فصل: باب الطِّيبِ لِلْمُحْرِمِ عِنْدَ الإِحْرَامِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج المشهور بـ «شرح النووي على مسلم»



.(بَاب أَمْر أَهْل الْمَدِينَة بِالْإِحْرَامِ مِنْ عِنْد مَسْجِد ذِي الْحُلَيْفَة):

قَوْله عَنْ اِبْن عُمَر: (قَالَ بَيْدَاؤُكُمْ هَذِهِ الَّتِي تَكْذِبُونَ عَلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيها، مَا أَهَلَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا مِنْ عِنْد الْمَسْجِد، يَعْنِي ذَا الْحُلَيْفَة)، وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: (مَا أَهَلَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا مِنْ عِنْد الشَّجَرَة حِين قَامَ بِهِ بَعِيره) قَالَ الْعُلَمَاء: هَذِهِ الْبَيْدَاء هِيَ الشَّرَف الَّذِي قُدَّام ذِي الْحُلَيْفَة إِلَى جِهَة مَكَّة، وَهِيَ بِقُرْبِ ذِي الْحُلَيْفَة، وَسُمِّيَتْ بَيْدَاء؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فيها بِنَاء وَلَا أَثَر، وَكُلّ مَفَازَة تُسَمَّى بَيْدَاء، وَأَمَّا هُنَا فَالْمُرَاد بِالْبَيْدَاءِ مَا ذَكَرْنَاهُ.
وَقَوْله: (تَكْذِبُونَ فيها) أَيْ تَقُولُونَ: إِنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْرَمَ مِنْهَا، وَلَمْ يُحْرِم مِنْهَا وَإِنَّمَا أَحْرَمَ قَبْلهَا مِنْ عِنْد مَسْجِد ذِي الْحُلَيْفَة، وَمِنْ عِنْد الشَّجَرَة الَّتِي كَانَتْ هُنَاكَ، وَكَانَتْ عِنْد الْمَسْجِد. وَسَمَّاهُمْ اِبْن عُمَر كَاذِبِينَ؛ لِأَنَّهُمْ أَخْبَرُوا بِالشَّيْءِ عَلَى خِلَاف مَا هُوَ، وَقَدْ سَبَقَ فِي أَوَّل هَذَا الشَّرْح فِي مُقَدِّمَة صَحِيح مُسْلِم أَنَّ الْكَذِب عِنْد أَهْل السُّنَّة هُوَ الْإِخْبَار عَنْ الشَّيْء بِخِلَافِ مَا هُوَ، سَوَاء تَعَمَّدَهُ أَمْ غَلِطَ فيه أَوْ سَهَا، وَقَالَتْ الْمُعْتَزِلَة: يُشْتَرَط فيه الْعَمْدِيَّة، وَعِنْدنَا أَنَّ الْعَمْدِيَّة شَرْط لِكَوْنِهِ إِثْمًا لَا لِكَوْنِهِ يُسَمَّى كَذِبًا، فَقَوْل اِبْن عُمَر جَارٍ عَلَى قَاعِدَتنَا، وَفيه أَنَّهُ لَا بَأْس بِإِطْلَاقِ هَذِهِ اللَّفْظَة، وَفيه دَلَالَة عَلَى أَنَّ مِيقَات أَهْل الْمَدِينَة مِنْ عِنْد مَسْجِد ذِي الْحُلَيْفَة، وَلَا يَجُوز لَهُمْ تَأْخِير الْإِحْرَام إِلَى الْبَيْدَاء، وَبِهَذَا قَالَ جَمِيع الْعُلَمَاء، وَفيه أَنَّ الْإِحْرَام مِنْ الْمِيقَات أَفْضَل مِنْ دُوَيْرَة أَهْله؛ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرَكَ الْإِحْرَام مِنْ مَسْجِده مَعَ كَمَالِ شَرَفه، فَإِنْ قِيلَ: إِنَّمَا أَحْرَمَ مِنْ الْمِيقَات لِبَيَانِ الْجَوَاز، قُلْنَا: هَذَا غَلَط لِوَجْهَيْنِ: أَحَدهمَا: أَنَّ الْبَيَان قَدْ حَصَلَ بِالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَة فِي بَيَان الْمَوَاقِيت.
وَالثَّانِي: أَنَّ فِعْل رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا يُحْمَل عَلَى بَيَان الْجَوَاز فِي شَيْء يَتَكَرَّر فِعْله كَثِيرًا، فَيَفْعَلهُ مَرَّة أَوْ مَرَّات عَلَى الْوَجْه الْجَائِز، لِبَيَانِ الْجَوَاز، وَيُوَاظِب غَالِبًا عَلَى فِعْله عَلَى أَكْمَل وُجُوهه، وَذَلِكَ كَالْوُضُوءِ مَرَّة وَمَرَّتَيْنِ وَثَلَاثًا كُلّه ثَابِت، وَالْكَثِير أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَضَّأَ ثَلَاثًا ثَلَاثًا، وَأَمَّا الْإِحْرَام بِالْحَجِّ فَلَمْ يَتَكَرَّر، وَإِنَّمَا جَرَى مِنْهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّة وَاحِدَة، فَلَا يَفْعَلهُ إِلَّا عَلَى أَكْمَلَ وُجُوهه. وَاَللَّه أَعْلَم.
2033- سبق شرحه بالباب.
2034- سبق شرحه بالباب.

.(بَاب الْإِهْلَال مِنْ حَيْثُ تَنْبَعِث الرَّاحِلَة):

قَوْله فِي هَذَا الْبَاب عَنْ اِبْن عُمَر قَالَ: «فَإِنِّي لَمْ أَرَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُهِلّ حَتَّى تَنْبَعِث بِهِ رَاحِلَته»، وَقَالَ فِي الْحَدِيث السَّابِق: «ثُمَّ إِذَا اِسْتَوَتْ بِهِ النَّاقَة قَائِمَة عِنْد مَسْجِد ذِي الْحُلَيْفَة أَهَلَّ»، وَفِي الْحَدِيث الَّذِي قَبْله: «كَانَ إِذَا اِسْتَوَتْ بِهِ رَاحِلَته قَائِمَة عِنْد مَسْجِد ذِي الْحُلَيْفَة أَهَلَّ»، وَفِي رِوَايَة: «حِين قَامَ بِهِ بَعِيره»، وَفِي رِوَايَة: «يُهِلّ حَتَّى تَسْتَوِي بِهِ رَاحِلَته قَائِمَة».
هَذِهِ الرِّوَايَات كُلّهَا مُتَّفِقَة فِي الْمَعْنَى، وَانْبِعَاثهَا هُوَ اِسْتِوَاؤُهَا قَائِمَة، وَفيها دَلِيل لِمَالِك وَالشَّافِعِيّ وَالْجُمْهُور أَنَّ الْأَفْضَل أَنْ يُحْرِم إِذَا اِنْبَعَثَتْ بِهِ رَاحِلَته، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة: يُحْرِم عَقِب الصَّلَاة وَهُوَ جَالِس قَبْل رُكُوب دَابَّته، وَقَبْل قِيَامه، وَهُوَ قَوْل ضَعِيف لِلشَّافِعِيِّ، وَفيه حَدِيث مِنْ رِوَايَة اِبْن عَبَّاس لَكِنَّهُ ضَعِيف، وَفيه: أَنَّ التَّلْبِيَة لَا تُقَدَّم عَلَى الْإِحْرَام.
