَأَمِنَ الضَّلَال عَلَى الْأُمَّة، وَأَرَادَ التَّرْفيه عَلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكَانَ عُمَر أَفْقَه مِنْ اِبْن عَبَّاس وَمُوَافِقِيهِ.
قَالَ الْإِمَام الْحَافِظ أَبُو بَكْر الْبَيْهَقِيُّ فِي أَوَاخِر كِتَابه دَلَائِل النُّبُوَّة: إِنَّمَا قَصَدَ عُمَر التَّخْفِيف عَلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِين غَلَبَهُ الْوَجَع، وَلَوْ كَانَ مُرَاده صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَكْتُب مَا لَا يَسْتَغْنُونَ عَنْهُ لَمْ يَتْرُكهُ لِاخْتِلَافِهِمْ وَلَا لِغَيْرِهِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْك} كَمَا لَمْ يَتْرُك تَبْلِيغ غَيْر ذَلِكَ لِمُخَالَفَةِ مَنْ خَالَفَهُ، وَمُعَادَاة مَنْ عَادَاهُ، وَكَمَا أَمَرَ فِي ذَلِكَ الْحَال بِإِخْرَاجِ الْيَهُود مِنْ جَزِيرَة الْعَرَب وَغَيْر ذَلِكَ مِمَّا ذَكَرَهُ فِي الْحَدِيث.
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَقَدْ حَكَى سُفْيَان بْن عُيَيْنَةَ عَنْ أَهْل الْعِلْم قَبْله أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرَادَ أَنْ يَكْتُب اِسْتِخْلَاف أَبِي بَكْر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ، ثُمَّ تَرَكَ ذَلِكَ اِعْتِمَادًا عَلَى مَا عَلِمَهُ مِنْ تَقْدِير اللَّه تَعَالَى ذَلِكَ، كَمَا هَمَّ بِالْكِتَابِ فِي أَوَّل مَرَضه حِين قَالَ: «وَارَأْسَاه» ثُمَّ تَرَكَ الْكِتَاب وَقَالَ: يَأْبَى اللَّه وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَّا أَبَا بَكْر، ثُمَّ نَبَّهَ أُمَّته عَلَى اِسْتِخْلَاف أَبِي بَكْر بِتَقْدِيمِهِ إِيَّاهُ فِي الصَّلَاة، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَإِنْ كَانَ الْمُرَاد بَيَان أَحْكَام الدِّين وَرَفْع الْخِلَاف فيها. فَقَدْ عَلِمَ عُمَر حُصُول ذَلِكَ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الْيَوْم أَكْمَلْت لَكُمْ دِينكُمْ} وَعَلِمَ أَنَّهُ لَا تَقَع وَاقِعَة إِلَى يَوْم الْقِيَامَة إِلَّا وَفِي الْكِتَاب أَوْ السُّنَّة بَيَانهَا نَصًّا أَوْ دَلَالَة، وَفِي تَكَلُّف النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَرَضه مَعَ شِدَّة وَجَعه كِتَابه ذَلِكَ مَشَقَّة، وَرَأَى عُمَر الِاقْتِصَار عَلَى مَا سَبَقَ بَيَانه إِيَّاهُ نَصًّا أَوْ دَلَالَة تَخْفِيفًا عَلَيْهِ؛ وَلِئَلَّا يَنْسَدّ بَاب الِاجْتِهَاد عَلَى أَهْل الْعِلْم وَالِاسْتِنْبَاط وَإِلْحَاق الْفُرُوع بِالْأُصُولِ، وَقَدْ كَانَ سَبَقَ قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا اِجْتَهَدَ الْحَاكِم فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا اِجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْر»، وَهَذَا دَلِيل عَلَى أَنَّهُ وَكَّلَ بَعْض الْأَحْكَام إِلَى اِجْتِهَاد الْعُلَمَاء، وَجَعَلَ لَهُمْ الْأَجْر عَلَى الِاجْتِهَاد، فَرَأَى عُمَر الصَّوَاب تَرْكهمْ عَلَى هَذِهِ الْجُمْلَة؛ لِمَا فيه مِنْ فَضِيلَة الْعُلَمَاء بِالِاجْتِهَادِ، مَعَ التَّخْفِيف عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِي تَرْكه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْإِنْكَار عَلَى عُمَر دَلِيل عَلَى اِسْتِصْوَابه، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَلَا يَجُوز أَنْ يُحْمَل قَوْل عُمَر عَلَى أَنَّهُ تَوَهَّمَ الْغَلَط عَلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ ظَنَّ بِهِ غَيْر ذَلِكَ مِمَّا لَا يَلِيق بِهِ بِحَالٍ، لَكِنَّهُ لَمَّا رَأَى مَا غَلَبَ عَلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْوَجَع، وَقُرْب الْوَفَاة مَعَ مَا اِعْتَرَاهُ مِنْ الْكَرْب خَافَ أَنْ يَكُون ذَلِكَ الْقَوْل مِمَّا يَقُولهُ الْمَرِيض مِمَّا لَا عَزِيمَة لَهُ فيه، فَتَجِد الْمُنَافِقُونَ بِذَلِكَ سَبِيلًا إِلَى الْكَلَام فِي الدِّين، وَقَدْ كَانَ أَصْحَابه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرَاجِعُونَهُ فِي بَعْض الْأُمُور قَبْل أَنْ يَجْزِم فيها بِتَحْتِيمٍ، كَمَا رَاجَعُوهُ يَوْم الْحُدَيْبِيَة فِي الْخِلَاف، وَفِي كِتَاب الصُّلْح بَيْنه وَبَيْن قُرَيْش. فَأَمَّا إِذَا أَمَرَ بِالشَّيْءِ أَمْر عَزِيمَة فَلَا يُرَاجِعهُ فيه أَحَد مِنْهُمْ.
