فصل: باب جَوَازِ اشْتِرَاطِ الْمُحْرِمِ التَّحَلُّلَ بِعُذْرِ الْمَرَضِ وَنَحْوِهِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج المشهور بـ «شرح النووي على مسلم»



.(بَاب مَا يُنْدَب لِلْمُحْرِمِ وَغَيْره قَتْله مِنْ الدَّوَابّ فِي الْحِلّ وَالْحَرَم):

قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خَمْس فَوَاسِق يُقْتَلْنَ فِي الْحِلّ وَالْحَرَم: الْحَيَّة وَالْغُرَاب الْأَبْقَع وَالْفَأْرَة وَالْكَلْب الْعَقُور وَالْحُدَيَّا». وَفِي رِوَايَة: «الْحِدَأَة». وَفِي رِوَايَة: «الْعَقْرَب» بَدَل: «الْحَيَّة»، وَفِي الرِّوَايَة الْأُولَى: «أَرْبَع» بِحَذْفِ الْحَيَّة وَالْعَقْرَب، فَالْمَنْصُوص عَلَيْهِ السِّتّ. وَاتَّفَقَ جَمَاهِير الْعُلَمَاء عَلَى جَوَاز قَتْلهنَّ فِي الْحِلّ وَالْحَرَم وَالْإِحْرَام، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ يَجُوز لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَقْتُل مَا فِي مَعْنَاهُنَّ، ثُمَّ اِخْتَلَفُوا فِي الْمَعْنَى فيهنَّ، وَمَا يَكُون فِي مَعْنَاهُنَّ، فَقَالَ الشَّافِعِيّ: الْمَعْنَى فِي جَوَاز قَتْلهنَّ كَوْنهنَّ مِمَّا لَا يُؤْكَل، وَكُلّ مَا لَا يُؤْكَل وَلَا هُوَ مُتَوَلِّد مِنْ مَأْكُول وَغَيْره فَقَتْله جَائِز لِلْمُحْرِمِ، وَلَا فِدْيَة عَلَيْهِ، وَقَالَ مَالِك: الْمَعْنَى فيهنَّ كَوْنهنَّ مُؤْذِيَات، فَكُلّ مُؤْذٍ يَجُوز لِلْمُحْرِمِ قَتْله، وَمَا لَا فَلَا. وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي الْمُرَاد بِالْكَلْبِ الْعَقُور فَقِيلَ: هُوَ الْكَلْب الْمَعْرُوف، وَقِيلَ: كُلّ مَا يَفْتَرِس؛ لِأَنَّ كُلّ مُفْتَرِس مِنْ السِّبَاع يُسَمَّى كَلْبًا عَقُورًا فِي اللُّغَة.
وَأَمَّا تَسْمِيَة هَذِهِ الْمَذْكُورَات فَوَاسِق فَصَحِيحَة جَارِيَة عَلَى وَفْق اللُّغَة، وَأَصْل الْفِسْق فِي كَلَام الْعَرَب: الْخُرُوج، وَسُمِّيَ الرَّجُل الْفَاسِق لِخُرُوجِهِ عَنْ أَمْر اللَّه تَعَالَى وَطَاعَته، فَسُمِّيَتْ هَذِهِ فَوَاسِق لِخُرُوجِهَا بِالْإِيذَاءِ وَالْإِفْسَاد عَنْ طَرِيق مُعْظَم الدَّوَابّ، وَقِيلَ: لِخُرُوجِهَا عَنْ حُكْم الْحَيَوَان فِي تَحْرِيم قَتْله فِي الْحَرَم وَالْإِحْرَام، وَقِيلَ: فيها لِأَقْوَالٍ أُخَر ضَعِيفَة لَا نَعْتَنِيهَا.
وَأَمَّا: «الْغُرَاب الْأَبْقَع» فَهُوَ الَّذِي فِي ظَهْره وَبَطْنه بَيَاض، وَحَكَى السَّاجِيُّ عَنْ النَّخَعِيِّ أَنَّهُ لَا يَجُوز لِلْمُحْرِمِ قَتْل الْفَأْرَة، وَحُكِيَ غَيْره عَنْ عَلِيّ وَمُجَاهِد أَنَّهُ لَا يُقْتَل الْغُرَاب، وَلَكِنْ يُرْمَى، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ عَنْ عَلِيّ. وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاء عَلَى جَوَاز قَتْل الْكَلْب الْعَقُور لِلْمُحْرِمِ وَالْحَلَال فِي الْحِلّ وَالْحَرَم، وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُرَاد بِهِ، فَقِيلَ: هَذَا الْكَلْب الْمَعْرُوف خَاصَّة، حَكَاهُ الْقَاضِي عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَة وَالْحَسَن بْن صَالِح، وَأَلْحَقُوا بِهِ الذِّئْب، وَحَمَلَ زُفَر مَعْنَى الْكَلْب عَلَى الذِّئْب وَحْده، وَقَالَ جُمْهُور الْعُلَمَاء: لَيْسَ الْمُرَاد بِالْكَلْبِ الْعَقُور تَخْصِيص هَذَا الْكَلْب الْمَعْرُوف، بَلْ الْمُرَاد هُوَ كُلّ عَادٍ مُفْتَرِس غَالِبًا كَالسَّبُعِ وَالنَّمِر وَالذِّئْب وَالْفَهْد وَنَحْوهَا، وَهَذَا قَوْل زَيْد بْن أَسْلَمَ وَسُفْيَان الثَّوْرِيّ وَابْن عُيَيْنَةَ وَالشَّافِعِيّ وَأَحْمَد وَغَيْرهمْ، وَحَكَاهُ الْقَاضِي عِيَاض عَنْهُمْ وَعَنْ جُمْهُور الْعُلَمَاء وَمَعْنَى: «الْعَقُور» و«الْعَاقِر»: الْجَارِح، وَأَمَّا: «الْحِدَأَة» فَمَعْرُوفَة وَهِيَ بِكَسْرِ الْحَاء مَهْمُوزَة، وَجَمْعهَا (حِدَأ) بِكَسْرِ الْحَاء مَقْصُور مَهْمُوز كَعِنَبَةِ وَعِنَب، وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: «الْحُدَيَّا» بِضَمِّ الْحَاء وَفَتْح الدَّال وَتَشْدِيد الْيَاء مَقْصُور، قَالَ الْقَاضِي: قَالَ ثَابِت: الْوَجْه فيه الْهَمْز عَلَى مَعْنَى التَّذْكِير، وَإِلَّا فَحَقِيقَته (حُدَيَّة)، وَكَذَا قَيَّدَهُ الْأَصِيلِيّ فِي صَحِيح الْبُخَارِيّ فِي مَوْضِع، أَو: (الْحُدَيَّة) عَلَى التَّسْهِيل وَالْإِدْغَام، وَقَوْله فِي الْحَيَّة: «تُقْتَل بِصُغْر لَهَا» هُوَ بِضَمِّ الصَّاد أَيْ بِمَذَلَّةٍ وَإِهَانَة.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خَمْس فَوَاسِق» هُوَ بِتَنْوِينِ خَمْس. وَقَوْله: «بِقَتْلِ خَمْس فَوَاسِق» بِإِضَافَةِ خَمْس لَا بِتَنْوِينِهِ.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رِوَايَة زُهَيْر: «خَمْس لَا جُنَاح عَلَى مَنْ قَتَلَهُنَّ فِي الْحَرَم وَالْإِحْرَام» اِخْتَلَفُوا فِي ضَبْط (الْحَرَم) هُنَا فَضَبَطَهُ جَمَاعَة مِنْ الْمُحَقِّقِينَ بِفَتْحِ الْحَاء وَالرَّاء. أَيْ الْحَرَم الْمَشْهُور، وَهُوَ حَرَم مَكَّة. وَالثَّانِي بِضَمِّ الْحَاء وَالرَّاء، وَلَمْ يَذْكُر الْقَاضِي عِيَاض فِي الْمَشَارِق غَيْره، قَالَ: وَهُوَ جَمْع (حَرَام) كَمَا قَالَ اللَّه تَعَالَى: {وَأَنْتُمْ حُرُم}.
قَالَ: وَالْمُرَاد بِهِ الْمَوَاضِع الْمُحَرَّمَة، وَالْفَتْح أَظْهَر. وَاَللَّه أَعْلَم. وَفِي هَذِهِ الْأَحَادِيث دَلَالَة لِلشَّافِعِيِّ وَمُوَافِقِيهِ فِي أَنَّهُ يَجُوز أَنْ يُقْتَل فِي الْحَرَم كُلّ مَنْ يَجِب عَلَيْهِ قَتْلٌ بِقِصَاصٍ أَوْ رَجْم بِالزِّنَا أَوْ قَتْل فِي الْمُحَارَبَة وَغَيْر ذَلِكَ، وَأَنَّهُ يَجُوز إِقَامَة كُلّ الْحُدُود فيه، سَوَاء كَانَ مُوجَب الْقَتْل وَالْحَدّ جَرَى فِي الْحَرَم أَوْ خَارِجه، ثُمَّ لَجَأَ صَاحِبه إِلَى الْحَرَم، وَهَذَا مَذْهَب مَالِك وَالشَّافِعِيّ وَآخَرِينَ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة وَطَائِفَة: مَا اِرْتَكَبَهُ مِنْ ذَلِكَ فِي الْحَرَم يُقَام عَلَيْهِ فيه، وَمَا فَعَلَهُ خَارِجه ثُمَّ لَجَأَ إِلَيْهِ إِنْ كَانَ إِتْلَاف نَفْس لَمْ يُقَمْ عَلَيْهِ فِي الْحَرَم، بَلْ يُضَيَّق عَلَيْهِ وَلَا يُكَلَّم وَلَا يُجَالَس وَلَا يُبَايَع حَتَّى يُضْطَرّ إِلَى الْخُرُوج مِنْهُ فَيُقَام عَلَيْهِ خَارِجه، وَمَا كَانَ دُون النَّفْس يُقَام فيه، قَالَ الْقَاضِي: وَرُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس وَعَطَاء وَالشَّعْبِيّ وَالْحَكَم نَحْوه لَكِنَّهُمْ لَمْ يُفَرِّقُوا بَيْن النَّفْس وَدُونهَا، وَحُجَّتهمْ ظَاهِر قَوْل اللَّه تَعَالَى: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} وَحُجَّتنَا عَلَيْهِمْ هَذِهِ الْأَحَادِيث لِمُشَارَكَةِ فَاعِل الْجِنَايَة لِهَذِهِ الدَّوَابّ فِي اِسْم الْفِسْق، بَلْ فِسْقه أَفْحَش، لِكَوْنِهِ مُكَلَّفًا، وَلِأَنَّ التَّضْيِيق الَّذِي ذَكَرُوهُ لَا يَبْقَى لِصَاحِبِهِ أَمَان، فَقَدْ خَالَفُوا ظَاهِر مَا فَسَّرُوا بِهِ الْآيَة، قَالَ الْقَاضِي: وَمَعْنَى الْآيَة عِنْدنَا وَعِنْد أَكْثَر الْمُفَسِّرِينَ: أَنَّهُ إِخْبَار عَمَّا كَانَ قَبْل الْإِسْلَام، وَعَطَفَهُ عَلَى مَا قَبْله مِنْ الْآيَات، وَقِيلَ: آمِنٌ مِنْ النَّار، وَقَالَتْ طَائِفَة: يُخْرَج وَيُقَام عَلَيْهِ الْحَدّ، وَهُوَ قَوْل اِبْن الزُّبَيْر وَالْحَسَن وَمُجَاهِد وَحَمَّاد. وَاَللَّه أَعْلَم.
2068- سبق شرحه بالباب.
2069- سبق شرحه بالباب.
2070- سبق شرحه بالباب.
2071- سبق شرحه بالباب.
2072- سبق شرحه بالباب.
2073- سبق شرحه بالباب.
2074- سبق شرحه بالباب.
2075- سبق شرحه بالباب.
2076- سبق شرحه بالباب.
2077- سبق شرحه بالباب.
2078- سبق شرحه بالباب.
2079- سبق شرحه بالباب.