2035- قَوْله عَنْ عُبَيْد بْن جُرَيْجٍ أَنَّهُ قَالَ لِابْنِ عُمَر: «رَأَيْتُك تَصْنَع أَرْبَعًا لَمْ أَرَ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابك يَصْنَعهَا» إِلَى آخِره، قَالَ الْمَازِرِيُّ: يَحْتَمِل أَنَّ مُرَاده لَا يَصْنَعهَا غَيْرك مُجْتَمِعَة، وَإِنْ كَانَ يَصْنَع بَعْضَهَا.
قَوْله: «رَأَيْتُك لَا تَمَسّ مِنْ الْأَرْكَان إِلَّا الْيَمَانِيَيْنِ» ثُمَّ ذَكَرَ اِبْن عُمَر فِي جَوَابه: أَنَّهُ لَمْ يَرَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمَسّ إِلَّا الْيَمَانِيَيْنِ، هُمَا بِتَخْفِيفِ الْيَاء، هَذِهِ اللُّغَة الْفَصِيحَة الْمَشْهُورَة، وَحَكَى سِيبَوَيْهِ وَغَيْره مِنْ الْأَئِمَّة تَشْدِيدهَا فِي لُغَة قَلِيلَة، وَالصَّحِيح التَّخْفِيف، قَالُوا: لِأَنَّ نَسَبه إِلَى الْيَمَن، فَحَقّه أَنْ يُقَال الْيَمَنِيّ، وَهُوَ جَائِز، فَلَمَّا قَالُوا (الْيَمَانِي) أَبْدَلُوا مِنْ إِحْدَى يَاءَيْ النَّسَب أَلِفًا، فَلَوْ قَالُوا الْيَمَانِيّ بِالتَّشْدِيدِ لَزِمَ مِنْهُ الْجَمْع بَيْن الْبَدَل وَالْمُبْدَل، وَاَلَّذِينَ شَدَّدُوهَا قَالُوا: هَذِهِ الْأَلِف زَائِدَة، وَقَدْ تُزَاد فِي النَّسَب كَمَا قَالُوا فِي النَّسَب إِلَى صَنْعَاء: صَنْعَانِيّ، فَزَادُوا النُّون الثَّانِيَة وَإِلَى الرَّيّ: رَازِيّ، فَزَادُوا الزَّاي، إِلَى الرَّقَبَة: رَقَبَانِيّ، فَزَادُوا النُّون، وَالْمُرَاد بِالرُّكْنَيْنِ الْيَمَانِيَيْنِ: الرُّكْن الْيَمَانِي، وَالرُّكْن الَّذِي فيه الْحَجَر الْأَسْوَد، وَيُقَال لَهُ: الْعِرَاقِيّ؛ لِكَوْنِهِ إِلَى جِهَة الْعِرَاق؛ وَقِيلَ لِلَّذِي قِبَله الْيَمَانِي؛ لِأَنَّهُ إِلَى جِهَة الْيَمَن، وَيُقَال لَهُمَا: الْيَمَانِيَانِ تَغْلِيبًا لِأَحَدِ الِاسْمَيْنِ، كَمَا قَالُوا: الْأَبَوَانِ لِلْأَبِ وَالْأُمّ، وَالْقَمَرَانِ لِلشَّمْسِ وَالْقَمَر، وَالْعُمَرَانِ لِأَبِي بَكْر وَعُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا، وَنَظَائِره مَشْهُورَة، فَتَارَة يُغَلِّبُونَ بِالْفَضِيلَةِ كَالْأَبَوَيْنِ، وَتَارَة بِالْخِفَّةِ كَالْعُمَرَيْنِ، وَتَارَة بِغَيْرِ ذَلِكَ، وَقَدْ بَسَطْته فِي تَهْذِيب الْأَسْمَاء وَاللُّغَات.
قَالَ الْعُلَمَاء: وَيُقَال لِلرُّكْنَيْنِ الْآخَرَيْنِ اللَّذَيْنِ يَلِيَانِ الْحِجْر بِكَسْرِ الْحَاء: الشَّامِيَّانِ؛ لِكَوْنِهِمَا بِجِهَةِ الشَّام، قَالُوا: فَالْيَمَانِيَانِ بَاقِيَانِ عَلَى قَوَاعِد إِبْرَاهِيم صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِخِلَافِ الشَّامِيَّيْنِ، فَلِهَذَا لَمْ يُسْتَلَمَا وَاسْتُلِمَ الْيَمَانِيَانِ لِبَقَائِهِمَا عَلَى قَوَاعِد إِبْرَاهِيم صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ إِنَّ الْعِرَاقِيّ مِنْ الْيَمَانِيَيْنِ اُخْتُصَّ بِفَضِيلَةٍ أُخْرَى، وَهِيَ الْحَجَر الْأَسْوَد، فَاخْتُصَّ لِذَلِكَ مَعَ الِاسْتِلَام بِتَقْبِيلِهِ، وَوَضْع الْجَبْهَة عَلَيْهِ بِخِلَافِ الْيَمَانِي. وَاَللَّه أَعْلَم.
قَالَ الْقَاضِي: وَقَدْ اِتَّفَقَ أَئِمَّة الْأَمْصَار وَالْفُقَهَاء الْيَوْم عَلَى أَنَّ الرُّكْنَيْنِ الشَّامِيَّيْنِ لَا يُسْتَلَمَانِ، وَإِنَّمَا كَانَ الْخِلَاف فِي ذَلِكَ الْعَصْر الْأَوَّل مِنْ بَعْض الصَّحَابَة وَبَعْض التَّابِعِينَ، ثُمَّ ذَهَبَ.
وَقَوْله: «وَرَأَيْتُك تَلْبَس النِّعَال السِّبْتِيَّة»، وَقَالَ اِبْن عُمَر فِي جَوَابه: «وَأَمَّا النِّعَال السِّبْتِيَّة فَإِنِّي رَأَيْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَلْبَس النِّعَال الَّتِي لَيْسَ فيها شَعْر، وَيَتَوَضَّأ فيها وَأَنَا أُحِبّ أَنْ أَلْبَسهَا» فَقَوْله: (أَلْبَس وَتَلْبَس) كُلّه بِفَتْحِ الْبَاء، وَأَمَّا (السِّبْتِيَّة) فَبِكَسْرِ السِّين وَإِسْكَان الْبَاء الْمُوَحَّدَة، وَقَدْ أَشَارَ اِبْن عُمَر إِلَى تَفْسِيرهَا بِقَوْلِهِ: (الَّتِي لَيْسَ فيها شَعْر)، وَهَكَذَا قَالَ جَمَاهِير أَهْل اللُّغَة وَأَهْل الْغَرِيب وَأَهْل الْحَدِيث: إِنَّهَا الَّتِي لَا شَعْر فيها، قَالُوا: وَهِيَ مُشْتَقَّة مِنْ (السَّبْت) بِفَتْحِ السِّين وَهُوَ الْحَلْق وَالْإِزَالَة، وَمِنْهُ قَوْلهمْ: سَبَتَ رَأْسه أَيْ حَلَقَهُ، قَالَ الْهَرَوِيُّ: وَقِيلَ: سُمِّيَتْ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا اِنْسَبَتَتْ بِالدِّبَاغِ أَيْ لَانَتْ، يُقَال: رَطْبَة مُنْسَبِتَة أَيْ لَيِّنَة، قَالَ أَبُو عَمْرو الشَّيْبَانِيُّ: السِّبْت: كُلّ جِلْد مَدْبُوغ، وَقَالَ أَبُو زَيْد: السِّبْت: جُلُود الْبَقَر مَدْبُوغَة كَانَتْ، أَوْ غَيْر مَدْبُوغَة، وَقِيلَ: هُوَ نَوْع مِنْ الدِّبَاغ يَقْلَع الشَّعْر، وَقَالَ اِبْن وَهْب: النِّعَال السِّبْتِيَّة كَانَتْ سُودًا لَا شَعْر فيها.