قَالَ: وَأَكْثَر الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّهُ يَجُوز عَلَيْهِ الْخَطَأ فِيمَا لَمْ يَنْزِل عَلَيْهِ، وَقَدْ أَجْمَعُوا كُلّهمْ عَلَى أَنَّهُ لَا يُقَرّ عَلَيْهِ.
قَالَ: وَمَعْلُوم أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْ كَانَ اللَّه تَعَالَى قَدْ رَفَعَ دَرَجَته فَوْق الْخَلْق كُلّهمْ فَلَمْ يُنَزِّههُ عَنْ سِمَات الْحَدَث وَالْعَوَارِض الْبَشَرِيَّة، وَقَدْ سَهَى فِي الصَّلَاة، فَلَا يُنْكَر أَنْ يُظَنّ بِهِ حُدُوث بَعْض هَذِهِ الْأُمُور فِي مَرَضه، فَيَتَوَقَّف فِي مِثْل هَذَا الْحَال حَتَّى تَتَبَيَّن حَقِيقَته، فَلِهَذِهِ الْمَعَانِي وَشَبَههَا رَاجَعَهُ عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «اِخْتِلَاف أُمَّتِي رَحْمَة» فَاسْتَصْوَبَ عُمَر مَا قَالَهُ، وَقَدْ اِعْتَرَضَ عَلَى حَدِيث: «اِخْتِلَاف أُمَّتِي رَحْمَة» رَجُلَانِ: أَحَدهمَا مَغْمُوض عَلَيْهِ فِي دِينه، وَهُوَ عُمَر بْن بَحْر الْجَاحِظ، وَالْآخَر مَعْرُوف بِالسُّخْفِ وَالْخَلَاعَة، وَهُوَ إِسْحَاق بْن إِبْرَاهِيم الْمَوْصِلِيّ؛ فَإِنَّهُ لَمَّا وَضَعَ كِتَابه فِي الْأَغَانِي، وَأَمْكَنَ فِي تِلْكَ الْأَبَاطِيل لَمْ يَرْضَ بِمَا تَزَوَّدَ مِنْ إِثْمهَا حَتَّى صَدَّرَ كِتَابه بِذَمِّ أَصْحَاب الْحَدِيث، وَزَعَمَ أَنَّهُمْ يَرْوُونَ مَا لَا يَدْرُونَ، وَقَالَ هُوَ وَالْجَاحِظ: لَوْ كَانَ الِاخْتِلَاف رَحْمَة لَكَانَ الِاتِّفَاق عَذَابًا، ثُمَّ زَعَمَ أَنَّهُ إِنَّمَا كَانَ اِخْتِلَاف الْأُمَّة رَحْمَة فِي زَمَن النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّة؛ فَإِذَا اِخْتَلَفُوا سَأَلُوهُ، فَبَيَّنَ لَهُمْ.
وَالْجَوَاب عَنْ هَذَا الِاعْتِرَاض الْفَاسِد: أَنَّهُ لَا يَلْزَم مِنْ كَوْن الشَّيْء رَحْمَة أَنْ يَكُون ضِدّه عَذَابًا، وَلَا يَلْتَزِم هَذَا وَيَذْكُرهُ إِلَّا جَاهِل أَوْ مُتَجَاهِل.
وَقَدْ قَالَ اللَّه تَعَالَى: {وَمِنْ رَحْمَته جَعَلَ لَكُمْ اللَّيْل وَالنَّهَار لِتَسْكُنُوا فيه} فَسَمَّى اللَّيْل رَحْمَة، وَلَمْ يَلْزَم مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُون النَّهَار عَذَابًا، وَهُوَ ظَاهِر لَا شَكَّ فيه.
قَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَالِاخْتِلَاف فِي الدِّين ثَلَاثَة أَقْسَام: أَحَدهَا: فِي إِثْبَات الصَّانِع وَوَحْدَانِيّته، وَإِنْكَار ذَلِكَ كُفْر.
وَالثَّانِي: فِي صِفَاته وَمَشِيئَته، وَإِنْكَارهَا بِدْعَة.
