فصل: باب تَحْرِيمِ أَكْلِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ وَكُلِّ ذِي مِخْلَبٍ مِنَ الطَّيْرِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج المشهور بـ «شرح النووي على مسلم»



.باب بَيَانِ الشُّهَدَاءِ:

3538- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بَيْنَمَا رَجُل يَمْشِي بِطَرِيقٍ، وَجَدَ غُصْن شَوْك عَلَى الطَّرِيق فَأَخَّرَهُ فَشَكَرَ اللَّه لَهُ فَغَفَرَ لَهُ» فيه: فَضِيلَة إِمَاطَة الْأَذَى عَنْ الطَّرِيق، وَهُوَ كُلّ مُؤْذٍ، وَهَذِهِ الْإِمَاطَة أَدْنَى شُعَب الْإِيمَان كَمَا سَبَقَ فِي الْحَدِيث.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الشُّهَدَاء خَمْسَة الْمَطْعُون وَالْمَبْطُون وَالْغَرِق وَصَاحِب الْهَدْم وَالشَّهِيد فِي سَبِيل اللَّه» فِي رِوَايَة مَالِك فِي الْمُوَطَّأ مِنْ حَدِيث جَابِر بْن عَتِيك: «الشُّهَدَاء سَبْعَة سِوَى الْقَتْل فِي سَبِيل اللَّه، فَذَكَرَ الْمَطْعُون وَالْمَبْطُون وَالْغَرِق وَصَاحِب الْهَدْم وَصَاحِب ذَات الْجَنْب وَالْحَرِق وَالْمَرْأَة تَمُوت بِجُمْعٍ» وَفِي رِوَايَة لِمُسْلِمٍ: «مَنْ قُتِلَ فِي سَبِيل اللَّه فَهُوَ شَهِيد، وَمَنْ مَاتَ فِي سَبِيل اللَّه فَهُوَ شَهِيد» وَهَذَا الْحَدِيث الَّذِي رَوَاهُ مَالِك صَحِيح بِلَا خِلَاف، وَإِنْ كَانَ الْبُخَارِيّ وَمُسْلِم لَمْ يُخْرِّجَاهُ، فَأَمَّا (الْمَطْعُون) فَهُوَ الَّذِي يَمُوت فِي الطَّاعُون كَمَا فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: «الطَّاعُون شَهَادَة لِكُلِّ مُسْلِم» وَأَمَّا (الْمَبْطُون) فَهُوَ صَاحِب دَاء الْبَطْن، وَهُوَ الْإِسْهَال.
قَالَ الْقَاضِي: وَقِيلَ: هُوَ الَّذِي بِهِ الِاسْتِسْقَاء وَانْتِفَاخ الْبَطْن، وَقِيلَ: هُوَ الَّذِي تَشْتَكِي بَطْنه، وَقِيلَ: هُوَ الَّذِي يَمُوت بِدَاءِ بَطْنه مُطْلَقًا.
وَأَمَّا (الْغَرِق) فَهُوَ الَّذِي يَمُوت غَرِيقًا فِي الْمَاء، وَصَاحِب الْهَدْم مَنْ يَمُوت تَحْته، و(صَاحِب ذَات الْجَنْب) مَعْرُوف، وَهِيَ قُرْحَة تَكُون فِي الْجَنْب بَاطِنًا. وَالْحَرِيق الَّذِي يَمُوت بِحَرِيقِ النَّار.
وَأَمَّا (الْمَرْأَة تَمُوت بِجُمْعٍ) فَهُوَ بِضَمِّ الْجِيم وَفَتْحهَا وَكَسْرهَا، وَالضَّمّ أَشْهَر قِيلَ: الَّتِي تَمُوت حَامِلًا جَامِعَة وَلَدهَا فِي بَطْنهَا، وَقِيلَ: هِيَ الْبِكْر، وَالصَّحِيح الْأَوَّل.
3539- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ مَاتَ فِي سَبِيل اللَّه فَهُوَ شَهِيد» فَمَعْنَاهُ: بِأَيِّ صِفَة مَاتَ، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانه. قَوْل الْعُلَمَاء: وَإِنَّمَا كَانَتْ هَذِهِ الْمَوْتَات شَهَادَة بِتَفَضُّلِ اللَّه تَعَالَى بِسَبَبِ شِدَّتهَا وَكَثْرَة أَلَمهَا، وَقَدْ جَاءَ فِي حَدِيث آخَر فِي الصَّحِيح: «مَنْ قُتِلَ دُون مَاله فَهُوَ شَهِيد وَمَنْ قُتِلَ دُون أَهْله فَهُوَ شَهِيد» وَسَبَقَ بَيَانه فِي كِتَاب الْإِيمَان، وَفِي حَدِيث آخَر صَحِيح: «مَنْ قُتِلَ دُون سَيْفه فَهُوَ شَهِيد» قَالَ الْعُلَمَاء: الْمُرَاد بِشَهَادَةِ هَؤُلَاءِ كُلّهمْ غَيْر الْمَقْتُول فِي سَبِيل اللَّه أَنَّهُمْ يَكُون لَهُمْ فِي الْآخِرَة ثَوَاب الشُّهَدَاء.
وَأَمَّا فِي الدُّنْيَا فَيُغْسَلُونَ وَيُصَلَّى عَلَيْهِمْ، وَقَدْ سَبَقَ فِي كِتَاب الْإِيمَان بَيَان هَذَا، وَأَنَّ الشُّهَدَاء ثَلَاثَة أَقْسَام: شَهِيد فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة، وَهُوَ الْمَقْتُول فِي حَرْب الْكُفَّار، وَشَهِيد فِي الْآخِرَة دُون أَحْكَام الدُّنْيَا، وَهُمْ هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورُونَ هُنَا، وَشَهِيد فِي الدُّنْيَا دُون الْآخِرَة، وَهُوَ مَنْ غَلَّ فِي الْغَنِيمَة أَوْ قُتِلَ مُدْبِرًا.
قَوْله فِي حَدِيث عَبْد الْحَمِيد بْن بَيَان: (قَالَ عَبْد اللَّه بْن مُقْسِم: اِشْهَدْ عَلَى أَخِيك أَنَّهُ زَادَ فِي هَذَا الْحَدِيث وَمَنْ غَرِقَ فَهُوَ شَهِيد) هَكَذَا وَقَعَ فِي أَكْثَر نُسَخ بِلَادنَا (عَلَى أَخِيك) بِالْخَاءِ وَفِي بَعْضهَا (عَلَى أَبِيك) بِالْبَاءِ، وَهَذَا هُوَ الصَّوَاب؛ قَالَ الْقَاضِي: وَقَعَ فِي رِوَايَة اِبْن مَاهَان (عَلَى أَبِيك) وَهُوَ الصَّوَاب، وَفِي رِوَايَة الْجُلُودِيّ (عَلَى أَخِيك)، وَهُوَ خَطَأ، وَالصَّوَاب (عَلَى أَبِيك) كَمَا سَبَقَ فِي رِوَايَة زُهَيْر، وَإِنَّمَا قَالَهُ اِبْن مُقْسِم لِسُهَيْلِ بْن أَبِي صَالِح، وَكَذَا ذَكَرَهُ أَيْضًا فِي الرِّوَايَة الَّتِي بَعْدهَا. وَاللَّهُ أَعْلَم.

.باب فَضْلِ الرَّمْيِ وَالْحَثِّ عَلَيْهِ وَذَمِّ مَنْ عَلِمَهُ ثُمَّ نَسِيَهُ:

3541- قَوْله: (ثُمَامَة بْن شُفَيّ) هُوَ بِشِينٍ مُعْجَمَة مَضْمُومَة ثُمَّ فَاء مَفْتُوحَة ثُمَّ يَاء مُشَدَّدَة.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَفْسِير قَوْله تَعَالَى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اِسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّة} «أَلَا إِنَّ الْقُوَّة الرَّمْي. قَالَهَا ثَلَاثًا» هَذَا تَصْرِيح بِتَفْسِيرِهَا، وَرَدَ لِمَا يَحْكِيه الْمُفَسِّرُونَ مِنْ الْأَقْوَال سِوَى هَذَا. وَفيه وَفِي الْأَحَادِيث بَعْده: فَضِيلَة الرَّمْي وَالْمُنَاضَلَة وَالِاعْتِنَاء بِذَلِكَ بِنِيَّةِ الْجِهَاد فِي سَبِيل اللَّه تَعَالَى، وَكَذَلِكَ الْمُشَاجَعَة وَسَائِر أَنْوَاع اِسْتِعْمَال السِّلَاح، وَكَذَا الْمُسَابَقَة بِالْخَيْلِ وَغَيْرهَا، كَمَا سَبَقَ فِي بَابه، وَالْمُرَاد بِهَذَا كُلّه التَّمَرُّن عَلَى الْقِتَال وَالتَّدَرُّب، وَالتَّحَذُّق فيه، وَرِيَاضَة الْأَعْضَاء بِذَلِكَ.
3542- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «سَتُفْتَحُ عَلَيْكُمْ أَرَضُونَ وَيَكْفِيكُمْ اللَّه فَلَا يَعْجَز أَحَدكُمْ أَنْ يَلْهُو بِأَسْهُمِهِ» «الْأَرَضُونَ»: بِفَتْحِ الرَّاء عَلَى الْمَشْهُور، وَحَكَى الْجَوْهَرِيّ لُغَة شَاذَّة بِإِسْكَانِهَا وَيَعْجِز بِكَسْرِ الْجِيم عَلَى الْمَشْهُور، وَبِفَتْحِهَا فِي لُغَة، وَمَعْنَاهُ: النَّدْب إِلَى الرَّمْي.
3543- قَوْله: (اِبْن شَمَاسَة) بِضَمِّ الشِّين وَفَتْحهَا.
قَوْله: (لَمْ أُعَانِيه) هَكَذَا هُوَ فِي مُعْظَم النُّسَخ: (لَمْ أُعَانِيه) بِالْيَاءِ، وَفِي بَعْضهَا (لَمْ أُعَانِهِ) بِحَذْفِهَا وَهُوَ الْفَصِيح، وَالْأَوَّل لُغَة مَعْرُوفَة سَبَقَ بَيَانهَا مَرَّات.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ عَلِمَ الرَّمْي ثُمَّ تَرَكَهُ فَلَيْسَ مِنَّا أَوْ قَدْ عَصَى» هَذَا تَشْدِيد عَظِيم فِي نِسْيَان الرَّمْي بَعْد عِلْمه، وَهُوَ مَكْرُوه كَرَاهَة شَدِيدَة لِمَنْ تَرَكَهُ بِلَا عُذْر، وَسَبَقَ تَفْسِير (فَلَيْسَ مِنَّا) فِي كِتَاب الْإِيمَان.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَزَال طَائِفَة مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقّ لَا يَضُرّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ حَتَّى يَأْتِي أَمْر اللَّه وَهُمْ كَذَلِكَ» هَذَا الْحَدِيث سَبَقَ شَرْحه مَعَ مَا يُشْبِههُ فِي أَوَاخِر كِتَاب الْإِيمَان، وَذَكَرْنَا هُنَاكَ الْجَمْع بَيْن الْأَحَادِيث الْوَارِدَة فِي هَذَا الْمَعْنَى، وَأَنَّ الْمُرَاد بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «حَتَّى يَأْتِي أَمْر اللَّه» مِنْ الرِّيح الَّتِي تَأْتِي فَتَأْخُذ رُوح كُلّ مُؤْمِن وَمُؤْمِنَة. وَأَنَّ الْمُرَاد بِرِوَايَةِ مَنْ رَوَى: «حَتَّى تَقُوم السَّاعَة» أَيْ: تَقْرُب السَّاعَة، وَهُوَ خُرُوج الرِّيح.
وَأَمَّا هَذِهِ الطَّائِفَة فَقَالَ الْبُخَارِيّ: هُمْ أَهْل الْعِلْم، وَقَالَ أَحْمَد بْن حَنْبَل: إِنْ لَمْ يَكُونُوا أَهْل الْحَدِيث فَلَا أَدْرِي مَنْ هُمْ؟ قَالَ الْقَاضِي عِيَاض: إِنَّمَا أَرَادَ أَحْمَد أَهْل السُّنَّة وَالْجَمَاعَة، وَمَنْ يَعْتَقِد مَذْهَب أَهْل الْحَدِيث، قُلْت: وَيَحْتَمِل أَنَّ هَذِهِ الطَّائِفَة مُفَرَّقَة بَيْن أَنْوَاع الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُمْ شُجْعَان مُقَاتِلُونَ، وَمِنْهُمْ فُقَهَاء، وَمِنْهُمْ مُحَدِّثُونَ، وَمِنْهُمْ زُهَّاد وَآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَنَاهُونَ عَنْ الْمُنْكَر، وَمِنْهُمْ أَهْل أَنْوَاع أُخْرَى مِنْ الْخَيْر، وَلَا يَلْزَم أَنْ يَكُونُوا مُجْتَمَعِينَ بَلْ قَدْ يَكُونُونَ مُتَفَرِّقِينَ فِي أَقْطَار الْأَرْض. وَفِي هَذَا الْحَدِيث مُعْجِزَة ظَاهِرَة؛ فَإِنَّ هَذَا الْوَصْف مَا زَالَ بِحَمْدِ اللَّه تَعَالَى مِنْ زَمَن النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْآن، وَلَا يَزَال حَتَّى يَأْتِي أَمْر اللَّه الْمَذْكُور فِي الْحَدِيث. وَفيه دَلِيل لِكَوْنِ الْإِجْمَاع حُجَّة، وَهُوَ أَصَحّ مَا اُسْتُدِلَّ بِهِ لَهُ مِنْ الْحَدِيث، وَأَمَّا حَدِيث: «لَا تَجْتَمِع أُمَّتِي عَلَى ضَلَالَة» فَضَعِيف. وَاللَّهُ أَعْلَم.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ظَاهِرِينَ عَلَى مَنْ نَاوَأَهُمْ» هُوَ بِهَمْزَةٍ بَعْد الْوَاو، أَيْ: عَادَاهُمْ، وَهُوَ مَأْخُوذ مِنْ نَأَى إِلَيْهِمْ وَنَأَوْا إِلَيْهِ، أَيْ نَهَضُوا لِلْقِتَالِ.

.باب قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لاَ تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ لاَ يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ»:

3550- قَوْله: (مَسْلَمَة بْن مُخَلَّد) بِضَمِّ الْمِيم وَفَتْح الْخَاء وَتَشْدِيد اللَّام.
3551- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَزَال أَهْل الْغَرْب ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقّ حَتَّى تَقُوم السَّاعَة» قَالَ عَلِيّ بْن الْمَدِينِيّ: الْمُرَاد بِأَهْلِ الْغَرْب: الْعَرَب، وَالْمُرَاد بِالْغَرْبِ الدَّلْو الْكَبِير لِاخْتِصَاصِهِمْ بِهَا غَالِبًا، وَقَالَ آخَرُونَ: الْمُرَاد بِهِ الْغَرْب مِنْ الْأَرْض، وَقَالَ مُعَاذ: هُمْ بِالشَّامِ، وَجَاءَ فِي حَدِيث آخِرهمْ بِبَيْتِ الْمَقْدِس، وَقِيلَ: هُمْ أَهْل الشَّام وَمَا وَرَاء ذَلِكَ، قَالَ الْقَاضِي: وَقِيلَ: الْمُرَاد بِأَهْلِ الْغَرْب أَهْل الشِّدَّة وَالْجَلَد، وَغَرْب كُلّ شَيْء حَدّه.

.باب مُرَاعَاةِ مَصْلَحَةِ الدَّوَابِّ فِي السَّيْرِ وَالنَّهْيِ عَنِ التَّعْرِيسِ فِي الطَّرِيقِ:

3553- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا سَافَرْتُمْ فِي الْخِصْب فَأَعْطُوا الْإِبِل حَظّهَا مِنْ الْأَرْض، إِذَا سَافَرْتُمْ بِهَا فِي السَّنَة فَبَادِرُوا بِهَا نِقْيَهَا» «الْخِصْب»: بِكَسْرِ الْخَاء، وَهُوَ كَثْرَة الْعُشْب وَالْمَرْعَى، وَهُوَ ضِدّ الْجَدْب، وَالْمُرَاد بِالسَّنَةِ هُنَا الْقَحْط، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَدْ أَخَذْنَا آل فِرْعَوْن بِالسِّنِينَ} أَيْ: بِالْقُحُوط؛ و(نِقْيهَا) بِكَسْرِ النُّون وَإِسْكَان الْقَاف، وَهُوَ: الْمُخّ. وَمَعْنَى الْحَدِيث: الْحَثّ عَلَى الرِّفْق بِالدَّوَابِّ، وَمُرَاعَاة مَصْلَحَتهَا، فَإِنْ سَافَرُوا فِي الْخِصْب قَلَّلُوا السَّيْر وَتَرَكُوهَا تَرْعَى فِي بَعْض النَّهَار، وَفِي أَثْنَاء السَّيْر، فَتَأْخُذ حَظّهَا مِنْ الْأَرْض بِمَا تَرْعَاهُ مِنْهَا، وَإِنْ سَافَرُوا فِي الْقَحْط عَجَّلُوا السَّيْر لِيَصِلُوا الْمَقْصِد وَفيها بَقِيَّة مِنْ قُوَّتهَا، وَلَا يُقَلِّلُوا السَّيْر فَيَلْحَقهَا الضَّرَر؛ لِأَنَّهَا لَا تَجِد مَا تَرْعَى فَتَضْعُف، وَيَذْهَب نِقْيهَا، وَرُبَّمَا كَلَّتْ، وَوَقَفَتْ، وَقَدْ جَاءَ فِي أَوَّل هَذَا الْحَدِيث فِي رِوَايَة مَالِك فِي الْمُوَطَّأ: «أَنَّ اللَّه رَفِيق يُحِبّ الرِّفْق».
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَإِذَا عَرَّسْتُمْ فَاجْتَنِبُوا الطَّرِيق، فَإِنَّهَا طُرُق الدَّوَابّ، وَمَأْوَى الْهَوَامّ بِاللَّيْلِ» قَالَ أَهْل اللُّغَة: التَّعْرِيس: النُّزُول فِي أَوَاخِر اللَّيْل لِلنَّوْمِ وَالرَّاحَة، هَذَا قَوْل الْخَلِيل وَالْأَكْثَرِينَ، وَقَالَ أَبُو زَيْد، هُوَ: النُّزُول أَيّ وَقْت كَانَ مِنْ لَيْل أَوْ نَهَار. وَالْمُرَاد بِهَذَا الْحَدِيث هُوَ الْأَوَّل، وَهَذَا أَدَب مِنْ آدَاب السَّيْر وَالنُّزُول، أَرْشَدَ إِلَيْهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لِأَنَّ الْحَشَرَات وَدَوَابّ الْأَرْض مِنْ ذَوَات السَّمُوم وَالسِّبَاع تَمْشِي فِي اللَّيْل عَلَى الطَّرِيق لِسُهُولَتِهَا، وَلِأَنَّهَا تَلْتَقِط مِنْهَا مَا يَسْقُط مِنْ مَأْكُول وَنَحْوه، وَمَا تَجِد فيها مِنْ رِمَّة وَنَحْوهَا، فَإِذَا عَرَّسَ الْإِنْسَان فِي الطَّرِيق رُبَّمَا مَرَّ بِهِ مِنْهَا مَا يُؤْذِيه، فَيَنْبَغِي أَنْ يَتَبَاعَد عَنْ الطَّرِيق.

.باب السَّفَرِ قِطْعَةٌ مِنَ الْعَذَابِ وَاسْتِحْبَابِ تَعْجِيلِ الْمُسَافِرِ إِلَى أَهْلِهِ بَعْدَ قَضَاءِ شُغْلِهِ:

3554- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «السَّفَر قِطْعَة مِنْ الْعَذَاب يَمْنَع أَحَدكُمْ نَوْمه وَطَعَامه وَشَرَابه» مَعْنَاهُ: يَمْنَعهُ كَمَالهَا وَلَذِيذهَا، لِمَا فيه مِنْ الْمَشَقَّة وَالتَّعَب، وَمُقَاسَاة الْحَرّ وَالْبَرْد، وَالسُّرَى وَالْخَوْف، وَمُفَارَقَة الْأَهْل وَالْأَصْحَاب، وَخُشُونَة الْعَيْش.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَإِذَا قَضَى أَحَدكُمْ نَهْمَته مِنْ وَجْهه فَلْيُعَجِّلْ إِلَى أَهْله» (النَّهْمَة) بِفَتْحِ النُّون وَإِسْكَان الْهَاء، هِيَ الْحَاجَة. وَالْمَقْصُود فِي هَذَا الْحَدِيث: اِسْتِحْبَاب تَعْجِيل الرُّجُوع إِلَى الْأَهْل بَعْد قَضَاء شُغْله، وَلَا يَتَأَخَّر بِمَا لَيْسَ لَهُ بِمُهِمٍّ.