قَالَ الْقَاضِي: وَهَذَا ظَاهِر كَلَام اِبْن عُمَر فِي قَوْله: (النِّعَال الَّتِي لَيْسَ فيها شَعْر)، وَقَالَ: هَذَا لَا يُخَالِف مَا سَبَقَ، فَقَدْ تَكُون سُودًا مَدْبُوغَة بِالْقَرَظِ لَا شَعْر فيها؛ لِأَنَّ بَعْض الْمَدْبُوغَات يَبْقَى شَعْرهَا، وَبَعْضهَا لَا يَبْقَى.
قَالَ: وَكَانَتْ عَادَة الْعَرَب لِبَاس النِّعَال بِشَعْرِهَا غَيْر مَدْبُوغَة، وَكَانَتْ الْمَدْبُوغَة تُعْمَل بِالطَّائِفِ وَغَيْره، وَإِنَّمَا كَانَ يَلْبَسهَا أَهْل الرَّفَاهِيَة، كَمَا قَالَ شَاعِرهمْ: تَحْذِي نِعَال السِّبْت لَيْسَ بِتَوْأَمٍ قَالَ الْقَاضِي: وَالسِّين فِي جَمِيع هَذَا مَكْسُورَة، قَالَ: وَالْأَصَحّ عِنْدِي أَنْ يَكُون اِشْتِقَاقهَا وَإِضَافَتهَا إِلَى السِّبْت الَّذِي هُوَ الْجِلْد الْمَدْبُوغ أَوْ إِلَى الدِّبَاغَة؛ لِأَنَّ السِّين مَكْسُورَة فِي نِسْبَتهَا، وَلَوْ كَانَتْ مِنْ (السَّبْت) الَّذِي هُوَ الْحَلْق كَمَا قَالَهُ الْأَزْهَرِيّ وَغَيْره، لَكَانَتْ النِّسْبَة (سَبْتِيَّة) بِفَتْحِ السِّين، وَلَمْ يَرْوِهَا أَحَد فِي هَذَا الْحَدِيث وَلَا فِي غَيْره وَلَا فِي الشِّعْر فِيمَا عَلِمْت إِلَّا بِالْكَسْرِ، هَذَا كَلَام الْقَاضِي.
وَقَوْله: «وَيَتَوَضَّأ فيها» مَعْنَاهُ: يَتَوَضَّأ وَيَلْبَسهَا وَرِجْلَاهُ رَطْبَتَانِ.
قَوْله: (وَرَأَيْتُك تَصْبُغ بِالصُّفْرَةِ) وَقَالَ اِبْن عُمَر فِي جَوَابه: (وَأَمَّا الصُّفْرَة فَإِنِّي رَأَيْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصْبُغ بِهَا فَأَنَا أُحِبّ أَنْ أَصْبُغ بِهَا) فَقَوْله: (يَصْبُغ وَأَصْبُغ) بِضَمِّ الْبَاء وَفَتْحهَا لُغَتَانِ مَشْهُورَتَانِ، حَكَاهُمَا الْجَوْهَرِيّ وَغَيْره، قَالَ الْإِمَام الْمَازِرِيُّ: قِيلَ: الْمُرَاد فِي هَذَا الْحَدِيث صَبْغ الشَّعْر، وَقِيلَ: صَبْغ الثَّوْب؛ قَالَ: وَالْأَشْبَه أَنْ يَكُون صَبْغ الثِّيَاب؛ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَبَغَ، وَلَمْ يُنْقَل عَنْهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ صَبَغَ شَعْره، قَالَ الْقَاضِي عِيَاض: هَذَا أَظْهَر الْوَجْهَيْنِ، وَإِلَّا فَقَدْ جَاءَتْ آثَار عَنْ اِبْن عُمَر بَيَّنَ فيها تَصْفِير اِبْن عُمَر لِحْيَته، وَاحْتَجَّ بِأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَفِّر لِحْيَته بِالْوَرْسِ وَالزَّعْفَرَان، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَذَكَرَ أَيْضًا فِي حَدِيث آخَر اِحْتِجَاجه بِأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَصْبُغ بِهَا ثِيَابه حَتَّى عِمَامَته.
قَوْله: (وَرَأَيْتُك إِذَا كُنْت بِمَكَّة أَهَلَّ النَّاس إِذَا رَأَوْا الْهِلَال وَلَمْ تُهِلّ أَنْتَ حَتَّى يَكُون يَوْم التَّرْوِيَة)، وَقَالَ اِبْن عُمَر فِي جَوَابه: (وَأَمَّا الْإِهْلَال فَإِنِّي لَمْ أَرَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُهِلّ حَتَّى تَنْبَعِث بِهِ رَاحِلَته) أَمَّا (يَوْم التَّرْوِيَة) فَبِالتَّاءِ الْمُثَنَّاة فَوْق، وَهُوَ الثَّامِن مِنْ ذِي الْحِجَّة، سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّ النَّاس كَانُوا يَتَرَوَّوْنَ فيه مِنْ الْمَاء أَيْ يَحْمِلُونَهُ مَعَهُمْ مِنْ مَكَّة إِلَى عَرَفَات لِيَسْتَعْمِلُوهُ فِي الشُّرْب وَغَيْره.
وَأَمَّا فِقْه الْمَسْأَلَة فَقَالَ الْمَازِرِيُّ: أَجَابَهُ اِبْن عُمَر بِضَرْبٍ مِنْ الْقِيَاس، حَيْثُ لَمْ يَتَمَكَّن مِنْ الِاسْتِدْلَال بِنَفْسِ فِعْل رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمَسْأَلَة بِعَيْنِهَا، فَاسْتَدَلَّ بِمَا فِي مَعْنَاهُ، وَوَجْه قِيَاسه أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا أَحْرَمَ عِنْد الشُّرُوع فِي أَفْعَال الْحَجّ وَالذَّهَاب إِلَيْهِ، فَأَخَّرَ اِبْن عُمَر الْإِحْرَام إِلَى حَال شُرُوعه فِي الْحَجّ وَتَوَجُّهه إِلَيْهِ، وَهُوَ يَوْم التَّرْوِيَة، فَإِنَّهُمْ حِينَئِذٍ يَخْرُجُونَ مِنْ مَكَّة إِلَى مِنًى، وَوَافَقَ اِبْن عُمَر عَلَى هَذَا الشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابه، وَبَعْض أَصْحَاب مَالِك وَغَيْرهمْ، وَقَالَ آخَرُونَ: الْأَفْضَل أَنْ يُحْرِم مِنْ أَوَّل ذِي الْحِجَّة، وَنَقَلَهُ الْقَاضِي عَنْ أَكْثَر الصَّحَابَة وَالْعُلَمَاء، وَالْخِلَاف فِي الِاسْتِحْبَاب، وَكُلّ مِنْهُمَا جَائِز بِالْإِجْمَاعِ. وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله (اِبْن قُسَيْط) هُوَ يَزِيد بْن عَبْد اللَّه بْن قُسَيْط، بِقَافٍ مَضْمُومَة وَسِين مُهْمَلَة مَفْتُوحَة وَإِسْكَان الْيَاء.
2036- قَوْله: «وَضَعَ رِجْله فِي الْغَرْز» هُوَ بِفَتْحِ الْغَيْن الْمُعْجَمَة ثُمَّ رَاء سَاكِنَة، ثُمَّ زَاي، وَهُوَ رِكَاب كُور الْبَعِير إِذَا كَانَ مِنْ جِلْد أَوْ خَشَب، وَقِيلَ: هُوَ الْكُور مُطْلَقًا، كَالرِّكَابِ لِلسَّرْجِ.