وَالثَّالِث فِي أَحْكَام الْفُرُوع الْمُحْتَمَلَة وُجُوهًا، فَهَذَا جَعَلَهُ اللَّه تَعَالَى رَحْمَة وَكَرَامَة لِلْعُلَمَاءِ، وَهُوَ الْمُرَاد بِحَدِيثِ: اِخْتِلَاف أُمَّتِي رَحْمَة، هَذَا آخِر كَلَام الْخَطَّابِيّ رَحِمَهُ اللَّه، وَقَالَ الْمَازِرِيّ: إِنْ قِيلَ: كَيْف جَازَ لِلصَّحَابَةِ الِاخْتِلَاف فِي هَذَا الْكِتَاب مَعَ قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اِئْتُونِي أَكْتُب» وَكَيْف عَصَوْهُ فِي أَمْره؟ فَالْجَوَاب أَنَّهُ لَا خِلَاف أَنَّ الْأَوَامِر تُقَارِنهَا قَرَائِن تَنْقُلهَا مِنْ النَّدْب إِلَى الْوُجُوب عِنْد مَنْ قَالَ: أَصْلهَا لِلنَّدْبِ، وَمِنْ الْوُجُوب إِلَى النَّدْب عِنْد مَنْ قَالَ: أَصْلهَا لِلْوُجُوبِ، وَتَنْقُل قُرَيْش أَيْضًا صِيغَة أَفْعَل إِلَى الْإِبَاحَة وَإِلَى التَّخْيِير وَإِلَى غَيْر ذَلِكَ مِنْ ضُرُوب الْمَعَانِي، فَلَعَلَّهُ ظَهَرَ مِنْهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْقَرَائِن مَا دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُوجِب عَلَيْهِمْ، بَلْ جَعَلَهُ إِلَى اِخْتِيَارهمْ، فَاخْتَلَفَ اِخْتِيَارهمْ بِحَسَبِ اِجْتِهَادهمْ، وَهُوَ دَلِيل عَلَى رُجُوعهمْ إِلَى الِاجْتِهَاد فِي الشَّرْعِيَّات، فَأَدَّى عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ اِجْتِهَاده إِلَى الِامْتِنَاع مِنْ هَذَا، وَلَعَلَّهُ اِعْتَقَدَ أَنَّ ذَلِكَ صَدَرَ مِنْهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَيْر قَصْد جَازِم، وَهُوَ الْمُرَاد بِقَوْلِهِمْ: هَجَرَ وَبِقَوْلِ عُمَر: غَلَبَ عَلَيْهِ الْوَجَع، وَمَا قَارَنَهُ مِنْ الْقَرَائِن الدَّالَّة عَلَى ذَلِكَ عَلَى نَحْو مَا يَعْهَدُونَهُ مِنْ أُصُوله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَبْلِيغ الشَّرِيعَة، وَأَنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى غَيْره مِنْ طُرُق التَّبْلِيغ الْمُعْتَادَة مِنْهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَظَهَرَ ذَلِكَ لِعُمَر دُون غَيْره، فَخَالَفُوهُ، وَلَعَلَّ عُمَر خَافَ أَنَّ الْمُنَافِقِينَ قَدْ يَتَطَرَّقُونَ إِلَى الْقَدْح فِيمَا اِشْتَهَرَ مِنْ قَوَاعِد الْإِسْلَام، وَبَلَّغَهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّاس بِكِتَابٍ يُكْتَب فِي خَلْوَة، وَآحَاد، وَيُضِيفُونَ إِلَيْهِ شَيْئًا لِيُشَبِّهُوا بِهِ عَلَى الَّذِينَ فِي قُلُوبهمْ مَرَض، وَلِهَذَا قَالَ: عِنْدكُمْ الْقُرْآن حَسْبنَا كِتَاب اللَّه، وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاض: أَوْ قَوْله: «أَهَجَرَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» هَكَذَا هُوَ فِي صَحِيح مُسْلِم وَغَيْره: «أَهَجَرَ» عَلَى الِاسْتِفْهَام وَهُوَ أَصَحّ مِنْ رِوَايَة: هَجَرَ وَيَهْجُر؛ لِأَنَّ هَذَا كُلّه لَا يَصِحّ مِنْهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لِأَنَّ مَعْنَى هَجَرَ: هَذَى، وَإِنَّمَا جَاءَ هَذَا مِنْ قَائِله اِسْتِفْهَامًا لِلْإِنْكَارِ عَلَى مَنْ قَالَ: لَا تَكْتُبُوا، أَيْ لَا تَتْرُكُوا أَمْر رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَجْعَلُوهُ كَأَمْرِ مَنْ هَجَرَ فِي كَلَامه؛ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَهْجُر. وَإِنْ صَحَّتْ الرِّوَايَات الْأُخْرَى، كَانَتْ خَطَأ مِنْ قَائِلهَا قَالَهَا بِغَيْرِ تَحْقِيق، بَلْ لِمَا أَصَابَهُ مِنْ الْحَيْرَة وَالدَّهْشَة؛ لِعَظِيمِ مَا شَاهَدَهُ مِنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ هَذِهِ الْحَالَة الدَّالَّة عَلَى وَفَاته وَعَظِيم الْمُصَاب بِهِ، وَخَوْف الْفِتَن وَالضَّلَال بَعْده، وَأَجْرَى الْهَجْر مَجْرَى شِدَّة الْوَجَع، وَقَوْل عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: حَسْبنَا كِتَاب اللَّه رَدٌّ عَلَى مَنْ نَازَعَهُ لَا عَلَى أَمْر النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاللَّهُ أَعْلَم.