.(بَاب جَوَاز حَلْق الرَّأْس لِلْمُحْرِمِ إِذَا كَانَ بِهِ أَذًى وَوُجُوب الْفِدْيَة لِحَلْقِهِ وَبَيَان قَدْرهَا):

قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَتُؤْذِيك هَوَامّ رَأْسك؟ قَالَ: نَعَمْ قَالَ: فَاحْلِقْ وَصُمْ ثَلَاثَة أَيَّام أَوْ أَطْعِمْ سِتَّة مَسَاكِين أَوْ اُنْسُكْ نَسِيكَة»، وَفِي رِوَايَة: «فَأَمَرَنِي بِفِدْيَةٍ مِنْ صِيَام أَوْ صَدَقَة أَوْ نُسُك مَا تَيَسَّرَ».
وَفِي رِوَايَة: «صُمْ ثَلَاثَة أَيَّام أَوْ تَصَدَّقْ بِفَرَقٍ بَيْن سِتَّة، أَوْ اُنْسُكْ مَا تَيَسَّرَ».
وَفِي رِوَايَة: «وَأَطْعِمْ فَرَقًا بَيْن سِتَّة مَسَاكِين»- وَالْفَرَق: ثَلَاثَة آصُعٍ- أَوْ صُمْ ثَلَاثَة أَيَّام أَوْ اُنْسُكْ نَسِيكَة، وَفِي رِوَايَة: «أَوْ اِذْبَحْ شَاة» وَفِي رِوَايَة: «أَوْ أَطْعِمْ ثَلَاثَة آصُعٍ مِنْ تَمْر عَلَى سِتَّة مَسَاكِين» وَفِي رِوَايَة: «قَالَ: صَوْم ثَلَاثَة أَيَّام أَوْ إِطْعَام سِتَّة مَسَاكِين نِصْف صَاع طَعَامًا لِكُلِّ مِسْكِين»، وَفِي رِوَايَة: «قَالَ: هَلْ عِنْدك نُسُك؟ قَالَ: مَا أَقْدِر عَلَيْهِ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَصُوم ثَلَاثَة أَيَّام أَوْ يُطْعِم سِتَّة مَسَاكِين لِكُلِّ مِسْكِينَيْنِ صَاع».
هَذِهِ رِوَايَات الْبَاب، وَكُلّهَا مُتَّفِقَة فِي الْمَعْنَى، وَمَقْصُودهَا أَنَّ مَنْ اِحْتَاجَ إِلَى حَلْق الرَّأْس لِضَرَرٍ مِنْ قَمْل أَوْ مَرَض أَوْ نَحْوهمَا، فَلَهُ حَلْقه فِي الْإِحْرَام وَعَلَيْهِ الْفِدْيَة.
قَالَ اللَّه تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسه فَفِدْيَة مِنْ صِيَام أَوْ صَدَقَة أَوْ نُسُك} وَبَيَّنَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الصِّيَام ثَلَاثَة أَيَّام، وَالصَّدَقَة ثَلَاثَة آصُعٍ لِسِتَّةِ مَسَاكِين، لِكُلِّ مِسْكِين نِصْف صَاع، وَالنُّسُك: شَاة، وَهِيَ شَاة تُجْزِئ فِي الْأُضْحِيَّة، ثُمَّ إِنَّ الْآيَة الْكَرِيمَة وَالْأَحَادِيث مُتَّفِقَة عَلَى أَنَّهُ مُخَيَّر بَيْن هَذِهِ الْأَنْوَاع الثَّلَاثَة، وَهَكَذَا الْحُكْم عِنْد الْعُلَمَاء أَنَّهُ مُخَيَّر بَيْن الثَّلَاثَة، وَأَمَّا قَوْله فِي رِوَايَة: «هَلْ عِنْدك نُسُك؟ قَالَ: مَا أَقْدِر عَلَيْهِ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَصُوم ثَلَاثَة أَيَّام» فَلَيْسَ الْمُرَاد بِهِ أَنَّ الصَّوْم لَا يَجْزِي إِلَّا لِعَادِمِ الْهَدْي، بَلْ هُوَ مَحْمُول عَلَى أَنَّهُ سَأَلَ عَنْ النُّسُك، فَإِنْ وَجَدَهُ أَخْبَرَهُ بِأَنَّهُ مُخَيَّر بَيْنه وَبَيْن الصِّيَام وَالْإِطْعَام، وَإِنْ عَدِمَهُ فَهُوَ مُخَيَّر بَيْن الصِّيَام وَالْإِطْعَام، وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاء عَلَى الْقَوْل بِظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيث إِلَّا مَا حُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَة وَالثَّوْرِيِّ أَنَّ نِصْف الصَّاع لِكُلِّ مِسْكِين إِنَّمَا هُوَ فِي الْحِنْطَة، فَأَمَّا التَّمْر وَالشَّعِير وَغَيْرهمَا فَيَجِب صَاع لِكُلِّ مِسْكِين، وَهَذَا خِلَاف نَصّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الْحَدِيث: «ثَلَاثَة آصُعٍ مِنْ تَمْر»، وَعَنْ أَحْمَد بْن حَنْبَل رِوَايَة: أَنَّهُ لِكُلِّ مِسْكِين مُدّ مِنْ حِنْطَة أَوْ نِصْف صَاع مِنْ غَيْره، وَعَنْ الْحَسَن الْبَصْرِيّ وَبَعْض السَّلَف أَنَّهُ يَجِب إِطْعَام عَشَرَة مَسَاكِين، أَوْ صَوْم عَشَرَة أَيَّام، وَهَذَا ضَعِيف مُنَابِذ لِلسُّنَّةِ مَرْدُود.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اُنْسُكْ نَسِيكَة»، وَفِي رِوَايَة: «مَا تَيَسَّرَ»، وَفِي رِوَايَة: «شَاة» الْجَمِيع بِمَعْنًى وَاحِد، وَهُوَ شَاة وَشَرْطهَا أَنْ تُجْزِئ فِي الْأُضْحِيَّة، وَيُقَال لِلشَّاةِ وَغَيْرهَا مِمَّا يُجْزِئ فِي الْأُضْحِيَّة: «نَسِيكَة» وَيُقَال: نَسَكَ يَنْسُك وَيَنْسِك بِضَمِّ السِّين وَكَسْرهَا فِي الْمُضَارِع وَالضَّمّ أَشْهَر.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هَوَامّ رَأْسك» أَيْ الْقَمْل.
قَوْله: (كَعْب بْن عُجْرَة) بِضَمِّ الْعَيْن وَإِسْكَان الْجِيم.
قَوْله: «وَرَأْسه يَتَهَافَت قَمْلًا» أَيْ يَتَسَاقَط وَيَتَنَاثَر.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَصَدَّقَ بِفَرَقٍ» هُوَ بِفَتْحِ الرَّاء وَإِسْكَانهَا، لُغَتَانِ وَفَسَّرَهُ فِي الرِّوَايَة الثَّانِيَة بِثَلَاثَةِ آصُعٍ، وَهَكَذَا هُوَ، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانه وَاضِحًا فِي كِتَاب الطَّهَارَة.
قَوْله: «فَقَمِلَ رَأْسه» هُوَ بِفَتْحِ الْقَاف وَكَسْر الْمِيم أَيْ كَثُرَ قَمْله.
2080- سبق شرحه بالباب.
2081- سبق شرحه بالباب.
2082- سبق شرحه بالباب.
2083- سبق شرحه بالباب.
2084- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هَوَامّ رَأَسَك» أَيْ الْقَمْل.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَوْ أَطْعِمْ ثَلَاثَة آصُعٍ مِنْ تَمْر عَلَى سِتَّة مَسَاكِين» مَعْنَاهُ: مَقْسُومَة عَلَى سِتَّة مَسَاكِين، و«الْآصُع» جَمْع: «صَاع» وَفِي الصَّاع لُغَتَانِ: التَّذْكِير وَالتَّأْنِيث، وَهُوَ مِكْيَال يَسْعَ خَمْسَة أَرْطَال وَثُلُثًا بِالْبَغْدَادِيِّ، هَذَا مَذْهَب مَالِك وَالشَّافِعِيّ وَأَحْمَد وَجَمَاهِير الْعُلَمَاء، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة: يَسَع ثَمَانِيَة أَرْطَال، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الصَّاع أَرْبَعَة أَمْدَاد، وَهَذَا الَّذِي قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّ الْآصُع جَمْع صَاع صَحِيح، وَقَدْ ثَبَتَ اِسْتِعْمَال الْآصُع فِي هَذَا الْحَدِيث الصَّحِيح مِنْ كَلَام رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَذَلِكَ هُوَ مَشْهُور فِي كَلَام الصَّحَابَة وَالْعُلَمَاء بَعْدهمْ؛ وَفِي كُتُب اللُّغَة وَكُتُب النَّحْو وَالتَّصْرِيف، وَلَا خِلَاف فِي جَوَازه وَصِحَّته، وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ اِبْن مَكِّيّ فِي كِتَابه: تَثْقِيف اللِّسَان أَنَّ قَوْلهمْ فِي جَمْع الصَّاع: آصُعٌ لَحْن مِنْ خَطَأ الْعَوَامّ، وَأَنَّ صَوَابه (أَصُوع) فَغَلَط مِنْهُ وَذُهُول، وَعَجَب قَوْله هَذَا مَعَ اِشْتِهَار اللَّفْظَة فِي كُتُب الْحَدِيث وَاللُّغَة الْعَرَبِيَّة، وَأَجْمَعُوا عَلَى صِحَّتهَا، وَهُوَ مِنْ بَاب الْمَقْلُوب، قَالُوا: فَيَجُوز فِي جَمْع صَاع آصُعٌ، وَفِي دَار آدُر، وَهُوَ بَاب مَعْرُوف فِي كُتُب الْعَرَبِيَّة؛ لِأَنَّ فَاء الْكَلِمَة فِي آصُعٍ صَاد وَعَيْنهَا وَاو، فَقُلِبَتْ الْوَاو هَمْزَة، وَنُقِلَتْ إِلَى مَوْضِع الْفَاء، ثُمَّ قُلِبَتْ الْهَمْزَة أَلِفًا حِين اِجْتَمَعَتْ هِيَ وَهَمْزَة الْجَمْع فَصَارَ (آصُعًا)، وَوَزْنه عِنْدهمْ: أَعْفُل، وَكَذَلِكَ الْقَوْل فِي آدُرّ وَنَحْوه.
2085- سبق شرحه بالباب.
2086- سبق شرحه بالباب.

.باب جَوَازِ الْحِجَامَةِ لِلْمُحْرِمِ:

2088- قَوْله: «أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اِحْتَجَمَ بِطَرِيقِ مَكَّة وَهُوَ مُحْرِم وَسَط رَأْسه» وَسَط الرَّأْس بِفَتْحِ السِّين، قَالَ أَهْل اللُّغَة: كُلّ مَا كَانَ يُبَيِّن بَعْضه مِنْ بَعْض كَوَسْطِ الصَّفّ وَالْقِلَادَة وَالسُّبْحَة وَحَلْقَة النَّاس وَنَحْو ذَلِكَ فَهُوَ: وَسْط، بِالْإِسْكَانِ، وَمَا كَانَ مُصْمَتًا لَا يَبِين بَعْضه مِنْ بَعْض كَالدَّارِ وَالسَّاحَة وَالرَّأْس وَالرَّاحَة فَهُوَ: وَسَط، بِفَتْحِ السِّين، قَالَ الْأَزْهَرِيّ وَالْجَوْهَرِيّ وَغَيْرهمَا: وَقَدْ أَجَازُوا فِي الْمَفْتُوح الْإِسْكَان، وَلَمْ يُجِيزُوا فِي السَّاكِن الْفَتْح.
وَفِي هَذَا الْحَدِيث دَلِيل لِجَوَازِ الْحِجَامَة لِلْمُحْرِمِ، وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاء عَلَى جَوَازهَا لَهُ فِي الرَّأْس وَغَيْره إِذَا كَانَ لَهُ عُذْر فِي ذَلِكَ وَإِنْ قَطَعَ الشَّعْر حِينَئِذٍ لَكِنْ عَلَيْهِ الْفِدْيَة؛ لِقَطْعِ الشَّعْر، فَإِنْ لَمْ يَقْطَع فَلَا فِدْيَة عَلَيْهِ، وَدَلِيل الْمَسْأَلَة قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسه فَفِدْيَة} الْآيَة، وَهَذَا الْحَدِيث مَحْمُول عَلَى أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ لَهُ عُذْر فِي الْحِجَامَة فِي وَسَط الرَّأْس؛ لِأَنَّهُ لَا يَنْفَكّ عَنْ قَطْع شَعْر، أَمَّا إِذَا أَرَادَ الْمُحْرِم الْحِجَامَة لِغَيْرِ حَاجَة، فَإِنْ تَضَمَّنَتْ قَلْع شَعْر فَهِيَ حَرَام لِتَحْرِيمِ قَطْع الشَّعْر، وَإِنْ لَمْ تَتَضَمَّن ذَلِكَ بِأَنْ كَانَتْ فِي مَوْضِع لَا شَعْر فيه، فَهِيَ جَائِزَة عِنْدنَا وَعِنْد الْجُمْهُور وَلَا فِدْيَة فيها، وَعَنْ اِبْن عُمَر وَمَالِك كَرَاهَتهَا، وَعَنْ الْحَسَن الْبَصْرِيّ فيها الْفِدْيَة، دَلِيلنَا أَنَّ إِخْرَاج الدَّم لَيْسَ حَرَامًا فِي الْإِحْرَام.
وَفِي هَذَا الْحَدِيث بَيَان قَاعِدَة مِنْ مَسَائِل الْإِحْرَام، وَهِيَ أَنَّ الْحَلْق وَاللِّبَاس وَقَتْل الصَّيْد وَنَحْو ذَلِكَ مِنْ الْمُحَرَّمَات، يُبَاح لِلْحَاجَةِ وَعَلَيْهِ الْفِدْيَة، كَمَنْ اِحْتَاجَ إِلَى حَلْق أَوْ لِبَاس لِمَرَضٍ أَوْ حَرّ أَوْ بَرْد أَوْ قَتْل صَيْد لِلْحَاجَةِ وَغَيْر ذَلِكَ. وَاَللَّه اِعْلَمْ.