.باب الصَّلاَةِ فِي مَسْجِدِ ذِي الْحُلَيْفَةِ:

2039- قَوْله: «بَاتَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذِي الْحُلَيْفَة مَبْدَأَهُ وَصَلَّى فِي مَسْجِدهَا» قَالَ الْقَاضِي: هُوَ بِفَتْحِ الْمِيم وَضَمّهَا وَالْبَاء سَاكِنَة فيهمَا، أَيْ اِبْتَدَأَ حَجّه (وَمَبْدَأَهُ) مَنْصُوب عَلَى الظَّرْف، أَيْ فِي اِبْتِدَائِهِ، وَهَذَا الْمَبِيت لَيْسَ مِنْ أَعْمَال الْحَجّ وَلَا مِنْ سُنَنه، قَالَ الْقَاضِي: لَكِنْ مَنْ فَعَلَهُ تَأَسِّيًا بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَسَن. وَاَللَّه أَعْلَم.

.باب الطِّيبِ لِلْمُحْرِمِ عِنْدَ الإِحْرَامِ:

2040- قَوْلهَا: «طَيَّبْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحُرْمِهِ حِين أَحْرَمَ وَلِحِلِّهِ قَبْل أَنْ يَطُوف بِالْبَيْتِ» ضَبَطُوا (لِحُرْمِهِ) بِضَمِّ الْحَاء وَكَسْرهَا، وَقَدْ سَبَقَ فِي شَرْح مُقَدِّمَة مُسْلِم، وَالضَّمّ أَكْثَر، وَلَمْ يَذْكُر الْهَرَوِيُّ وَآخَرُونَ غَيْره، وَأَنْكَرَ ثَابِت الضَّمّ عَلَى الْمُحَدِّثِينَ، وَقَالَ: الصَّوَاب الْكَسْر، وَالْمُرَاد بِحُرْمِهِ: الْإِحْرَام بِالْحَجِّ.
وَفيه دَلَالَة عَلَى اِسْتِحْبَاب الطِّيب عِنْد إِرَادَة الْإِحْرَام، وَأَنَّهُ لَا بَأْس بِاسْتِدَامَتِهِ بَعْد الْإِحْرَام، وَإِنَّمَا يَحْرُم اِبْتِدَاؤُهُ فِي الْإِحْرَام، وَهَذَا مَذْهَبنَا، وَبِهِ قَالَ خَلَائِق مِنْ الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وَجَمَاهِير الْمُحَدِّثِينَ وَالْفُقَهَاء، مِنْهُمْ سَعْد بْن أَبِي وَقَّاص، وَابْن عَبَّاس وَابْن الزُّبَيْر وَمُعَاوِيَة وَعَائِسَة وَأُمّ حَبِيبَة وَأَبُو حَنِيفَة وَالثَّوْرِيُّ وَأَبُو يُوسُف وَأَحْمَد وَدَاوُد وَغَيْرهمْ، وَقَالَ آخَرُونَ بِمَنْعِهِ مِنْهُمْ: الزُّهْرِيّ وَمَالِك وَمُحَمَّد بْن الْحَسَن، وَحُكِيَ أَيْضًا عَنْ جَمَاعَة مِنْ الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ، قَالَ الْقَاضِي: وَتَأَوَّلَ هَؤُلَاءِ حَدِيث عَائِشَة هَذَا عَلَى أَنَّهُ تَطَيَّبَ ثُمَّ اِغْتَسَلَ بَعْده، فَذَهَبَ الطِّيب قَبْل الْإِحْرَام، وَيُؤَيِّد هَذَا قَوْلهَا فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: «طَيَّبْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْد إِحْرَامه ثُمَّ طَافَ عَلَى نِسَائِهِ ثُمَّ أَصْبَحَ مُحْرِمًا» فَظَاهِره أَنَّهُ إِنَّمَا تَطَيَّبَ لِمُبَاشَرَةِ نِسَائِهِ، ثُمَّ زَالَ بِالْغُسْلِ بَعْده، لاسيما وَقَدْ نُقِلَ أَنَّهُ كَانَ يَتَطَهَّر مِنْ كُلّ وَاحِدَة قَبْل الْأُخْرَى، وَلَا يَبْقَى مَعَ ذَلِكَ، وَيَكُون قَوْلهَا: «ثُمَّ أَصْبَحَ يَنْضَخ طِيبًا» أَيْ قَبْل غُسْله، وَقَدْ سَبَقَ فِي رِوَايَة لِمُسْلِمٍ أَنَّ ذَلِكَ الطِّيب كَانَ ذَرَّة، وَهِيَ مِمَّا يُذْهِبهُ الْغُسْل.
قَالَ: وَقَوْلهَا: «كَأَنِّي أَنْظُر إِلَى وَبِيص الطِّيب فِي مَفَارِق رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُحْرِم» الْمُرَاد بِهِ أَثَره لَا جِرْمه. هَذَا كَلَام الْقَاضِي، وَلَا يُوَافَق عَلَيْهِ؛ بَلْ الصَّوَاب مَا قَالَهُ الْجُمْهُور أَنَّ الطِّيب مُسْتَحَبّ لِلْإِحْرَامِ؛ لِقَوْلِهَا: «طَيَّبْته لِحُرْمِهِ»، وَهَذَا ظَاهِر فِي أَنَّ الطِّيب لِلْإِحْرَامِ لَا لِلنِّسَاءِ، وَيُعَضِّدهُ قَوْلهَا: «كَأَنِّي أَنْظُر إِلَى وَبِيص الطِّيب» وَالتَّأْوِيل الَّذِي قَالَهُ الْقَاضِي غَيْر مَقْبُول؛ لِمُخَالَفَتِهِ الظَّاهِر بِلَا دَلِيل يَحْمِلنَا عَلَيْهِ، وَأَمَّا قَوْلهَا: «وَلِحِلِّهِ قَبْل أَنْ يَطُوف» فَالْمُرَاد بِهِ طَوَاف الْإِفَاضَة، فَفيه دَلَالَة لِاسْتِبَاحَةِ الطِّيب بَعْد رَمْي جَمْرَة الْعَقَبَة وَالْحَلْق، وَقَبْل الطَّوَاف، وَهَذَا مَذْهَب الشَّافِعِيّ وَالْعُلَمَاء كَافَّة إِلَّا مَالِكًا كَرِهَهُ قَبْل طَوَاف الْإِفَاضَة، وَهُوَ مَحْجُوج بِهَذَا الْحَدِيث.
وَقَوْلهَا: (لِحِلِّهِ) دَلِيل عَلَى أَنَّهُ حَصَلَ لَهُ تَحَلُّل، وَفِي الْحَجّ تَحَلُّلَانِ يَحْصُلَانِ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاء: رَمْي جَمْرَة الْعَقَبَة، وَطَوَاف الْإِفَاضَة مَعَ سَعْيه إِنْ لَمْ يَكُنْ سَعَى قَبْل طَوَاف الْقُدُوم، فَإِذَا فَعَلَ الثَّلَاثَة، حَصَلَ التَّحَلُّلَانِ، وَإِذَا فَعَلَ اِثْنَيْنِ مِنْهُمَا حَصَلَ التَّحَلُّل الْأَوَّل أَيْ اِثْنَيْنِ كَانَا، وَيَحِلّ بِالتَّحَلُّلِ الْأَوَّل جَمِيع الْمُحَرَّمَات إِلَّا الِاسْتِمْتَاع بِالنِّسَاءِ؛ فَإِنَّهُ لَا يَحِلّ إِلَّا بِالثَّانِي، وَقِيلَ: يُبَاح مِنْهُنَّ غَيْر الْجِمَاع بِالتَّحَلُّلِ الْأَوَّل، وَهُوَ قَوْل بَعْض أَصْحَابنَا، وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْل: إِنَّهُ لَا يَحِلّ بِالْأَوَّلِ إِلَّا اللُّبْس وَالْحَلْق وَقَلْم الْأَظْفَار، وَالصَّوَاب مَا سَبَقَ. وَاَللَّه أَعْلَم.