.باب كَرَاهَةِ الطُّرُوقِ وَهُوَ الدُّخُولُ لَيْلاً لِمَنْ وَرَدَ مِنْ سَفَرٍ:

3555- قَوْله: «إِنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ لَا يَطْرُق أَهْله لَيْلًا، وَكَانَ يَأْتِيهِمْ غَدْوَة أَوْ عَشِيَّة» وَفِي رِوَايَة: «إِذَا قَدِمَ أَحَدكُمْ لَيْلًا فَلَا يَأْتِيَنَّ أَهْله طُرُوقًا حَتَّى تَسْتَحِدّ الْمُغِيبَة وَتَمْتَشِط الشَّعِثَة» وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: «نَهَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَطَالَ الرَّجُل الْغَيْبَة أَنْ يَأْتِي أَهْله طُرُوقًا» وَفِي الرِوَايَة: «نَهَى أَنْ يَطْرُق أَهْله لَيْلًا يَتَخَوَّنَهُمْ أَوْ يَطْلُب عَثَرَاتهمْ».
3559- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَطْرُق أَهْله لَيْلًا يَتَخَوَّنَهُمْ» فَهُوَ بِفَتْحِ اللَّام وَإِسْكَان الْيَاء أَيْ: فِي اللَّيْل، (وَالطُّرُوق) بِضَمِّ الطَّاء هُوَ الْإِتْيَان فِي اللَّيْل، وَكُلّ آتٍ فِي اللَّيْل فَهُوَ طَارِق. وَمَعْنَى: «تَسْتَحِدّ الْمُغِيبَة» أَيْ: تُزِيل شَعْر عَانَتهَا، وَالْمَغِيبَة الَّتِي غَابَ زَوْجهَا، وَالِاسْتِحْدَاد: اِسْتِفْعَال مِنْ اِسْتِعْمَال الْحَدِيدَة وَهِيَ الْمُوسَى، وَالْمُرَاد إِزَالَته كَيْف كَانَ. وَمَعْنَى: «يَتَخَوَّنَهُمْ»: يَظُنّ خِيَانَتهمْ، وَيَكْشِف أَسْتَارهمْ، وَيَكْشِف هَلْ خَانُوا أَمْ لَا؟ وَمَعْنَى هَذِهِ الرِّوَايَات كُلّهَا أَنَّهُ يُكْرَه لِمَنْ طَالَ سَفَره أَنْ يَقْدُم عَلَى اِمْرَأَته لَيْلًا بَغْتَة، فَأَمَّا مَنْ كَانَ سَفَره قَرِيبًا تَتَوَقَّع اِمْرَأَته إِتْيَانه لَيْلًا فَلَا بَأْس كَمَا قَالَ فِي إِحْدَى هَذِهِ الرِّوَايَات: «إِذَا أَطَالَ الرَّجُل الْغَيْبَة» وَإِذَا كَانَ فِي قَفْل عَظِيم أَوْ عَسْكَر وَنَحْوهمْ، وَاشْتُهِرَ قُدُومهمْ وَوُصُولهمْ، وَعَلِمَتْ اِمْرَأَته وَأَهْله أَنَّهُ قَادِم مَعَهُمْ، وَأَنَّهُمْ الْآنَ دَاخِلُونَ، فَلَا بَأْس بِقُدُومِهِ مَتَى شَاءَ لِزَوَالِ الْمَعْنَى الَّذِي نَهَى بِسَبَبِهِ، فَإِنَّ الْمُرَاد أَنْ يَتَأَهَّبُوا، وَقَدْ حَصَلَ ذَلِكَ، وَلَمْ يَقْدَم بَغْتَة. وَيُؤَيِّد مَا ذَكَرْنَاهُ مَا جَاءَ فِي الْحَدِيث الْآخِر: «أَمْهِلُوا حَتَّى نَدْخُل لَيْلًا- أَيْ: عِشَاء- كَيْ تَمْتَشِط الشَّعِثَة وَتَسْتَحِدّ الْمُغِيبَة». فَهَذَا صَرِيح فِيمَا قُلْنَاهُ، وَهُوَ مَفْرُوض فِي أَنَّهُمْ أَرَادُوا الدُّخُول فِي أَوَائِل النَّهَار بَغْتَة، فَأَمَرَهُمْ بِالصَّبْرِ إِلَى آخِر النَّهَار لِيَبْلُغ قُدُومهمْ إِلَى الْمَدِينَة، وَتَتَأَهَّب النِّسَاء وَغَيْرهنَّ. وَاللَّهُ أَعْلَم.

.كتاب الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان:

.باب الصَّيْدِ بِالْكِلاَبِ الْمُعَلَّمَةِ:

3560- قَوْله: (أُرْسِل كِلَابِي الْمُعَلَّمَة... إِلَى آخِره) مَعَ الْأَحَادِيث الْمَذْكُورَة فِي الِاصْطِيَاد فيها كُلّهَا إِبَاحَة الِاصْطِيَاد، وَقَدْ أَجْمَع الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ، وَتَظَاهَرَتْ عَلَيْهِ دَلَائِل الْكِتَاب وَالسُّنَّة وَالْإِجْمَاع.
قَالَ الْقَاضِي عِيَاض: هُوَ مُبَاح لِمَنْ اِصْطَادَ لِلِاكْتِسَابِ وَالْحَاجَة وَالِانْتِفَاع بِهِ بِالْأَكْلِ وَثَمَنه، قَالَ: وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ اِصْطَادَ لِلَّهْوِ، وَلَكِنْ قَصَدَ تَذْكِيَته وَالِانْتِفَاع بِهِ، فَكَرِهَهُ مَالِك، وَأَجَازَهُ اللَّيْث وَابْن عَبْد الْحَكَم، قَالَ: فَإِنْ فَعَلَهُ بِغَيْرِ نِيَّة التَّذْكِيَة فَهُوَ حَرَام؛ لِأَنَّهُ فَسَاد فِي الْأَرْض وَإِتْلَاف نَفْس عَبَثًا. قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا أَرْسَلْت كَلْبك الْمُعَلَّم وَذَكَرْت اِسْم اللَّه فَكُلْ، قُلْت: وَإِنْ قَتَلْنَ؟ قَالَ: وَإِنْ قَتَلْنَ مَا لَمْ يُشْرِكهَا كَلْب لَيْسَ مَعَهَا»، وَفِي رِوَايَة: «فَإِنَّمَا سَمَّيْت عَلَى كَلْبك وَلَمْ تُسَمِّ عَلَى غَيْره» فِي هَذَا الْأَمْرُ بِالتَّسْمِيَةِ عَلَى إِرْسَال الصَّيْد، وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى التَّسْمِيَة عِنْد الْإِرْسَال عَلَى الصَّيْد وَعِنْد الذَّبْح وَالنَّحْر، وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّ ذَلِكَ وَاجِب أَمْ سُنَّة، فَمَذْهَب الشَّافِعِيّ وَطَائِفَة أَنَّهَا سُنَّة، فَلَوْ تَرَكَهَا سَهْوًا أَوْ عَمْدًا حَلَّ الصَّيْد وَالذَّبِيحَة، وَهِيَ رِوَايَة عَنْ مَالِك وَأَحْمَد، وَقَالَ أَهْل الظَّاهِر: إِنْ تَرَكَهَا عَمْدًا أَوْ سَهْوًا لَمْ يَحِلّ، وَهُوَ الصَّحِيح عَنْ أَحْمَد فِي صَيْد الْجَوَارِح، وَهُوَ مَرْوِيّ عَنْ اِبْن سِيرِينَ وَأَبِي ثَوْر، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة وَمَالك وَالثَّوْرِيُّ وَجَمَاهِير الْعُلَمَاء: إِنْ تَرَكَهَا سَهْوًا حَلَّتْ الذَّبِيحَة وَالصَّيْد، وَإِنْ تَرَكَهَا عَمْدًا فَلَا، وَعَلَى مَذْهَب أَصْحَابنَا يُكْرَه تَرْكهَا، وَقِيلَ: لَا يُكْرَه، بَلْ هُوَ خِلَاف الْأَوْلَى، وَالصَّحِيح الْكَرَاهَة. وَاحْتَجَّ مَنْ أَوْجَبَهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَر اِسْم اللَّه عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْق} وَبِهَذِهِ الْأَحَادِيث. وَاحْتَجَّ أَصْحَابنَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَة} إِلَى قَوْله: {إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} فَأَبَاحَ بِالتَّذْكِيَةِ مِنْ غَيْر اِشْتِرَاط التَّسْمِيَة وَلَا وُجُوبهَا، فَإِنْ قِيلَ: التَّذْكِيَة لَا تَكُون إِلَّا بِالتَّسْمِيَةِ، قُلْنَا: هِيَ فِي اللُّغَة الشَّقّ وَالْفَتْح، وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَطَعَام الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَاب حِلّ لَكُمْ} وَهُمْ لَا يُسَمُّونَ، وَبِحَدِيثِ عَائِشَة: «أَنَّهُمْ قَالُوا: يَا رَسُول اللَّه إِنَّ قَوْمًا حَدِيث عَهْدهمْ بِالْجَاهِلِيَّةِ يَأْتُونَا بِلُحْمَان لَا نَدْرِي أَذَكَرُوا اِسْم اللَّه أَمْ لَمْ يَذْكُرُوا فَنَأْكُل مِنْهَا؟ فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: سَمُّوا وَكُلُوا» رَوَاه الْبُخَارِيّ، فَهَذِهِ التَّسْمِيَة هِيَ الْمَأْمُور بِهَا عِنْد أَكْل كُلّ طَعَام، وَشُرْب كُلّ شَرَاب، وَأَجَابُوا عَنْ قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَر اِسْم اللَّه عَلَيْهِ} أَنَّ الْمُرَاد مَا ذُبِحَ لِلْأَصْنَامِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي الْآيَة الْأُخْرَى: {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُب وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّه} وَلِأَنَّ اللَّه تَعَالَى قَالَ: {وَإِنَّهُ لَفِسْق}.
وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى مَنْ أَكَلَ مَتْرُوك التَّسْمِيَة لَيْسَ بِفَاسِقٍ، فَوَجَبَ حَمْلهَا عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ؛ لِيُجْمَع بَيْنهَا وَبَيْن الْآيَات السَّابِقَات، وَحَدِيث عَائِشَة. وَحَمَلَهَا بَعْض أَصْحَابنَا عَلَى كَرَاهَة التَّنْزِيه، وَأَجَابُوا عَنْ الْأَحَادِيث فِي التَّسْمِيَة أَنَّهَا لِلِاسْتِحْبَابِ.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا أَرْسَلْت كَلْبك الْمُعَلَّم» فِي إِطْلَاقه دَلِيل لِإِبَاحَةِ الصَّيْد بِجَمِيعِ الْكِلَاب الْمُعَلَّمَة مِنْ الْأُسُود وَغَيْره، وَبِهِ قَالَ مَالِك وَالشَّافِعِيّ وَأَبُو حَنِيفَة وَجَمَاهِير الْعُلَمَاء، وَقَالَ الْحَسَن الْبَصْرِيّ وَالنَّخَعِيّ وَقَتَادَة وَأَحْمَد وَإِسْحَاق: لَا يَحِلّ صَيْد الْكَلْب الْأَسْوَد لِأَنَّهُ شَيْطَان.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا أَرْسَلْت كَلْبك الْمُعَلَّم» فيه: أَنَّهُ يُشْتَرَط فِي حِلّ مَا قَتَلَهُ الْكَلْب الْمُرْسَل كَوْنه كَلْبًا مُعَلَّمًا، وَأَنَّهُ يُشْتَرَط الْإِرْسَال، فَلَوْ أَرْسَلَ غَيْر مُعَلَّم أَوْ اُسْتُرْسِلَ الْمُعَلَّم بِلَا إِرْسَال، لَمْ يَحِلّ مَا قَتَلَهُ، فَأَمَّا غَيْر الْمُعَلَّم فَمُجْمَع عَلَيْهِ، وَأَمَّا الْمُعَلَّم إِذَا اُسْتُرْسِلَ فَلَا يَحِلّ مَا قَتَلَهُ عِنْدنَا وَعِنْد الْعُلَمَاء كَافَّة، إِلَّا مَا حُكِيَ عَنْ الْأَصَمّ مِنْ إِبَاحَته، وَإِلَّا مَا حَكَاهُ اِبْن الْمُنْذِر عَنْ عَطَاء وَالْأَوْزَاعِيِّ أَنَّهُ يَحِلّ إِنْ كَانَ صَاحِبه أَخْرَجَهُ لِلِاصْطِيَادِ.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا لَمْ يُشْرِكهَا كَلْب لَيْسَ مَعَهَا» فيه تَصْرِيح بِأَنَّهُ لَا يَحِلّ إِذَا شَارَكَهُ كَلْب آخَر، وَالْمُرَاد كَلْب آخَر اِسْتَرْسَلَ بِنَفْسِهِ، أَوْ أَرْسَلَهُ مَنْ لَيْسَ هُوَ مِنْ أَهْل الذَّكَاة، أَوْ شَكَكْنَا فِي ذَلِكَ، فَلَا يَحِلّ أَكْله فِي كُلّ هَذِهِ الصُّوَر، فَإِنْ تَحَقَّقْنَا أَنَّهُ إِنَّمَا شَارَكَهُ كَلْب أَرْسَلَهُ مَنْ هُوَ مِنْ أَهْل الذَّكَاة عَلَى ذَلِكَ الصَّيْد حَلَّ.
قَوْله: «قُلْت: إِنِّي أَرْمِي بِالْمِعْرَاضِ الصَّيْد، فَأُصِيب، فَقَالَ: إِذَا رَمَيْت بِالْمِعْرَاضِ فَخَزَقَ فَكُلْهُ، وَإِنْ أَصَابَهُ بِعَرْضِهِ فَلَا تَأْكُلهُ»، وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: «مَا أَصَابَ بِحَدِّهِ فَكُلْ، وَمَا أَصَابَ بِعَرْضِهِ فَهُوَ وَقِيذ فَلَا تَأْكُل». (الْمِعْرَاض) بِكَسْرِ الْمِيم وَبِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَة، وَهِيَ: خَشَبَة ثَقِيلَة، أَوْ عَصًا فِي طَرَفهَا حَدِيدَة، وَقَدْ تَكُون بِغَيْرِ حَدِيدَة، هَذَا هُوَ الصَّحِيح فِي تَفْسِيره، وَقَالَ الْهَرَوِيُّ: هُوَ سَهْم لَا رِيش فيه وَلَا نَصْل، وَقَالَ اِبْن دُرَيْد: هُوَ سَهْم طَوِيل لَهُ أَرْبَع قُذَذ رِقَاق، فَإِذَا رَمَى بِهِ اِعْتَرَضَ، وَقَالَ الْخَلِيل كَقَوْلِ الْهَرَوِيِّ، وَنَحْوه عَنْ الْأَصْمَعِيّ، وَقِيلَ: هُوَ عُود رَقِيق الطَّرَفَيْنِ غَلِيظ الْوَسَط إِذَا رُمِيَ بِهِ ذَهَبَ مُسْتَوِيًا.
وَأَمَّا (خَزَقَ) فَهُوَ بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة وَالزَّاي، وَمَعْنَاهُ نَفَذَ، وَالْوَقْذ وَالْمَوْقُوذ هُوَ الَّذِي يُقْتَل بِغَيْرِ مُحَدَّد مِنْ عَصًا أَوْ حَجَر وَغَيْرهمَا. وَمَذْهَب الشَّافِعِيّ وَمَالك وَأَبِي حَنِيفَة وَأَحْمَد وَالْجَمَاهِير: أَنَّهُ إِذَا اِصْطَادَ بِالْمِعْرَاضِ فَقَتَلَ الصَّيْد بِحَدِّهِ حَلَّ، وَإِنْ قَتَلَهُ بِعَرْضِهِ لَمْ يَحِلّ لِهَذَا الْحَدِيث.
وَقَالَ مَكْحُول وَالْأَوْزَاعِيُّ وَغَيْرهمَا مِنْ فُقَهَاء الشَّام: يَحِلّ مُطْلَقًا، وَكَذَا قَالَ هَؤُلَاءِ وَابْن أَبِي لَيْلَى أَنَّهُ يَحِلّ مَا قَتَلَهُ بِالْبُنْدُقَةِ، وَحُكِيَ أَيْضًا عَنْ سَعِيد بْن الْمُسَيِّب، وَقَالَ الْجَمَاهِير: لَا يَحِلّ صَيْد الْبُنْدُقَة مُطْلَقًا: لِحَدِيثِ الْمِعْرَاض؛ لِأَنَّهُ كُلّه رَضّ وَوَقْذ، وَهُوَ مَعْنَى الرِّوَايَة الْأُخْرَى فَإِنَّهُ وَقِيذ أَيْ مَقْتُول بِغَيْرِ مُحَدَّد، وَالْمَوْقُوذَة الْمَقْتُولَة بِالْعَصَا وَنَحْوهَا، وَأَصْله مِنْ الْكَسْر وَالرَّضّ.