.باب جَوَازِ مُدَاوَاةِ الْمُحْرِمِ عَيْنَيْهِ:

2089- قَوْله: (عَنْ نُبَيْه بْن وَهْب) هُوَ بِنُونٍ مَضْمُومَة ثُمَّ بَاء مَفْتُوحَة مُوَحَّدَة ثُمَّ مُثَنَّاة تَحْت سَاكِنَة.
قَوْله: (مَعَ أَبَان بْن عُثْمَان) قَدْ سَبَقَ فِي أَوَّل الْكِتَاب أَنَّ فِي (أَبَان) وَجْهَيْنِ الصَّرْف وَعَدَمه، وَالصَّحِيح الْأَشْهَر الصَّرْف، فَمَنْ صَرَفَهُ قَالَ: وَزْنه (فَعَال) وَمَنْ مَنَعَهُ قَالَ: هُو: (أَفْعَل).
قَوْله: (حَتَّى إِذَا كُنَّا بِمَلَلٍ) هُوَ بِفَتْحِ الْمِيم بِلَامَيْنِ، وَهُوَ مَوْضِع عَلَى ثَمَانِيَة وَعِشْرِينَ مِيلًا مِنْ الْمَدِينَة، وَقِيلَ: اِثْنَانِ وَعِشْرُونَ، حَكَاهُمَا الْقَاضِي عِيَاض فِي الْمَشَارِق.
قَوْله: (اِضْمِدْهُمَا بِالصَّبِرِ) هُوَ بِكَسْرِ الْمِيم، وَقَوْله بَعْده: (ضَمَّدَهُمَا بِالصَّبِرِ) هُوَ بِتَخْفِيفِ الْمِيم وَتَشْدِيدهَا، يُقَال: ضَمَّدَ وَضَمَدَ بِالتَّخْفِيفِ وَالتَّشْدِيد، وَقَوْله: (اِضْمِدْهَا بِالصَّبِرِ)، جَاءَ عَلَى لُغَة التَّخْفِيف، مَعْنَاهُ اللَّطْخ، وَأَمَّا الصَّبِر فَبِكَسْرِ الْبَاء وَيَجُوز إِسْكَانهَا.
وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاء عَلَى جَوَاز تَضْمِيد الْعَيْن وَغَيْرهَا بِالصَّبِرِ وَنَحْوه مِمَّا لَيْسَ بِطِيبٍ، وَلَا فِدْيَة فِي ذَلِكَ، فَإِنْ اِحْتَاجَ إِلَى مَا فيه طِيب جَازَ لَهُ فِعْله وَعَلَيْهِ الْفِدْيَة، وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَكْتَحِل بِكُحْلٍ لَا طِيب فيه إِذَا اِحْتَاجَ إِلَيْهِ وَلَا فِدْيَة عَلَيْهِ فيه، وَأَمَّا الِاكْتِحَال لِلزِّينَةِ فَمَكْرُوه عِنْد الشَّافِعِيّ وَآخَرِينَ، وَمَنَعَهُ جَمَاعَة مِنْهُمْ أَحْمَد وَإِسْحَاق، وَفِي مَذْهَب مَالِك قَوْلَانِ كَالْمَذْهَبَيْنِ، وَفِي إِيجَاب الْفِدْيَة عِنْدهمْ بِذَلِكَ خِلَاف. وَاَللَّه أَعْلَم.

.(بَاب جَوَاز غَسْل الْمُحْرِم بَدَنه وَرَأْسه):

ذَكَرَ فِي الْبَاب حَدِيث اِبْن حُنَيْنٍ أَنَّ اِبْن عَبَّاس وَالْمِسْوَر اِخْتَلَفَا، فَقَالَ اِبْن عَبَّاس: لِلْمُحْرِمِ غَسْل رَأْسه، وَخَالَفَهُ الْمِسْوَر، وَأَنَّ اِبْن عَبَّاس أَرْسَلَهُ إِلَى أَبِي أَيُّوب يَسْأَلهُ عَنْ ذَلِكَ فَوَجَدَهُ يَغْتَسِل بَيْن الْقَرْنَيْنِ، وَهُوَ يَسْتَتِر بِثَوْبٍ، قَالَ: فَسَلَّمْت عَلَيْهِ، فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ فَقُلْت: أَنَا عَبْد اللَّه بْن حُنَيْنٍ أَرْسَلَنِي إِلَيْك عَبْد اللَّه بْن عَبَّاس أَسْأَلك: كَيْف كَانَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَغْسِل رَأْسه وَهُوَ مُحْرِم؟ فَوَضَعَ أَبُو أَيُّوب يَده عَلَى الثَّوْب فَطَأْطَأَهُ حَتَّى بَدَا لِي رَأْسه، ثُمَّ قَالَ لِإِنْسَانٍ يَصُبّ عَلَيْهِ: اُصْبُبْ. فَصَبَّ عَلَى رَأْسه ثُمَّ حَرَّكَ رَأْسه بِيَدَيْهِ فَأَقْبَلَ بِهِمَا وَأَدْبَرَ ثُمَّ قَالَ: هَكَذَا رَأَيْته صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَل.
قَوْله: (بَيْن الْقَرْنَيْنِ) هُوَ بِفَتْحِ الْقَاف تَثْنِيَة (قَرْن) وَهُمَا الْخَشَبَتَانِ الْقَائِمَتَانِ عَلَى رَأْس الْبِئْر وَشِبْهَهمَا مِنْ الْبِنَاء، وَتُمَدّ بَيْنهمَا خَشَبَة يُجَرّ عَلَيْهَا الْحَبْل الْمُسْتَقَى بِهِ، وَتُعَلَّق عَلَيْهَا الْبَكَرَة.
وَفِي هَذَا الْحَدِيث فَوَائِد مِنْهَا: جَوَاز اِغْتِسَال الْمُحْرِم وَغَسْله رَأْسه، وَإِمْرَار الْيَد عَلَى شَعْره بِحَيْثُ لَا يَنْتِف شَعْرًا. وَمِنْهَا: قَبُول خَبَر الْوَاحِد، وَأَنَّ قَبُوله كَانَ مَشْهُورًا عِنْد الصَّحَابَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ. وَمِنْهَا: الرُّجُوع إِلَى النَّصّ عِنْد الِاخْتِلَاف وَتَرْك الِاجْتِهَاد وَالْقِيَاس عِنْد وُجُود النَّصّ. وَمِنْهَا: السَّلَام عَلَى الْمُتَطَهِّر فِي وُضُوء وَغُسْل، بِخِلَافِ الْجَالِس عَلَى الْحَدَث. وَمِنْهَا: جَوَاز الِاسْتِعَانَة فِي الطَّهَارَة، وَلَكِنْ الْأَوْلَى تَرْكهَا إِلَّا لِحَاجَةٍ، وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاء عَلَى جَوَاز غَسْل الْمُحْرِم رَأْسه وَجَسَده مِنْ الْجَنَابَة، بَلْ هُوَ وَاجِب عَلَيْهِ، وَأَمَّا غَسْله تَبَرُّدًا مَذْهَبنَا وَمَذْهَب الْجُمْهُور: جَوَازه بِلَا كَرَاهَة، وَيَجُوز عِنْدنَا غَسْل رَأْسه بِالسِّدْرِ وَالْخَطْمِيّ، بِحَيْثُ لَا يَنْتِف شَعْرًا فَلَا فِدْيَة عَلَيْهِ مَا لَمْ يَنْتِف شَعْرًا، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة وَمَالِك: هُوَ حَرَام مُوجِب لِلْفِدْيَةِ.

.(بَاب مَا يُفْعَل بِالْمُحْرِمِ إِذَا مَاتَ):

فيه حَدِيث اِبْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: «أَنَّ رَجُلًا خَرَّ مِنْ بَعِيره وَهُوَ وَاقِف مَعَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَرَفَة فَوُقِصَ فَمَاتَ فَقَالَ: اِغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْر وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْهِ وَلَا تُخَمِّرُوا رَأْسه، فَإِنَّ اللَّه يَبْعَثهُ يَوْم الْقِيَامَة مُلَبِّيًا». وَفِي رِوَايَة: «وَقَعَ مِنْ رَاحِلَته فَأَوْقَصَتْهُ» أَوْ قَالَ: «فَأَقْعَصَتْهُ»، وَفِي رِوَايَة: «فَوَقَصَتْهُ»، وَفِي رِوَايَة: «وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْنِ وَلَا تُحَنِّطُوهُ وَلَا تُخَمِّرُوا رَأْسه، فَإِنَّهُ يُبْعَث يَوْم الْقِيَامَة يُلَبِّي»، وَفِي رِوَايَة: «لَا تُخَمِّرُوا وَجْهه وَلَا رَأْسه»، وَفِي رِوَايَة: «فَإِنَّهُ يُبْعَث يَوْم الْقِيَامَة مُلَبِّدًا».
فِي هَذِهِ الرِّوَايَات دَلَالَة بَيِّنَة لِمَذْهَبِ الشَّافِعِيّ وَأَحْمَد وَإِسْحَاق وَمُوَافِقِيهِمْ فِي أَنَّ الْمُحْرِم إِذَا مَاتَ لَا يَجُوز أَنْ يَلْبَس الْمَخِيط، وَلَا تُخَمَّر رَأْسه، وَلَا يَمَسّ طِيبًا، وَقَالَ مَالِك وَالْأَوْزَاعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَة وَغَيْرهمْ: يُفْعَل بِهِ مَا يُفْعَل بِالْحَيِّ، وَهَذَا الْحَدِيث رَادّ لِقَوْلِهِمْ.
وَقَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَإِنَّهُ يُبْعَث يَوْم الْقِيَامَة مُلَبِّيًا وَمُلَبِّدًا وَيُلَبِّي» مَعْنَاهُ: عَلَى هَيْئَته الَّتِي مَاتَ عَلَيْهَا وَمَعَهُ عَلَامَة لِحَجِّهِ، وَهِيَ دَلَالَة الْفَضِيلَة كَمَا يَجِيء الشَّهِيد يَوْم الْقِيَامَة وَأَوْدَاجه تَشْخَب دَمًا. وَفيه دَلِيل عَلَى اِسْتِحْبَاب دَوَام التَّلْبِيَة فِي الْإِحْرَام، وَعَلَى اِسْتِحْبَاب التَّلْبِيد، وَسَبَقَ بَيَان هَذَا.
وَقَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَاغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْر» دَلِيل عَلَى اِسْتِحْبَاب السِّدْر فِي غُسْل الْمَيِّت، وَأَنَّ الْمُحْرِم فِي ذَلِكَ كَغَيْرِهِ، وَهَذَا مَذْهَبنَا، وَبِهِ قَالَ طَاوُسٌ وَعَطَاء وَمُجَاهِد وَابْن الْمُنْذِر وَآخَرُونَ، وَمَنَعَهُ مَالِك وَأَبُو حَنِيفَة وَآخَرُونَ. وَقَوْله: «وُقِصَ» أَيْ اِنْكَسَرَ عُنُقه، وَوَقَصَتْهُ وَأَوْقَصَتْهُ بِمَعْنَاهُ.
قَوْله: (حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الصَّبَّاح حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ حَدَّثَنَا أَبُو بِشْر حَدَّثَنَا سَعِيد بْن جُبَيْر) أَبُو بِشْر هَذَا هُوَ الْغُبَرِيّ، وَاسْمه: الْوَلِيد بْن مُسْلِم بْن شِهَاب الْبَصْرِيّ، وَهُوَ تَابِعِيّ، رَوَى عَنْ جُنْدَب بْن عَبْد اللَّه الصَّحَابِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ، وَانْفَرَدَ مُسْلِم بِالرِّوَايَةِ عَنْ أَبِي بِشْر هَذَا، وَاتَّفَقُوا عَلَى تَوْثِيقه.
وَقَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَلَا تُخَمِّرُوا وَجْهه وَلَا رَأْسه» أَمَّا تَخْمِير الرَّأْس فِي حَقّ الْمُحْرِم الْحَيّ فَجُمِعَ عَلَى تَحْرِيمه، وَأَمَّا وَجْهه فَقَالَ مَالِك وَأَبُو حَنِيفَة: هُوَ كَرَأْسِهِ، وَقَالَ الشَّافِعِيّ وَالْجُمْهُور: لَا إِحْرَام فِي وَجْهه، بَلْ لَهُ تَغْطِيَته، وَإِنَّمَا يَجِب كَشْف الْوَجْه فِي حَقّ الْمَرْأَة، هَذَا حُكْم الْمُحْرِم الْحَيّ، وَأَمَّا الْمَيِّت فَمَذْهَب الشَّافِعِيّ وَمُوَافِقِيهِ: أَنَّهُ يَحْرُم تَغْطِيَة رَأْسه كَمَا سَبَقَ، وَلَا يَحْرُم تَغْطِيَة وَجْهه، بَلْ يَبْقَى كَمَا كَانَ فِي الْحَيَاة، وَيُتَأَوَّل هَذَا الْحَدِيث عَلَى أَنَّ النَّهْي عَنْ تَغْطِيَة وَجْهه لَيْسَ لِكَوْنِهِ وَجْهًا إِنَّمَا هُوَ صِيَانَة لِلرَّأْسِ، فَإِنَّهُمْ لَوْ غَطَّوْا وَجْهه لَمْ يُؤْمَن أَنْ يُغَطُّوا رَأْسه، ولابد مِنْ تَأْوِيله؛ لِأَنَّ مَالِكًا وَأَبَا حَنِيفَة وَمُوَافِقِيهِمَا يَقُولُونَ: لَا يُمْنَع مِنْ سَتْر رَأْس الْمَيِّت وَوَجْهه، وَالشَّافِعِيّ وَمُوَافِقُوهُ يَقُولُونَ: يُبَاح سَتْر الْوَجْه فَتَعَيَّنَ تَأْوِيل الْحَدِيث.
وَقَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْهِ» وَفِي رِوَايَة: «ثَوْبَيْنِ» قَالَ الْقَاضِي: أَكْثَر الرِّوَايَات: «ثَوْبَيْهِ».
وَفيه فَوَائِد مِنْهَا: الدَّلَالَة لِمَذْهَبِ الشَّافِعِيّ وَمُوَافِقِيهِ فِي أَنَّ حُكْم الْإِحْرَام بَاقٍ فيه. وَمِنْهَا: أَنَّ التَّكْفِين فِي الثِّيَاب الْمَلْبُوسَة جَائِز، وَهُوَ مُجْمَع عَلَيْهِ. وَمِنْهَا: جَوَاز التَّكْفِين فِي ثَوْبَيْنِ، وَالْأَفْضَل ثَلَاثَة، وَمِنْهَا: أَنَّ الْكَفَن مُقَدَّم عَلَى الدَّيْن وَغَيْره؛ لِأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَسْأَل هَلْ عَلَيْهِ دَيْن مُسْتَغْرِق أَمْ لَا؟ وَمِنْهَا: أَنَّ التَّكْفِين وَاجِب، وَهُوَ إِجْمَاع فِي حَقّ الْمُسْلِم، وَكَذَلِكَ غُسْله وَالصَّلَاة عَلَيْهِ وَدَفْنه.
قَوْله: «فَأَقْعَصَتْهُ» أَيْ قَتَلَتْهُ فِي الْحَال، وَمِنْهُ: قُعَاص الْغَنَم، وَهُوَ مَوْتهَا بِدَاءٍ يَأْخُذهَا تَمُوت فَجْأَة.
قَوْله: (حَدَّثَنَا عَبْد بْن حُمَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْد اللَّه بْن مُوسَى حَدَّثَنَا إِسْرَائِيل عَنْ مَنْصُور عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر عَنْ اِبْن عَبَّاس) قَالَ الْقَاضِي: هَذَا الْحَدِيث مِمَّا اِسْتَدْرَكَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَلَى مُسْلِم وَقَالَ: إِنَّمَا سَمِعَهُ مَنْصُور مِنْ الْحَكَم، وَكَذَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ عَنْ مَنْصُور عَنْ الْحَكَم عَنْ سَعِيد وَهُوَ الصَّوَاب وَقِيلَ: عَنْ مَنْصُور عَنْ سَلَمَة، وَلَا يَصِحّ. وَاَللَّه أَعْلَم. وَقَوْله: «خَرَّ مِنْ بَعِيره» أَيْ سَقَطَ.
وَقَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَاغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْر» دَلِيل عَلَى اِسْتِحْبَاب السِّدْر فِي غُسْل الْمَيِّت، وَأَنَّ الْمُحْرِم فِي ذَلِكَ كَغَيْرِهِ، وَهَذَا مَذْهَبنَا، وَبِهِ قَالَ طَاوُسٌ وَعَطَاء وَمُجَاهِد وَابْن الْمُنْذِر وَآخَرُونَ، وَمَنَعَهُ مَالِك وَأَبُو حَنِيفَة وَآخَرُونَ.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَلَا تُحَنِّطُوهُ» هُوَ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَة، أَيْ لَا تَمَسُّوهُ حَنُوطًا، وَالْحَنُوط بِفَتْحِ الْحَاء وَيُقَال لَهُ: الْحِنَاط بِكَسْرِ الْحَاء، وَهُوَ أَخْلَاط مِنْ طِيب تُجْمَع لِلْمَيِّتِ خَاصَّة، لَا تُسْتَعْمَل فِي غَيْره.
قَوْله فِي رِوَايَة عَلِيّ بْن خَشْرَم: «أَقْبَلَ رَجُل حَرَامًا» هَكَذَا هُوَ فِي مُعْظَم النُّسَخ، وَفِي بَعْضهَا: «حَرَام» وَهَذَا هُوَ الْوَجْه، وَلِلْأَوَّلِ وَجْه، وَيَكُون حَالًا، وَقَدْ جَاءَتْ الْحَال مِنْ النَّكِرَة عَلَى قِلَّة.
2092- سبق شرحه بالباب.
2093- سبق شرحه بالباب.
2094- سبق شرحه بالباب.
2095- سبق شرحه بالباب.
2096- سبق شرحه بالباب.
2097- سبق شرحه بالباب.
2098- سبق شرحه بالباب.
2099- سبق شرحه بالباب.
2100- سبق شرحه بالباب.