2041- قَوْلهَا: «وَلِحِلِّهِ حِين حَلَّ قَبْل أَنْ يَطُوف بِالْبَيْتِ» فيه تَصْرِيح بِأَنَّ التَّحَلُّل الْأَوَّل يَحْصُل بَعْد رَمْي جَمْرَة الْعَقَبَة وَالْحَلْق قَبْل الطَّوَاف، وَهَذَا مُتَّفَق عَلَيْهِ.
2044- قَوْلهَا: (بِذَرِيرَةٍ) هِيَ بِفَتْحِ الذَّال الْمُعْجَمَة، وَهِيَ فُتَات قَصَب طَيِّب يُجَاء بِهِ مِنْ الْهِنْد.
2048- قَوْلهَا: «وَبِيص الطِّيب فِي مَفْرِقه» الْوَبِيص: الْبَرِيق وَاللَّمَعَان. وَالْمَفْرِق: بِفَتْحِ الْمِيم وَكَسْر الرَّاء.
2056- قَوْله: «عَنْ اِبْن عُمَر مَا أُحِبّ أَنْ أُصْبِح مُحْرِمًا أَنْضَخ طِيبًا» يَنْضَخ طِيبًا بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة أَيْ يَفُور مِنْهُ الطِّيب، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ} هَذَا هُوَ الْمَشْهُور أَنَّهُ بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة، وَلَمْ يَذْكُر الْقَاضِي غَيْره، وَضَبَطَهُ بَعْضهمْ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَة، وَهُمَا مُتَقَارِبَانِ فِي الْمَعْنَى.
قَالَ الْقَاضِي: قِيلَ: النَّضْخ بِالْمُعْجَمَةِ أَقَلّ مِنْ النَّضْح بِالْمُهْمَلَةِ، وَقِيلَ: عَكْسه، وَهُوَ أَشْهَر وَأَكْثَر.
2057- وَقَوْلهَا: «يَنْضَخ طِيبًا» بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة أَيْ يَفُور مِنْهُ الطِّيب، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ} هَذَا هُوَ الْمَشْهُور أَنَّهُ بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة، وَلَمْ يَذْكُر الْقَاضِي غَيْره، وَضَبَطَهُ بَعْضهمْ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَة، وَهُمَا مُتَقَارِبَانِ فِي الْمَعْنَى.
قَالَ الْقَاضِي: قِيلَ: النَّضْخ بِالْمُعْجَمَةِ أَقَلّ مِنْ النَّضْح بِالْمُهْمَلَةِ، وَقِيلَ: عَكْسه، وَهُوَ أَشْهَر وَأَكْثَر.
قَوْلهَا: «ثُمَّ يَطُوف عَلَى نِسَائِهِ» قَدْ يُقَال: قَدْ قَالَ الْفُقَهَاء: أَقَلّ الْقَسْم لَيْلَة لِكُلِّ اِمْرَأَة فَكَيْف طَافَ عَلَى الْجَمِيع فِي لَيْلَة وَاحِدَة؟ وَجَوَابه مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدهمَا: أَنَّ هَذَا كَانَ بِرِضَاهُنَّ، وَلَا خِلَاف فِي جَوَازه بِرِضَاهُنَّ كَيْف كَانَ، وَالثَّانِي: أَنَّ الْقَسْم فِي حَقّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ كَانَ وَاجِبًا فِي الدَّوَام؟ فيه خِلَاف لِأَصْحَابِنَا، قَالَ أَبُو سَعِيد الْإِصْطَخْرِيُّ: لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا، وَإِنَّمَا كَانَ يَقْسِم بِالسَّوِيَّةِ، وَيُقْرِع بَيْنهنَّ تَكَرُّمًا وَتَبَرُّعًا لَا وُجُوبًا، وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: كَانَ وَاجِبًا، فَعَلَى قَوْل الْإِصْطَخْرِيِّ لَا إِشْكَال. وَاَللَّه أَعْلَم.

.باب تَحْرِيمِ الصَّيْدِ لِلْمُحْرِمِ:

2059- قَوْله: (عَنْ الصَّعْب بْن جَثَّامَة) هُوَ بِجِيمٍ مَفْتُوحَة، ثُمَّ ثَاء مُثَلَّثَة مُشَدَّدَة.
قَوْله: (وَهُوَ: بِالْأَبْوَاءِ أَوْ بِوَدَّان) أَمَّا (الْأَبْوَاء) فَبِفَتْحِ الْهَمْزَة وَإِسْكَان الْمُوَحَّدَة وَبِالْمَدِّ، و(وَدَّان) بِفَتْحِ الْوَاو وَتَشْدِيد الدَّال الْمُهْمَلَة، وَهُمَا مَكَانَانِ بَيْن مَكَّة وَالْمَدِينَة.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَّا لَمْ نَرُدّهُ عَلَيْك إِلَّا أَنَّا حُرُم» هُوَ بِفَتْحِ الْهَمْزَة مِنْ (أَنَّا حُرُم) و(حُرُم) بِضَمِّ الْحَاء وَالرَّاء أَيْ مُحْرِمُونَ، قَالَ الْقَاضِي عِيَاض رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى: رِوَايَة الْمُحَدِّثِينَ فِي هَذَا الْحَدِيث: «لَمْ نَرُدّهُ» بِفَتْحِ الدَّال، قَالَ: وَأَنْكَرَهُ مُحَقِّقُو شُيُوخنَا مِنْ أَهْل الْعَرَبِيَّة، وَقَالُوا: هَذَا غَلَط مِنْ الرُّوَاة، وَصَوَابه: ضَمّ الدَّال، قَالَ: وَوَجَدْته بِخَطِّ بَعْض الْأَشْيَاخ بِضَمِّ الدَّال، وَهُوَ الصَّوَاب عِنْدهمْ عَلَى مَذْهَب سِيبَوَيْهِ فِي مِثْل هَذَا مِنْ الْمُضَاعَف إِذَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ الْهَاء أَنْ يُضَمّ مَا قَبْلهَا فِي الْأَمْر وَنَحْوه مِنْ الْمَجْزُوم، مُرَاعَاة لِلْوَاوِ الَّتِي تُوجِبهَا ضَمَّة الْهَاء بَعْدهَا؛ لِخَفَاءِ الْهَاء، فَكَانَ مَا قَبْلهَا وَلِيَ الْوَاوَ، وَلَا يَكُون مَا قَبْل الْوَاو إِلَّا مَضْمُومًا هَذَا فِي الْمُذَكَّر، وَأَمَّا الْمُؤَنَّث مِثْل (رَدَّهَا وَجَبَّهَا) فَمَفْتُوح الدَّال، وَنَظَائِرهَا مُرَاعَاة لِلْأَلِفِ، هَذَا آخِر كَلَام الْقَاضِي، فَأَمَّا (رَدَّهَا) وَنَظَائِرهَا مِنْ الْمُؤَنَّث فَفَتْحَة الْهَاء لَازِمَة بِالِاتِّفَاقِ، وَأَمَّا (رَدَّهُ) وَنَحْوه لِلْمُذَكَّرِ فَفيه ثَلَاثَة أَوْجُه: أَفْصَحهَا: وُجُوب الضَّمّ كَمَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي، وَالثَّانِي: الْكَسْر، وَهُوَ ضَعِيف، وَالثَّالِث: الْفَتْح، وَهُوَ أَضْعَف مِنْهُ، وَمِمَّنْ ذَكَرَهُ ثَعْلَب فِي الْفَصِيح، لَكِنْ غَلَّطُوهُ؛ لِكَوْنِهِ أَوْهَمَ فَصَاحَته وَلَمْ يُنَبِّه عَلَى ضَعْفه.