3091- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مِنْ اِخْتِلَافهمْ وَلَغَطهمْ» هُوَ بِفَتْحِ الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَإِسْكَانهَا. وَاللَّهُ أَعْلَم.

.كتاب النذر:

.باب الأَمْرِ بِقَضَاءِ النَّذْرِ:

3092- قَوْله: «اِسْتَفْتَى سَعْد بْن عُبَادَة رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نَذْر كَانَ عَلَى أُمّه تُوُفِّيَتْ قَبْل أَنْ تَقْضِيه قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَاقْضِهِ عَنْهَا» أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى صِحَّة النَّذْر وَوُجُوب الْوَفَاء بِهِ إِذَا كَانَ الْمُلْتَزَم طَاعَة، فَإِنْ نَذَرَ مَعْصِيَة أَوْ مُبَاحًا كَدُخُولِ السُّوق، يَنْعَقِد نَذْره وَلَا كَفَّارَة عَلَيْهِ عِنْدنَا، وَبِهِ قَالَ جُمْهُور الْعُلَمَاء، وَقَالَ أَحْمَد وَطَائِفَة: فيه كَفَّارَة يَمِين.
وَقَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَاقْضِهِ عَنْهَا» دَلِيل لِقَضَاءِ الْحُقُوق الْوَاجِبَة عَلَى الْمَيِّت، فَأَمَّا الْحُقُوق الْمَالِيَّة فَمُجْمَعٌ عَلَيْهَا.
وَأَمَّا الْبَدَنِيَّة فَفيها خِلَاف قَدَّمْنَاهُ فِي مَوَاضِع مِنْ هَذَا الْكِتَاب، ثُمَّ مَذْهَب الشَّافِعِيّ وَطَائِفَة أَنَّ الْحُقُوق الْمَالِيَّة الْوَاجِبَة عَلَى الْمَيِّت مِنْ زَكَاة وَكَفَّارَة وَنَذْر يَجِب قَضَاؤُهَا، سَوَاء أَوْصَى بِهَا أَمْ لَا كَدُيُونِ الْآدَمِيّ، وَقَالَ مَالِك وَأَبُو حَنِيفَة وَأَصْحَابهمَا: لَا يَجِب قَضَاء شَيْء مِنْ ذَلِكَ إِلَّا أَنْ يُوصِي بِهِ، وَلِأَصْحَابِ مَالِك خِلَافٌ فِي الزَّكَاة إِذَا لَمْ يُوصِ بِهَا. وَاللَّهُ أَعْلَم.
قَالَ الْقَاضِي عِيَاض: وَاخْتَلَفُوا فِي نَذْر أُمّ سَعْد هَذَا فَقِيلَ: كَانَ نَذْرًا مُطْلَقًا، وَقِيلَ: كَانَ صَوْمًا، وَقِيلَ: كَانَ عِتْقًا، وَقِيلَ: صَدَقَة. وَاسْتَدَلَّ كُلّ قَائِل بِأَحَادِيث جَاءَتْ فِي قِصَّة أُمّ سَعْد، قَالَ الْقَاضِي: وَيَحْتَمِل أَنَّ النَّذْر كَانَ غَيْر مَا وَرَدَ فِي تِلْكَ الْأَحَادِيث، قَالَ: وَالْأَظْهَر أَنَّهُ كَانَ نَذْرًا فِي الْمَال أَوْ نَذْرًا مُبْهَمًا، وَيُعَضِّدهُ مَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ حَدِيث مَالِك فَقَالَ لَهُ- يَعْنِي النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اِسْقِ عَنْهَا الْمَاء».
وَأَمَّا أَحَادِيث الصَّوْم عَنْهَا عَلَّلَهُ أَهْل الصَّنْعَة لِلِاخْتِلَافِ بَيْن رُوَاته فِي سَنَده وَمَتْنه وَكَثْرَة اِضْطِرَابه.
وَأَمَّا رِوَايَة مَنْ رَوَى: «أَفَأَعْتِق عَنْهَا» فَمُوَافَقَة أَيْضًا، لِأَنَّ الْعِتْق مِنْ الْأَمْوَال، وَلَيْسَ فيه قَطْع بِأَنَّهُ كَانَ عَلَيْهَا عِتْق. وَاللَّهُ أَعْلَم.
وَاعْلَمْ أَنَّ مَذْهَبنَا وَمَذْهَب الْجُمْهُور أَنَّ الْوَارِث لَا يَلْزَمهُ قَضَاء النَّذْر الْوَاجِب عَلَى الْمَيِّت إِذَا كَانَ غَيْر مَالِيّ، وَلَا إِذَا كَانَ مَالِيًّا وَلَمْ يُخَلِّف تَرِكَة، لَكِنْ يُسْتَحَبّ لَهُ ذَلِكَ، وَقَالَ أَهْل الظَّاهِر: يَلْزَمهُ ذَلِكَ لِحَدِيثِ سَعْد هَذَا.