.باب جَوَازِ اشْتِرَاطِ الْمُحْرِمِ التَّحَلُّلَ بِعُذْرِ الْمَرَضِ وَنَحْوِهِ:

2101- حَدِيث ضُبَاعَة بِنْت الزُّبَيْر رَضِيَ اللَّه عَنْهَا: «أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهَا: حُجِّي وَاشْتَرِطِي أَنَّ مَحِلِّي حَيْثُ حَبَسْتنِي» فَفيه دَلَالَة لِمَنْ قَالَ: يَجُوز أَنْ يَشْتَرِط الْحَاجّ وَالْمُعْتَمِر فِي إِحْرَامه أَنَّهُ إِنْ مَرِضَ تَحَلَّلَ، وَهُوَ قَوْل عُمَر بْن الْخَطَّاب وَعَلِيّ وَابْن مَسْعُود وَآخَرِينَ مِنْ الصَّحَابَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ وَجَمَاعَة مِنْ التَّابِعِينَ وَأَحْمَد وَإِسْحَاق وَأَبِي ثَوْر، وَهُوَ الصَّحِيح مِنْ مَذْهَب الشَّافِعِيّ، وَحُجَّتهمْ هَذَا الْحَدِيث الصَّحِيح الصَّرِيح، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة وَمَالِك وَبَعْض التَّابِعِينَ: لَا يَصِحّ الِاشْتِرَاط، وَحَمَلُوا الْحَدِيث عَلَى أَنَّهَا قَضِيَّة عَيْن، وَأَنَّهُ مَخْصُوص بِضُبَاعَةَ، وَأَشَارَ الْقَاضِي عِيَاض إِلَى تَضْعِيف الْحَدِيث، فَإِنَّهُ قَالَ: قَالَ الْأَصِيلِيّ: لَا يَثْبُت فِي الِاشْتِرَاط إِسْنَاد صَحِيح، قَالَ النَّسَائِيُّ: لَا أَعْلَم أَحَدًا أَسْنَدَهُ عَنْ الزُّهْرِيّ غَيْر مَعْمَر، وَهَذَا الَّذِي عَرَّضَ بِهِ الْقَاضِي، وَقَالَ الْأَصِيلِيّ مِنْ تَضْعِيف الْحَدِيث غَلَط فَاحِش جِدًّا، نَبَّهْت عَلَيْهِ لِئَلَّا يُغْتَرّ بِهِ، لِأَنَّ هَذَا الْحَدِيث مَشْهُور فِي صَحِيح الْبُخَارِيّ وَمُسْلِم وَسُنَن أَبِي دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيِّ وَسَائِر كُتُب الْحَدِيث الْمُعْتَمَدَة مِنْ طُرُق مُتَعَدِّدَة بِأَسَانِيد كَثِيرَة عَنْ جَمَاعَة مِنْ الصَّحَابَة، وَفِيمَا ذَكَرَهُ مُسْلِم مِنْ تَنْوِيع طُرُقه أَبْلَغ كِفَايَة.
وَفِي هَذَا الْحَدِيث دَلِيل عَلَى أَنَّ الْمَرَض لَا يُبِيح التَّحَلُّل إِذَا لَمْ يَكُنْ اِشْتِرَاط فِي حَال الْإِحْرَام. وَاَللَّه أَعْلَم.
وَأَمَّا (ضُبَاعَة) فَبِضَادٍ مُعْجَمَة مَضْمُومَة ثُمَّ مُوَحَّدَة مُخَفَّفَة، وَهِيَ ضُبَاعَة بِنْت الزُّبَيْر بْنِ عَبْد الْمُطَّلِب، كَمَا ذَكَرَهُ مُسْلِم فِي الْكِتَاب، وَهِيَ بِنْت عَمّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَمَّا قَوْل صَاحِب الْوَسِيط: هِيَ ضُبَاعَة الْأَسْلَمِيَّة فَغَلَط فَاحِش، وَالصَّوَاب الْهَاشِمِيَّة.
2103- قَوْله: «فَأَدْرَكَتْ» مَعْنَاهُ: أَدْرَكَتْ الْحَجّ، وَلَمْ تَتَحَلَّل حَتَّى فَرَغَتْ مِنْهُ.

.باب إِحْرَامِ النُّفَسَاءِ وَاسْتِحْبَابِ اغْتِسَالِهَا لِلإِحْرَامِ وَكَذَا الْحَائِضِ:

2106- حَدِيث عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا قَالَتْ: «نُفِسَتْ أَسْمَاء بِنْت عُمَيْس بِمُحَمَّدِ بْن أَبِي بَكْر بِالشَّجَرَةِ، فَأَمَرَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا بَكْر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ يَأْمُرهَا أَنْ تَغْتَسِل»، قَوْلهَا: «نُفِسَتْ» أَيْ وَلَدَتْ وَهِيَ بِكَسْرِ الْفَاء لَا غَيْر، وَفِي النُّون لُغَتَانِ: الْمَشْهُورَة: ضَمّهَا. وَالثَّانِيَة: فَتْحهَا، سُمِّيَ نِفَاسًا لِخُرُوجِ النَّفَس وَهُوَ الْمَوْلُود وَالدَّم أَيْضًا، قَالَ الْقَاضِي: وَتَجْرِي اللُّغَتَانِ فِي الْحَيْض أَيْضًا. وَيُقَال: نَفِسَتْ، أَيْ حَاضَتْ بِفَتْحِ النُّون وَضَمّهَا، قَالَ: ذَكَرَهُمَا صَاحِب الْأَفْعَال، قَالَ: وَأَنْكَرَ جَمَاعَة الضَّمّ فِي الْحَيْض.
وَفيه: صِحَّة إِحْرَام النُّفَسَاء وَالْحَائِض، وَاسْتِحْبَاب اِغْتِسَالهمَا لِلْإِحْرَامِ، وَهُوَ مُجْمَع عَلَى الْأَمْر بِهِ، لَكِنْ مَذْهَبنَا وَمَذْهَب مَالِك وَأَبِي حَنِيفَة وَالْجُمْهُور أَنَّهُ مُسْتَحَبّ، وَقَالَ الْحَسَن وَأَهْل الظَّاهِر: هُوَ وَاجِب، وَالْحَائِض وَالنُّفَسَاء يَصِحّ مِنْهُمَا جَمِيع أَفْعَال الْحَجّ إِلَّا الطَّوَاف وَرَكْعَتَيْهِ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اِصْنَعِي مَا يَصْنَع الْحَاجّ غَيْر أَلَّا تَطُوفِي» وَفيه: أَنَّ رَكْعَتَيْ الْإِحْرَام سُنَّة لَيْسَتَا بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الْحَجّ؛ لِأَنَّ أَسْمَاء لَمْ تُصَلِّهِمَا.
وَقَوْله: «نُفِسَتْ بِالشَّجَرَةِ»، وَفِي رِوَايَة: «بِذِي الْحُلَيْفَة»، وَفِي رِوَايَة: «بِالْبَيْدَاءِ» هَذِهِ الْمَوَاضِع الثَّلَاثَة مُتَقَارِبَة، فَالشَّجَرَة بِذِي الْحُلَيْفَة، وَأَمَّا الْبَيْدَاء فَهِيَ بِطَرَفِ ذِي الْحُلَيْفَة، قَالَ الْقَاضِي: يُحْتَمَل أَنَّهَا نَزَلَتْ بِطَرَفِ الْبَيْدَاء لِتَبْعُد عَنْ النَّاس، وَكَانَ مَنْزِل النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذِي الْحُلَيْفَة حَقِيقَة، وَهُنَاكَ بَاتَ وَأَحْرَمَ، فَسُمِّيَ مَنْزِل النَّاس كُلّهمْ بِاسْمِ مَنْزِل إِمَامهمْ.
2107- سبق شرحه بالباب.