قَوْله: «عَنْ الصَّعْب بْن جَثَّامَة اللَّيْثِيِّ أَنَّهُ أَهْدَى لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِمَارًا وَحْشِيًّا»، وَفِي رِوَايَة: «حِمَار وَحْش»، وَفِي رِوَايَة: «مِنْ لَحْم حِمَار وَحْش»، وَفِي رِوَايَة: «عَجُز حِمَار وَحْش يَقْطُر دَمًا»، وَفِي رِوَايَة: «شِقّ حِمَار وَحْش»، وَفِي رِوَايَة: «عُضْوًا مِنْ لَحْم صَيْد» هَذِهِ رِوَايَات مُسْلِم، وَتَرْجَمَ لَهُ الْبُخَارِيّ: بَاب إِذَا أُهْدِيَ لِلْمُحْرِمِ حِمَارًا وَحْشِيًّا حَيًّا لَمْ يَقْبَل، ثُمَّ رَوَاهُ بِإِسْنَادِهِ، وَقَالَ فِي رِوَايَته: «حِمَارًا وَحْشِيًّا»، وَحُكِيَ هَذَا التَّأْوِيل أَيْضًا عَنْ مَالِك وَغَيْره، وَهُوَ تَأْوِيل بَاطِل، وَهَذِهِ الطُّرُق الَّتِي ذَكَرَهَا مُسْلِم صَرِيحَة فِي أَنَّهُ مَذْبُوح، وَأَنَّهُ إِنَّمَا أَهْدَى بَعْض لَحْم صَيْد لَا كُلّه، وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاء عَلَى تَحْرِيم الِاصْطِيَاد عَلَى الْمُحْرِم، وَقَالَ الشَّافِعِيّ وَآخَرُونَ: يَحْرُم عَلَيْك تَمَلُّك الصَّيْد بِالْبَيْعِ وَالْهِبَة وَنَحْوهمَا، وَفِي مِلْكه إِيَّاهُ بِالْإِرْثِ خِلَاف، وَأَمَّا لَحْم الصَّيْد: فَإِنْ صَادَهُ أَوْ صِيدَ لَهُ فَهُوَ حَرَام، سَوَاء صِيدَ لَهُ بِإِذْنِهِ أَمْ بِغَيْرِ إِذْنه، فَإِنْ صَادَهُ حَلَال لِنَفْسِهِ وَلَمْ يَقْصِد الْمُحْرِم، ثُمَّ أَهْدَى مِنْ لَحْمه لِلْمُحْرِمِ أَوْ بَاعَهُ لَمْ يَحْرُم عَلَيْهِ، هَذَا مَذْهَبنَا، وَبِهِ قَالَ مَالِك وَأَحْمَد وَدَاوُد، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة: لَا يَحْرُم عَلَيْهِ مَا صِيدَ لَهُ بِغَيْرِ إِعَانَة مِنْهُ، وَقَالَتْ طَائِفَة: لَا يَحِلّ لَهُ لَحْم الصَّيْد أَصْلًا، سَوَاء صَادَهُ أَوْ صَادَهُ غَيْرَة لَهُ أَوْ لَمْ يَقْصِدهُ فَيَحْرُم مُطْلَقًا، حَكَاهُ الْقَاضِي عِيَاض عَنْ عَلِيّ وَابْن عُمَر وَابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْد الْبَرّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} قَالُوا: الْمُرَاد بِالصَّيْدِ الْمَصِيد، وَلِظَاهِرِ حَدِيث الصَّعْب بْن جَثَّامَة فَإِنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَدَّهُ وَعَلَّلَ رَدّه أَنَّهُ مُحْرِم، وَلَمْ يَقُلْ: لِأَنَّك صِدْته لَنَا، وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيّ وَمُوَافِقُوهُ بِحَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ الْمَذْكُور فِي صَحِيح مُسْلِم بَعْد هَذَا، فَإِنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي الصَّيْد الَّذِي صَادَهُ أَبُو قَتَادَةَ- وَهُوَ حَلَال- قَالَ لِلْمُحْرِمِينَ: «هُوَ حَلَال فَكُلُوا» وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى قَالَ: «فَهَلْ مَعَكُمْ مِنْهُ شَيْء؟ قَالُوا: مَعَنَا رِجْله، فَأَخَذَهَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَكَلَهَا». وَفِي سُنَن أَبِي دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيِّ عَنْ جَابِر عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «صَيْد الْبَرّ لَكُمْ حَلَال مَا لَمْ تَصِيدُوهُ أَوْ يُصَاد لَكُمْ» هَكَذَا الرِّوَايَة (يُصَاد) بِالْأَلِفِ وَهِيَ جَائِزَة عَلَى لُغَة، وَمِنْهُ قَوْل الشَّاعِر: أَلَمْ يَأْتِيك وَالْأَنْبَاء تَنْمِي قَالَ أَصْحَابنَا: يَجِب الْجَمْع بَيْن هَذِهِ الْأَحَادِيث، وَحَدِيث جَابِر هَذَا صَرِيح فِي الْفَرْق، وَهُوَ ظَاهِر فِي الدَّلَالَة لِلشَّافِعِيِّ وَمُوَافِقِيهِ، وَرَدّ لِمَا قَالَهُ أَهْل الْمَذْهَبَيْنِ الْآخَرَيْنِ، وَيُحْمَل حَدِيث أَبِي قَتَادَةَ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَقْصِدهُمْ بِاصْطِيَادِهِ، وَحَدِيث الصَّعْب أَنَّهُ قَصَدَهُمْ بِاصْطِيَادِهِ، وَتُحْمَل الْآيَة الْكَرِيمَة عَلَى الِاصْطِيَاد، وَعَلَى لَحْم مَا صِيدَ لِلْمُحْرِمِ؛ لِلْأَحَادِيثِ الْمَذْكُورَة الْمُبَيِّنَة لِلْمُرَادِ مِنْ الْآيَة، وَأَمَّا قَوْلهمْ فِي حَدِيث الصَّعْب أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَّلَ بِأَنَّهُ مُحْرِم فَلَا يَمْنَع كَوْنه صِيدَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَحْرُم الصَّيْد عَلَى الْإِنْسَان إِذَا صِيدَ لَهُ بِشَرْطِ أَنَّهُ مُحْرِم، فَبَيَّنَ الشَّرْط الَّذِي يَحْرُم بِهِ.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّا لَمْ نَرُدّهُ عَلَيْك إِلَّا أَنَّا حُرُم» فيه: جَوَاز قَبُول الْهَدِيَّة لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخِلَافِ الصَّدَقَة. وَفيه: أَنَّهُ يُسْتَحَبّ لِمَنْ اِمْتَنَعَ مِنْ قَبُول هَدِيَّة وَنَحْوهَا لِعُذْرٍ أَنْ يَعْتَذِر بِذَلِكَ إِلَى الْمُهْدِي تَطْيِيبًا لِقَلْبِهِ.