3561- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَإِنْ أَكَلَ فَلَا تَأْكُل» هَذَا الْحَدِيث مِنْ رِوَايَة عَدِيّ بْن حَاتِم وَهُوَ صَرِيح فِي مَنْع أَكْل مَا أَكَلَتْ مِنْهُ الْجَارِحَة، وَجَاءَ فِي سُنَن أَبِي دَاوُدَ وَغَيْره بِإِسْنَادٍ حَسَن عَنْ أَبِي ثَعْلَبَة أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ: «كُلْ وَإِنْ أَكَلَ مِنْهُ الْكَلْب». وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فيه فَقَالَ الشَّافِعِيّ فِي أَصَحّ قَوْلَيْهِ: إِذَا قَتَلَتْهُ الْجَارِحَة الْمُعَلَّمَة مِنْ الْكِلَاب وَالسِّبَاع وَأَكَلَت مِنْهُ فَهُوَ حَرَام، وَبِهِ قَالَ أَكْثَر الْعُلَمَاء مِنْهُمْ اِبْن عَبَّاس وَأَبُو هُرَيْرَة وَعَطَاء وَسَعِيد بْن جُبَيْر وَالْحَسَن وَالشَّعْبِيّ وَالنَّخَعِيّ وَعِكْرِمَة وَقَتَادَة وَأَبُو حَنِيفَة وَأَصْحَابه وَأَحْمَد وَإِسْحَاق وَأَبُو ثَوْر وَابْن الْمُنْذِر وَدَاوُد، وَقَالَ سَعْد بْن أَبِي وَقَّاص وَسَلْمَان الْفَارِسِيّ وَابْن عُمَر وَمَالك: يَحِلّ، وَهُوَ قَوْل ضَعِيف لِلشَّافِعِيِّ، وَاحْتَجَّ هَؤُلَاءِ بِحَدِيثِ أَبِي ثَعْلَبَة، وَحَمَلُوا حَدِيث عَدِيّ عَلَى كَرَاهَة التَّنْزِيه، وَاحْتَجَّ الْأَوَّلُونَ بِحَدِيثِ عَدِيّ، وَهُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مَعَ قَوْل اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ}، وَهَذَا مِمَّا لَمْ يُمْسَك عَلَيْنَا، بَلْ عَلَى نَفْسه، وَقَدَّمُوا هَذَا عَلَى حَدِيث أَبِي ثَعْلَبَة؛ لِأَنَّهُ أَصَحّ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَأَوَّلَ حَدِيث أَبِي ثَعْلَبَة عَلَى مَا إِذَا أَكَلَ مِنْهُ بَعْد أَنْ قَتَلَهُ وَخَلَّاهُ وَفَارَقَهُ، ثُمَّ عَادَ فَأَكَلَ مِنْهُ، فَهَذَا لَا يَضُرّ، وَاللَّهُ أَعْلَم.
وَأَمَّا جَوَارِح الطَّيْر إِذَا أَكَلَتْ مِمَّا صَادَتْهُ فَالْأَصَحّ عِنْد أَصْحَابنَا وَالرَّاجِح مِنْ قَوْل الشَّافِعِيّ تَحْرِيمه، وَقَالَ سَائِر الْعُلَمَاء بِإِبَاحَتِهِ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِن تَعْلِيمهَا ذَلِكَ، بِخِلَافِ السِّبَاع، وَأَصْحَابنَا يَمْنَعُونَ هَذَا الدَّلِيل.
وَقَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَإِنِّي أَخَاف أَنْ يَكُون إِنَّمَا أَمْسَكَ عَلَى نَفْسه»، مَعْنَاهُ أَنَّ اللَّه تَعَالَى قَالَ: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} فَإِنَّمَا إِبَاحَته بِشَرْطِ أَنْ نَعْلَم أَنَّهُ أُمْسِكَ عَلَيْنَا، وَإِذَا أَكَلَ مِنْهُ لَمْ نَعْلَم أَنَّهُ أَمْسَكَ لَنَا أَمْ لِنَفْسِهِ، فَلَمْ يُوجَد شَرْط إِبَاحَته، وَالْأَصْل تَحْرِيمه.
3562- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَإِذَا أَصَابَ بِعَرْضِهِ» هُوَ بِفَتْحِ الْعَيْن، أَيْ: غَيْر الْمُحَدَّد مِنْهُ.
3563- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَإِنَّ ذَكَاته أَخْذه» مَعْنَاهُ: إِنَّ أَخْذ الْكَلْب الصَّيْد وَقَتْله إِيَّاهُ ذَكَاة شَرْعِيَّة بِمَنْزِلَةِ ذَبْح الْحَيَوَان الْإِنْسِيّ، وَهَذَا مُجْمَع عَلَيْهِ وَلَوْ لَمْ يَقْتُلهُ الْكَلْب لَكِنْ تَرَكَهُ، وَلَمْ تَبْقَ فيه حَيَاة مُسْتَقِرَّة أَوْ بَقِيَتْ وَلَمْ يَبْقَ زَمَان يُمَكِّن صَاحِبه لِحَاقه وَذَبْحه فَمَاتَ حَلَّ؛ لِهَذَا الْحَدِيث فَإِنَّ ذَكَاته أَخْذه.
3564- قَوْله: (سَمِعْت عَدِيّ بْن حَاتِم، وَكَانَ لَنَا جَارًا وَدَخِيلًا وَرَبِيطًا بِالنَّهْرَيْنِ) قَالَ أَهْل اللُّغَة: الدَّخِيل وَالدَّخَّال الَّذِي يُدَاخِل الْإِنْسَان وَيُخَالِطهُ فِي أُمُوره، وَالرَّبِيط هُنَا بِمَعْنَى الْمُرَابِط وَهُوَ الْمُلَازِم، وَالرِّبَاط الْمُلَازَمَة، قَالُوا: وَالْمُرَاد هُنَا رَبْط نَفْسه عَلَى الْعِبَادَة وَعَنْ الدُّنْيَا.
3565- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَإِنْ أَمْسَكَ عَلَيْك فَأَدْرَكْته حَيًّا فَاذْبَحْهُ» هَذَا تَصْرِيح بِأَنَّهُ إِذَا أَدْرَكَ ذَكَاته وَجَبَ ذَبْحه، وَلَمْ يَحِلّ إِلَّا بِالذَّكَاةِ، وَهُوَ مُجْمَع عَلَيْهِ، وَمَا نُقِلَ عَنْ الْحَسَن وَالنَّخَعِيِّ خِلَافه فَبَاطِل، لَا أَظُنّهُ يَصِحّ عَنْهُمَا.
وَأَمَّا إِذَا أَدْرَكَهُ وَلَمْ تَبْقَ فيه حَيَاة مُسْتَقِرَّة بِأَنْ كَانَ قَدْ قَطَعَ حُلْقُومه وَمُرَّيْهِ، أَوْ أَجَافَهُ أَوْ خَرَقَ أَمْعَاءَهُ، أَوْ أَخْرَجَ حَشْوَته. فَيَحِلّ مِنْ غَيْر ذَكَاة بِالْإِجْمَاعِ.
قَالَ أَصْحَابنَا وَغَيْرهمْ: وَيُسْتَحَبّ إِمْرَار السِّكِّين عَلَى حَلْقه لِيُرِيحَهُ.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَإِنْ وَجَدْت مَعَ كَلْبك كَلْبًا غَيْره وَقَدْ قَتَلَ فَلَا تَأْكُل فَإِنَّك لَا تَدْرِي أَيّهمَا قَتَلَهُ» فيه بَيَان قَاعِدَة مُهِمَّة، وَهِيَ أَنَّهُ إِذَا حَصَلَ الشَّكّ فِي الذَّكَاة الْمُبِيحَة لِلْحَيَوَانِ لَمْ يَحِلّ؛ لِأَنَّ الْأَصْل تَحْرِيمه، وَهَذَا لَا خِلَاف فيه، وَفيه تَنْبِيه عَلَى أَنَّهُ لَوْ وَجَدَهُ حَيًّا وَفيه حَيَاة مُسْتَقِرَّة فَذَكَّاهُ حَلَّ، وَلَا يَضُرّ كَوْنه اِشْتَرَكَ فِي إِمْسَاكه كَلْبه وَكَلْب غَيْره لِأَنَّ الِاعْتِمَاد حِينَئِذٍ فِي الْإِبَاحَة عَلَى تَذْكِيَة الْآدَمِيّ لَا عَلَى إِمْسَاك الْكَلْب، وَإِنَّمَا تَقَع الْإِبَاحَة بِإِمْسَاكِ الْكَلْب إِذَا قَتَلَهُ، وَحِينَئِذٍ إِذَا كَانَ مَعَهُ كَلْب آخَر لَمْ يَحِلّ إِلَّا أَنْ يَكُون أَرْسَلَهُ مَنْ هُوَ مِنْ أَهْل الذَّكَاة كَمَا أَوْضَحْنَاهُ قَرِيبًا.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَإِنْ رَمَيْت بِسَهْمِك فَاذْكُرْ اِسْم اللَّه، فَإِنْ غَابَ عَنْك يَوْمًا فَلَمْ تَجِد فيه إِلَّا أَثَر سَهْمك فَكُلْ إِنْ شِئْت» هَذَا دَلِيل لِمَنْ يَقُول: إِذَا أَثَّرَ جُرْحه فَغَابَ عَنْهُ فَوَجَدَهُ مَيِّتًا، وَلَيْسَ فيه أَثَر غَيْر سَهْمه، حَلَّ، وَهُوَ أَحَد قَوْلَيْ الشَّافِعِيّ وَمَالك فِي الصَّيْد وَالسَّهْم، وَالثَّانِي: يَحْرُم، وَهُوَ الْأَصَحّ عِنْد أَصْحَابنَا، وَالثَّالِث يَحْرُم فِي الْكَلْب دُون السَّهْم، وَالْأَوَّل أَقْوَى وَأَقْرَب إِلَى الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة.
وَأَمَّا الْأَحَادِيث الْمُخَالِفَة لَهُ فَضَعِيفَة، وَمَحْمُولَة عَلَى كَرَاهَة التَّنْزِيه، وَكَذَا الْأَثَر عَنْ اِبْن عَبَّاس: كُلْ مَا أَصْمَيْت، وَدَعْ مَا أَنْمَيْت. أَيْ كُلْ مَا لَمْ يَغِبْ عَنْك دُون مَا غَابَ.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَإِنْ وَجَدْته غَرِيقًا فِي الْمَاء فَلَا تَأْكُل» هَذَا مُتَّفَق عَلَى تَحْرِيمه.
3567- قَوْله فِي حَدِيث أَبِي ثَعْلَبَة: «إِنَّا بِأَرْضِ قَوْم مِنْ أَهْل الْكِتَاب نَأْكُل فِي آنِيَتهمْ؟ فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَإِنْ وَجَدْتُمْ غَيْر آنِيَتهمْ فَلَا تَأْكُلُوا فيها، وَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَاغْسِلُوهَا، ثُمَّ كُلُوا» هَكَذَا رَوَى هَذَا الْحَدِيث الْبُخَارِيّ وَمُسْلِم، وَفِي رِوَايَة أَبِي دَاوُدَ قَالَ: إِنَّا نُجَاوِر أَهْل الْكِتَاب، وَهُمْ يَطْبُخُونَ فِي قُدُورهمْ الْخِنْزِير، وَيَشْرَبُونَ فِي آنِيَتهمْ الْخَمْر، فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنْ وَجَدْتُمْ غَيْرهَا فَكُلُوا فيها وَاشْرَبُوا، وَإِنْ لَمْ تَجِدُوا غَيْرهَا فَارْحَضُوهَا بِالْمَاءِ، وَكُلُوا وَاشْرَبُوا» قَدْ يُقَال: هَذَا الْحَدِيث مُخَالِف لِمَا يَقُول الْفُقَهَاء، فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّهُ يَجُوز اِسْتِعْمَال أَوَانِي الْمُشْرِكِينَ إِذَا غُسِلَتْ، وَلَا كَرَاهَة فيها بَعْد الْغُسْل، سَوَاء وَجَدَ غَيْرهَا أَمْ لَا، وَهَذَا الْحَدِيث يَقْتَضِي كَرَاهَة اِسْتِعْمَالهَا إِنْ وَجَدَ غَيْرهَا، وَلَا يَكْفِي غَسْلهَا فِي نَفْي الْكَرَاهَة، وَإِنَّمَا يَغْسِلهَا وَيَسْتَعْمِلهَا إِذَا لَمْ يَجِد غَيْرهَا. وَالْجَوَاب أَنَّ الْمُرَاد النَّهْي عَنْ الْأَكْل فِي آنِيَتهمْ الَّتِي كَانُوا يَطْبُخُونَ فيها لَحْم الْخِنْزِير، وَيَشْرَبُونَ الْخَمْر كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي رِوَايَة أَبِي دَاوُدَ؛ وَإِنَّمَا نَهَى عَنْ الْأَكْل فيها بَعْد الْغَسْل لِلِاسْتِقْذَارِ، وَكَوْنهَا مُعْتَادَة لِلنَّجَاسَةِ، كَمَا يُكْرَه الْأَكْل فِي الْمِحْجَمَة الْمَغْسُولَة، وَأَمَّا الْفُقَهَاء فَمُرَادهمْ مُطْلَق آنِيَة الْكُفَّار الَّتِي لَيْسَتْ مُسْتَعْمَلَة فِي النَّجَاسَات، فَهَذِهِ يُكْرَه اِسْتِعْمَالهَا قَبْل غَسْلهَا، فَإِذَا غُسِلَتْ فَلَا كَرَاهَة فيها؛ لِأَنَّهَا طَاهِرَة وَلَيْسَ فيها اِسْتِقْذَار، وَلَمْ يُرِيدُوا نَفْي الْكَرَاهَة عَنْ آنِيَتهمْ الْمُسْتَعْمَلَة فِي الْخِنْزِير وَغَيْره مِنْ النَّجَاسَات. وَاللَّهُ أَعْلَم.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَا أَصَبْت بِكَلْبِك الَّذِي لَيْسَ بِمُعَلَّمٍ فَأَدْرَكْت ذَكَاته فَكُلْ» هَذَا مُجْمَع عَلَيْهِ أَنَّهُ لَا يَحِلّ إِلَّا بِذَكَاةٍ.

