فصل: باب الْوُضُوءِ مِنْ لُحُومِ الإِبِلِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج المشهور بـ «شرح النووي على مسلم»



.باب نَسْخِ: «الْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتِ النَّارُ»:

532- قَوْله: (أَكَلَ عَرْقًا) هُوَ بِفَتْحِ الْعَيْن وَإِسْكَان الرَّاء وَهُوَ الْعَظْم عَلَيْهِ قَلِيل مِنْ اللَّحْم، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانه فِي آخِر كِتَاب الْإِيمَان مَبْسُوطًا.
534- قَوْله: (يُحْتَزّ مِنْ كَنَف شَاة) فيه جَوَاز قَطْع اللَّحْم بِالسِّكِّينِ وَذَلِكَ تَدْعُو إِلَيْهِ الْحَاجَة لِصَلَابَةِ اللَّحْم أَوْ كِبَر الْقِطْعَة. قَالُوا: وَيُكْرَه مِنْ غَيْر حَاجَة.
قَوْله (فَدُعِيَ إِلَى الصَّلَاة فَقَامَ فَطَرَحَ السِّكِّين وَصَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأ) فِي هَذَا دَلِيل عَلَى جَوَاز بَلْ اِسْتِحْبَاب اِسْتِدْعَاء الْأَئِمَّة إِلَى الصَّلَاة إِذَا حَضَرَ وَقْتهَا. وَفيه أَنَّ الشَّهَادَة عَلَى النَّفْي تُقْبَل إِذَا كَانَ الْمَنْفِيّ مَحْصُورًا مِثْل هَذَا، وَفيه أَنَّ الْوُضُوء مِمَّا مَسَّتْ النَّار لَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَفِي (السِّكِّين) لُغَتَانِ التَّذْكِير وَالتَّأْنِيث، يُقَال سِكِّين جَيِّد، وَجَيِّدَة، سُمِّيَتْ سِكِّينًا لِتَسْكِينِهَا حَرَكَة الْمَذْبُوح. وَاَللَّه أَعْلَم.
536- قَوْله: (عَنْ أَبِي غَطَفَان عَنْ أَبِي رَافِع رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ: «أَشْهَد لَكُنْت أَشْوِي لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَطْن الشَّاة ثُمَّ صَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأ») أَمَّا أَبُو غَطَفَان بِفَتْحِ الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَالطَّاء الْمُهْمَلَة فَهُوَ اِبْن طَرِيف الْمُرِّيّ الْمَدَنِيّ.
قَالَ الْحَاكِم أَبُو أَحْمَد: لَا يُعْرَف اِسْمه، قَالَ: وَيُقَال فِي كُنْيَته أَيْضًا: أَبُو مَالِك، وَأَمَّا أَبُو رَافِع فَهُوَ. مَوْلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَاسْمه أَسْلَم، وَقِيلَ: إِبْرَاهِيم، وَقِيلَ: هُرْمُز، وَقِيلَ: ثَابِت، وَقَوْله: (بَطْن الشَّاة) يَعْنِي الْكَبِد وَمَا مَعَهُ مِنْ حَشْوهَا، وَفِي الْكَلَام حَذْف تَقْدِيره أَشْوِي بَطْن الشَّاة فَيَأْكُل مِنْهُ، ثُمَّ يُصَلِّي وَلَا يَتَوَضَّأ. وَاَللَّه أَعْلَم.
537- قَوْله: «إِنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَرِبَ لَبَنًا ثُمَّ دَعَا بِمَاءٍ فَتَمَضْمَضَ وَقَالَ: إِنَّ لَهُ دَسَمًا» فيه اِسْتِحْبَاب الْمَضْمَضَة مِنْ شُرْب اللَّبَن.
قَالَ الْعُلَمَاء: وَكَذَلِكَ غَيْره مِنْ الْمَأْكُول وَالْمَشْرُوب تُسْتَحَبّ لَهُ الْمَضْمَضَة، وَلِئَلَّا تَبْقَى مِنْهُ بَقَايَا يَبْتَلِعهَا فِي حَال الصَّلَاة، وَلِتَنْقَطِع لِزَوْجَتِهِ وَدَسَمه، وَيَتَطَهَّر فَمه. وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي اِسْتِحْبَاب غَسْل الْيَد قَبْل الطَّعَام وَبَعْده وَالْأَظْهَر اِسْتِحْبَابه أَوَّلًا إِلَّا أَنْ يَتَيَقَّن نَظَافَة الْيَد مِنْ النَّجَاسَة وَالْوَسَخ، وَاسْتِحْبَابه بَعْد الْفَرَاغ إِلَّا أَنْ لَا يَبْقَى عَلَى الْيَد أَثَر الطَّعَام بِأَنْ كَانَ يَابِسًا وَلَمْ يَمَسّهُ بِهَا.
وَقَالَ مَالِك رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى: لَا يُسْتَحَبّ غَسْل الْيَد لِلطَّعَامِ إِلَّا أَنْ يَكُون عَلَى الْيَد أَوَّلًا قَذِر وَيَبْقَى عَلَيْهَا بَعْد الْفَرَاغ رَائِحَة. وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله: (وَحَدَّثَنِي أَحْمَد بْن عِيسَى قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن وَهْب وَأَخْبَرَنِي عَمْرو) هَكَذَا هُوَ فِي الْأُصُول (وَأَخْبَرَنِي عَمْرو) بِالْوَاوِ فِي وَأَخْبَرَنِي وَهِيَ وَاو الْعَطْف، وَالْقَائِل وَأَخْبَرَنِي عَمْرو هُوَ اِبْن وَهْب، وَإِنَّمَا أَتَى بِالْوَاوِ أَوَّلًا لِأَنَّهُ سَمِعَ مِنْ عَمْرو أَحَادِيث فَرَوَاهَا وَعَطَفَ بَعْضهَا عَلَى بَعْض، فَقَالَ اِبْن وَهْب: أَخْبَرَنِي عَمْرو بِكَذَا، وَأَخْبَرَنِي عَمْرو بِكَذَا، وَعَدَّدَ تِلْكَ الْأَحَادِيث، فَسَمِعَ أَحْمَد بْن عِيسَى لَفْظ اِبْن وَهْب هَكَذَا بِالْوَاوِ، فَأَدَّاهُ أَحْمَد بْن عِيسَى كَمَا سَمِعَهُ، فَقَالَ: حَدَّثَنَا اِبْن وَهْب قَالَ: يَعْنِي اِبْن وَهْب، وَأَخْبَرَنِي عَمْرو. وَاَللَّه أَعْلَم.
538- قَوْله (حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن عَمْرو بْن حَلْحَلَة) هُوَ بِالْحَاءَيْنِ الْمُهْمَلَتَيْنِ الْمَفْتُوحَتَيْنِ بَيْنهمَا اللَّام السَّاكِنَة.
قَوْله: (وَفيه أَنَّ اِبْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا شَهِدَ ذَلِكَ مِنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) هَذَا فيه فَائِدَة لَطِيفَة وَذَلِكَ أَنَّ الرِّوَايَة الْأُولَى فيها عَنْ اِبْن عَبَّاس أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَعَ ثِيَابه وَلَيْسَ فيها أَنَّ اِبْن عَبَّاس رَأَى هَذِهِ الْقَضِيَّة، فَيَحْتَمِل أَنَّهُ رَآهَا، وَيَحْتَمِل أَنَّهُ سَمِعَهَا مِنْ غَيْره. وَعَلَى تَقْدِير أَنْ يَكُون سَمِعَهَا مِنْ غَيْره يَكُون مُرْسَل صَحَابِيّ، وَقَدْ مَنَعَ الِاحْتِجَاج بِهِ الْأُسْتَاذ أَبُو إِسْحَاق الْإِسْفَرَايِينِيّ، وَالصَّوَاب قَوْل الْجُمْهُور الِاحْتِجَاج بِهِ، فَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الرِّوَايَة مُحْتَمِلَة هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ نَبَّهَ مُسْلِم رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى عَلَى مَا يُزِيل هَذَا كُلّه فَقَالَ: شَهِدَ اِبْن عَبَّاس ذَلِكَ. وَاَللَّه- سُبْحَانه وَتَعَالَى- أَعْلَم.

.باب الْوُضُوءِ مِنْ لُحُومِ الإِبِلِ:

فِي إِسْنَاده مَوْهَب هُوَ بِفَتْحِ الْهَاء وَالْمِيم، وَفيه أَشْعَث بْن أَبِي الشَّعْثَاء هُمَا بِالثَّاءِ الْمُثَلَّثَة، وَاسْم أَبِي الشَّعْثَاء سُلَيْمُ بْن أَسْوَد، أَمَّا أَحْكَام الْبَاب فَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي أَكْل لُحُوم الْجَزُور، فَذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ إِلَى أَنَّهُ لَا يَنْقُض الْوُضُوء، مِمَّنْ ذَهَبَ إِلَيْهِ الْخُلَفَاء الْأَرْبَعَة الرَّاشِدُونَ أَبُو بَكْر وَعُمَر وَعُثْمَان وَعَلِيّ، وَابْن مَسْعُود، وَأُبَيّ بْن كَعْب، وَابْن عَبَّاس، وَأَبُو الدَّرْدَاء، وَأَبُو طَلْحَة، وَعَامِر بْن رَبِيعَة، وَأَبُو أُمَامَة، وَجَمَاهِير التَّابِعِينَ، وَمَالِك وَأَبُو حَنِيفَة، وَالشَّافِعِيّ، وَأَصْحَابهمْ، وَذَهَبَ إِلَى اِنْتِقَاض الْوُضُوء بِهِ أَحْمَد بْن حَنْبَل، وَإِسْحَاق بْن رَاهْوَيْهِ، وَيَحْيَى بْن يَحْيَى، وَأَبُو بَكْر بْن الْمُنْذِر، وَابْن خُزَيْمَةَ، وَاخْتَارَهُ الْحَافِظ أَبُو بَكْر الْبَيْهَقِيُّ، وَحُكِيَ عَنْ أَصْحَاب الْحَدِيث مُطْلَقًا، وَحُكِيَ عَنْ جَمَاعَة مِنْ الصَّحَابَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ، وَاحْتَجَّ هَؤُلَاءِ بِحَدِيثِ الْبَاب، وَقَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نَعَمْ فَتَوَضَّأَ مِنْ لُحُوم الْإِبِل». وَعَنْ الْبَرَاء بْن عَازِب قَالَ: «سُئِلَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْوُضُوء مِنْ لُحُوم الْإِبِل فَأَمَرَ بِهِ».