وَدَلِيلنَا أَنَّ الْوَارِث لَمْ يَلْتَزِمهُ فَلَا يَلْتَزِم، وَحَدِيث سَعْد يَحْتَمِل أَنَّهُ قَضَاهُ مِنْ تَرِكَتهَا، أَوْ تَبَرَّعَ بِهِ، وَلَيْسَ فِي الْحَدِيث تَصْرِيح بِإِلْزَامِهِ ذَلِكَ. وَاللَّهُ أَعْلَم.

.باب النَّهْيِ عَنِ النَّذْرِ وَأَنَّهُ لاَ يَرُدُّ شَيْئًا:

3093- قَوْله: «أَخَذَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا يَنْهَانَا عَنْ النَّذْر وَيَقُول: إِنَّهُ لَا يَرُدّ شَيْئًا وَإِنَّمَا يُسْتَخْرَج بِهِ مِنْ الشَّحِيح» وَفِي رِوَايَة: «عَنْ اِبْن عُمَر عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ نَهَى عَنْ النَّذْر، وَقَالَ: إِنَّهُ لَا يَأْتِي بِخَيْرٍ، وَإِنَّمَا يُسْتَخْرَج بِهِ مِنْ الْبَخِيل» وَفِي رِوَايَة أَبَى هُرَيْرَة: «أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَا تَنْذِرُوا، فَإِنَّ النَّذْر لَا يُغْنِي مِنْ الْقَدَر شَيْئًا، وَإِنَّمَا يُسْتَخْرَج بِهِ مِنْ الْبَخِيل» وَفِي رِوَايَة: «أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ النَّذْر وَقَالَ: إِنَّهُ لَا يَرُدّ مِنْ الْقَدَر شَيْئًا» قَالَ الْمَازِرِيّ: يَحْتَمِل أَنْ يَكُون سَبَب النَّهْي عَنْ كَوْن النَّذْر يَصِير مُلْتَزَمًا لَهُ، فَيَأْتِي بِهِ تَكَلُّفًا بِغَيْرِ نَشَاط، قَالَ: وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون سَبَبه كَوْنه يَأْتِي بِالْقُرْبَةِ الَّتِي اِلْتَزَمَهَا فِي نَذْره عَلَى صُورَة الْمُعَاوَضَة لِلْأَمْرِ الَّذِي طَلَبَهُ فَيَنْقُص أَجْره، وَشَأْن الْعِبَادَة أَنْ تَكُون مُتَمَحِّضَة لِلَّهِ تَعَالَى، قَالَ الْقَاضِي عِيَاض: وَيَحْتَمِل أَنَّ النَّهْي لِكَوْنِهِ قَدْ يَظُنّ بَعْض الْجَهَلَة أَنَّ النَّذْر يَرُدّ الْقَدَر، وَيَمْنَع مِنْ حُصُول الْمُقَدَّر فَنَهَى عَنْهُ خَوْفًا مِنْ جَاهِل يَعْتَقِد ذَلِكَ، وَسِيَاق الْحَدِيث يُؤَيِّد هَذَا. وَاللَّهُ أَعْلَم.
3095- وَأَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّهُ لَا يَأْتِي بِخَيْرٍ» فَمَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا يَرُدّ شَيْئًا مِنْ الْقَدَر كَمَا بَيَّنَهُ فِي الرِّوَايَات الْبَاقِيَة.
وَأَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يُسْتَخْرَج بِهِ مِنْ الْبَخِيل» فَمَعْنَاهُ: أَنَّهُ لَا يَأْتِي بِهَذِهِ الْقُرْبَة تَطَوُّعًا مَحْضًا مُبْتَدِئًا وَإِنَّمَا يَأْتِي بِهَا فِي مُقَابَلَة شِفَاء الْمَرِيض وَغَيْره مِمَّا تَعَلَّقَ النَّذْر عَلَيْهِ. وَيُقَال: نَذَرَ يَنْذِر، بِكَسْرِ الذَّال فِي الْمُضَارِع وَضَمّهَا لُغَتَانِ.

.باب لاَ وَفَاءَ لِنَذْرٍ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ وَلاَ فِيمَا لاَ يَمْلِكُ الْعَبْدُ:

3099- قَوْله: (عَنْ أَبِي الْمُهَلَّب) هُوَ بِضَمِّ الْمِيم وَفَتْح الْهَاء وَاللَّام الْمُشَدَّدَة اِسْمه عَبْد الرَّحْمَن بْنُ عَمْرو، وَقِيلَ: مُعَاوِيَة بْن عَمْرو وَقِيلَ: عَمْرو بْن مُعَاوِيَة، وَقِيلَ: النَّضْر بْن عَمْرو الْحَرَمِيّ الْبَصْرِيّ. وَاللَّهُ أَعْلَم.