.(بَاب بَيَان وُجُوه الْإِحْرَام وَأَنَّهُ يَجُوز إِفْرَاد الْحَجّ وَالتَّمَتُّع وَالْقِرَان وَجَوَاز إِدْخَال الْحَجّ عَلَى الْعُمْرَة وَمَتَى يَحِلّ الْقَارِن مِنْ نُسُكه):

قَوْلهمْ: (حَجَّة الْوَدَاع) سُمِّيَتْ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَّعَ النَّاس فيها وَلَمْ يَحُجّ بَعْد الْهِجْرَة غَيْرهَا، وَكَانَتْ سَنَة عَشْر مِنْ الْهِجْرَة.
اِعْلَمْ أَنَّ أَحَادِيث الْبَاب مُتَظَاهِرَة عَلَى جَوَاز إِفْرَاد الْحَجّ عَنْ الْعُمْرَة، وَجَوَاز التَّمَتُّع وَالْقِرَان، وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاء عَلَى جَوَاز الْأَنْوَاع الثَّلَاثَة.
وَأَمَّا النَّهْي الْوَارِد عَنْ عُمَر وَعُثْمَان رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا فَسَنُوَضِّحُ مَعْنَاهُ فِي مَوْضِعه بَعْد هَذَا- إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى- وَالْإِفْرَاد أَنْ يُحْرِم بِالْحَجِّ فِي أَشْهُره، وَيَفْرُغ مِنْهُ ثُمَّ يَعْتَمِر. وَالتَّمَتُّع أَنْ يُحْرِم بِالْعُمْرَةِ فِي أَشْهُر الْحَجّ وَيَفْرُغ مِنْهُ ثُمَّ يَحُجّ مِنْ عَامه. وَالْقِرَان أَنْ يُحْرِم بِهِمَا جَمِيعًا، وَكَذَا لَوْ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ وَأَحْرَمَ بِالْحَجِّ قَبْل طَوَافهَا صَحَّ وَصَارَ قَارِنًا، فَلَوْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ ثُمَّ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ فَقَوْلَانِ لِلشَّافِعِيِّ أَصَحّهمَا: لَا يَصِحّ إِحْرَامه بِالْعُمْرَةِ، وَالثَّانِي: يَصِحّ، وَيَصِير قَارِنًا بِشَرْطِ أَنْ يَكُون قَبْل الشُّرُوع فِي أَسْبَاب التَّحَلُّل مِنْ الْحَجّ، وَقِيلَ: قَبْل الْوُقُوف بِعَرَفَاتٍ، وَقِيلَ: قَبْل فِعْل فَرْض، وَقِيلَ: قَبْل طَوَاف الْقُدُوم أَوْ غَيْره.
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي هَذِهِ الْأَنْوَاع الثَّلَاثَة أَيّهَا أَفْضَل؟ فَقَالَ الشَّافِعِيّ وَمَالِك وَكَثِيرُونَ: أَفْضَلهَا الْإِفْرَاد ثُمَّ التَّمَتُّع ثُمَّ الْقِرَان، وَقَالَ أَحْمَد وَآخَرُونَ: أَفْضَلهَا التَّمَتُّع، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة وَآخَرُونَ: أَفْضَلهَا الْقِرَان، وَهَذَانِ الْمَذْهَبَانِ قَوْلَانِ آخَرَانِ لِلشَّافِعِيِّ، وَالصَّحِيح تَفْضِيل الْإِفْرَاد ثُمَّ التَّمَتُّع ثُمَّ الْقِرَان.
وَأَمَّا حَجَّة النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاخْتَلَفُوا فيها، هَلْ كَانَ مُفْرِدًا أَمْ مُتَمَتِّعًا أَمْ قَارِنًا؟ وَهِيَ ثَلَاثَة أَقْوَال لِلْعُلَمَاءِ بِحَسَبِ مَذَاهِبهمْ السَّابِقَة، وَكُلّ طَائِفَة رَجَّحَتْ نَوْعًا، وَادَّعَتْ أَنَّ حَجَّة النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَتْ كَذَلِكَ، وَالصَّحِيح أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ أَوَّلًا مُفْرِدًا ثُمَّ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ بَعْد ذَلِكَ، وَأَدْخَلَهَا عَلَى الْحَجّ فَصَارَ قَارِنًا، وَقَدْ اِخْتَلَفَتْ رِوَايَات أَصْحَابه رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ فِي صِفَة حَجَّة النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَجَّة الْوَدَاع، هَلْ كَانَ قَارِنًا أَمْ مُفْرِدًا أَمْ مُتَمَتِّعًا؟ وَقَدْ ذَكَرَ الْبُخَارِيّ وَمُسْلِم رِوَايَاتهمْ كَذَلِكَ. وَطَرِيق الْجَمْع بَيْنهَا مَا ذَكَرْت أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ أَوَّلًا مُفْرِدًا ثُمَّ صَارَ قَارِنًا. فَمَنْ رَوَى الْإِفْرَاد هُوَ الْأَصْل، وَمَنْ رَوَى الْقِرَان اِعْتَمَدَ آخِر الْأَمْر، وَمَنْ رَوَى التَّمَتُّع أَرَادَ التَّمَتُّع اللُّغَوِيّ، وَهُوَ: الِانْتِفَاع وَالِارْتِفَاق، وَقَدْ اِرْتَفَقَ بِالْقِرَانِ كَارْتِفَاقِ الْمُتَمَتِّع، وَزِيَادَة فِي الِاقْتِصَار عَلَى فِعْل وَاحِد، وَبِهَذَا الْجَمْع تَنْتَظِم الْأَحَادِيث كُلّهَا، وَقَدْ جَمَعَ بَيْنهَا أَبُو مُحَمَّد بْن حَزْم الظَّاهِرِيّ فِي كِتَاب صَنَّفَهُ فِي حَجَّة الْوَدَاع خَاصَّة، وَادَّعَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ قَارِنًا، وَتَأَوَّلَ بَاقِي الْأَحَادِيث.
وَالصَّحِيح مَا سَبَقَ، وَقَدْ أَوْضَحْت ذَلِكَ فِي شَرْح الْمُهَذَّب بِأَدِلَّتِهِ وَجَمِيع طُرُق الْحَدِيث وَكَلَام الْعُلَمَاء الْمُتَعَلَّق بِهَا.
وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيّ وَأَصْحَابه فِي تَرْجِيح الْإِفْرَاد بِأَنَّهُ صَحَّ ذَلِكَ مِنْ رِوَايَة جَابِر وَابْن عُمَر وَابْن عَبَّاس وَعَائِشَة، وَهَؤُلَاءِ لَهُمْ مَزِيَّة فِي حَجَّة الْوَدَاع عَلَى غَيْرهمْ، فَأَمَّا جَابِر فَهُوَ أَحْسَن الصَّحَابَة سِيَاقَة لِرِوَايَةِ حَدِيث حَجَّة الْوَدَاع، فَإِنَّهُ ذَكَرَهَا مِنْ حِين خُرُوج النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْمَدِينَة إِلَى آخِرهَا، فَهُوَ أَضْبَط لَهَا مِنْ غَيْره، وَأَمَّا اِبْن عُمَر فَصَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ آخِذًا بِخِطَامِ نَاقَة النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّة الْوَدَاع، وَأَنْكَرَ عَلَى مَنْ رَجَّحَ قَوْل أَنَس عَلَى قَوْله، وَقَالَ: كَانَ أَنَس يَدْخُل عَلَى النِّسَاء وَهُنَّ مُكْشِفَات الرُّءُوس، وَإِنِّي كُنْت تَحْت نَاقَة النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمَسّنِي لُعَابهَا، أَسْمَعهُ يُلَبِّي بِالْحَجِّ، وَأَمَّا عَائِشَة فَقُرْبهَا مِنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعْرُوف، وَكَذَلِكَ اِطِّلَاعهَا عَلَى بَاطِن أَمْره وَظَاهِره وَفِعْله فِي خَلْوَته وَعَلَانِيَته مَعَ كَثْرَة فِقْههَا وَعِظَم فِطْنَتهَا، وَأَمَّا اِبْن عَبَّاس فَمَحَلّه مِنْ الْعِلْم وَالْفِقْه فِي الدِّين وَالْفَهْم الثَّاقِب مَعْرُوف مَعَ كَثْرَة بَحْثه وَتَحَفُّظه أَحْوَال رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّتِي لَمْ يَحْفَظهَا غَيْره، وَأَخْذه إِيَّاهَا مِنْ كِبَار الصَّحَابَة.
وَمِنْ دَلَائِل تَرْجِيح الْإِفْرَاد أَنَّ الْخُلَفَاء الرَّاشِدِينَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ بَعْد النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْرَدُوا الْحَجّ، وَوَاظَبُوا عَلَى إِفْرَاده، كَذَلِكَ فَعَلَ أَبُو بَكْر وَعُمَر وَعُثْمَان رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ وَاخْتَلَفَ فِعْل عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْإِفْرَاد أَفْضَل وَعَلِمُوا أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَجَّ مُفْرِدًا لَمْ يُوَاظِبُوا عَلَيْهِ مَعَ أَنَّهُمْ الْأَئِمَّة الْأَعْلَام، وَقَادَة الْإِسْلَام، وَيُقْتَدَى بِهِمْ فِي عَصْرهمْ وَبَعْدهمْ، فَكَيْف يَلِيق بِهِمْ الْمُوَاظَبَة عَلَى خِلَاف فِعْل رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ وَأَمَّا الْخِلَاف عَنْ عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ وَغَيْره فَإِنَّمَا فَعَلُوهُ لِبَيَانِ الْجَوَاز، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيح مَا يُوَضِّح ذَلِكَ، وَمِنْهَا أَنَّ الْإِفْرَاد لَا يَجِب فيه دَم بِالْإِجْمَاعِ وَذَلِكَ لِكَمَالِهِ، وَيَجِب الدَّم فِي التَّمَتُّع وَالْقِرَان، وَهُوَ دَم جُبْرَان لِفَوَاتِ الْمِيقَات وَغَيْره، فَكَانَ مَا لَا يَحْتَاج إِلَى جَبْر أَفْضَل، وَمِنْهَا: أَنَّ الْأُمَّة أَجْمَعَتْ عَلَى جَوَاز الْإِفْرَاد مِنْ غَيْر كَرَاهَة، وَكَرِهَ عُمَر وَعُثْمَان وَغَيْرهمَا التَّمَتُّع، وَبَعْضهمْ التَّمَتُّع وَالْقِرَان، فَكَانَ الْإِفْرَاد أَفْضَل. وَاَللَّه أَعْلَم.
فَإِنْ قِيلَ: كَيْف وَقَعَ الِاخْتِلَاف بَيْن الصَّحَابَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ فِي صِفَة حَجَّته صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ حَجَّة وَاحِدَة، وَكُلّ وَاحِد مِنْهُمْ يُخْبِر عَنْ مُشَاهَدَة فِي قَضِيَّة وَاحِدَة؟ قَالَ الْقَاضِي عِيَاض: قَدْ أَكْثَرَ النَّاس الْكَلَام عَلَى هَذِهِ الْأَحَادِيث، فَمِنْ مُجِيد مُنْصِف، وَمِنْ مُقَصِّر مُتَكَلِّف، وَمِنْ مُطِيل مُكْثِر، وَمِنْ مُقْتَصِر مُخْتَصِر، قَالَ: وَأَوْسَعهمْ فِي ذَلِكَ نَفَسًا أَبُو جَعْفَر الطَّحَاوِيُّ الْحَنَفِيّ، فَإِنَّهُ تَكَلَّمَ فِي ذَلِكَ فِي زِيَادَة عَلَى أَلْف وَرَقَة، وَتَكَلَّمَ مَعَهُ فِي ذَلِكَ أَبُو جَعْفَر الطَّبَرِيُّ، ثُمَّ أَبُو عَبْد اللَّه بْن أَبِي صُفْرَة، ثُمَّ الْمُهَلَّب وَالْقَاضِي أَبُو عَبْد اللَّه بْن الْمُرَابِط، وَالْقَاضِي أَبُو الْحَسَن بْن الْقَصَّار الْبَغْدَادِيّ، وَالْحَافِظ أَبُو عَمْرو بْن عَبْد الْبَرّ، وَغَيْرهمْ.