2062- قَوْله: «سَمِعْت أَبَا قَتَادَةَ يَقُول: خَرَجْنَا مَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى إِذَا كُنَّا بِالْقَاحَة فَمِنَّا الْمُحْرِم وَمِنَّا غَيْر الْمُحْرِم» إِلَى آخِره (الْقَاحَة) بِالْقَافِ وَبِالْحَاءِ الْمُهْمَلَة الْمُخَفَّفَة، هَذَا هُوَ الصَّوَاب الْمَعْرُوف فِي جَمِيع الْكُتُب، وَاَلَّذِي قَالَهُ الْعُلَمَاء مِنْ كُلّ طَائِفَة، قَالَ الْقَاضِي: كَذَا قَيَّدَهَا النَّاس كُلّهمْ، قَالَ: وَرَوَاهُ بَعْضهمْ عَنْ الْبُخَارِيّ بِالْفَاءِ، وَهُوَ وَهْم، وَالصَّوَاب الْقَاف، وَهُوَ وَادٍ عَلَى نَحْو مِيل مِنْ السُّقْيَا، وَعَلَى ثَلَاث مَرَاحِل مِنْ الْمَدِينَة.
قَوْله: «فَمِنَّا الْمُحْرِم وَمِنَّا غَيْر الْمُحْرِم» قَدْ يُقَال: كَيْف كَانَ أَبُو قَتَادَةَ وَغَيْره مِنْهُمْ غَيْر مُحْرِمِينَ وَقَدْ جَاوَزُوا مِيقَات الْمَدِينَة، وَقَدْ تَقَرَّرَ أَنَّ مَنْ أَرَادَ حَجًّا أَوْ عُمْرَة لَا يَجُوز لَهُ مُجَاوَزَة الْمِيقَات غَيْر مُحْرِم؟ قَالَ الْقَاضِي- فِي جَوَاب هَذَا-: قِيلَ إِنَّ الْمَوَاقِيت لَمْ تَكُنْ وُقِّتَتْ بَعْد، وَقِيلَ: لِأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ أَبَا قَتَادَةَ وَرُفْقَته لِكَشْفِ عَدُوّ لَهُمْ بِجِهَةِ السَّاحِل، كَمَا ذَكَرَهُ مُسْلِم فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى، وَقِيلَ: إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ خَرَجَ مَعَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْمَدِينَة، بَلْ بَعَثَهُ أَهْل الْمَدِينَة بَعْد ذَلِكَ إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لِيُعْلِمهُ أَنَّ بَعْض الْعَرَب يَقْصِدُونَ الْإِغَارَة عَلَى الْمَدِينَة، وَقِيلَ: إِنَّهُ خَرَجَ مَعَهُمْ وَلَكِنَّهُ لَمْ يَنْوِ حَجًّا وَلَا عُمْرَة، قَالَ الْقَاضِي: وَهَذَا بَعِيد. وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله: «فَسَقَطَ مِنِّي سَوْطِي، فَقُلْت لِأَصْحَابِي- وَكَانُوا مُحْرِمِينَ-: نَاوَلُونِي السَّوْط، فَقَالُوا: وَاَللَّه لَا نُعِينك عَلَيْهِ بِشَيْءٍ» وَقَالَ فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: «إِنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: هَلْ أَشَارَ إِلَيْهِ إِنْسَان مِنْكُمْ أَوْ أَمَرَهُ بِشَيْءٍ؟ قَالُوا: لَا. قَالَ: فَكُلُوهُ» هَذَا ظَاهِر فِي الدَّلَالَة عَلَى تَحْرِيم الْإِشَارَة وَالْإِعَانَة مِنْ الْمُحْرِم فِي قَتْل الصَّيْد، وَكَذَلِكَ الدَّلَالَة عَلَيْهِ، وَكُلّ سَبَب، وَفيه دَلِيل لِلْجُمْهُورِ عَلَى أَبِي حَنِيفَة فِي قَوْله: لَا تَحِلّ الْإِعَانَة مِنْ الْمُحْرِم إِلَّا إِذَا لَمْ يُمْكِن اِصْطِيَاده بِدُونِهَا.
قَوْله: «فَقَالَ بَعْضهمْ: كُلُوهُ وَقَالَ بَعْضهمْ: لَا تَأْكُلُوهُ» ثُمَّ قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هُوَ حَلَال فَكُلُوهُ» فيه دَلِيل عَلَى جَوَاز الِاجْتِهَاد فِي مَسَائِل الْفُرُوع وَالِاخْتِلَاف فيها. وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هُوَ حَلَال فَكُلُوهُ» صَرِيح فِي أَنَّ الْحَلَال إِذَا صَادَ صَيْدًا وَلَمْ يَكُنْ مِنْ الْمُحْرِم إِعَانَة وَلَا إِشَارَة وَلَا دَلَالَة عَلَيْهِ، حَلَّ لِلْمُحْرِمِ أَكْله، وَقَدْ سَبَقَ أَنَّ هَذَا مَذْهَب الشَّافِعِيّ وَالْأَكْثَرِينَ.
قَوْله: «إِذْ بَصُرْت بِأَصْحَابِي يَتَرَاءَوْنَ شَيْئًا»، وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: «يَضْحَك بَعْضهمْ إِلَيَّ؛ إِذْ نَظَرْت فَإِذَا أَنَا بِحِمَارِ وَحْش» هَكَذَا وَقَعَ فِي جَمِيع نُسَخ بِلَادنَا: «يَضْحَك إِلَيَّ» بِتَشْدِيدِ الْيَاء، قَالَ الْقَاضِي: هَذَا خَطَأ وَتَصْحِيف، وَوَقَعَ فِي رِوَايَة بَعْض الرُّوَاة عَنْ مُسْلِم وَالصَّوَاب: «يَضْحَك إِلَى بَعْض» فَأَسْقَطَ لَفْظَة: «بَعْض» وَالصَّوَاب إِثْبَاتهَا كَمَا هُوَ مَشْهُور فِي بَاقِي الرِّوَايَات؛ لِأَنَّهُمْ لَوْ ضَحِكُوا إِلَيْهِ لَكَانَتْ إِشَارَة مِنْهُمْ، وَقَدْ قَالُوا: إِنَّهُمْ لَمْ يُشِيرُوا إِلَيْهِ، قُلْت: لَا يُمْكِن رَدّ هَذِهِ الرِّوَايَة، فَقَدْ صَحَّتْ هِيَ وَالرِّوَايَة الْأُخْرَى، وَلَيْسَ فِي وَاحِدَة مِنْهُمَا دَلَالَة وَلَا إِشَارَة إِلَى الصَّيْدَة، فَإِنَّ مُجَرَّد الضَّحِك لَيْسَ فيه إِشَارَة.
قَالَ الْعُلَمَاء: وَإِنَّمَا ضَحِكُوا تَعَجُّبًا مِنْ عُرُوض الصَّيْد، وَلَا قُدْرَة لَهُمْ عَلَيْهِ لِمَنْعِهِمْ مِنْهُ. وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله: «فَإِذَا حِمَار وَحْش» وَكَذَا ذُكِرَ فِي أَكْثَر الرِّوَايَات: «حِمَار وَحْش»، وَفِي رِوَايَة أَبِي كَامِل الْجَحْدَرِيِّ: «إِذْ رَأَوْا حُمُر وَحْش فَحَمَلَ عَلَيْهَا أَبُو قَتَادَةَ فَعَقَرَ مِنْهَا أَتَانًا فَأَكَلُوا مِنْ لَحْمهَا» فَهَذِهِ الرِّوَايَة تُبَيِّن أَنَّ الْحِمَار فِي أَكْثَر الرِّوَايَات الْمُرَاد بِهِ أُنْثَى وَهِيَ الْأَتَان، وَسُمِّيَتْ حِمَارًا مَجَازًا.