قَوْله: (سَابِقَة الْحَاجّ) يَعْنِي: نَاقَته الْعَضْبَاء، وَسَبَقَ فِي كِتَاب الْحَجّ بَيَان الْعَضْبَاء وَالْقَصْوَاء وَالْجَدْعَاء وَهَلْ هُنَّ ثَلَاث أَمْ وَاحِدَة.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَخَذْتُك بِجَرِيرَةِ حُلَفَائِك» أَيْ بِجِنَايَتِهِمْ.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْأَسِيرَيْنِ حِين قَالَ: إِنِّي مُسْلِم: «لَوْ قُلْتهَا وَأَنْتَ تَمْلِك أَمْرك أَفْلَحْت كُلّ الْفَلَاح» إِلَى قَوْله: «فَفُدِيَ بِالرَّجُلَيْنِ» مَعْنَاهُ: لَوْ قُلْت كَلِمَة الْإِسْلَام قَبْل الْأَسْر حِين كُنْت مَالِك أَمْرك أَفْلَحْت كُلّ الْفَلَاح، لِأَنَّهُ لَا يَجُوز أَسْرك لَوْ أَسْلَمْت قَبْل الْأَسْر، فَكُنْت فُزْت بِالْإِسْلَامِ وَبِالسَّلَامَةِ مِنْ الْأَسْر، وَمِنْ اِغْتِنَام مَالِك، وَأَمَّا إِذَا أَسْلَمْت بَعْد الْأَسْر فَيَسْقُط الْخِيَار فِي قَتْلك، وَيَبْقَى الْخِيَار بَيْن الِاسْتِرْقَاق وَالْمَنّ وَالْفِدَاء.
وَفِي هَذَا جَوَاز الْمُفَادَاة، وَأَنَّ إِسْلَام الْأَسِير لَا يُسْقِط حَقّ الْغَانِمِينَ مِنْهُ، بِخِلَافِ مَا لَوْ أَسْلَمَ قَبْل الْأَسْر.
وَلَيْسَ فِي هَذَا الْحَدِيث أَنَّهُ حِين أَسْلَمَ وَفَادَى بِهِ رَجَعَ إِلَى دَار الْكُفْر، وَلَوْ ثَبَتَ رُجُوعه إِلَى دَارهمْ- وَهُوَ قَادِر عَلَى إِظْهَار دِينه لِقُوَّةِ شَوْكَة عَشِيرَته أَوْ نَحْو ذَلِكَ لَمْ يَحْرُم ذَلِكَ- فَلَا إِشْكَال فِي الْحَدِيث، وَقَدْ اِسْتَشْكَلَهُ الْمَازِرِيّ وَقَالَ: كَيْف يَرُدّ الْمُسْلِم إِلَى دَار الْكُفْر؟ وَهَذَا الْإِشْكَال بَاطِل مَرْدُود بِمَا ذَكَرْته.
قَوْله: «وَأُسِرَتْ اِمْرَأَة مِنْ الْأَنْصَار» هِيَ اِمْرَأَة أَبِي ذَرّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ.
قَوْله: «نَاقَة مُنَوَّقَة» هِيَ بِضَمِّ الْمِيم وَفَتْح النُّون وَالْوَاو الْمُشَدَّدَة، أَيْ مُذَلَّلَة.
قَوْله: «وَنَذِرُوا بِهَا» هُوَ بِفَتْحِ النُّون وَكَسْر الذَّال، أَيْ عَلِمُوا.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا وَفَاء لِنَذْرٍ فِي مَعْصِيَة وَلَا فِيمَا لَا يَمْلِك الْعَبْد» وَفِي رِوَايَة: «لَا نَذْر فِي مَعْصِيَة اللَّه تَعَالَى».
فِي هَذَا دَلِيل عَلَى أَنَّ مَنْ نَذَرَ مَعْصِيَة كَشُرْبِ الْخَمْر وَنَحْو ذَلِكَ فَنَذْره بَاطِل لَا يَنْعَقِد، وَلَا تَلْزَمهُ كَفَّارَة يَمِين وَلَا غَيْرهَا، وَبِهَذَا قَالَ مَالِك وَالشَّافِعِيّ وَأَبُو حَنِيفَة وَدَاوُد وَجُمْهُور الْعُلَمَاء، وَقَالَ أَحْمَد: تَجِب فيه كَفَّارَة الْيَمِين بِالْحَدِيثِ الْمَرْوِيّ عَنْ عِمْرَان بْن الْحُصَيْن، وَعَنْ عَائِشَة عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا نَذْر فِي مَعْصِيَة، وَكَفَّارَته كَفَّارَة يَمِين» وَاحْتَجَّ الْجُمْهُور بِحَدِيثِ عِمْرَان بْن حُصَيْنٍ الْمَذْكُور فِي الْكِتَاب.
وَأَمَّا حَدِيث: «كَفَّارَته كَفَّارَة يَمِين» فَضَعِيف بِاتِّفَاقِ الْمُحَدِّثِينَ.
وَأَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَلَا فِيمَا لَا يَمْلِك الْعَبْد» فَهُوَ مَحْمُول عَلَى مَا إِذَا أَضَافَ النَّذْر إِلَى مُعَيَّن لَا يَمْلِكهُ، بِأَنْ قَالَ: إِنْ شَفَى اللَّه مَرِيضِي فَلِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُعْتِقَ عَبْد فُلَان، أَوْ أَتَصَدَّق بِثَوْبِهِ أَوْ بِدَارِهِ أَوْ نَحْو ذَلِكَ.