قَالَ الْقَاضِي عِيَاض: وَأَوْلَى مَا يُقَال فِي هَذَا عَلَى مَا فَحَصْنَاهُ مِنْ كَلَامهمْ وَاخْتَرْنَاهُ مِنْ اِخْتِيَارَاتهمْ مِمَّا هُوَ أَجْمَع لِلرِّوَايَاتِ وَأَشْبَه بِمَسَاقِ الْأَحَادِيث: أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَاحَ لِلنَّاسِ فِعْل هَذِهِ الْأَنْوَاع الثَّلَاثَة، لِيَدُلّ عَلَى جَوَاز جَمِيعهَا، وَلَوْ أَمَرَ بِوَاحِدٍ لَكَانَ غَيْره يُظَنّ أَنَّهُ لَا يَجْزِي فَأُضِيفَ الْجَمِيع إِلَيْهِ وَأَخْبَرَ كُلّ وَاحِد بِمَا أَمَرَهُ بِهِ، وَأَبَاحَهُ لَهُ، وَنَسَبَهُ إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِمَّا لِأَمْرِهِ بِهِ وَإِمَّا لِتَأْوِيلِهِ عَلَيْهِ، وَأَمَّا إِحْرَامه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَفْسِهِ فَأَخْذ بِالْأَفْضَلِ فَأَحْرَمَ مُفْرِدًا لِلْحَجِّ، وَبِهِ تَظَاهَرَتْ الرِّوَايَات الصَّحِيحَة، وَأَمَّا الرِّوَايَات بِأَنَّهُ كَانَ مُتَمَتِّعًا فَمَعْنَاهَا أَمَرَ بِهِ، وَأَمَّا الرِّوَايَات بِأَنَّهُ كَانَ قَارِنًا فَإِخْبَار عَنْ حَالَته الثَّانِيَة لَا عَنْ اِبْتِدَاء إِحْرَامه، بَلْ إِخْبَار عَنْ حَاله حِين أَمَرَ أَصْحَابه بِالتَّحَلُّلِ مِنْ حَجّهمْ وَقَلَبَه إِلَى عُمْرَة لِمُخَالَفَةِ الْجَاهِلِيَّة إِلَّا مَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْي، وَكَانَ هُوَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ مَعَهُ هَدْي فِي آخِر إِحْرَامهمْ قَارِنِينَ؛ بِمَعْنَى أَنَّهُمْ أَدْخَلُوا الْعُمْرَة عَلَى الْحَجّ، وَفَعَلَ ذَلِكَ مُوَاسَاة لِأَصْحَابِهِ، وَتَأْنِيسًا لَهُمْ فِي فِعْلهَا فِي أَشْهُر الْحَجّ، لِكَوْنِهَا كَانَتْ مُنْكَرَة عِنْدهمْ فِي أَشْهُر الْحَجّ، وَلَمْ يُمْكِنهُ التَّحَلُّل مَعَهُمْ بِسَبَبِ الْهَدْي، وَاعْتَذَرَ إِلَيْهِمْ بِذَلِكَ فِي تَرْك مُوَاسَاتهمْ، فَصَارَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَارِنًا فِي آخِر أَمْره، وَقَدْ اِتَّفَقَ جُمْهُور الْعُلَمَاء عَلَى جَوَاز إِدْخَال الْحَجّ عَلَى الْعُمْرَة، وَشَذَّ بَعْض النَّاس فَمَنَعَهُ وَقَالَ: لَا يَدْخُل إِحْرَام عَلَى إِحْرَام، كَمَا لَا تَدْخُل صَلَاة عَلَى صَلَاة، وَاخْتَلَفُوا فِي إِدْخَال الْعُمْرَة عَلَى الْحَجّ، فَيُجَوِّزهُ أَصْحَاب الرَّأْي، وَهُوَ قَوْل الشَّافِعِيّ، لِهَذِهِ الْأَحَادِيث، وَمَنَعَهُ آخَرُونَ وَجَعَلُوا هَذَا خَاصًّا بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لِضَرُورَةِ الِاعْتِمَار حِينَئِذٍ فِي أَشْهُر الْحَجّ، قَالَ: وَكَذَلِكَ يُتَأَوَّل قَوْل مَنْ قَالَ: كَانَ مُتَمَتِّعًا، أَيْ تَمَتَّعَ بِفِعْلِ الْعُمْرَة فِي أَشْهُر الْحَجّ؛ وَفَعَلَهَا مَعَ الْحَجّ؛ لِأَنَّ لَفْظ التَّمَتُّع يُطْلَق عَلَى مَعَانٍ، فَانْتَظَمَتْ الْأَحَادِيث وَاتَّفَقَتْ، قَالَ: وَلَا يَبْعُد رَدّ مَا وَرَدَ عَنْ الصَّحَابَة مِنْ فِعْل مِثْل ذَلِكَ إِلَى مِثْل هَذَا مَعَ الرِّوَايَات الصَّحِيحَة أَنَّهُمْ أَحْرَمُوا بِالْحَجِّ مُفْرَدًا، فَيَكُون الْإِفْرَاد إِخْبَارًا عَنْ فِعْلهمْ أَوَّلًا، وَالْقِرَان إِخْبَارًا عَنْ إِحْرَام الَّذِينَ مَعَهُمْ هَدْي بِالْعُمْرَةِ ثَانِيًا، وَالتَّمَتُّع لِفَسْخِهِمْ الْحَجّ إِلَى الْعُمْرَة ثُمَّ إِهْلَالهمْ بِالْحَجِّ بَعْد التَّحَلُّل مِنْهَا، كَمَا فَعَلَ كُلّ مَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْي.
قَالَ الْقَاضِي: وَقَدْ قَالَ بَعْض عُلَمَائِنَا: إِنَّهُ أَحْرَمَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِحْرَامًا مُطْلَقًا مُنْتَظِرًا مَا يُؤْمَر بِهِ مِنْ إِفْرَاد أَوْ تَمَتُّع أَوْ قِرَان، ثُمَّ أُمِرَ بِالْحَجِّ، ثُمَّ أُمِرَ بِالْعُمْرَةِ مَعَهُ فِي وَادِي الْعَقِيق بِقَوْلِهِ: «صَلِّ فِي هَذَا الْوَادِي الْمُبَارَك، وَقُلْ: عُمْرَة فِي حَجَّة»؛ قَالَ الْقَاضِي: وَاَلَّذِي سَبَقَ أَبْيَن وَأَحْسَن فِي التَّأْوِيل، هَذَا آخِر كَلَام الْقَاضِي عِيَاض، ثُمَّ قَالَ الْقَاضِي فِي مَوْضِع آخَر بَعْده: لَا يَصِحّ قَوْل مَنْ قَالَ: أَحْرَمَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِحْرَامًا مُطْلَقًا مُبْهَمًا؛ لِأَنَّ رِوَايَة جَابِر وَغَيْره مِنْ الصَّحَابَة فِي الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة مُصَرِّحَة بِخِلَافِهِ.
قَالَ الْخَطَّابِيُّ: قَدْ أَنْعَمَ الشَّافِعِيّ بِبَيَانِ هَذَا فِي كِتَابه اِخْتِلَاف الْحَدِيث وُجُود الْكَلَام، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَفِي اِقْتِصَاص كُلّ مَا قَالَهُ تَطْوِيل. وَلَكِنْ الْوَجِيه وَالْمُخْتَصَر مِنْ جَوَامِع مَا قَالَ أَنَّ مَعْلُومًا فِي لُغَة الْعَرَب جَوَاز إِضَافَة الْفِعْل إِلَى الْأَمْر، كَجَوَازِ إِضَافَته إِلَى الْفَاعِل كَقَوْلِك: بَنَى فُلَان دَارًا، إِذَا أَمَرَ بِبِنَائِهَا، وَضَرَبَ الْأَمِير فُلَانًا، إِذَا أَمَرَ بِضَرْبِهِ، وَرَجَمَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَاعِزًا، وَقَطَعَ سَارِق رِدَاء صَفْوَان، وَإِنَّمَا أَمَرَ بِذَلِكَ، وَمِثْله كَثِير فِي الْكَلَام، وَكَانَ أَصْحَاب رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُمْ الْمُفْرِد وَالْمُتَمَتِّع وَالْقَارِن كُلّ مِنْهُمْ يَأْخُذ عَنْهُ أَمْر نُسُكه، وَيَصْدُر عَنْ تَعْلِيمه، فَجَازَ أَنْ تُضَاف كُلّهَا إِلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ أَمَرَ بِهَا، وَأَذِنَ فيها.
قَالَ: وَيُحْتَمَل أَنَّ بَعْضهمْ سَمِعَهُ يَقُول: لَبَّيْكَ بِحَجَّةٍ، فَحَكَى عَنْهُ أَنَّهُ أَفْرَدَ، وَخَفِيَ عَلَيْهِ قَوْله: وَعُمْرَة، فَلَمْ يَحْكِ إِلَّا مَا سَمِعَ، وَسَمِعَ أَنَس وَغَيْره الزِّيَادَة وَهِيَ: لَبَّيْكَ بِحَجَّةٍ وَعُمْرَة، وَلَا يُنْكَر قَبُول الزِّيَادَة، وَإِنَّمَا يَحْصُل التَّنَاقُض لَوْ كَانَ الزَّائِد نَافِيًا لِقَوْلِ صَاحِبه، فَأَمَّا إِذَا كَانَ مُثْبِتًا لَهُ وَزَائِدًا عَلَيْهِ، فَلَيْسَ فيه تَنَاقُض، قَالَ: وَيُحْتَمَل أَنَّ الرَّاوِي سَمِعَهُ يَقُول لِغَيْرِهِ عَلَى وَجْه التَّعْلِيم، فَيَقُول لَهُ: لَبَّيْكَ بِحَجَّةٍ وَعُمْرَة، عَلَى سَبِيل التَّلْقِين.
فَهَذِهِ الرِّوَايَات الْمُخْتَلِفَة ظَاهِرًا لَيْسَ فيها تَنَاقُض، وَالْجَمْع بَيْنهَا سَهْل كَمَا ذَكَرْنَا. وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله: عَنْ عُرْوَة عَنْ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا قَالَتْ: «خَرَجْنَا مَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَام حَجَّة الْوَدَاع فَأَهْلَلْنَا بِعُمْرَةٍ، ثُمَّ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْي فَلْيُهْلِلْ بِالْحَجِّ مَعَ الْعُمْرَة»، وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: «قَالَتْ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّة الْوَدَاع، فَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ، وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِحَجٍّ، قَالَتْ: وَلَمْ أُهِلَّ إِلَّا بِعُمْرَةٍ»، قَالَ الْقَاضِي عِيَاض: اِخْتَلَفَتْ الرِّوَايَات عَنْ عَائِشَة فِيمَا أَحْرَمَتْ بِهِ اِخْتِلَافًا كَثِيرًا، فَذَكَرَ مُسْلِم مِنْ ذَلِكَ مَا قَدَّمْنَاهُ، وَفِي رِوَايَة لِمُسْلِمٍ أَيْضًا عَنْهَا: «خَرَجْنَا لَا نَرَى إِلَّا الْحَجّ»، وَفِي رِوَايَة الْقَاسِم عَنْهَا: «خَرَجْنَا مُهِلِّينَ بِالْحَجِّ»، وَفِي رِوَايَة: «لَا نَذْكُر إِلَّا الْحَجّ»، وَكُلّ هَذِهِ الرِّوَايَات صَرِيحَة فِي أَنَّهَا أَحْرَمَتْ بِالْحَجِّ، وَفِي رِوَايَة الْأَسْوَد عَنْهَا: «نُلَبِّي لَا نَذْكُر حَجًّا وَلَا عُمْرَة»، قَالَ الْقَاضِي: وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي الْكَلَام عَلَى حَدِيث عَائِشَة، فَقَالَ مَالِك: لَيْسَ الْعَمَل عَلَى حَدِيث عُرْوَة عَنْ عَائِشَة عِنْدنَا قَدِيمًا وَلَا حَدِيثًا، وَقَالَ بَعْضهمْ: يَتَرَجَّح أَنَّهَا كَانَتْ مُحْرِمَة بِحَجٍّ؛ لِأَنَّهَا رِوَايَة عَمْرَة وَالْأَسْوَد وَالْقَاسِم، وَغَلَّطُوا عُرْوَة فِي الْعُمْرَة، وَمِمَّنْ ذَهَبَ إِلَى هَذَا الْقَاضِي إِسْمَاعِيل، وَرَجَّحُوا رِوَايَة غَيْر عُرْوَة عَلَى رِوَايَته؛ لِأَنَّ عُرْوَة قَالَ فِي رِوَايَة حَمَّاد بْن زَيْد عَنْ هِشَام عَنْهُ: حَدَّثَنِي غَيْر وَاحِد أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهَا: «دَعِي عُمْرَتك» فَقَدْ بَانَ أَنَّهُ لَمْ يَسْمَع الْحَدِيث مِنْهَا، قَالَ الْقَاضِي رَحِمَهُ اللَّه: وَلَيْسَ هَذَا بِوَاضِحٍ؛ لِأَنَّهُ يُحْتَمَل أَنَّهَا مِمَّنْ حَدَّثَهُ ذَلِكَ، قَالُوا أَيْضًا: وَلِأَنَّ رِوَايَة عَمْرَة وَالْقَاسِم نَسَّقَتْ عَمَل عَائِشَة فِي الْحَجّ مِنْ أَوَّله إِلَى آخِره، وَلِهَذَا قَالَ الْقَاسِم عَنْ رِوَايَة عَمْرَة: «أَنْبَأَتْك بِالْحَدِيثِ عَلَى وَجْهه» قَالُوا: وَلِأَنَّ رِوَايَة عُرْوَة إِنَّمَا أَخْبَرَ عَنْ إِحْرَام عَائِشَة، وَالْجَمْع بَيْن الرِّوَايَات مُمْكِن، فَأَحْرَمَتْ أَوَّلًا بِالْحَجِّ كَمَا صَحَّ عَنْهَا فِي رِوَايَة الْأَكْثَرِينَ، وَكَمَا هُوَ الْأَصَحّ مِنْ فِعْل النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَكْثَر أَصْحَابه، ثُمَّ أَحْرَمَتْ بِالْعُمْرَةِ حِين أَمَرَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابه بِفَسْخِ الْحَجّ إِلَى الْعُمْرَة، وَهَكَذَا فَسَّرَ الْقَاسِم فِي حَدِيثه، فَأَخْبَرَ عُرْوَة عَنْهَا بِاعْتِمَارِهَا فِي آخِر الْأَمْر، وَلَمْ يَذْكُر أَوَّل أَمْرهَا، قَالَ الْقَاضِي: وَقَدْ تَعَارَضَ هَذَا بِمَا صَحَّ عَنْهَا فِي إِخْبَارهَا عَنْ فِعْل الصَّحَابَة وَاخْتِلَافهمْ فِي الْإِحْرَام، وَأَنَّهَا أَحْرَمَتْ هِيَ بِعُمْرَةٍ.