2063- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هَلْ مَعَكُمْ مِنْ لَحْمه شَيْء؟»، وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: «هَلْ مَعَكُمْ مِنْهُ شَيْء؟ قَالُوا: مَعَنَا رِجْله، فَأَخَذَهَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَكَلَهَا». إِنَّمَا أَخَذَهَا وَأَكَلَهَا تَطْيِيبًا لِقُلُوبِهِمْ فِي إِبَاحَته، وَمُبَالَغَة فِي إِزَالَة الشَّكّ وَالشُّبْهَة عَنْهُمْ بِحُصُولِ الِاخْتِلَاف بَيْنهمْ فيه قَبْل ذَلِكَ.
قَوْله: «فَقَالَ: إِنَّمَا هِيَ طُعْمَة» هِيَ بِضَمِّ الطَّاء أَيْ طَعَام.
2064- قَوْله: «وَتِعْهِن» هِيَ عَيْن مَاء هُنَاكَ عَلَى ثَلَاثَة أَمْيَال مِنْ السُّقْيَا، وَهِيَ بِتَاءٍ مُثَنَّاة فَوْق مَكْسُورَة وَمَفْتُوحَة ثُمَّ عَيْن مُهْمَلَة سَاكِنَة ثُمَّ هَاء مَكْسُورَة ثُمَّ نُون، قَالَ الْقَاضِي عِيَاض: هِيَ بِكَسْرِ التَّاء وَفَتْحهَا، قَالَ: وَرِوَايَتنَا عَنْ الْأَكْثَرِينَ بِالْكَسْرِ، قَالَ: وَكَذَا قَيَّدَهَا الْبَكْرِيّ فِي مُعْجَمه، قَالَ الْقَاضِي: وَبَلَغَنِي عَنْ أَبِي ذَرّ الْهَرَوِيِّ أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْت الْعَرَب تَقُولهَا بِضَمِّ التَّاء وَفَتْح الْعَيْن وَكَسْر الْهَاء، وَهَذَا ضَعِيف.
(وَالسُّقْيَا) بِضَمِّ السِّين الْمُهْمَلَة وَإِسْكَان الْقَاف وَبَعْدهَا يَاء مُثَنَّاة مِنْ تَحْت، وَهِيَ مَقْصُورَة، وَهِيَ قَرْيَة جَامِعَة بَيْن مَكَّة وَالْمَدِينَة مِنْ أَعْمَال الْفُرْع بِضَمِّ الْفَاء وَإِسْكَان الرَّاء وَبِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَة و(الْأَبْوَاء وَوَدَّان) قَرْيَتَانِ مِنْ أَعْمَال الْفُرْع أَيْضًا.
وَأَمَّا (غَيْقَة) فَهِيَ بِغَيْنٍ مُعْجَمَة مَفْتُوحَة ثُمَّ يَاء مُثَنَّاة مِنْ تَحْت سَاكِنَة ثُمَّ قَاف مَفْتُوحَة، وَهِيَ مَوْضِع مِنْ بِلَاد بَنِي غِفَار، بَيْن مَكَّة وَالْمَدِينَة، قَالَ الْقَاضِي: وَقِيلَ: هِيَ بِئْر مَاء لِبَنِي ثَعْلَبَة.
قَوْله: «أَرْفَع فَرَسِي شَأْوًا وَأَسِير شَأْوًا» هُوَ بِالشِّينِ الْمُعْجَمَة مَهْمُوز، و(الشَّأْو) الطَّلْق وَالْغَايَة، وَمَعْنَاهُ: أَرْكُضهُ شَدِيدًا وَقْتًا، وَأَسُوقهُ بِسُهُولَةٍ وَقْتًا.
قَوْله: «فَقُلْت: أَيْنَ لَقِيت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: تَرَكْته بِتِعْهِن، وَهُوَ قَائِل السُّقْيَا» أَمَّا (غَيْقَة وَالسُّقْيَا وَتِعْهِن) فَسَبَقَ ضَبْطهنَّ وَبَيَانهنَّ، وَقَوْله: (قَائِل) رُوِيَ بِوَجْهَيْنِ أَصَحّهمَا وَأَشْهَرهمَا (قَائِل) بِهَمْزَةٍ بَيْن الْأَلِف وَاللَّام مِنْ الْقَيْلُولَة، وَمَعْنَاهُ: تَرَكْته بِتِعْهِن، وَفِي عَزْمه أَنْ يَقِيل بِالسُّقْيَا وَمَعْنَى (قَائِل) سَيَقِيلُ، وَلَمْ يَذْكُر الْقَاضِي فِي شَرْح مُسْلِم وَصَاحِب الْمَطَالِع وَالْجُمْهُور غَيْر هَذَا بِمَعْنَاهُ. وَالْوَجْه الثَّانِي: أَنَّهُ (قَابِل) بِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَة، وَهُوَ ضَعِيف وَغَرِيب، وَكَأَنَّهُ تَصْحِيف، وَإِنْ صَحَّ فَمَعْنَاهُ: تِعْهِن مَوْضِع قَابِل لِلسُّقْيَا.
قَوْله: «قُلْت: يَا رَسُول اللَّه إِنَّ أَصْحَابك يَقْرَءُونَ عَلَيْك السَّلَام وَرَحْمَة اللَّه» فيه اِسْتِحْبَاب إِرْسَال السَّلَام إِلَى الْغَائِب، سَوَاء كَانَ أَفْضَل مِنْ الْمُرْسِل أَمْ لَا؛ لِأَنَّهُ إِذَا أَرْسَلَهُ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْضَل فَمَنْ دُونه أَوْلَى، قَالَ أَصْحَابنَا: وَيَجِب عَلَى الرَّسُول تَبْلِيغه، وَيَجِب عَلَى الْمُرْسَل إِلَيْهِ رَدّ الْجَوَاب حِين يَبْلُغهُ عَلَى الْفَوْر.
قَوْله: «يَا رَسُول اللَّه إِنِّي أَصَدْت وَمَعِي مِنْهُ فَاضِلَة» هَكَذَا هُوَ فِي بَعْض النُّسَخ وَهُوَ بِفَتْحِ الصَّاد الْمُخَفَّفَة، وَالضَّمِير فِي (مِنْهُ) يَعُود عَلَى الصَّيْد الْمَحْذُوف الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ (أَصَدْت)، وَيُقَال بِتَشْدِيدِ الصَّاد، وَفِي بَعْض النُّسَخ: (صِدْت)، وَفِي بَعْضهَا. (اِصْطَدْت) وَكُلّه صَحِيح.
2065- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَشَرْتُمْ أَوْ أَعَنْتُمْ أَوْ أَصَّدْتُمْ» رُوِيَ بِتَشْدِيدِ الصَّاد وَتَخْفِيفهَا، وَرُوِيَ (صِدْتُمْ) قَالَ الْقَاضِي: رُوِّينَاهُ بِالتَّخْفِيفِ فِي (أَصَّدْتُمْ)، وَمَعْنَاهُ: أَمَرْتُمْ بِالصَّيْدِ أَوْ جَعَلْتُمْ مَنْ يَصِيدهُ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَثَرْتُمْ الصَّيْد مِنْ مَوْضِعه؛ يُقَال: أَصَدْت الصَّيْد مُخَفَّف، أَيْ أَثَرْته، قَالَ: وَهُوَ أَوْلَى مِنْ رِوَايَة مَنْ رَوَاهُ (صِدْتُمْ) أَو: (أَصَّدْتُمْ) بِالتَّشْدِيدِ؛ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ عَلِمَ أَنَّهُمْ لَمْ يَصِيدُوا، وَإِنَّمَا سَأَلُوهُ عَمَّا صَادَ غَيْرهمْ. وَاَللَّه أَعْلَم.
2067- قَوْله: «فَلَمَّا اِسْتَيْقَظَ طَلْحَة وَفَّقَ مَنْ أَكَلَهُ» مَعْنَاهُ: صَوَّبَهُ. وَاَللَّه أَعْلَم.