قَالَ أَحْمَد بْن حَنْبَل رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى، وَإِسْحَاق بْن رَاهْوَيْهِ: صَحَّ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا حَدِيثَانِ: حَدِيث جَابِر، وَحَدِيث الْبَرَاء، وَهَذَا الْمَذْهَب أَقْوَى دَلِيلًا وَإِنْ كَانَ الْجُمْهُور عَلَى خِلَافه.
وَقَدْ أَجَابَ الْجُمْهُور عَنْ هَذَا الْحَدِيث بِحَدِيثِ جَابِر كَانَ آخِر الْأَمْرَيْنِ مِنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرْك الْوُضُوء مِمَّا مَسَّتْ النَّار، وَلَكِنْ هَذَا الْحَدِيث عَامٌّ، وَحَدِيث الْوُضُوء مِنْ لُحُوم الْإِبِل خَاصٌّ، وَالْخَاصُّ مُقَدَّم عَلَى الْعَامِّ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا إِبَاحَته صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّلَاة فِي مَرَابِض الْغَنَم دُون مَبَارِك الْإِبِل فَهُوَ مُتَّفَق عَلَيْهِ، وَالنَّهْي عَنْ مَبَارِك الْإِبِل وَهِيَ أَعْطَانهَا نَهْي تَنْزِيه وَسَبَب الْكَرَاهَة مَا يُخَاف مِنْ نِفَارهَا وَتَهْوِيشهَا عَلَى الْمُصَلِّي. وَاَللَّه أَعْلَم.

.باب الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ مَنْ تَيَقَّنَ الطَّهَارَةَ ثُمَّ شَكَّ فِي الْحَدَثِ فَلَهُ أَنْ يُصَلِّيَ بِطَهَارَتِهِ تِلْكَ:

540- قَوْله: «شُكِيَ إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرَّجُل يُخَيَّل إِلَيْهِ أَنَّهُ يَجِد الشَّيْء فِي الصَّلَاة قَالَ: لَا يَنْصَرِف حَتَّى يَسْمَع صَوْتًا أَوْ يَجِد رِيحًا» قَوْله يُخَيَّل إِلَيْهِ الشَّيْء يَعْنِي خُرُوج الْحَدَث مِنْهُ.
وَقَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «حَتَّى يَسْمَع صَوْتًا أَوْ يَجِد رِيحًا» مَعْنَاهُ يَعْلَم وُجُود أَحَدهمَا وَلَا يُشْتَرَط السَّمَاع وَالشَّمّ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ. وَهَذَا الْحَدِيث أَصْل مِنْ أُصُول الْإِسْلَام وَقَاعِدَة عَظِيمَة مِنْ قَوَاعِد الْفِقْه، وَهِيَ أَنَّ الْأَشْيَاء يُحْكَم بِبَقَائِهَا عَلَى أُصُولهَا حَتَّى يُتَيَقَّن خِلَاف ذَلِكَ. وَلَا يَضُرّ الشَّكّ الطَّارِئ عَلَيْهَا. فَمِنْ ذَلِكَ مَسْأَلَة الْبَاب الَّتِي وَرَدَ فيها الْحَدِيث وَهِيَ أَنَّ مَنْ تَيَقَّنَ الطَّهَارَة وَشَكَّ فِي الْحَدَث حُكِمَ بِبَقَائِهِ عَلَى الطَّهَارَة، وَلَا فَرْق بَيْن حُصُول هَذَا الشَّكّ فِي نَفْس الصَّلَاة، وَحُصُوله خَارِج الصَّلَاة. هَذَا مَذْهَبنَا وَمَذْهَب جَمَاهِير الْعُلَمَاء مِنْ السَّلَف وَالْخَلَف. وَحُكِيَ عَنْ مَالِك رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى رِوَايَتَانِ: إِحْدَاهُمَا أَنَّهُ يَلْزَمهُ الْوُضُوء إِنْ كَانَ شَكُّهُ خَارِج الصَّلَاة، وَلَا يَلْزَمُهُ إِنْ كَانَ فِي الصَّلَاة، وَالثَّانِيَة يَلْزَمُهُ بِكُلِّ حَالٍ، وَحُكِيَتْ الرِّوَايَة الْأُولَى عَنْ الْحَسَن الْبَصْرِيّ وَهُوَ وَجْه شَاذّ مَحْكِيّ عَنْ بَعْض أَصْحَابنَا، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ قَالَ أَصْحَابنَا: وَلَا فَرْق فِي الشَّكّ بَيْن أَنْ يَسْتَوِي الِاحْتِمَالَانِ فِي وُقُوع الْحَدَث وَعَدَمه، أَوْ يَتَرَجَّح أَحَدهمَا، أَوْ يَغْلِب عَلَى ظَنّه، فَلَا وُضُوء عَلَيْهِ بِكُلِّ حَال.
قَالَ أَصْحَابنَا: وَيُسْتَحَبّ لَهُ أَنْ يَتَوَضَّأ اِحْتِيَاطًا. فَلَوْ تَوَضَّأَ اِحْتِيَاطًا وَدَامَ شَكُّهُ فَذِمَّته بَرِيئَة، وَإِنْ عَلِمَ بَعْد ذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ مُحْدِثًا فَهَلْ تُجْزِيه تِلْكَ الطَّهَارَة الْوَاقِعَة فِي حَال الشَّكّ؟ فيه وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا: أَصَحّهمَا عِنْدهمْ أَنَّهُ لَا تُجْزِيه لِأَنَّهُ كَانَ مُتَرَدِّدًا فِي نِيَّته وَاَللَّه أَعْلَم.
وَأَمَّا إِذَا تَيَقَّنَ الْحَدَث وَشَكَّ فِي الطَّهَارَة فَإِنَّهُ يَلْزَمهُ الْوُضُوء بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ.
وَأَمَّا إِذَا تَيَقَّنَ أَنَّهُ وُجِدَ مِنْهُ بَعْد طُلُوع الشَّمْس مَثَلًا حَدَث وَطَهَارَة وَلَا يَعْرِف السَّابِق مِنْهُمَا فَإِنْ كَانَ لَا يَعْرِف حَاله قَبْل طُلُوع الشَّمْس لَزِمَهُ الْوُضُوء، وَإِنْ عَرَفَ حَاله فَفيه أَوْجُه لِأَصْحَابِنَا: أَشْهَرهمَا عِنْدهمْ أَنَّهُ يَكُون بِضِدِّ مَا كَانَ قَبْل طُلُوع الشَّمْس، فَإِنْ كَانَ قَبْلهَا مُحْدِثًا فَهُوَ الْآن مُتَطَهِّر، وَإِنْ كَانَ قَبْلهَا مُتَطَهِّرًا فَهُوَ الْآن مُحْدِث، وَالثَّانِي وَهُوَ الْأَصَحّ عِنْد جَمَاعَات مِنْ الْمُحَقِّقِينَ أَنَّهُ يَلْزَمهُ الْوُضُوء بِكُلِّ حَال، وَالثَّالِث يَبْنِي عَلَى غَالِب ظَنّه، وَالرَّابِع يَكُون كَمَا كَانَ قَبْل طُلُوع الشَّمْس، وَلَا تَأْثِير لِلْأَمْرَيْنِ الْوَاقِعَيْنِ بَعْد طُلُوعهَا، هَذَا الْوَجْه غَلَط صَرِيح، وَبُطْلَانه أَظْهَر مِنْ أَنْ يُسْتَدَلّ عَلَيْهِ. وَإِنَّمَا ذَكَرْته لِأُنَبِّه عَلَى بُطْلَانه لِئَلَّا يَغْتَرّ بِهِ، وَكَيْفَ يَحْكُم بِأَنَّهُ عَلَى حَاله مَعَ تَيَقُّن بُطْلَانهَا بِمَا وَقَعَ بَعْدهَا؟ وَاَللَّه أَعْلَم.