فَالْحَاصِل أَنَّهَا أَحْرَمَتْ بِحَجٍّ، ثُمَّ فَسَخَتْهُ إِلَى عُمْرَة حِين أَمَرَ النَّاس بِالْفَسْخِ، فَلَمَّا حَاضَتْ وَتَعَذَّرَ عَلَيْهَا إِتْمَام الْعُمْرَة وَالتَّحَلُّل مِنْهَا وَإِدْرَاك الْإِحْرَام بِالْحَجِّ، أَمَرَهَا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ فَأَحْرَمَتْ، فَصَارَتْ مُدْخِلَة لِلْحَجِّ عَلَى الْعُمْرَة وَقَارِنَة.
وَقَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اُرْفُضِي عُمْرَتك»، لَيْسَ مَعْنَاهُ إِبْطَالهَا بِالْكُلِّيَّةِ وَالْخُرُوج مِنْهَا، فَإِنَّ الْعُمْرَة وَالْحَجّ لَا يَصِحّ الْخُرُوج مِنْهُمَا بَعْد الْإِحْرَام بِنِيَّةِ الْخُرُوج، وَإِنَّمَا يَخْرُج مِنْهَا بِالتَّحَلُّلِ بَعْد فَرَاغهَا، بَلْ مَعْنَاهُ: اُرْفُضِي الْعَمَل فيها، وَإِتْمَام أَفْعَالهَا الَّتِي هِيَ الطَّوَاف وَالسَّعْي وَتَقْصِير شَعْر الرَّأْس، فَأَمَرَهَا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْإِعْرَاضِ عَنْ أَفْعَال الْعُمْرَة، وَأَنْ تُحْرِم بِالْحَجِّ فَتَصِير قَارِنَة، وَتَقِف بِعَرَفَاتٍ وَتَفْعَل الْمَنَاسِك كُلّهَا إِلَّا الطَّوَاف، فَتُؤَخِّرهُ حَتَّى تَطْهُر، وَكَذَلِكَ فَعَلَتْ.
قَالَ الْعُلَمَاء: وَمِمَّا يُؤَيِّد هَذَا التَّأْوِيل، قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رِوَايَة عَبْد بْن حُمَيْدٍ: «وَأَمْسِكِي عَنْ الْعُمْرَة» وَمِمَّا يُصَرِّح بِهَذَا التَّأْوِيل رِوَايَة مُسْلِم بَعْد هَذَا فِي آخِر رِوَايَات عَائِشَة: عَنْ مُحَمَّد بْن حَاتِم عَنْ بَهْز عَنْ وُهَيْب عَنْ عَبْد اللَّه بْن طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا: «أَنَّهَا أَهَلَّتْ بِعُمْرَةٍ فَقَدِمَتْ وَلَمْ تَطُفْ بِالْبَيْتِ حَتَّى حَاضَتْ فَنَسَكَتْ الْمَنَاسِك كُلّهَا، وَقَدْ أَهَلَّتْ بِالْحَجِّ، فَقَالَ لَهَا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْم النَّفْر: يَسَعُكِ طَوَافُكِ لِحَجِّك وَعُمْرَتك، فَأَبَتْ فَبَعَثَ بِهَا مَعَ عَبْد الرَّحْمَن إِلَى التَّنْعِيم فَاعْتَمَرَتْ بَعْد الْحَجّ» هَذَا لَفْظه.
فَقَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَسَعُك طَوَافُك لِحَجِّك وَعُمْرَتك» تَصْرِيح بِأَنَّ عُمْرَتهَا بَاقِيَة صَحِيحَة مُجْزِئَة، وَأَنَّهَا لَمْ تُلْغِهَا وَتَخْرُج مِنْهَا، فَيَتَعَيَّن تَأْوِيل: «اُرْفُضِي عُمْرَتك وَدَعِي عُمْرَتك» عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ رَفْض الْعَمَل فيها وَإِتْمَام أَفْعَالهَا. وَاَللَّه أَعْلَم.
2108- قَوْله: «عَنْ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا قَالَتْ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَام حَجَّة الْوَدَاع، فَأَهْلَلْنَا بِعُمْرَةٍ ثُمَّ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْي فَلْيُهْلِلْ بِالْحَجِّ مَعَ الْعُمْرَة، ثُمَّ لَا يَحِلّ حَتَّى يَحِلّ مِنْهُمَا جَمِيعًا» قَالَ الْقَاضِي عِيَاض رَحِمَهُ اللَّه: الَّذِي تَدُلّ عَلَيْهِ نُصُوص الْأَحَادِيث فِي صَحِيحَيْ الْبُخَارِيّ وَمُسْلِم وَغَيْرهمَا مِنْ رِوَايَة عَائِشَة وَجَابِر وَغَيْرهمَا أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا قَالَ لَهُمْ هَذَا الْقَوْل بَعْد إِحْرَامِهِمْ بِالْحَجِّ فِي مُنْتَهَى سَفَرِهِمْ وَدُنُوّهمْ مِنْ مَكَّة بِسَرِفَ، كَمَا جَاءَ فِي رِوَايَة عَائِشَة أَوْ بَعْد طَوَافه بِالْبَيْتِ وَسَعْيه كَمَا جَاءَ فِي رِوَايَة جَابِر، وَيُحْتَمَل تَكْرَار الْأَمْر بِذَلِكَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَأَنَّ الْعَزِيمَة كَانَتْ آخِرًا حِين أَمَرَهُمْ بِفَسْخِ الْحَجّ إِلَى الْعُمْرَة.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْي» يُقَال: (هَدْي) بِإِسْكَانِ الدَّال وَتَخْفِيف الْيَاء و(هَدِيّ) بِكَسْرِ الدَّال وَتَشْدِيد الْيَاء لُغَتَانِ مَشْهُورَتَانِ، الْأُولَى أَفْصَح وَأَشْهَر، وَهُوَ اِسْم لِمَا يُهْدَى إِلَى الْحَرَم مِنْ الْأَنْعَام.
وَسَوْق الْهَدْي سُنَّة لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُحْرِم بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَة.
وَأَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى لَمَّا مَضَتْ مَعَ أَخِيهَا عَبْد الرَّحْمَن لِيُعْمِرهَا مِنْ التَّنْعِيم: «هَذِهِ مَكَان عُمْرَتك» فَمَعْنَاهُ: أَنَّهَا أَرَادَتْ أَنْ يَكُون لَهَا عُمْرَة مُنْفَرِدَة عَنْ الْحَجّ، كَمَا حَصَلَ لِسَائِرِ أُمَّهَات الْمُؤْمِنِينَ وَغَيْرهنَّ مِنْ الصَّحَابَة الَّذِين فَسَخُوا الْحَجّ إِلَى الْعُمْرَة، وَأَتَمُّوا الْعُمْرَة وَتَحَلَّلُوا مِنْهَا قَبْل يَوْم التَّرْوِيَة، ثُمَّ أَحْرَمُوا بِالْحَجِّ مِنْ مَكَّة يَوْم التَّرْوِيَة، فَحَصَلَ لَهُمْ عُمْرَة مُنْفَرِدَة وَحَجَّة مُنْفَرِدَة، وَأَمَّا عَائِشَة فَإِنَّمَا حَصَلَ لَهَا عُمْرَة مُنْدَرِجَة فِي حَجَّة بِالْقِرَانِ، فَقَالَ لَهَا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْم النَّفْر: «يَسَعك طَوَافك لِحَجِّك وَعُمْرَتك» أَيْ وَقَدْ تَمَّا وَحُسِبَا لَك جَمِيعًا، فَأَبَتْ وَأَرَادَتْ عُمْرَة مُنْفَرِدَة، كَمَا حَصَلَ لِبَاقِي النَّاس، فَلَمَّا اِعْتَمَرَتْ عُمْرَة مُنْفَرِدَة قَالَ لَهَا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هَذِهِ مَكَان عُمْرَتك»، أَيْ الَّتِي كُنْت تُرِيدِينَ حُصُولهَا مُنْفَرِدَة غَيْر مُنْدَرِجَة فَمَنَعَك الْحَيْض مِنْ ذَلِكَ، وَهَكَذَا يُقَال فِي قَوْلهَا: «يَرْجِع النَّاس بِحَجٍّ وَعُمْرَة وَأَرْجِع بِحَجٍّ» أَيْ يَرْجِعُونَ بِحَجٍّ مُنْفَرِد وَعُمْرَة مُنْفَرِدَة، وَأَرْجِع أَنَا وَلَيْسَ لِي عُمْرَة مُنْفَرِدَة، وَإِنَّمَا حَرَصَتْ عَلَى ذَلِكَ لِتُكْثِر أَفْعَالهَا. وَفِي هَذَا تَصْرِيح بِالرَّدِّ عَلَى مَنْ يَقُول: الْقِرَان أَفْضَل. وَاَللَّه أَعْلَم.
وَأَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اُنْقُضِي رَأْسك وَامْتَشِطِي» فَلَا يَلْزَم مِنْهُ إِبْطَال الْعُمْرَة؛ لِأَنَّ نَقْض الرَّأْس وَالِامْتِشَاط جَائِزَانِ عِنْدنَا فِي الْإِحْرَام بِحَيْثُ لَا يَنْتِف شَعْرًا، وَلَكِنْ يُكْرَه الِامْتِشَاط إِلَّا لِعُذْرٍ، وَتَأَوَّلَ الْعُلَمَاء فِعْل عَائِشَة هَذَا عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ مَعْذُورَة، بِأَنْ كَانَ فِي رَأْسهَا أَذًى، فَأَبَاحَ لَهَا الِامْتِشَاط كَمَا أَبَاحَ لِكَعْبِ بْن عُجْرَة الْحَلْق لِلْأَذَى، وَقِيلَ: لَيْسَ الْمُرَاد بِالِامْتِشَاطِ هُنَا حَقِيقَة الِامْتِشَاط بِالْمُشْطِ، بَلْ تَسْرِيح الشَّعْر بِالْأَصَابِعِ لِلْغُسْلِ لِإِحْرَامِهَا بِالْحَجِّ، لاسيما إِنْ كَانَتْ لَبَّدَتْ رَأْسهَا كَمَا هُوَ السُّنَّة، وَكَمَا فَعَلَهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَا يَصِحّ غَسْلهَا إِلَّا بِإِيصَالِ الْمَاء إِلَى جَمِيع شَعْرهَا، وَيَلْزَم مِنْ هَذَا نَقْضه. وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْلهَا: «وَأَمَّا الَّذِينَ كَانُوا جَمَعُوا الْحَجّ وَالْعُمْرَة فَإِنَّمَا طَافُوا طَوَافًا وَاحِدًا» هَذَا دَلِيل عَلَى أَنَّ الْقَارِن يَكْفيه طَوَاف وَاحِد عَنْ طَوَاف الرُّكْن، وَأَنَّهُ يَقْتَصِر عَلَى أَفْعَال الْحَجّ، وَتَنْدَرِج أَفْعَال الْعُمْرَة كُلّهَا فِي أَفْعَال الْحَجّ، وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيّ، وَهُوَ مَحْكِيّ عَنْ اِبْن عُمَر وَجَابِر وَعَائِشَة وَمَالِك وَأَحْمَد وَإِسْحَاق وَدَاوُد، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة: يَلْزَمهُ طَوَافَانِ وَسَعْيَانِ، وَهُوَ مَحْكِيّ عَنْ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب وَابْن مَسْعُود وَالشَّعْبِيّ وَالنَّخَعِيّ. وَاَللَّه أَعْلَم.