فَأَمَّا إِذَا اِلْتَزَمَ فِي الذِّمَّة شَيْئًا لَا يَمْلِكهُ فَيَصِحّ نَذْره، مِثَاله: قَالَ: إِنْ شَفَى اللَّه مَرِيضِي فَلِلَّهِ عَلَيَّ عِتْق رَقَبَة، وَهُوَ فِي ذَلِكَ الْحَال لَا يَمْلِك رَقَبَة وَلَا قِيمَتهَا، فَيَصِحّ نَذْره، وَإِنْ شُفِيَ الْمَرِيض ثَبَتَ الْعِتْق فِي ذِمَّته.
قَوْله: «نَاقَة ذَلُول مُجَرَّسَة» وَفِي رِوَايَة: «مُدَرَّبَة» أَمَّا الْمُجَرَّسَة فَبِضَمِّ الْمِيم وَفَتْح الْجِيم وَالرَّاء الْمُشَدَّدَة.
وَأَمَّا (الْمُدَرَّبَة) فَبِفَتْحِ الدَّال الْمُهْمَلَة وَبِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَة وَالْمُجَرَّسَة وَالْمُدَرَّبَة وَالْمُتَنَوَّقَة وَالذَّلُول كُلّه بِمَعْنًى وَاحِد.
وَفِي هَذَا الْحَدِيث: جَوَاز سَفَر الْمَرْأَة وَحْدهَا بِلَا زَوْج وَلَا مَحْرَم وَلَا غَيْرهمَا إِذَا كَانَ سَفَر ضَرُورَة كَالْهِجْرَةِ مِنْ دَار الْحَرْب إِلَى دَار الْإِسْلَام، وَكَالْهَرَبِ مِمَّنْ يُرِيد مِنْهَا فَاحِشَة وَنَحْو ذَلِكَ، وَالنَّهْي عَنْ سَفَرهَا وَحْدهَا مَحْمُول عَلَى غَيْر الضَّرُورَة. وَفِي هَذَا الْحَدِيث دَلَالَة لِمَذْهَبِ الشَّافِعِيّ وَمُوَافِقِيهِ: أَنَّ الْكُفَّار إِذَا غَنِمُوا مَالًا لِلْمُسْلِمِ لَا يَمْلِكُونَهُ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة وَآخَرُونَ: يَمْلِكُونَهُ إِذَا حَازُوهُ إِلَى دَار الْحَرْب، وَحُجَّة الشَّافِعِيّ وَمُوَافِقِيهِ هَذَا الْحَدِيث، وَمَوْضِع الدَّلَالَة مِنْهُ ظَاهِر. وَاللَّهُ أَعْلَم.

.باب مَنْ نَذَرَ أَنْ يَمْشِيَ إِلَى الْكَعْبَةِ:

3100- قَوْله: «أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى شَيْخًا يُهَادِي بَيْن اِبْنَيْهِ فَقَالَ: مَا بَال هَذَا؟ قَالُوا: نَذَرَ أَنْ يَمْشِي، قَالَ: إِنَّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ عَنْ تَعْذِيب هَذَا نَفْسه لَغَنِيّ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَرْكَب» وَفِي رِوَايَة: «يَمْشِي بَيْن اِبْنَيْهِ مُتَوَكِّئًا عَلَيْهِمَا» وَهُوَ مَعْنَى: «يُهَادَى» وَفِي حَدِيث عُقْبَة بْن عَامِر قَالَ: «نَذَرَتْ أُخْتِي أَنْ تَمْشِي إِلَى بَيْت اللَّه حَافِيَة، فَأَمَرَتْنِي أَنْ أَسْتَفْتِي لَهَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَفْتَيْته فَقَالَ: لِتَمْشِ وَلْتَرْكَب». أَمَّا الْحَدِيث الْأَوَّل فَمَحْمُول عَلَى الْعَاجِز عَنْ الْمَشْي، فَلَهُ الرُّكُوب، وَعَلَيْهِ دَم، وَأَمَّا حَدِيث أُخْت عُقْبَة فَمَعْنَاهُ تَمْشِي فِي وَقْت قُدْرَتهَا عَلَى الْمَشْي، وَتَرْكَب إِذَا عَجَزَتْ عَنْ الْمَشْي أَوْ لَحِقَتْهَا مَشَقَّة ظَاهِرَة فَتَرَكَّبَ، وَعَلَيْهَا دَم، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ وُجُوب الدَّم فِي الصُّورَتَيْنِ، هُوَ رَاجِح الْقَوْلَيْنِ لِلشَّافِعِيِّ، وَبِهِ قَالَ جَمَاعَة، وَالْقَوْل الثَّانِي لَا دَم عَلَيْهِ بَلْ يُسْتَحَبّ الدَّم.