وَمِنْ مَسَائِل الْقَاعِدَة الْمَذْكُورَة أَنَّ مَنْ شَكَّ فِي طَلَاق زَوْجَته، أَوْ عِتْق عَبْده، أَوْ نَجَاسَة الْمَاء الطَّاهِر، أَوْ طَهَارَة النَّجَس، أَوْ نَجَاسَة الثَّوْب أَوْ الطَّعَام أَوْ غَيْره، أَوْ أَنَّهُ صَلَّى ثَلَاث رَكَعَات أَوْ أَرْبَعًا، أَوْ أَنَّهُ رَكَعَ وَسَجَدَ أَمْ لَا. أَوْ أَنَّهُ نَوَى الصَّوْم أَوْ الصَّلَاة أَوْ الْوُضُوء أَوْ الِاعْتِكَاف، وَهُوَ فِي أَثْنَاء هَذِهِ الْعِبَادَات وَمَا أَشْبَهَ هَذِهِ الْأَمْثِلَة فَكُلّ هَذِهِ الشُّكُوك لَا تَأْثِير لَهَا، وَالْأَصْل عَدَم هَذَا الْحَادِث، وَقَدْ اِسْتَثْنَى الْعُلَمَاء مَسَائِل مِنْ هَذِهِ الْقَاعِدَة وَهِيَ مَعْرُوفَة فِي كُتُب الْفِقْه لَا يَتَّسِع هَذَا الْكِتَاب لِبَسْطِهَا، فَإِنَّهَا مُنْتَشِرَة وَعَلَيْهَا اِعْتِرَاضَات وَلَهَا أَجْوِبَة، وَمِنْهَا مُخْتَلَف فيه، فَلِهَذَا حَذَفْتهَا هُنَا وَقَدْ أَوْضَحْتهَا بِحَمْدِ اللَّه تَعَالَى فِي بَاب مَسْح الْخُفّ، وَبَاب الشَّكّ فِي نَجَاسَة الْمَاء مِنْ الْمَجْمُوع فِي شَرْح الْمُهَذَّب، وَجَمَعْت فيها مُتَفَرِّق كَلَام الْأَصْحَاب، وَمَا تَمَسّ إِلَيْهِ الْحَاجَة مِنْهَا. وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله (عَنْ سَعِيد، وَعَبَّاد بْن تَمِيم عَنْ عَمّه شُكِيَ إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرَّجُل يُخَيَّل إِلَيْهِ الشَّيْء فِي الصَّلَاة) ثُمَّ قَالَ مُسْلِم فِي آخِر الْحَدِيث: (قَالَ أَبُو بَكْر وَزُهَيْر بْن حَرْب فِي رِوَايَتهمَا هُوَ عَبْد اللَّه بْن زَيْد) مَعْنَى هَذَا أَنَّ فِي رِوَايَة أَبِي بَكْر وَزُهَيْر سُمِّيَا عَمّ عَبَّاد بْن تَمِيم، فَإِنَّهُ رَوَاهُ أَوَّلًا عَنْ سَعِيد وَهُوَ اِبْن الْمُسَيِّب، وَعَنْ عَبَّاد بْن تَمِيم عَنْ عَمّه، وَلَمْ يُسَمِّهِ، فَسَمَّاهُ فِي هَذِهِ الرِّوَايَة، فَقَالَ: هَذَا الْعَمّ هُوَ عَبْد اللَّه بْن زَيْد، وَهُوَ اِبْن زَيْد بْن عَاصِم، وَهُوَ رَاوِي حَدِيث صِفَة الْوُضُوء، وَحَدِيث صَلَاة الِاسْتِسْقَاء، وَغَيْرهمَا، وَلَيْسَ هُوَ عَبْد اللَّه بْن زَيْد بْن عَبْد رَبّه الَّذِي أُرِيَ الْأَذَان. وَقَوْله: (شُكِيَ) هُوَ بِضَمِّ الشِّين وَكَسْر الْكَاف و(الرَّجُل) مَرْفُوع وَلَمْ يُسَمِّ هُنَا الشَّاكِي وَجَاءَ فِي رِوَايَة الْبُخَارِيّ أَنَّ السَّائِل هُوَ عَبْد اللَّه بْن زَيْد الرَّاوِي. وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُتَوَهَّم بِهَذَا أَنَّهُ: «شَكَى» مَفْتُوحَة الشِّين وَالْكَاف وَيَجْعَل الشَّاكِي هُوَ عَمّه الْمَذْكُور فَإِنَّ هَذَا الْوَهْم غَلَط. وَاَللَّه أَعْلَم.

.باب طَهَارَةِ جُلُودِ الْمَيْتَةِ بِالدِّبَاغِ:

فيه قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الشَّاة الْمَيِّتَة: «هَلَّا أَخَذْتُمْ إِهَابهَا فَدَبَغْتُمُوهُ فَانْتَفَعْتُمْ بِهِ؟ فَقَالُوا: إِنَّهَا مَيْتَة فَقَالَ: إِنَّمَا حَرُمَ أَكْلهَا» وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: «هَلَّا اِنْتَفَعْتُمْ بِجِلْدِهَا قَالُوا: إِنَّهَا مَيْتَة فَقَالَ: إِنَّمَا حَرُمَ أَكْلهَا» وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: «أَلَا أَخَذْتُمْ إِهَابهَا فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ؟» وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: «أَلَا اِنْتَفَعْتُمْ بِإِهَابِهَا» وَفِي الْحَدِيث الْآخَر: «إِذَا دُبِغَ الْإِهَاب فَقَدْ طَهُرَ» وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى (عَنْ اِبْن وَعْلَة قَالَ: سَأَلْت اِبْن عَبَّاس قُلْت: إِنَّا نَكُون بِالْمَغْرِبِ، فَيَأْتِينَا الْمَجُوس بِالْأَسْقِيَةِ فيها الْمَاء وَالْوَدَك فَقَالَ: اِشْرَبْ، فَقُلْت: أَرَأْي تَرَاهُ؟ فَقَالَ اِبْن عَبَّاس: سَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: دِبَاغه طَهُوره) اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي دِبَاغ جُلُود الْمَيْتَة وَطَهَارَتهَا بِالدِّبَاغِ عَلَى سَبْعَة مَذَاهِب: أَحَدهَا مَذْهَب الشَّافِعِيّ أَنَّهُ يَطْهُر بِالدِّبَاغِ جَمِيع جُلُود الْمَيْتَة إِلَّا الْكَلْب وَالْخِنْزِير وَالْمُتَوَلِّد مِنْ أَحَدهمَا وَغَيْره، وَيَطْهُر بِالدِّبَاغِ ظَاهِر الْجِلْد وَبَاطِنه، وَيَجُوز اِسْتِعْمَاله فِي الْأَشْيَاء الْمَائِعَة وَالْيَابِسَة، وَلَا فَرْق بَيْن مَأْكُول اللَّحْم وَغَيْره، وَرُوِيَ هَذَا الْمَذْهَب عَنْ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب، وَعَبْد اللَّه بْن مَسْعُود رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا.
وَالْمَذْهَب الثَّانِي لَا يَطْهُر شَيْء مِنْ الْجُلُود بِالدِّبَاغِ وَرُوِيَ هَذَا عَنْ عُمَر بْن الْخَطَّاب، وَابْنه عَبْد اللَّه، وَعَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ، وَهُوَ أَشْهَر الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد، وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ مَالِك.
وَالْمَذْهَب الثَّالِث يَطْهُر بِالدِّبَاغِ جِلْد مَأْكُول اللَّحْم، وَلَا يَطْهُر غَيْره، وَهُوَ مَذْهَب الْأَوْزَاعِيِّ، وَابْن الْمُبَارَك، وَأَبِي ثَوْر، وَإِسْحَاق بْن رَاهْوَيْهِ. وَالْمَذْهَب الرَّابِع يَطْهُر جُلُود جَمِيع الْمَيْتَات إِلَّا الْخِنْزِير، وَهُوَ مَذْهَب أَبِي حَنِيفَة. وَالْمَذْهَب الْخَامِس يَطْهُر الْجَمِيع إِلَّا أَنَّهُ يَطْهُر ظَاهِره دُون بَاطِنه، وَيُسْتَعْمَل فِي الْيَابِسَات دُون الْمَائِعَات. وَيُصَلَّى عَلَيْهِ لَا فيه، وَهَذَا مَذْهَب مَالِك الْمَشْهُور فِي حِكَايَة أَصْحَابه عَنْهُ، وَالْمَذْهَب السَّادِس يَطْهُر الْجَمِيع وَالْكَلْب وَالْخِنْزِير ظَاهِرًا وَبَاطِنًا وَهُوَ مَذْهَب دَاوُدَ وَأَهْل الظَّاهِر، وَحُكِيَ عَنْ أَبِي يُوسُف. وَالْمَذْهَب السَّابِع أَنَّهُ يُنْتَفَع بِجُلُودِ الْمَيْتَة وَإِنْ لَمْ تُدْبَغ، وَيَجُوز اِسْتِعْمَالهَا فِي الْمَائِعَات وَالْيَابِسَات وَهُوَ مَذْهَب الزُّهْرِيّ، وَهُوَ وَجْه شَاذّ لِبَعْضِ أَصْحَابنَا لَا تَفْرِيع عَلَيْهِ، وَلَا اِلْتِفَات إِلَيْهِ. وَاحْتَجَّتْ كُلّ طَائِفَة مِنْ أَصْحَاب هَذِهِ الْمَذَاهِب بِأَحَادِيث وَغَيْرهَا، وَأَجَابَ بَعْضهمْ عَنْ دَلِيل بَعْض، وَقَدْ أَوْضَحْت دَلَائِلهمْ فِي أَوْرَاق مِنْ شَرْح الْمُهَذَّب، وَالْغَرَض هُنَا بَيَان الْأَحْكَام وَالِاسْتِنْبَاط مِنْ الْحَدِيث، وَفِي حَدِيث اِبْن وَعْلَة عَنْ اِبْن عَبَّاس دَلَالَة لِمَذْهَبِ الْأَكْثَرِينَ أَنَّهُ يَطْهُر ظَاهِره وَبَاطِنه فَيَجُوز اِسْتِعْمَاله فِي الْمَائِعَات فَإِنَّ جُلُود مَا ذَكَّاهُ الْمَجُوس نَجِسَة، وَقَدْ نُصَّ عَلَى طَهَارَتهَا بِالدِّبَاغِ، وَاسْتِعْمَالهَا فِي الْمَاء وَالْوَدَك، وَقَدْ يَحْتَجّ الزُّهْرِيّ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلَا اِنْتَفَعْتُمْ بِإِهَابِهَا» وَلَمْ يَذْكُر دِبَاغهَا، وَيُجَاب عَنْهُ بِأَنَّهُ مُطْلَق وَجَاءَتْ الرِّوَايَات الْبَاقِيَة بِبَيَانِ الدِّبَاغ، وَأَنَّ دِبَاغه طَهُوره. وَاَللَّه أَعْلَم.