.باب إِذَا غَابَ عَنْهُ الصَّيْدُ ثُمَّ وَجَدَهُ:

3568- قَوْله: (حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن مِهْرَانَ الرَّازِيّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَبْد اللَّه حَمَّاد بْن خَالِد الْخَيَّاط) هَذَا الْحَدِيث هُوَ أَوَّل عَوْد سَمَاع إِبْرَاهِيم بْن سُفْيَان مِنْ مُسْلِم، وَالَّذِي قَبْله هُوَ آخِر فَوَاته الثَّالِث، وَلَمْ يَبْقَ لَهُ فِي الْكِتَاب فَوَات بَعْد هَذَا. وَاللَّهُ أَعْلَم.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا رَمَيْت بِسَهْمِك فَغَابَ عَنْك فَأَدْرَكْته فَكُلْ مَا لَمْ يُنْتِن»، وَفِي رِوَايَة فِيمَنْ يُدْرِك صَيْده بَعْد ثَلَاث: «فَكُلْهُ مَا لَمْ يُنْتِن» هَذَا النَّهْي عَنْ أَكْله وَلَا يَحْرُم إِلَّا أَنْ يُخَاف مِنْهَا الضَّرَر خَوْفًا مُعْتَمَدًا، وَقَالَ بَعْض أَصْحَابنَا: يَحْرُم اللَّحْم الْمُنْتِن، وَهُوَ ضَعِيف، وَاللَّهُ أَعْلَم.

.باب تَحْرِيمِ أَكْلِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ وَكُلِّ ذِي مِخْلَبٍ مِنَ الطَّيْرِ:

3573- قَوْله: (عَنْ عَبِيدَة بْن سُفْيَان) هُوَ بِفَتْحِ الْعَيْن وَكَسْر الْبَاء.
3574- قَوْله: «نَهَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ كُلّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاع وَكُلّ ذِي مِخْلَب مِنْ الطَّيْر»، وَفِي رِوَايَة: «كُلّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاع فَأَكْله حَرَام» الْمِخْلَب: بِكَسْرِ الْمِيم وَفَتْح اللَّام، قَالَ أَهْل اللُّغَة: الْمِخْلَب لِلطَّيْرِ وَالسِّبَاع بِمَنْزِلَةِ الظُّفْر لِلْإِنْسَانِ. فِي هَذِهِ الْأَحَادِيث دَلَالَة لِمَذْهَبِ الشَّافِعِيّ وَأَبِي حَنِيفَة وَأَحْمَد وَدَاوُد وَالْجُمْهُور أَنَّهُ يَحْرُم أَكْل كُلّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاع وَكُلّ ذِي مِخْلَب مِنْ الطَّيْر، وَقَالَ مَالِك: يُكْرَه وَلَا يَحْرُم، قَالَ أَصْحَابنَا: الْمُرَاد بِذِي النَّاب مَا يُتَقَوَّى بِهِ وَيُصْطَاد، وَاحْتَجَّ مَالِك بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ لَا أَجِد فِيمَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} الْآيَة وَاحْتَجَّ أَصْحَابنَا بِهَذِهِ الْأَحَادِيث قَالُوا: وَالْآيَة لَيْسَ فيها إِلَّا الْإِخْبَار بِأَنَّهُ لَمْ يَجِد فِي ذَلِكَ الْوَقْت مُحَرَّمًا إِلَّا الْمَذْكُورَات فِي الْآيَة، ثُمَّ أُوحِيَ إِلَيْهِ بِتَحْرِيمِ كُلّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاع، فَوَجَبَ قَبُوله وَالْعَمَل بِهِ.
قَوْله: (عَنْ مَيْمُون بْن مِهْرَانَ عَنْ اِبْن عَبَّاس) هَكَذَا ذَكَرَهُ مُسْلِم مِنْ هَذِهِ الطُّرُق وَهُوَ صَحِيح، وَقَدْ صَحَّ سَمَاع مَيْمُون مِنْ اِبْن عَبَّاس، وَلَا تَغْتَرّ بِمَا قَدْ يُخَالِف هَذَا.

.باب إِبَاحَةِ مَيْتَاتِ الْبَحْرِ:

3576- قَوْله: «بَعَثَنَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمَّرَ عَلَيْنَا أَبَا عُبَيْدَة» فيه: أَنَّ الْجُيُوش لابد لَهَا مِنْ أَمِير يَضْبِطهَا وَيَنْقَادُونَ لِأَمْرِهِ وَنَهْيه، وَأَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَكُون الْأَمِير أَفْضَلهمْ، أَوْ مِنْ أَفْضَلهمْ، قَالُوا: وَيُسْتَحَبّ لِلرُّفْقَةِ مِنْ النَّاس وَإِنْ قَلُّوا أَنْ يُؤَمِّرُوا بَعْضهمْ عَلَيْهِمْ وَيَنْقَادُوا لَهُ.
قَوْله: «نَتَلَقَّى عِيرًا لِقُرَيْشٍ» قَدْ سَبَقَ أَنَّ الْعِير هِيَ الْإِبِل الَّتِي تَحْمِل الطَّعَام وَغَيْره. وَفِي هَذَا الْحَدِيث جَوَاز صَدّ أَهْل الْحَرْب وَاغْتِيَالهمْ وَالْخُرُوج لِأَخْذِ مَالهمْ وَاغْتِنَامه.
قَوْله: «وَزَوَّدْنَا جِرَابًا مِنْ تَمْر لَمْ يَجِد لَنَا غَيْره فَكَانَ أَبُو عُبَيْدَة يُعْطِينَا تَمْرَة تَمْرَة نَمُصّهَا كَمَا يَمُصّ الصَّبِيّ ثُمَّ نَشْرَب عَلَيْهَا مِنْ الْمَاء فَتَكْفِينَا يَوْمنَا إِلَى اللَّيْل» أَمَّا الْجِرَاب فَبِكَسْرِ الْجِيم وَفَتْحهَا، الْكَسْر أَفْصَح، وَسَبَقَ بَيَانه مَرَّات. وَنَمُصّهَا: بِفَتْحِ الْمِيم وَضَمّهَا، الْفَتْح أَفْصَح وَأَشْهَر، وَسَبَقَ بَيَان لُغَاته فِي كِتَاب الْإِيمَان. وَفِي هَذَا بَيَان مَا كَانَ الصَّحَابَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ عَلَيْهِ مِنْ الزُّهْد فِي الدُّنْيَا، وَالتَّقَلُّل مِنْهَا، وَالصَّبْر عَلَى الْجُوع وَخُشُونَة الْعَيْش، وَإِقْدَامهمْ عَلَى الْغَزْو مَعَ هَذَا الْحَال.
قَوْله: «وَزَوَّدْنَا جِرَابًا لَمْ يَجِد لَنَا غَيْره فَكَانَ أَبُو عُبَيْدَة يُعْطِينَا تَمْرَة تَمْرَة»، وَفِي رِوَايَة مِنْ هَذَا الْحَدِيث: «وَنَحْنُ نَحْمِل أَزْوَادنَا عَلَى رِقَابنَا»، وَفِي رِوَايَة: «فَفَنِيَ زَادُهُمْ فَجَمَعَ أَبُو عُبَيْدَة زَادَهُمْ فِي مِزْوَد فَكَانَ يَقُوتنَا حَتَّى كَانَ يُصِيبنَا كُلّ يَوْم تَمْرَة»، وَفِي الْمُوَطَّأ: «فَفَنِيَ زَادُهُمْ وَكَانَ مِزْوَدَيْ تَمْر، وَكَانَ يُقَوِّتُنَا حَتَّى كَانَ يُصِيبنَا كُلّ يَوْم تَمْرَة»، وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى لِمُسْلِمٍ: «كَانَ يُعْطِينَا قَبْضَة قَبْضَة ثُمَّ أَعْطَانَا تَمْرَة تَمْرَة» قَالَ الْقَاضِي: الْجَمْع بَيْن هَذِهِ الرِّوَايَات أَنْ يَكُون النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَوَّدَهُمْ الْمِزْوَد زَائِدًا عَلَى مَا كَانَ مَعَهُمْ مِنْ الزَّاد مِنْ أَمْوَالهمْ وَغَيْرهَا مِمَّا وَاسَاهُمْ بِهِ الصَّحَابَة، وَلِهَذَا قَالَ: وَنَحْنُ نَحْمِل أَزْوَادنَا، قَالَ: وَيَحْتَمِل أَنَّهُ يَكُون فِي زَادهمْ تَمْر غَيْر هَذَا الْجِرَاب، وَكَانَ مَعَهُمْ غَيْره مِنْ الزَّاد.
وَأَمَّا إِعْطَاء أَبِي عُبَيْدَة إِيَّاهُمْ تَمْرَة تَمْرَة فَإِنَّمَا كَانَ فِي الْحَال الثَّانِي بَعْد أَنْ فَنِيَ زَادهمْ، وَطَالَ لُبْثهمْ، كَمَا فَسَّرَهُ فِي الرِّوَايَة الْأَخِيرَة. فَالرِّوَايَة الْأُولَى مَعْنَاهَا الْإِخْبَار عَنْ آخِر الْأَمْر لَا عَنْ أَوَّله، وَالظَّاهِر أَنَّ قَوْله: «تَمْرَة تَمْرَة» إِنَّمَا كَانَ بَعْد أَنْ قَسَمَ عَلَيْهِمْ قَبْضَة قَبْضَة، فَلَمَّا قَلَّ تَمْرهمْ قَسَمَهُ عَلَيْهِمْ تَمْرَة تَمْرَة، ثُمَّ فَرَغَ وَفَقَدُوا التَّمْرَة، وَجَدُوا أَلَمًا لِفَقْدِهَا، وَأَكَلُوا الْخَبَط إِلَى أَنْ فَتَحَ اللَّه عَلَيْهِمْ بِالْعَنْبَرِ.
قَوْله: «كَهَيْئَةِ الْكَثِيب الضَّخْم» هُوَ بِالثَّاءِ الْمُثَلَّثَة، وَهُوَ الرَّمْل الْمُسْتَطِيل الْمُحْدَوْدَب.
قَوْله: «فَإِذَا هِيَ دَابَّة تُدْعَى الْعَنْبَر قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: مَيِّتَة، ثُمَّ قَالَ: بَلْ نَحْنُ رُسُل رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِي سَبِيل اللَّه، وَقَدْ اُضْطُرِرْتُمْ فَكُلُوا، فَأَقَمْنَا عَلَيْهِ شَهْرًا وَنَحْنُ ثَلَثمِائَةٍ حَتَّى سَمِنَّا»، وَذَكَرَ فِي آخِر الْحَدِيث أَنَّهُمْ تَزَوَّدُوا مِنْهُ، وَأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُمْ حِين رَجَعُوا: هَلْ مَعَكُمْ مِنْ لَحْمه شَيْء فَتُطْعِمُونَا؟ قَالَ: فَأَرْسَلْنَا إِلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُ فَأَكَلَهُ. مَعْنَى الْحَدِيث: أَنَّ أَبَا عُبَيْدَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ أَوَّلًا بِاجْتِهَادِهِ: إِنَّ هَذَا مَيْتَة وَالْمَيْتَة حَرَام، فَلَا يَحِلّ لَكُمْ أَكْلهَا، ثُمَّ تَغَيَّرَ اِجْتِهَاده فَقَالَ: بَلْ هُوَ حَلَال لَكُمْ وَإِنْ كَانَ مَيْتَة؛ لِأَنَّكُمْ فِي سَبِيل اللَّه، وَقَدْ اُضْطُرِرْتُمْ، وَقَدْ أَبَاحَ اللَّه تَعَالَى الْمَيْتَة لِمَنْ كَانَ مُضْطَرًّا غَيْر بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَكُلُوا فَأَكَلُوا مِنْهُ.
وَأَمَّا طَلَب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ لَحْمه وَأَكْله ذَلِكَ، فَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ الْمُبَالَغَة فِي تَطْيِيب نُفُوسهمْ فِي حِلّه، وَأَنَّهُ لَا شَكّ فِي إِبَاحَته، وَأَنَّهُ يَرْتَضِيه لِنَفْسِهِ أَوْ أَنَّهُ قَصَدَ التَّبَرُّك بِهِ لِكَوْنِهِ طُعْمَة مِنْ اللَّه تَعَالَى، خَارِقَة لِلْعَادَةِ أَكْرَمهمْ اللَّه بِهَا. وَفِي هَذَا دَلِيل عَلَى أَنَّهُ لَا بَأْس بِسُؤَالِ الْإِنْسَان مِنْ مَال صَاحِبه وَمَتَاعه إِدْلَالًا عَلَيْهِ، وَلَيْسَ هُوَ مِنْ السُّؤَال الْمَنْهِيّ عَنْهُ، إِنَّمَا ذَاكَ فِي حَقّ الْأَجَانِب لِلتَّمَوُّلِ وَنَحْوه، وَأَمَّا هَذِهِ فَلِلْمُؤَانَسَةِ وَالْمُلَاطَفَة وَالْإِدْلَال. وَفيه: جَوَاز الِاجْتِهَاد فِي الْأَحْكَام فِي زَمَن النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَمَا يَجُوز بَعْده. وَفيه: أَنَّهُ يُسْتَحَبّ لِلْمُفْتِي أَنْ يَتَعَاطَى بَعْض الْمُبَاحَات الَّتِي يَشُكّ فيها الْمُسْتَفْتِي إِذَا لَمْ يَكُنْ فيه مَشَقَّة عَلَى الْمُفْتِي، وَكَانَ فيه طُمَأْنِينَة لِلْمُسْتَفْتِي. وَفيه: إِبَاحَة مَيْتَات الْبَحْر كُلّهَا سَوَاء فِي ذَلِكَ مَا مَاتَ بِنَفْسِهِ أَوْ بِاصْطِيَادٍ، وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى إِبَاحَة السَّمَك، قَالَ أَصْحَابنَا: يَحْرُم الضُّفْدَع لِلْحَدِيثِ فِي النَّهْي عَنْ قَتْلهَا، قَالُوا: وَفِيمَا سِوَى ذَلِكَ ثَلَاثَة أَوْجُه أَصَحّهَا: يَحِلّ جَمِيعه؛ لِهَذَا الْحَدِيث، وَالثَّانِي: لَا يَحِلّ، وَالثَّالِث: يَحِلّ مَا لَهُ نَظِير مَأْكُول فِي الْبَرّ دُون مَا لَا يُؤْكَل نَظِيره، فَعَلَى هَذَا تُؤْكَل خَيْل الْبَحْر وَغَنَمه وَظِبَاؤُهُ دُون كَلْبه وَخِنْزِيره وَحِمَاره، قَالَ أَصْحَابنَا: وَالْحِمَار وَإِنْ كَانَ فِي الْبَرّ مِنْهُ مَأْكُول وَغَيْره، وَلَكِنَّ الْغَالِب غَيْر الْمَأْكُول، هَذَا تَفْصِيل مَذْهَبنَا. وَمِمَّنْ قَالَ بِإِبَاحَةِ جَمِيع حَيَوَانَات الْبَحْر إِلَّا الضُّفْدَع أَبُو بَكْر الصِّدِّيق وَعُمَر وَعُثْمَان وَابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ، وَأَبَاحَ مَالِك الضُّفْدَع وَالْجَمِيع، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة: لَا يَحِلّ غَيْر السَّمَك، وَأَمَّا السَّمَك الطَّافِي وَهُوَ الَّذِي يَمُوت فِي الْبَحْر بِلَا سَبَب فَمَذْهَبنَا إِبَاحَته، وَبِهِ قَالَ جَمَاهِير الْعُلَمَاء مِنْ الصَّحَابَة فَمَنْ بَعْدهمْ، مِنْهُمْ أَبُو بَكْر الصِّدِّيق وَأَبُو أَيُّوب وَعَطَاء وَمَكْحُول وَالنَّخَعِيّ وَمَالك وَأَحْمَد وَأَبُو ثَوْر وَدَاوُد وَغَيْرهمْ، وَقَالَ جَابِر بْن عَبْد اللَّه وَجَابِر بْن زَيْد وَطَاوُسٌ وَأَبُو حَنِيفَة: لَا يَحِلّ، دَلِيلنَا قَوْله تَعَالَى: {أُحِلّ لَكُمْ صَيْد الْبَحْر وَطَعَامه} قَالَ اِبْن عَبَّاس وَالْجُمْهُور: صَيْده مَا صِدْتُمُوهُ وَطَعَامه مَا قَذَفَهُ، وَبِحَدِيثِ جَابِر هَذَا وَبِحَدِيثِ: «هُوَ الطَّهُور مَاؤُهُ الْحِلّ مَيْتَته» وَهُوَ حَدِيث صَحِيح وَبِأَشْيَاء مَشْهُورَة غَيْر مَا ذَكَرْنَا.