وَأَمَّا الْمَشْي حَافِيًا فَلَا يَلْزَمهُ الْحَفَاء، بَلْ لَهُ لُبْس النَّعْلَيْنِ، وَقَدْ جَاءَ حَدِيث أُخْت عُقْبَة فِي سُنَن أَبِي دَاوُدَ أَنَّهَا رَكِبَتْ لِلْعَجْزِ، قَالَ: إِنَّ أُخْتِي نَذَرَتْ أَنْ تَحُجّ مَاشِيَة، وَأَنَّهَا لَا تُطِيق ذَلِكَ، فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّه غَنِيّ عَنْ مَشْي أُخْتك فَلْتَرْكَبْ وَلْتُهْدِ بَدَنَة».

.باب فِي كَفَّارَةِ النَّذْرِ:

3103- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَفَّارَة النَّذْر كَفَّارَة الْيَمِين» اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي الْمُرَاد بِهِ، فَحَمَلَهُ جُمْهُور أَصْحَابنَا عَلَى نَذْر اللِّجَاج، وَهُوَ أَنْ يَقُول إِنْسَان يُرِيد الِامْتِنَاع مِنْ كَلَام زَيْد مَثَلًا: إِنْ كَلَّمْت زَيْدًا مَثَلًا فَلِلَّهِ عَلَيَّ حَجَّة أَوْ غَيْرهَا، فَيُكَلِّمهُ فَهُوَ بِالْخِيَارِ بَيْن كَفَّارَة يَمِين وَبَيْن مَا اِلْتَزَمَهُ، هَذَا هُوَ الصَّحِيح فِي مَذْهَبنَا، وَحَمَلَهُ مَالِك وَكَثِيرُونَ أَوْ الْأَكْثَرُونَ عَلَى النَّذْر الْمُطْلَق، كَقَوْلِهِ: عَلَيَّ نَذْر، وَحَمَلَهُ أَحْمَد وَبَعْض أَصْحَابنَا عَلَى نَذْر الْمَعْصِيَة، كَمِنْ نَذَرَ أَنْ يَشْرَب الْخَمْر، وَحَمَلَهُ جَمَاعَة مِنْ فُقَهَاء أَصْحَاب الْحَدِيث عَلَى جَمِيع أَنْوَاع النَّذْر، وَقَالُوا: هُوَ مُخَيَّر فِي جَمِيع النُّذُورَات بَيْن الْوَفَاء بِمَا اِلْتَزَمَ، وَبَيْن كَفَّارَة يَمِين. وَاللَّهُ أَعْلَم.

.كتاب الأيمان:

.باب النَّهْيِ عَنِ الْحَلِفِ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى:

3104- قَوْله: «مَا حَلَفْت بِهَا ذَاكِرًا وَلَا آثِرًا» مَعْنَى ذَاكِرًا: قَائِلًا لَهَا مِنْ قِبَل نَفْسِي، وَلَا آثِرًا- بِالْمَدِّ- أَيْ: حَالِفًا عَنْ غَيْرِي.
وَفِي هَذَا الْحَدِيث إِبَاحَة الْحَلِف بِاَللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاته كُلّهَا، وَهَذَا مُجْمَع عَلَيْهِ.
وَفيه: النَّهْي عَنْ الْحَلِف بِغَيْرِ أَسْمَائِهِ سُبْحَانه وَتَعَالَى وَصِفَاته، وَهُوَ عِنْد أَصْحَابنَا مَكْرُوه لَيْسَ بِحَرَامٍ.
3105- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّه يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ، فَمَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاَللَّهِ أَوْ لِيَصْمُت» وَفِي رِوَايَة: «لَا تَحْلِفُوا بِالطَّوَاغِي وَلَا بِآبَائِكُمْ» قَالَ الْعُلَمَاء: الْحِكْمَة فِي النَّهْي عَنْ الْحَلِف بِغَيْرِ اللَّه تَعَالَى أَنَّ الْحَلِف يَقْتَضِي تَعْظِيم الْمَحْلُوف بِهِ، وَحَقِيقَة الْعَظَمَة مُخْتَصَّة بِاَللَّهِ تَعَالَى، فَلَا يُضَاهِي بِهِ غَيْره، وَقَدْ جَاءَ عَنْ اِبْن عَبَّاس: لَأَنْ أَحْلِف بِاَللَّهِ مِائَة مَرَّة فَآثَم خَيْر مِنْ أَنْ أَحْلِف بِغَيْرِهِ فَأَبَرّ.
فَإِنْ قِيلَ: الْحَدِيث مُخَالِف لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَفْلَحَ وَأَبِيهِ إِنْ صَدَقَ» فَجَوَابه: أَنَّ هَذِهِ كَلِمَة تَجْرِي عَلَى اللِّسَان لَا تُقْصَد بِهَا الْيَمِين.
فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ أَقْسَمَ اللَّه تَعَالَى بِمَخْلُوقَاتِهِ كَقَوْله تَعَالَى: {وَالصَّافَّاتِ} وَ{وَالذَّارِيَاتِ} وَ{وَالطُّورِ} وَ{النَّجْمِ}؟
فَالْجَوَاب: أَنَّ اللَّه تَعَالَى يُقْسِم بِمَا شَاءَ مِنْ مَخْلُوقَاته تَنْبِيهًا عَلَى شَرَفه.