وَاخْتَلَفَ أَهْل اللُّغَة فِي الْإِهَاب فَقِيلَ هُوَ الْجِلْد مُطْلَقًا، وَقِيلَ: هُوَ الْجِلْد قَبْل الدِّبَاغ، فَأَمَّا بَعْده فَلَا يُسَمَّى إِهَابًا، وَجَمْعه (أَهَب) بِفَتْحِ الْهَمْزَة وَالْهَاء وَبِضَمِّهَا لُغَتَانِ، وَتُقَال: طَهَرَ الشَّيْء وَطَهُرَ بِفَتْحِ الْهَاء وَضَمّهَا لُغَتَانِ وَالْفَتْح أَفْصَح. وَاَللَّه أَعْلَم.
يَجُوز الدِّبَاغ بِكُلِّ شَيْء يُنَشِّف فَضَلَات الْجِلْد وَيُطَيِّبهُ، وَيَمْنَع مِنْ وُرُود الْفَسَاد عَلَيْهِ. وَذَلِكَ كَالشَّتِّ وَالشَّبّ وَالْقَرْظ وَقُشُور الرُّمَّان وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ الْأَدْوِيَة الطَّاهِرَة، وَلَا يَحْصُل بِالتَّشْمِيسِ عِنْدنَا، وَقَالَ أَصْحَاب أَبِي حَنِيفَة: يَحْصُل، وَلَا يَحْصُل عِنْدنَا بِالتُّرَابِ وَالرَّمَاد وَالْمِلْح عَلَى الْأَصَحّ فِي الْجَمِيع. وَهَلْ يَحْصُل بِالْأَدْوِيَةِ النَّجِسَة كَذَرْقِ الْحَمَام وَالشَّبّ الْمُتَنَجِّس؟ فيه وَجْهَانِ أَصَحّهمَا عِنْد الْأَصْحَاب حُصُوله، وَيَجِب غَسْله بَعْد الْفَرَاغ مِنْ الدِّبَاغ بِلَا خِلَاف، وَلَوْ كَانَ دَبْغه بِطَاهِرٍ فَهَلْ يَحْتَاج إِلَى غَسْله بَعْد الْفَرَاغ؟ فيه وَجْهَانِ. وَهَلْ يُحْتَاج إِلَى اِسْتِعْمَال الْمَاء فِي أَوَّل الدِّبَاغ؟ فيه وَجْهَانِ.
قَالَ أَصْحَابنَا: وَلَا يَفْتَقِر الدِّبَاغ إِلَى فِعْل فَاعِل. فَلَوْ أَطَارَتْ الرِّيح جِلْد مَيْتَة فَوَقَعَ فِي مَدْبَغه طَهُرَ. وَاَللَّه أَعْلَم.
وَإِذَا طَهُرَ بِالدِّبَاغِ جَازَ الِانْتِفَاع بِهِ بِلَا خِلَاف. وَهَلْ يَجُوز بَيْعه؟ فيه قَوْلَانِ لِلشَّافِعِيِّ أَصَحّهمَا يَجُوز. وَهَلْ يَجُوز أَكْله؟ فيه ثَلَاثَة أَوْجُه أَوْ أَقْوَال: أَصَحّهَا لَا يَجُوز بِحَالٍ، وَالثَّانِي يَجُوز، وَالثَّالِث يَجُوز أَكْل جِلْد مَأْكُول اللَّحْم، وَلَا يَجُوز غَيْره. وَاَللَّه أَعْلَم.
وَإِذَا طَهُرَ الْجِلْد بِالدِّبَاغِ فَهَلْ يَطْهُر الشَّعْر الَّذِي عَلَيْهِ تَبَعًا لِلْجِلْدِ إِذَا قُلْنَا بِالْمُخْتَارِ فِي مَذْهَبنَا إِنَّ شَعْر الْمَيْتَة نَجَس فيه قَوْلَانِ لِلشَّافِعِيِّ: أَصَحّهمَا وَأَشْهَرهمَا لَا يَطْهُر لِأَنَّ الدِّبَاغ لَا يُؤَثِّر فيه بِخِلَافِ الْجِلْد قَالَ أَصْحَابنَا: لَا يَجُوز اِسْتِعْمَال جِلْد الْمَيْتَة قَبْل الدِّبَاغ فِي الْأَشْيَاء الرَّطْبَة. وَيَجُوز فِي الْيَابِسَات مَعَ كَرَاهَته وَاَللَّه أَعْلَم.
542- قَوْله: (قَالَ أَبُو بَكْر وَابْن أَبِي عُمَر فِي حَدِيثهمَا عَنْ مَيْمُونَة) يَعْنِي أَنَّهُمَا ذَكَرَا فِي رِوَايَتهمَا أَنَّ اِبْن عَبَّاس، رَوَاهُ عَنْ مَيْمُونَة.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّمَا حَرُمَ أَكْلهَا» رُوِّينَاهُ عَلَى وَجْهَيْنِ (حَرُمَ) بِفَتْحِ الْحَاء وَضَمِّ الرَّاء و(حُرِّمَ) بِضَمِّ الْحَاء وَكَسْر الرَّاء الْمُشَدَّدَة فِي هَذَا اللَّفْظ دَلَالَة عَلَى تَحْرِيم أَكْل جِلْد الْمَيْتَة، وَهُوَ الصَّحِيح كَمَا قَدَّمْته، وَلِلْقَائِلِ الْآخَر أَنْ يَقُول: الْمُرَاد تَحْرِيم لَحْمهَا. وَاَللَّه أَعْلَم.
545- قَوْله: (أَنَّ دَاجِنَة كَانَتْ) هِيَ بِالدَّالِ الْمُهْمَلَة وَالْجِيم وَالنُّون قَالَ أَهْل اللُّغَة وَدَاجِن الْبُيُوت مَا أَلِفَهَا مِنْ الطَّيْر وَالشَّاة وَغَيْرهمَا، وَقَدْ دَجَنَ فِي بَيْته إِذَا أَلْزَمهُ، وَالْمُرَاد بِالدَّاجِنَةِ هُنَا الشَّاة.
547- قَوْله: (عَبْد الرَّحْمَن بْن وَعْلَة السَّبَئِيّ) هُوَ بِفَتْحِ الْوَاو وَإِسْكَان الْعَيْن الْمُهْمَلَة (وَالسَّبَئِيّ) بِفَتْحِ السِّين الْمُهْمَلَة وَبَعْدهَا الْبَاء الْمُوَحَّدَة ثُمَّ الْهَمْزَة ثُمَّ يَاء النَّسَب.
قَوْله: (بِمِثْلِهِ يَعْنِي حَدِيث يَحْيَى بْن يَحْيَى) هَكَذَا هُوَ فِي الْأُصُول يَعْنِي بِالْيَاءِ الْمُثَنَّاة مِنْ تَحْت وَلَعَلَّهُ مِنْ كَلَام الرَّاوِي عَنْ مُسْلِم، وَلَوْ رُوِيَ بِالنُّونِ فِي أَوَّله عَلَى أَنَّهُ مِنْ كَلَام مُسْلِم لَكَانَ حَسَنًا وَلَكِنْ لَمْ يُرْوَ.
548- قَوْله: (أَنَّ أَبَا الْخَيْر) هُوَ بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة وَاسْمه مَرْثَد بْن عَبْد اللَّه الْيَزَنِيّ بِفَتْحِ الْيَاء وَالزَّاي.
وَقَوْله: (يَأْتُونَا بِالسِّقَاءِ يَجْعَلُونَ فيه الْوَدَك) هَكَذَا هُوَ فِي الْأُصُول بِبِلَادِنَا (يَجْعَلُونَ) بِالْعَيْنِ بَعْد الْجِيم وَكَذَا نَقَلَهُ الْقَاضِي عِيَاض عَنْ أَكْثَر الرُّوَاة.
قَالَ: وَرَوَاهُ بَعْضهمْ يَجْمُلُونَ بِالْمِيمِ وَمَعْنَاهُ يُذِيبُونَ يُقَال بِفَتْحِ الْيَاء وَضَمِّهَا لُغَتَانِ. يُقَال: جَمَلْت الشَّحْم وَأَجْمَلْته أَذَبْته. وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله: (رَأَيْت عَلَى ابْن وَعْلَة السَّبَئِيّ فَرْوًا) هَكَذَا هُوَ فِي النُّسَخ (فَرْوًا) وَهُوَ الصَّحِيح الْمَشْهُور فِي اللُّغَة وَجَمْع الْفَرْو فِرَاء كَكَعْبِ وَكِعَاب. وَفيه لُغَة قَلِيلَة أَنَّهُ يُقَال فَرْوَة بِالْهَاءِ كَمَا يَقُولهَا الْعَامَّة، حَكَاهَا اِبْن فَارِس فِي الْمُجْمَل وَالزُّبَيْدِيّ فِي مُخْتَصَر الْعَيْن.
قَوْله: (فَمَسِسْته) هُوَ بِكَسْرِ السِّين الْأُولَى عَلَى الْأَخِيرَة الْمَشْهُورَة وَفِي لُغَة قَلِيلَة بِفَتْحِهَا. فَعَلَى الْأَوَّل الْمُضَارِع (يَمَسّهُ) بِفَتْحِ الْمِيم، وَعَلَى الثَّانِيَة بِضَمِّهَا. وَاَللَّه سُبْحَانه وَتَعَالَى أَعْلَم.

.باب التَّيَمُّمِ:

التَّيَمُّم فِي اللُّغَة هُوَ الْقَصْد.