وَأَمَّا الْحَدِيث الْمَرْوِيّ عَنْ جَابِر عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا أَلْقَاهُ الْبَحْر وَجَزَرَ عَنْهُ فَكُلُوهُ وَمَا مَاتَ فيه فَطَفَا فَلَا تَأْكُلُوهُ» فَحَدِيث ضَعِيف بِاتِّفَاقِ أَئِمَّة الْحَدِيث، لَا يَجُوز الِاحْتِجَاج بِهِ لَوْ لَمْ يُعَارِضهُ شَيْء، كَيْف وَهُوَ مُعَارَض بِمَا ذَكَرْنَاهُ؟ وَقَدْ أَوْضَحْت ضَعْف رِجَاله فِي شَرْح الْمُهَذَّب فِي بَاب الْأَطْعِمَة، فَإِنْ قِيلَ: لَا حُجَّة فِي حَدِيث الْعَنْبَر؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُضْطَرِّينَ، قُلْنَا: الِاحْتِجَاج بِأَكْلِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُ فِي الْمَدِينَة مِنْ غَيْر ضَرُورَة. قَوْله: «وَلَقَدْ رَأَيْتنَا نَغْتَرِف مِنْ وَقْب عَيْنه بِالْقِلَالِ الدُّهْن وَنَقْتَطِع مِنْهُ الْفِدَر كَالثَّوْرِ أَوْ كَقَدْرِ الثَّوْر» أَمَّا (الْوَقْب) فَبِفَتْحِ الْوَاو وَإِسْكَان الْقَاف وَبِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَة، وَهُوَ دَاخِل عَيْنه وَنُقْرَتهَا، و(الْقِلَال) بِكَسْرِ الْقَاف جَمْع (قُلَّة) بِضَمِّهَا، وَهِيَ الْجَرَّة الْكَبِيرَة الَّتِي يُقِلّهَا الرَّجُل بَيْن يَدَيْهِ أَيْ يَحْمِلهَا، و(الْفِدَر) بِكَسْرِ الْفَاء وَفَتْح الدَّال هِيَ الْقَطْع، وَقَوْله: (كَقَدْرِ الثَّوْر) رَوَيْنَاهُ بِوَجْهَيْنِ مَشْهُورَيْنِ فِي نُسَخ بِلَادنَا: أَحَدهمَا: بِقَافٍ مَفْتُوحَة ثُمَّ دَال سَاكِنَة أَيْ مِثْل الثَّوْر.
وَالثَّانِي: (كَفِدَر) بِفَاءٍ مَكْسُورَة ثُمَّ دَال مَفْتُوحَة جَمْع (فِدْرَة)، وَالْأَوَّل أَصَحّ، وَادَّعَى الْقَاضِي أَنَّهُ تَصْحِيف، وَأَنَّ الثَّانِي هُوَ الصَّوَاب، وَلَيْسَ كَمَا قَالَ.
قَوْله: «ثُمَّ رَحَلَ أَعْظَمَ بَعِير» هُوَ بِفَتْحِ الْحَاء أَيْ جَعَلَ عَلَيْهِ رَحْلًا.
قَوْله: «وَتَزَوَّدْنَا مِنْ لَحْمه وَشَائِق» هُوَ بِالشِّينِ الْمُعْجَمَة وَالْقَاف، قَالَ أَبُو عُبَيْد: هُوَ اللَّحْم يُؤْخَذ فَيُغْلَى إِغْلَاء وَلَا يَنْضَج وَيُحْمَل فِي الْأَسْفَار، يُقَال: وَشَقْت اللَّحْم فَاتَّشَقَ، وَالْوَشِيقَة الْوَاحِدَة مِنْهُ، وَالْجَمْع وَشَائِق وَوُشُق.
وَقِيلَ: الْوَشِيقَة الْقَدِيد.
قَوْله فِي الرِّوَايَة الْأُولَى: «فَأَقَمْنَا عَلَيْهِ شَهْرًا»، وَفِي الرِّوَايَة الثَّانِيَة: «فَأَكَلْنَا مِنْهَا نِصْف شَهْر»، وَفِي الثَّالِثَة: «فَأَكَلَ مِنْهَا الْجَيْش ثَمَانِي عَشْرَة لَيْلَة» طَرِيق الْجَمْع بَيْن الرِّوَايَات أَنَّ مَنْ رَوَى شَهْرًا هُوَ الْأَصْل وَمَعَهُ زِيَادَة عِلْم، وَمَنْ رَوَى دُونه لَمْ يَنْفِ الزِّيَادَة، وَلَوْ نَفَاهَا قَدَّمَ الْمُثْبَت وَقَدْ قَدَّمْنَا مَرَّات أَنَّ الْمَشْهُور الصَّحِيح عِنْد الْأُصُولِيِّينَ أَنَّ مَفْهُوم الْعَدَد لَا حُكْم لَهُ، فَلَا يَلْزَم مِنْهُ نَفْي الزِّيَادَة لَوْ لَمْ يُعَارِضهُ إِثْبَات الزِّيَادَة، كَيْف وَقَدْ عَارَضَهُ؟ فَوَجَبَ قَبُول الزِّيَادَة، وَجَمَعَ الْقَاضِي بَيْنهمَا بِأَنَّ مَنْ قَالَ: نِصْف شَهْر، أَرَادَ أَكَلُوا مِنْهُ تِلْكَ الْمُدَّة طَرِيًّا، وَمَنْ قَالَ: شَهْرًا، أَرَادَ أَنَّهُمْ قَدَّدُوهُ فَأَكَلُوا مِنْهُ بَقِيَّة الشَّهْر قَدِيدًا. وَاللَّهُ أَعْلَم.
3577- قَوْله: «ثَابَتْ أَجْسَامنَا» أَيْ رَجَعَتْ إِلَى الْقُوَّة.
قَوْله: «فَأَخَذَ أَبُو عُبَيْدَة ضِلْعًا مِنْ أَضْلَاعه فَنَصَبَهُ» كَذَا هُوَ فِي النُّسَخ (فَنَصَبَهُ). وَفِي الرِّوَايَة الْأُولَى (فَأَقَامَهَا) فَأَنَّثَهَا وَهُوَ الْمَعْرُوف، وَوَجْه التَّذْكِير أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الْعُضْو.
قَوْله: «وَجَلَسَ فِي حَجَاج عَيْنه نَفَر» هُوَ بِحَاءٍ ثُمَّ جِيم مُخَفَّفَة، وَالْحَاء مَكْسُورَة وَمَفْتُوحَة، لُغَتَانِ مَشْهُورَتَانِ، وَهُوَ بِمَعْنَى وَقْب عَيْنه الْمَذْكُور فِي الرِّوَايَة السَّابِقَة، وَقَدْ شَرَحْنَاهُ.
قَوْله فِي الرِّوَايَة الْأُولَى: «فَأَقَمْنَا عَلَيْهِ شَهْرًا»، وَفِي الرِّوَايَة الثَّانِيَة: «فَأَكَلْنَا مِنْهَا نِصْف شَهْر»، وَفِي الثَّالِثَة: «فَأَكَلَ مِنْهَا الْجَيْش ثَمَانِي عَشْرَة لَيْلَة». طَرِيق الْجَمْع بَيْن الرِّوَايَات أَنَّ مَنْ رَوَى شَهْرًا هُوَ الْأَصْل، وَمَعَهُ زِيَادَة عِلْم، وَمَنْ رَوَى دُونه لَمْ يَنْفِ الزِّيَادَة، وَلَوْ نَفَاهَا قُدِّمَ الْمُثْبِت وَقَدْ قَدَّمْنَا مَرَّات أَنَّ الْمَشْهُور الصَّحِيح عِنْد الْأُصُولِيِّينَ أَنَّ مَفْهُوم الْعَدَد لَا حُكْم لَهُ، فَلَا يَلْزَم مِنْهُ نَفْي الزِّيَادَة لَوْ لَمْ يُعَارِضهُ إِثْبَات الزِّيَادَة، كَيْف وَقَدْ عَارَضَهُ؟ فَوَجَبَ قَبُول الزِّيَادَة، وَجَمَعَ الْقَاضِي بَيْنهمَا بِأَنَّ مَنْ قَالَ: نِصْف شَهْر، أَرَادَ أَكَلُوا مِنْهُ تِلْكَ الْمُدَّة طَرِيًّا، وَمَنْ قَالَ: شَهْرًا، أَرَادَ أَنَّهُمْ قَدَّدُوهُ فَأَكَلُوا مِنْهُ بَقِيَّة الشَّهْر قَدِيدًا. وَاللَّهُ أَعْلَم.
3578- قَوْله: «إِنَّ رَجُلًا نَحَرَ ثَلَاث جَزَائِر ثُمَّ ثَلَاثًا ثُمَّ ثَلَاثًا ثُمَّ نَهَاهُ أَبُو عُبَيْدَة» وَهَذَا الرَّجُل الَّذِي نَحَرَ الْجَزَائِر هُوَ قَيْس بْن سَعْد بْن عُبَادَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ.
3580- قَوْله: «فَجَمَعَ أَبُو عُبَيْدَة زَادَنَا فِي مِزْوَد فَكَانَ يُقَوِّتُنَا» هَذَا مَحْمُول عَلَى أَنَّهُ جَمَعَهُ بِرِضَاهُمْ، وَخَلَطَهُ لِيُبَارَك لَهُمْ، كَمَا فَعَلَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ فِي مَوَاطِن، وَكَمَا كَانَ الْأَشْعَرِيُّونَ يَفْعَلُونَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِمْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ، وَقَدْ قَالَ أَصْحَابنَا وَغَيْرهمْ مِنْ الْعُلَمَاء: يُسْتَحَبّ لِلرُّفْقَةِ مِنْ الْمُسَافِرِينَ خَلْط أَزْوَادهمْ لِيَكُونَ أَبْرَك وَأَحْسَن فِي الْعِشْرَة، وَأَلَّا يَخْتَصّ بَعْضهمْ بِأَكْلٍ دُون بَعْض. وَاللَّهُ أَعْلَم.
قَوْله: «سِيف الْبَحْر» هُوَ بِكَسْرِ السِّين وَإِسْكَان الْمُثَنَّاة تَحْت وَهُوَ سَاحِله، كَمَا قَالَ فِي الرِّوَايَتَيْنِ قَبْله.
قَوْله: (وَحَدَّثَنَا حَجَّاج بْن الشَّاعِر وَذَكَرَ فِي هَذَا الْإِسْنَاد أَخْبَرْنَا أَبُو الْمُنْذِر الْقَزَّاز) هَكَذَا هُوَ فِي نُسَخ بِلَادنَا (الْقَزَّاز بِالْقَافِ)، وَفِي أَكْثَرهَا (الْبَزَّاز) بِالْبَاءِ وَذَكَرَ الْقَاضِي أَيْضًا اِخْتِلَاف الرُّوَاة فيه، وَالْأَشْهَر بِالْقَافِ، وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ السَّمْعَانِيّ فِي الْأَنْسَاب وَآخَرُونَ، وَذَكَرَهُ خَلَف الْوَاسِطِيُّ فِي الْأَطْرَاف بِالْبَاءِ عَنْ رِوَايَة مُسْلِم، لَكِنْ عَلَيْهِ تَضْبِيب فَلَعَلَّهُ يُقَال بِالْوَجْهَيْنِ، فَالْقَزَّاز بَزَّاز، وَأَبُو الْمُنْذِر هُوَ اِسْمه إِسْمَاعِيل بْن حُسَيْن بْن الْمُثَنَّى، كَذَا سَمَّاهُ أَحْمَد بْن حَنْبَل فِيمَا ذَكَرَهُ اِبْن أَبِي حَاتِم فِي كِتَابه، وَاقْتَصَرَ الْجُمْهُور عَلَى أَنَّهُ إِسْمَاعِيل بْن عُمَر، قَالَ أَبُو حَاتِم: هُوَ صَدُوق، وَأَمَرَ أَحْمَد بْن حَنْبَل بِالْكِتَابَةِ عَنْهُ وَهُوَ مِنْ أَفْرَاد مُسْلِم.