قَالَ الْإِمَام أَبُو مَنْصُور الْأَزْهَرِيّ: التَّيَمُّم فِي كَلَام الْعَرَب الْقَصْد، يُقَال: تَيَمَّمْت فُلَانًا وَيَمَّمْتهُ وَتَأَمَّمْته وَأَمَمْته أَيْ قَصَدْته. وَاَللَّه أَعْلَم.
وَاعْلَمْ أَنَّ التَّيَمُّم ثَابِت بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّة وَإِجْمَاع الْأُمَّة وَهُوَ خِصِّيصَة خَصَّ اللَّه سُبْحَانه وَتَعَالَى بِهِ هَذِهِ الْأُمَّة زَادَهَا اللَّه تَعَالَى شَرَفًا وَأَجْمَعَتْ الْأُمَّة عَلَى أَنَّ التَّيَمُّم لَا يَكُون إِلَّا فِي الْوَجْه وَالْيَدَيْنِ، سَوَاء كَانَ عَنْ حَدَث أَصْغَر أَوْ أَكْبَر، وَسَوَاء تَيَمَّمَ عَنْ الْأَعْضَاء كُلّهَا أَوْ بَعْضهَا. وَاَللَّه أَعْلَم.
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي كَيْفِيَّة التَّيَمُّم فَمَذْهَبنَا وَمَذْهَب الْأَكْثَرِينَ أَنَّهُ لابد مِنْ ضَرْبَتَيْنِ ضَرْبَة لِلْوَجْهِ، وَضَرْبَة لِلْيَدَيْنِ إِلَى الْمَرْفِقَيْنِ. وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا مِنْ الْعُلَمَاء عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب، وَعَبْد اللَّه بْن عُمَر، وَالْحَسَن الْبَصْرِيّ، وَالشَّعْبِيّ، وَسَالِم بْن عَبْد اللَّه بْن عُمَر، وَسُفْيَان الثَّوْرِيّ، وَمَالِك، وَأَبُو حَنِيفَة، وَأَصْحَاب الرَّأْي، وَآخَرُونَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ، وَذَهَبَتْ طَائِفَة إِلَى أَنَّ الْوَاجِب ضَرْبَة وَاحِدَة لِلْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ، وَهُوَ مَذْهَب عَطَاء. وَمَكْحُول، وَالْأَوْزَاعِيّ، وَأَحْمَد، وَإِسْحَاق، وَابْن الْمُنْذِر، وَعَامَّة أَصْحَاب الْحَدِيث. وَحُكِيَ عَنْ الزُّهْرِيّ أَنَّهُ يَجِب مَسْح الْيَدَيْنِ إِلَى الْإِبْطَيْنِ هَكَذَا حَكَاهُ عَنْهُ أَصْحَابنَا فِي كُتُب الْمَذْهَب، وَقَدْ قَالَ الْإِمَام أَبُو سُلَيْمَان الْخَطَّابِيّ: لَمْ يَخْتَلِف أَحَد مِنْ الْعُلَمَاء فِي أَنَّهُ لَا يَلْزَم مَسْح مَا وَرَاء الْمَرْفِقَيْنِ، وَحَكَى أَصْحَابنَا أَيْضًا عَنْ اِبْن سِيرِينَ أَنَّهُ قَالَ: لَا يُجْزِيه أَقَلّ مِنْ ثَلَاث ضَرَبَات: ضَرْبَة لِلْوَجْهِ، وَضَرْبَة ثَانِيَة لِكَفيه، وَثَالِثَة لِذِرَاعَيْهِ. وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاء عَلَى جَوَاز التَّيَمُّم عَنْ الْحَدَث الْأَصْغَر، وَكَذَلِكَ أَجْمَعَ أَهْل هَذِهِ الْأَعْصَار وَمَنْ قَبْلهمْ عَلَى جَوَازه لِلْجُنُبِ وَالْحَائِض وَالنُّفَسَاء، وَلَمْ يُخَالِف فيه أَحَد مِنْ الْخَلَف وَلَا أَحَد مِنْ السَّلَف إِلَّا مَا جَاءَ عَنْ عُمَر بْن الْخَطَّاب، وَعَبْد اللَّه بْن مَسْعُود، رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا وَحُكِيَ مِثْله عَنْ إِبْرَاهِيم النَّخَعِيِّ الْإِمَام التَّابِعِيّ، وَقِيلَ: إِنَّ عُمَر، وَعَبْد اللَّه، رَجَعَا عَنْهُ.
وَقَدْ جَاءَتْ بِجَوَازِهِ لِلْجُنُبِ الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة الْمَشْهُورَة وَاَللَّه أَعْلَم.
وَإِذَا صَلَّى الْجُنُب بِالتَّيَمُّمِ ثُمَّ وَجَدَ الْمَاء وَجَبَ عَلَيْهِ الِاغْتِسَال بِإِجْمَاعِ الْعُلَمَاء إِلَّا مَا حُكِيَ عَنْ أَبِي سَلَمَة بْن عَبْد الرَّحْمَن الْإِمَام التَّابِعِيّ أَنَّهُ قَالَ: لَا يَلْزَمهُ، وَهُوَ مَذْهَب مَتْرُوك بِإِجْمَاعِ مَنْ قَبْله وَمَنْ بَعْده وَبِالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَة الْمَشْهُورَة فِي أَمْره صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْجُنُبِ بِغَسْلِ بَدَنه إِذَا وَجَدَ الْمَاء. وَاَللَّه أَعْلَم.
وَيَجُوز لِلْمُسَافِرِ وَالْمُعْزِب فِي الْإِبِل وَغَيْرهمَا أَنْ يُجَامِع زَوْجَته وَإِنْ كَانَا عَادِمَيْنِ لِلْمَاءِ، وَيَغْسِلَانِ فَرْجَيْهِمَا، وَيَتَيَمَّمَانِ، وَيُصَلِّيَانِ، وَيَجْزِيهِمَا التَّيَمُّم، وَلَا إِعَادَة عَلَيْهِمَا إِذَا غَسَلَا فَرْجَيْهِمَا. فَإِنْ لَمْ يَغْسِل الرَّجُل ذَكَرَهُ وَمَا أَصَابَهُ مِنْ الْمَرْأَة وَصَلَّى بِالتَّيَمُّمِ عَلَى حَاله فَإِنْ قُلْنَا إِنَّ رُطُوبَة فَرْج الْمَرْأَة نَجِسَة لَزِمَهُ إِعَادَة الصَّلَاة، وَإِلَّا فَلَا يَلْزَمهُ الْإِعَادَة. وَاَللَّه أَعْلَم.
وَأَمَّا إِذَا كَانَ عَلَى بَعْض أَعْضَاء الْمُحْدِث نَجَاسَة فَأَرَادَ التَّيَمُّم بَدَلًا عَنْهَا فَمَذْهَبنَا وَمَذْهَب جُمْهُور الْعُلَمَاء أَنَّهُ لَا يَجُوز، وَقَالَ أَحْمَد بْن حَنْبَل رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى: يَجُوز أَنْ يَتَيَمَّم إِذَا كَانَتْ النَّجَاسَة عَلَى بَدَنه، وَلَمْ يَجُزْ إِذَا كَانَتْ عَلَى ثَوْبه. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابه فِي وُجُوب إِعَادَة هَذِهِ الصَّلَاة.
وَقَالَ اِبْن الْمُنْذِر: كَانَ الثَّوْرِيّ وَالْأَوْزَاعِيّ وَأَبُو ثَوْر يَقُولُونَ: يَمْسَح مَوْضِع النَّجَاسَة بِتُرَابٍ، وَيُصَلِّي. وَاَللَّه أَعْلَم.
وَأَمَّا إِعَادَة الصَّلَاة الَّتِي يَفْعَلهَا بِالتَّيَمُّمِ فَمَذْهَبنَا أَنَّهُ لَا يُعِيد إِذَا تَيَمَّمَ لِلْمَرَضِ أَوْ الْجِرَاحَة وَنَحْوهمَا، وَأَمَّا إِذَا تَيَمَّمَ لِلْعَجْزِ عَنْ الْمَاء فَإِنْ كَانَ فِي مَوْضِع يُعْدَم فيه الْمَاء غَالِبًا كَالسَّفَرِ لَمْ تَجِب الْإِعَادَة، وَإِنْ كَانَ فِي مَوْضِع لَا يَعْدَم فيه الْمَاء إِلَّا نَادِرًا وَجَبَتْ الْإِعَادَة عَلَى الْمَذْهَب الصَّحِيح. وَاَللَّه أَعْلَم.
وَأَمَّا جِنْس مَا يُتَيَمَّم بِهِ فَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فيه فَذَهَبَ الشَّافِعِيّ وَأَحْمَد وَابْن الْمُنْذِر وَدَاوُد الظَّاهِرِيّ وَأَكْثَر الْفُقَهَاء إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوز التَّيَمُّم إِلَّا بِتُرَابٍ طَاهِر لَهُ غُبَار يَعْلَق بِالْعُضْوِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة وَمَالِك: يَجُوز التَّيَمُّم بِجَمِيعِ أَنْوَاع الْأَرْض حَتَّى بِالصَّخْرَةِ الْمَغْسُولَة، وَزَادَ بَعْض أَصْحَاب مَالِك فَجَوَّزَهُ بِكُلِّ مَا اِتَّصَلَ بِالْأَرْضِ مِنْ الْخَشَب وَغَيْره، وَعَنْ مَالِك فِي الثَّلْج رِوَايَتَانِ. وَذَهَبَ الْأَوْزَاعِيُّ وَسُفْيَان الثَّوْرِيّ إِلَى أَنَّهُ يَجُوز بِالثَّلْجِ وَكُلّ مَا عَلَى الْأَرْض. وَاَللَّه أَعْلَم.
وَأَمَّا حُكْم التَّيَمُّم فَمَذْهَبنَا وَمَذْهَب الْأَكْثَرِينَ أَنَّهُ لَا يَرْفَع الْحَدَث، بَلْ يُبِيح الصَّلَاة، فَيَسْتَبِيح بِهِ فَرِيضَة وَمَا شَاءَ مِنْ النَّوَافِل، وَلَا يُجْمَع بَيْن فَرِيضَتَيْنِ بِتَيَمُّمٍ وَاحِد، وَإِنْ نَوَى بِتَيَمُّمِهِ الْفَرْض اِسْتَبَاحَ الْفَرِيضَة وَالنَّافِلَة، وَإِنْ نَوَى النَّفْل اِسْتَبَاحَ النَّفْل وَلَمْ يَسْتَبِحْ بِهِ الْفَرْض، وَلَهُ أَنْ يُصَلِّي عَلَى جَنَائِز بِتَيَمُّمٍ وَاحِد، وَلَهُ أَنْ يُصَلِّي بِالتَّيَمُّمِ الْوَاحِد فَرِيضَة وَجَنَائِز، وَلَا يَتَيَمَّم قَبْل دُخُول وَقْتهَا، وَإِذَا رَأَى الْمُتَيَمِّم لِفَقْدِ الْمَاء مَاء وَهُوَ فِي الصَّلَاة لَمْ تَبْطُل صَلَاته، بَلْ لَهُ أَنْ يُتِمّهَا إِلَّا إِذَا كَانَ مِمَّنْ تَلْزَمهُ الْإِعَادَة فَإِنَّ صَلَاته تَبْطُل بِرُؤْيَةِ الْمَاء. وَاَللَّه أَعْلَم.
550- قَوْله: عَنْ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا قَالَتْ: «خَرَجْنَا مَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْض أَسْفَاره» فيه جَوَاز مُسَافَرَة الزَّوْج بِزَوْجَتِهِ الْحُرَّة.
قَوْلهَا: «حَتَّى إِذَا كَانَ بِالْبَيْدَاءِ أَوْ بِذَاتِ الْجَيْش اِنْقَطَعَ عِقْد لِي فَأَقَامَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى اِلْتِمَاسه وَأَقَامَ النَّاس مَعَهُ وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاء وَلَيْسُوا عَلَى مَاء» وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: عَنْ عَائِشَة: «أَنَّهَا اِسْتَعَارَتْ مِنْ أَسْمَاء قِلَادَة فَهَلَكَتْ» أَمَّا (الْبَيْدَاء) فَبِفَتْحِ الْبَاء الْمُوَحَّدَة فِي أَوَّلهَا وَبِالْمَدِّ، وَأَمَّا (ذَات الْجَيْش) فَبِفَتْحِ الْجِيم وَإِسْكَان الْيَاء وَبِالشِّينِ الْمُعْجَمَة، وَالْبَيْدَاء وَذَات الْجَيْش مَوْضِعَانِ بَيْن الْمَدِينَة وَخَيْبَر، وَأَمَّا (الْعِقْد) فَهُوَ بِكَسْرِ الْعَيْن وَهُوَ كُلّ مَا يُعْقَد وَيُعَلَّق فِي الْعُنُق فَيُسَمَّى عِقْدًا وَقِلَادَة، وَأَمَّا قَوْلهَا (عِقْد لِي) وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى اِسْتَعَارَتْ مِنْ أَسْمَاء قِلَادَة فَلَا مُخَالَفَة بَيْنهمَا فَهُوَ فِي الْحَقِيقَة مِلْك لِأَسْمَاءَ وَأَضَافَتْهُ فِي الرِّوَايَة إِلَى نَفْسهَا لِكَوْنِهِ فِي يَدهَا، وَقَوْلهَا: (فَهَلَكَتْ) مَعْنَاهُ ضَاعَتْ، وَفِي هَذَا الْفَصْل مِنْ الْحَدِيث فَوَائِد مِنْهَا جَوَاز الْعَارِيَة، وَجَوَاز عَارِيَة الْحُلِيّ، وَجَوَاز الْمُسَافَرَة بِالْعَارِيَةِ إِذَا كَانَ بِإِذْنِ الْمُعِير، وَجَوَاز اِتِّخَاذ النِّسَاء الْقَلَائِد. وَفيه الِاعْتِنَاء بِحِفْظِ حُقُوق الْمُسْلِمِينَ وَأَمْوَالهمْ وَإِنْ قَلَّتْ، وَلِهَذَا أَقَامَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى اِلْتِمَاسه، وَجَوَاز الْإِقَامَة فِي مَوْضِع لَا مَاء فيه وَإِنْ اِحْتَاجَ إِلَى التَّيَمُّم، وَفيه غَيْر ذَلِكَ. وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْلهَا: (فَعَاتَبَنِي أَبُو بَكْر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ، وَقَالَ مَا شَاءَ اللَّه أَنْ يَقُول، وَجَعَلَ يَطْعُنُ بِيَدِهِ فِي خَاصِرَتِي) فِي تَأْدِيب الرَّجُل وَلَده بِالْقَوْلِ وَالْفِعْل وَالضَّرْب وَنَحْوه، وَفيه تَأْدِيب الرَّجُل اِبْنَته وَإِنْ كَانَتْ كَبِيرَة مُزَوَّجَة خَارِجَة عَنْ بَيْته. وَقَوْلهَا: (يَطْعُنُ) هُوَ بِضَمِّ الْعَيْن وَحُكِيَ فَتْحهَا، وَفِي الطَّعْن فِي الْمَعَانِي عَكْسه.
قَوْله: (فَقَالَ أُسَيْد بْن حُضَيْر) هُوَ بِضَمِّ الْهَمْزَة وَفَتْح السِّين وَحُضَيْر بِضَمِّ الْحَاء الْمُهْمَلَة وَفَتْح الضَّاد الْمُعْجَمَة، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ ظَاهِرًا فَلَا يَضُرّ بَيَانه لِمَنْ لَا يَعْرِفهُ.
قَوْلهَا: (فَبَعَثْنَا الْبَعِير الَّذِي كُنْت عَلَيْهِ فَوَجَدْنَا الْعِقْد تَحْته) كَذَا وَقَعَ هُنَا وَفِي رِوَايَة الْبُخَارِيّ فَبَعَثَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا فَوَجَدَهَا وَفِي رِوَايَة: رَجُلَيْنِ وَفِي رِوَايَة: نَاسًا وَهِيَ قَضِيَّة وَاحِدَة.
قَالَ الْعُلَمَاء: الْمَبْعُوث هُوَ أُسَيْد بْن حُضَيْر وَأَتْبَاع لَهُ فَذَهَبُوا فَلَمْ يَجِدُوا شَيْئًا، ثُمَّ وَجَدَهَا أُسَيْد بَعْد رُجُوعه تَحْت الْبَعِير. وَاَللَّه أَعْلَم.
551- قَوْله: (فَصَلَّوْا بِغَيْرِ وُضُوء) فيه دَلِيل عَلَى أَنَّ مَنْ عَدِمَ الْمَاء وَالتُّرَاب يُصَلِّي عَلَى حَاله وَهَذِهِ الْمَسْأَلَة فيها خِلَاف لِلسَّلَفِ وَالْخَلَف وَهِيَ أَرْبَعَة أَقْوَال لِلشَّافِعِيِّ: أَصَحّهَا عِنْد أَصْحَابنَا أَنَّهُ يَجِب عَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّي وَيَجِب عَلَيْهِ أَنْ يُعِيد الصَّلَاة. أَمَّا الصَّلَاة فَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اِسْتَطَعْتُمْ» وَأَمَّا الْإِعَادَة فَلِأَنَّهُ عُذْر نَادِر فَصَارَ كَمَا لَوْ نَسِيَ عُضْوًا مِنْ أَعْضَاء طَهَارَته وَصَلَّى فَإِنَّهُ يَجِب عَلَيْهِ الْإِعَادَة، وَالْقَوْل الثَّانِي لَا يَجِب عَلَيْهِ الصَّلَاة وَلَكِنْ يُسْتَحَبّ، وَيَجِب الْقَضَاء سَوَاء صَلَّى أَمْ لَمْ يُصَلِّ، وَالثَّالِث يَحْرُم عَلَيْهِ الصَّلَاة لِكَوْنِهِ مُحْدِثًا وَيَجِب الْإِعَادَة، وَالرَّابِع يَجِب الصَّلَاة وَلَا يَجِب الْإِعَادَة، وَهَذَا مَذْهَب الْمُزَنِيِّ، وَهُوَ أَقْوَى الْأَقْوَال دَلِيلًا وَيُعَضِّدهُ هَذَا الْحَدِيث وَأَشْبَاهه فَإِنَّهُ لَمْ يُنْقَل عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِيجَاب إِعَادَة مِثْل هَذِهِ الصَّلَاة، وَالْمُخْتَار أَنَّ الْقَضَاء إِنَّمَا يَجِب بِأَمْرٍ جَدِيد، وَلَمْ يَثْبُت الْأَمْر، فَلَا يَجِب، وَهَكَذَا يَقُول الْمُزَنِيّ فِي كُلّ صَلَاة وَجَبَتْ فِي الْوَقْت عَلَى نَوْع مِنْ الْخَلَل لَا تَجِب إِعَادَتهَا، وَلِلْقَائِلِينَ بِوُجُوبِ الْإِعَادَة أَنْ يُجِيبُوا عَنْ هَذَا الْحَدِيث بِأَنَّ الْإِعَادَة لَيْسَتْ عَلَى الْفَوْر، وَيَجُوز تَأْخِير الْبَيَان إِلَى وَقْت الْحَاجَة عَلَى الْمُخْتَار. وَاَللَّه أَعْلَم.
552- قَوْله تَعَالَى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} اِخْتُلِفَ فِي الصَّعِيد عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ فِي أَوَّل الْبَاب فَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهُ هُنَا التُّرَاب.
وَقَالَ الْآخَرُونَ: هُوَ جَمِيع مَا صَعِدَ عَلَى وَجْه الْأَرْض، وَأَمَّا الطِّيب فَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهُ الطَّاهِر، وَقِيلَ: الْحَلَال. وَاَللَّه أَعْلَم.
وَاحْتَجَّ أَصْحَابنَا بِهَذِهِ الْآيَة عَلَى أَنَّ الْقَصْد إِلَى الصَّعِيد وَاجِب. قَالُوا: فَلَوْ أَلْقَتْ الرِّيح عَلَيْهِ تُرَابًا فَمَسَحَ بِهِ وَجْهه لَمْ يُجْزِئهُ، بَلْ لابد مِنْ نَقْله مِنْ الْأَرْض أَوْ غَيْرهَا. وَفِي الْمَسْأَلَة فُرُوع كَثِيرَة مَشْهُورَة فِي كُتُب الْفِقْه. وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله: (لَأَوْشَكَ إِذَا بَرَدَ عَلَيْهِمْ الْمَاء أَنْ يَتَيَمَّمُوا) مَعْنَى أَوْشَكَ قَرُبَ وَأَسْرَعَ، وَقَدْ زَعَمَ بَعْض أَهْل اللُّغَة أَنَّهُ لَا يُقَال أَوْشَكَ وَإِنَّمَا يُسْتَعْمَل مُضَارِعًا فَيُقَال يُوشِك كَذَا، وَلَيْسَ كَمَا زَعَمَ هَذَا الْقَائِل، بَلْ يُقَال أَوْشَكَ أَيْضًا، وَمِمَّا يَدُلّ عَلَيْهِ هَذَا الْحَدِيث مَعَ أَحَادِيث كَثِيرَة فِي الصَّحِيح مِثْله.
وَقَوْله (بَرَدَ) هُوَ بِفَتْحِ الْبَاء وَالرَّاء وَقَالَ الْجَوْهَرِيّ: (بَرُدَ) بِضَمِّ الرَّاء وَالْمَشْهُور الْفَتْح. وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيك أَنْ تَقُول كَذَا وَضَرَبَ بِيَدَيْهِ إِلَى الْأَرْض فَنَفَضَ يَدَيْهِ فَمَسَحَ وَجْهه وَكَفيه» فيه دَلَالَة لِمَذْهَبِ مَنْ يَقُول: يَكْفِي ضَرْبَة وَاحِدَة لِلْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ جَمِيعًا، وَلِلْآخَرِينَ أَنْ يُجِيبُوا عَنْهُ بِأَنَّ الْمُرَاد هُنَا صُورَة الضَّرْب لِلتَّعْلِيمِ، وَلَيْسَ الْمُرَاد بَيَان جَمِيع مَا يَحْصُل بِهِ التَّيَمُّم، وَقَدْ أَوْجَبَ اللَّه تَعَالَى غَسْل الْيَدَيْنِ إِلَى الْمَرْفِقَيْنِ فِي الْوُضُوء، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ} وَالظَّاهِر أَنَّ الْيَد الْمُطْلَقَة هُنَا هِيَ الْمُقَيَّدَة فِي الْوُضُوء فِي أَوَّل الْآيَة فَلَا يُتْرَك هَذَا الظَّاهِر إِلَّا بِصَرِيحٍ. وَاَللَّه أَعْلَم. وَقَوْله: فَنَفَضَ يَده، قَدْ اِحْتَجَّ بِهِ مَنْ جَوَّزَ التَّيَمُّم بِالْحِجَارَةِ، وَمَا لَا غُبَار عَلَيْهِ، قَالُوا: إِذْ لَوْ كَانَ الْغُبَار مُعْتَبَرًا لَمْ يَنْفُض الْيَد، وَأَجَابَ الْآخَرُونَ بِأَنَّ الْمُرَاد بِالنَّفْضِ هُنَا تَخْفِيف الْغُبَار الْكَثِير فَإِنَّهُ يُسْتَحَبّ إِذَا حَصَلَ عَلَى الْيَد غُبَار كَثِير أَنْ يُخَفَّف بِحَيْثُ يَبْقَى مَا يَعُمّ الْعُضْو. وَاَللَّه أَعْلَم. 553- قَوْله: (عَبْد الرَّحْمَن بْن أَبْزَى) هُوَ بِفَتْحِ الْهَمْزَة وَإِسْكَان الْبَاء الْمُوَحَّدَة وَبَعْدهَا زَاي ثُمَّ يَاء وَعَبْد الرَّحْمَن صَحَابِيّ.
قَوْله: (فَقَالَ عُمَر: اِتَّقِ اللَّه تَعَالَى يَا عَمَّار قَالَ: إِنْ شِئْت لَمْ أُحَدِّث بِهِ) مَعْنَاهُ قَالَ عُمَر لِعَمَّارٍ: اِتَّقِ اللَّه تَعَالَى فِيمَا تَرْوِيه وَتُثْبِت. فَلَعَلَّك نَسِيت، أَوْ اِشْتَبَهَ عَلَيْك الْأَمْر.
وَأَمَّا قَوْل عَمَّار إِنْ شِئْت لَمْ أُحَدِّث بِهِ فَمَعْنَاهُ، وَاَللَّه أَعْلَم؛ إِنْ رَأَيْت الْمَصْلَحَة فِي إِمْسَاكِي عَنْ التَّحْدِيث بِهِ رَاجِحَة عَلَى مَصْلَحَة تَحْدِيثِي بِهِ أَمْسَكْت، فَإِنَّ طَاعَتك وَاجِبَة عَلَيَّ فِي غَيْر الْمَعْصِيَة، وَأَصْل تَبْلِيغ هَذِهِ السُّنَّة وَأَدَاء الْعِلْم قَدْ حَصَلَ، فَإِذَا أَمْسَكَ بَعْد هَذَا لَا يَكُون دَاخِلًا فِيمَنْ كَتَمَ الْعِلْم. وَيَحْتَمِل أَنَّهُ أَرَادَ إِنْ شِئْت لَمْ أُحَدِّث بِهِ تَحْدِيثًا شَائِعًا بِحَيْثُ يَشْتَهِر فِي النَّاس، بَلْ لَا أُحَدِّث بِهِ إِلَّا نَادِرًا. وَاَللَّه أَعْلَم.
وَفِي قِصَّة عَمَّار جَوَاز الِاجْتِهَاد فِي زَمَن النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ عَمَّارًا رَضِيَ اللَّه عَنْهُ اِجْتَهَدَ فِي صِفَة التَّيَمُّم، وَقَدْ اِخْتَلَفَ أَصْحَابنَا وَغَيْرهمْ مِنْ أَهْل الْأُصُول فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَة عَلَى ثَلَاثَة أَوْجُه: أَصَحّهَا يَجُوز الِاجْتِهَاد فِي زَمَنه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَضْرَتِهِ وَفِي غَيْر حَضْرَته، وَالثَّانِي لَا يَجُوز بِحَالٍ، وَالثَّالِث لَا يَجُوز بِحَضْرَتِهِ وَيَجُوز فِي غَيْر حَضْرَته. وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله: (وَرَوَى اللَّيْث بْن سَعْد عَنْ جَعْفَر بْن رَبِيعَة) هَكَذَا وَقَعَ فِي صَحِيح مُسْلِم مِنْ جَمِيع الرِّوَايَات مُنْقَطِعًا بَيْن مُسْلِم وَاللَّيْث، وَهَذَا النَّوْع يُسَمَّى مُعَلَّقًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانه وَإِيضَاح هَذَا الْحَدِيث وَغَيْره مِمَّا فِي مَعْنَاهُ فِي الْفُصُول السَّابِقَة فِي مُقَدِّمَة الْكِتَاب، وَذَكَرْنَا أَنَّ فِي صَحِيح مُسْلِم أَرْبَعَة عَشَرَ أَوْ اِثْنَيْ عَشَرَ حَدِيثًا مُنْقَطِعَة هَكَذَا وَبَيَّنَّاهَا وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله فِي حَدِيث اللَّيْث هَذَا: (أَقْبَلْت أَنَا وَعَبْد الرَّحْمَن بْن يَسَار مَوْلَى مَيْمُونَة) هَكَذَا هُوَ فِي أُصُول صَحِيح مُسْلِم قَالَ أَبُو عَلِيّ الْغَسَّانِيّ وَجَمِيع الْمُتَكَلِّمِينَ عَلَى أَسَانِيد مُسْلِم: قَوْله عَبْد الرَّحْمَن خَطَأ صَرِيح، وَصَوَابه عَبْد اللَّه بْن يَسَار، وَهَكَذَا رَوَاهُ الْبُخَارِيّ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيّ وَغَيْرهمْ عَلَى الصَّوَاب، فَقَالُوا: عَبْد اللَّه بْن يَسَار قَالَ الْقَاضِي عِيَاض: وَوَقَعَ فِي رِوَايَتنَا صَحِيح مُسْلِم مِنْ طَرِيق السَّمَرْقَنْدِيّ عَنْ الْفَارِسِيّ عَنْ الْجَلُودِيّ عَنْ عَبْد اللَّه بْن يَسَار عَلَى الصَّوَاب، وَهُمْ أَرْبَعَة إِخْوَة عَبْد اللَّه، وَعَبْد الرَّحْمَن، وَعَبْد الْمَلِك، وَعَطَاء مَوْلَى مَيْمُونَة. وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله: (دَخَلْنَا عَلَى أَبِي الْجَهْم بْن الْحَارِث بْن الصِّمَّة) أَمَّا الصِّمَّة فَبِكَسْرِ الصَّاد الْمُهْمَلَة وَتَشْدِيد الْمِيم، وَأَمَّا (أَبُو الْجَهْم) فَبِفَتْحِ الْجِيم وَبَعْدهَا هَاء سَاكِنَة هَكَذَا هُوَ فِي مُسْلِم، وَهُوَ غَلَط، وَصَوَابه مَا وَقَعَ فِي صَحِيح الْبُخَارِيّ وَغَيْره (أَبُو الْجُهَيْم) بِضَمِّ الْجِيم وَفَتْح الْهَاء وَزِيَادَة يَاء، هَذَا هُوَ الْمَشْهُور فِي كُتُب الْأَسْمَاء، وَكَذَا ذَكَرَهُ مُسْلِم فِي كِتَابه فِي أَسْمَاء الرِّجَال، وَالْبُخَارِيّ فِي تَارِيخه، وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيّ وَغَيْرهمْ، وَكُلّ مَنْ ذَكَرَهُ مِنْ الْمُصَنِّفِينَ فِي الْأَسْمَاء وَالْكُنَى وَغَيْرهمَا. وَاسْم أَبِي الْجُهَيْم عَبْد اللَّه كَذَا سَمَّاهُ مُسْلِم فِي كِتَاب الْكُنَى، وَكَذَا سَمَّاهُ أَيْضًا غَيْره. وَاَللَّه أَعْلَم.
وَاعْلَمْ أَنَّ أَبَا الْجُهَيْم هَذَا هُوَ الْمَشْهُور أَيْضًا فِي حَدِيث الْمُرُور بَيْن يَدَيْ الْمُصَلِّي، وَاسْمه عَبْد اللَّه بْن الْحَارِث بْن الصِّمَّة الْأَنْصَارِيّ الْبُخَارِيّ، وَهُوَ غَيْر أَبِي الْجَهْم الْمَذْكُور فِي حَدِيث الْخَمِيصَة وَالْأَنْبِجَانِيَّة، ذَلِكَ بِفَتْحِ الْجِيم بِغَيْرِ يَاء، وَاسْمه عَامِر بْن حُذَيْفَة بْن غَانِم الْقُرَشِيّ الْعَدَوِيُّ مِنْ بَنِي عَدِيّ بْن كَعْب، وَسَنُوَضِّحُهُ فِي مَوْضِعه إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى.
قَوْله: (أَقْبَلَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ نَحْو بِئْر جَمَل) هُوَ بِفَتْحِ الْجِيم وَالْمِيم وَرِوَايَة النَّسَائِيِّ (بِئْر الْجَمَل) بِالْأَلِفِ وَاللَّام وَهُوَ مَوْضِع بِقُرْبِ الْمَدِينَة. وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله: «أَقْبَلَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ نَحْو بِئْر جَمَل فَلَقِيَهُ رَجُل فَسَلَّمَ عَلَيْهِ فَلَمْ يَرُدّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَقْبَلَ عَلَى الْجِدَار فَمَسَحَ وَجْهه وَيَدَيْهِ، ثُمَّ رَدّ عَلَيْهِ السَّلَام». هَذَا الْحَدِيث مَحْمُول عَلَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ عَادِمًا لِلْمَاءِ حَال التَّيَمُّم، فَإِنَّ التَّيَمُّم مَعَ وُجُود الْمَاء لَا يَجُوز لِلْقَادِرِ عَلَى اِسْتِعْمَاله. وَلَا فَرْق بَيْن أَنْ يَضِيق وَقْت الصَّلَاة وَبَيْن أَنْ يَتَّسِع، وَلَا فَرْق أَيْضًا بَيْن صَلَاة الْجِنَازَة وَالْعِيد وَغَيْرهمَا. هَذَا مَذْهَبنَا وَمَذْهَب الْجُمْهُور.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: يَجُوز أَنْ يَتَيَمَّم مَعَ وُجُود الْمَاء لِصَلَاةِ الْجِنَازَة وَالْعِيد إِذَا خَافَ فَوْتهمَا. وَحَكَى الْبَغَوِيُّ مِنْ أَصْحَابنَا عَنْ بَعْض أَصْحَابنَا أَنَّهُ إِذَا خَافَ فَوْت الْفَرِيضَة لِضِيقِ الْوَقْت صَلَّاهَا بِالتَّيَمُّمِ ثُمَّ تَوَضَّأَ وَقَضَاهَا، وَالْمَعْرُوف الْأَوَّل. وَاَللَّه أَعْلَم.
وَفِي هَذَا الْحَدِيث جَوَاز التَّيَمُّم بِالْجِدَارِ إِذَا كَانَ عَلَيْهِ غُبَار. وَهَذَا جَائِز عِنْدنَا وَعِنْد الْجُمْهُور مِنْ السَّلَف وَالْخَلَف، وَاحْتَجَّ بِهِ مَنْ جَوَّزَ التَّيَمُّم بِغَيْرِ التُّرَاب، وَأَجَابَ الْآخَرُونَ بِأَنَّهُ مَحْمُول عَلَى جِدَار عَلَيْهِ تُرَاب، وَفيه دَلِيل عَلَى جَوَاز التَّيَمُّم لِلنَّوَافِلِ وَالْفَضَائِل كَسُجُودِ التِّلَاوَة وَالشُّكْر وَمَسّ الْمُصْحَف وَنَحْوهَا، كَمَا يَجُوز لِلْفَرَائِضِ، وَهَذَا مَذْهَب الْعُلَمَاء كَافَّة إِلَّا وَجْهًا شَاذًّا مُنْكَرًا لِبَعْضِ أَصْحَابنَا أَنَّهُ لَا يَجُوز التَّيَمُّم إِلَّا لِلْفَرِيضَةِ، وَلَيْسَ هَذَا الْوَجْه بِشَيْءٍ فَإِنْ قِيلَ: كَيْف تَيَمَّمَ بِالْجِدَارِ بِغَيْرِ إِذْن مَالِكه؟ فَالْجَوَاب أَنَّهُ مَحْمُول عَلَى أَنَّ هَذَا الْجِدَار كَانَ مُبَاحًا أَوْ مَمْلُوكًا لِإِنْسَانٍ يَعْرِفهُ فَأَدَلَّ عَلَيْهِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَيَمَّمَ بِهِ لِعِلْمِهِ بِأَنَّهُ لَا يَكْرَه مَالِكه ذَلِكَ، وَيَجُوز مِثْل هَذَا وَالْحَالَة هَذِهِ لِآحَادِ النَّاس فَالنَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْلَى. وَاَللَّه أَعْلَم.
555- قَوْله: «إِنَّ رَجُلًا مَرَّ وَرَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَبُول فَسَلَّمَ فَلَمْ يَرُدّ عَلَيْهِ» فيه أَنَّ الْمُسْلِم فِي هَذَا الْحَال لَا يَسْتَحِقّ جَوَابًا، وَهَذَا مُتَّفَق عَلَيْهِ.
قَالَ أَصْحَابنَا: وَيُكْرَه أَنْ يُسَلِّم عَلَى الْمُشْتَغِل بِقَضَاءِ حَاجَة الْبَوْل وَالْغَائِط، فَإِنْ سَلَّمَ عَلَيْهِ كُرِهَ لَهُ رَدّ السَّلَام. قَالُوا: وَيُكْرَه لِلْقَاعِدِ عَلَى قَضَاء الْحَاجَة أَنْ يَذْكُر اللَّه تَعَالَى بِشَيْءٍ مِنْ الْأَذْكَار. قَالُوا: فَلَا يُسَبِّح، وَلَا يُهَلِّل، وَلَا يَرُدّ السَّلَام، وَلَا يُشَمِّت الْعَاطِس، وَلَا يَحْمَد اللَّه تَعَالَى إِذَا عَطَسَ، وَلَا يَقُول مِثْل مَا يَقُول الْمُؤَذِّن. قَالُوا: وَكَذَلِكَ لَا يَأْتِي بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْأَذْكَار فِي حَال الْجِمَاع، وَإِذَا عَطَسَ فِي هَذِهِ الْأَحْوَال يَحْمَد اللَّه تَعَالَى فِي نَفْسه وَلَا يُحَرِّك بِهِ لِسَانه وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ كَرَاهَة الذِّكْر فِي حَال الْبَوْل وَالْجِمَاع هُوَ كَرَاهَة تَنْزِيه لَا تَحْرِيم، فَلَا إِثْم عَلَى فَاعِله، وَكَذَلِكَ يُكْرَه الْكَلَام عَلَى قَضَاء الْحَاجَة بِأَيِّ نَوْع كَانَ مِنْ أَنْوَاع الْكَلَام، وَيُسْتَثْنَى مِنْ هَذَا كُلّه مَوْضِع الضَّرُورَة، كَمَا إِذَا رَأَى ضَرِيرًا يَكَاد أَنْ يَقَع فِي بِئْر، أَوْ رَأَى حَيَّة أَوْ عَقْرَبًا أَوْ غَيْر ذَلِكَ يَقْصِد إِنْسَانًا أَوْ نَحْو ذَلِكَ، فَإِنَّ الْكَلَام فِي هَذِهِ الْمَوَاضِع لَيْسَ بِمَكْرُوهٍ بَلْ هُوَ وَاجِب، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْكَرَاهَة فِي حَال الِاخْتِيَار هُوَ مَذْهَبنَا وَمَذْهَب الْأَكْثَرِينَ، وَحَكَاهُ اِبْن الْمُنْذِر عَنْ اِبْن عَبَّاس، وَعَطَاء، وَسَعِيد الْجُهَنِيّ، وَعِكْرِمَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ، وَحُكِيَ عَنْ إِبْرَاهِيم النَّخَعِيِّ وَابْن سِيرِينَ أَنَّهُمَا قَالَا: لَا بَأْس بِهِ. وَاَللَّه أَعْلَم.