2109- قَوْلهَا: «خَرَجْنَا مَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَام حَجَّة الْوَدَاع فَمِنَّا مَنْ أَهْل بِعُمْرَةٍ، وَمِنَّا مَنْ أَهْل بِحَجٍّ حَتَّى قَدِمْنَا مَكَّة فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ وَلَمْ يُهْدِ فَلْيَتَحَلَّلْ، وَمَنْ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ وَأَهْدَى فَلَا يَحِلّ حَتَّى يَنْحَر هَدْيه، وَمَنْ أَهْل بِحَجٍّ فَلْيُتِمَّ حَجّه» هَذَا الْحَدِيث ظَاهِر فِي الدَّلَالَة لِمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَة وَأَحْمَد وَمُوَافِقهمَا فِي أَنَّ الْمُعْتَمِر الْمُتَمَتِّع إِذَا كَانَ مَعَهُ هَدْي لَا يَتَحَلَّل مِنْ عُمْرَته حَتَّى يَنْحَر هَدْيه يَوْم النَّحْر، وَمَذْهَب مَالِك وَالشَّافِعِيّ وَمُوَافِقِيهِمَا أَنَّهُ إِذَا طَافَ وَسَعَى وَحَلَقَ حَلَّ مِنْ عُمْرَته، وَحَلَّ لَهُ كُلّ شَيْء فِي الْحَال، سَوَاء كَانَ سَاقَ هَدْيًا أَمْ لَا. وَاحْتَجُّوا بِالْقِيَاسِ عَلَى مَنْ لَمْ يَسُقْ الْهَدْي، وَبِأَنَّهُ تَحَلَّلَ مِنْ نُسُكه، فَوَجَبَ أَنْ يَحِلّ لَهُ كُلّ شَيْء كَمَا لَوْ تَحَلَّلَ الْمُحْرِم بِالْحَجِّ، وَأَجَابُوا عَنْ هَذِهِ الرِّوَايَة بِأَنَّهَا مُخْتَصَرَة مِنْ الرِّوَايَات الَّتِي ذَكَرَهَا مُسْلِم بَعْدهَا، وَاَلَّتِي ذَكَرَهَا قَبْلهَا عَنْ عَائِشَة قَالَتْ: «خَرَجْنَا مَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَام حَجَّة الْوَدَاع فَأَهْلَلْنَا بِعُمْرَةٍ، ثُمَّ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْي فَلْيُهْلِلْ بِالْحَجِّ مَعَ الْعُمْرَة ثُمَّ لَا يَحِلّ حَتَّى يَحِلّ مِنْهُمَا جَمِيعًا». فَهَذِهِ الرِّوَايَة مُفَسِّرَة لِلْمَحْذُوفِ مِنْ الرِّوَايَة الَّتِي اِحْتَجَّ بِهَا أَبُو حَنِيفَة وَتَقْدِيرهَا: وَمَنْ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ وَأَهْدَى فَلْيُهْلِلْ بِالْحَجِّ وَلَا يَحِلّ حَتَّى يَنْحَر هَدْيه: ولابد مِنْ هَذَا التَّأْوِيل؛ لِأَنَّ الْقَضِيَّة وَاحِدَة وَالرَّاوِي وَاحِد، فَيَتَعَيَّن الْجَمْع بَيْن الرِّوَايَتَيْنِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ. وَاَللَّه أَعْلَم.
2110- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَأَمْسِكِي عَنْ الْعُمْرَة» فيه دَلَالَة ظَاهِرَة عَلَى أَنَّهَا لَمْ تَخْرُج مِنْهَا، وَإِنَّمَا أَمْسَكَتْ عَنْ أَعْمَالهَا وَأَحْرَمَتْ بِالْحَجِّ، فَأَدْرَجَتْ أَعْمَالهَا بِالْحَجِّ، كَمَا سَبَقَ بَيَانه، وَهُوَ مُؤَيِّد لِلتَّأْوِيلِ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ فِي قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اُرْفُضِي عُمْرَتك وَدَعِي عُمْرَتك» أَنَّ الْمُرَاد رَفْض إِتْمَام أَعْمَالهَا، لَا إِبْطَال أَصْل الْعُمْرَة.
قَوْلهَا: «فَأَرْدَفَنِي» فيه دَلِيل عَلَى جَوَاز الْإِرْدَاف إِذَا كَانَتْ الدَّابَّة مُطِيقَة، وَقَدْ تَظَاهَرَتْ الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة بِذَلِكَ. وَفيه: جَوَاز إِرْدَاف الرَّجُل الْمَرْأَة مِنْ مَحَارِمه، وَالْخَلْوَة بِهَا، وَهَذَا مُجْمَع عَلَيْهِ.
2111- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَرَادَ مِنْكُمْ أَنْ يُهِلّ بِحَجٍّ وَعُمْرَة فَلْيَفْعَلْ، وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُهِلّ بِحَجٍّ فَلْيُهْلِلْ، وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُهِلّ بِعُمْرَةٍ فَلْيُهِلَّ» فيه دَلِيل لِجَوَازِ الْأَنْوَاع الثَّلَاثَة، وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى ذَلِكَ. وَإِنَّمَا اِخْتَلَفُوا فِي أَفْضَلهَا كَمَا سَبَقَ.
2112- قَوْلهَا: «خَرَجْنَا مَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّة الْوَدَاع مُوَافِينَ لِهِلَالِ ذِي الْحِجَّة» أَيْ مُقَارِنِينَ لِاسْتِهْلَالِهِ، وَكَانَ خُرُوجهمْ قَبْله لِخَمْسٍ فِي ذِي الْقَعْدَة، كَمَا صَرَّحَتْ بِهِ فِي رِوَايَة عَمْرَة الَّتِي ذَكَرَهَا مُسْلِم بَعْد هَذَا مِنْ حَدِيث عَبْد اللَّه بْن سَلَمَة عَنْ سُلَيْمَان بْن بِلَال عَنْ يَحْيَى عَنْ عَمْرَة.
قَوْلهَا: «فَلَمَّا كَانَتْ لَيْلَة الْحَصْبَة» هِيَ بِفَتْحِ الْحَاء وَإِسْكَان الصَّاد الْمُهْمَلَتَيْنِ، وَهِيَ الَّتِي بَعْد أَيَّام التَّشْرِيق، وَسُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهُمْ نَفَرُوا مِنْ مِنًى فَنَزَلُوا فِي الْمُحَصَّب وَبَاتُوا بِهِ.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَرَادَ مِنْكُمْ أَنْ يُهِلّ بِعُمْرَةٍ فَلْيُهِلَّ، فَلَوْلَا أَنِّي أَهْدَيْت لَأَهْلَلْت بِعُمْرَةٍ» هَذَا مِمَّا يَحْتَجّ بِهِ مَنْ يَقُول بِتَفْضِيلِ التَّمَتُّع، وَمِثْله قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ اِسْتَقْبَلْت مِنْ أَمْرِي مَا اِسْتَدْبَرْت مَا سُقْت الْهَدْي».
وَوَجْه الدَّلَالَة مِنْهُمَا أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَتَمَنَّى إِلَّا الْأَفْضَل، وَأَجَابَ الْقَائِلُونَ بِتَفْضِيلِ الْإِفْرَاد بِأَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا قَالَ هَذَا مِنْ أَجْل فَسْخ الْحَجّ إِلَى الْعُمْرَة الَّذِي هُوَ خَاصّ لَهُمْ فِي تِلْكَ السُّنَّة خَاصَّة، لِمُخَالَفَةِ الْجَاهِلِيَّة، وَلَمْ يُرِدْ بِذَلِكَ التَّمَتُّع الَّذِي فيه الْخِلَاف، وَقَالَ هَذَا تَطْيِيبًا لِقُلُوبِ أَصْحَابه، وَكَانَتْ نُفُوسهمْ لَا تَسْمَح بِفَسْخِ الْحَجّ إِلَى الْعُمْرَة، كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْأَحَادِيث الَّتِي بَعْد هَذَا، فَقَالَ لَهُمْ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا الْكَلَام، وَمَعْنَاهُ: مَا يَمْنَعنِي مِنْ مُوَافَقَتكُمْ فِيمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ إِلَى سَوْقِي الْهَدْي، وَلَوْلَاهُ لَوَافَقْتُكُمْ، وَلَوْ اِسْتَقْبَلْت هَذَا الرَّأْي- وَهُوَ الْإِحْرَام بِالْعُمْرَةِ فِي أَشْهُر الْحَجّ- مِنْ أَوَّل أَمْرِي لَمْ أَسُقْ الْهَدْي.
وَفِي هَذِهِ الرِّوَايَة تَصْرِيح بِأَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ مُتَمَتِّعًا.
قَوْلهَا: «فَقَضَى اللَّه حَجّنَا وَعُمْرَتنَا وَلَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ هَدْي وَلَا صَدَقَة وَلَا صَوْم» هَذَا مَحْمُول عَلَى إِخْبَارهَا عَنْ نَفْسهَا، أَيْ لَمْ يَكُنْ عَلَيَّ فِي ذَلِكَ هَدْي وَلَا صَدَقَة وَلَا صَوْم، ثُمَّ إِنَّهُ مُشْكِل مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا كَانَتْ قَارِنَة، وَالْقَارِن يَلْزَمهُ الدَّم، وَكَذَلِكَ الْمُتَمَتِّع، وَيُمْكِن أَنْ يُتَأَوَّل هَذَا عَلَى أَنَّ الْمُرَاد لَمْ يَجِب عَلَيَّ دَم اِرْتِكَاب شَيْء مِنْ مَحْظُورَات الْإِحْرَام، كَالطِّيبِ، وَسَتْر الْوَجْه، وَقَتْل الصَّيْد، وَإِزَالَة شَعْر وَظُفْر، وَغَيْر ذَلِكَ، أَيْ لَمْ أَرْتَكِب مَحْظُورًا فَيَجِب بِسَبَبِهِ هَدْي أَوْ صَدَقَة أَوْ صَوْم. هَذَا هُوَ الْمُخْتَار فِي تَأْوِيله، وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاض: فيه دَلِيل عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ فِي حَجّ مُفْرَد لَا تَمَتُّع وَلَا قِرَان؛ لِأَنَّ الْعُلَمَاء مُجْمِعُونَ عَلَى وُجُوب الدَّم فيهمَا إِلَّا دَاوُدَ الظَّاهِرِيّ، فَقَالَ: لَا دَم عَلَى الْقَارِن. هَذَا كَلَام الْقَاضِي، وَهَذَا اللَّفْظ وَهُوَ قَوْله: «وَلَمْ يَكُنْ عَلَيَّ فِي ذَلِكَ هَدْي وَلَا صَدَقَة وَلَا صَوْم» ظَاهِره فِي الرِّوَايَة الْأُولَى أَنَّهُ مِنْ كَلَام عَائِشَة، وَلَكِنْ صَرَّحَ فِي الرِّوَايَة الَّتِي بَعْدهَا بِأَنَّهُ مِنْ كَلَام هِشَام بْن عُرْوَة، فَيُحْمَل الْأَوَّل عَلَيْهِ، وَيَكُون الْأَوَّل فِي مَعْنَى الْمُدْرَج.
قَوْلهَا: «خَرَجْنَا مُوَافِينَ مَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِهِلَالِ ذِي الْحَجَّة لَا نَرَى إِلَّا الْحَجّ» مَعْنَاهُ: لَا نَعْتَقِد أَنَّا نُحْرِم إِلَّا بِالْحَجِّ؛ لِأَنَّا كُنَّا نَظُنّ اِمْتِنَاع الْعُمْرَة فِي أَشْهُر الْحَجّ.
2114- قَوْلهَا: «حَتَّى إِذَا كُنَّا بِسَرِف» هُوَ بِفَتْحِ السِّين الْمُهْمَلَة وَكَسْر الرَّاء، وَهُوَ مَا بَيْن مَكَّة وَالْمَدِينَة بِقُرْبِ مَكَّة عَلَى أَمْيَال مِنْهَا، قِيلَ: سِتَّة، وَقِيلَ: سَبْعَة، وَقِيلَ: تِسْعَة، وَقِيلَ عَشَرَة، وَقِيلَ: اِثْنَا عَشَر مِيلًا.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَفِسْت» مَعْنَاهُ: أَحِضْت؟ وَهُوَ بِفَتْحِ النُّون وَضَمّهَا لُغَتَانِ مَشْهُورَتَانِ، الْفَتْح أَفْصَح، وَالْفَاء مَكْسُورَة فيهمَا، وَأَمَّا النِّفَاس الَّذِي هُوَ الْوِلَادَة فَيُقَال فيه: (نُفِسَتْ) بِالضَّمِّ لَا غَيْر.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَيْض: «هَذَا شَيْء كَتَبَهُ اللَّه عَلَى بَنَات آدَم» هَذَا تَسْلِيَة لَهَا وَتَخْفِيف لِهَمِّهَا، وَمَعْنَاهُ: أَنَّك لَسْت مُخْتَصَّة بِهِ، بَلْ كُلّ بَنَات آدَم يَكُون مِنْهُنَّ هَذَا، كَمَا يَكُون مِنْهُنَّ وَمِنْ الرِّجَال الْبَوْل وَالْغَائِط وَغَيْرهمَا، وَاسْتَدَلَّ الْبُخَارِيّ فِي صَحِيحه فِي كِتَاب الْحَيْض بِعُمُومِ هَذَا الْحَدِيث عَلَى أَنَّ الْحَيْض كَانَ فِي جَمِيع بَنَات آدَم، وَأَنْكَرَ بِهِ عَلَى مَنْ قَالَ: إِنَّ الْحَيْض أَوَّل مَا أُرْسِلَ وَوَقَعَ فِي بَنِي إِسْرَائِيل. قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَاقْضِي مَا يَقْضِي الْحَاجّ غَيْر أَلَّا تَطُوفِي بِالْبَيْتِ حَتَّى تَغْتَسِلِي»، مَعْنَى (اِقْضِي) اِفْعَلِي، كَمَا قَالَ فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: «فَاصْنَعِي» وَفِي هَذَا دَلِيل عَلَى أَنَّ الْحَائِض وَالنُّفَسَاء وَالْمُحْدِث وَالْجُنُب يَصِحّ مِنْهُمْ جَمِيع أَفْعَال الْحَجّ وَأَقْوَاله وَهَيْئَاته إِلَّا الطَّوَاف وَرَكْعَتَيْهِ، فَيَصِحّ الْوُقُوف بِعَرَفَاتٍ وَغَيْره كَمَا ذَكَرْنَا، وَكَذَلِكَ الْأَغْسَال الْمَشْرُوعَة فِي الْحَجّ تُشْرَع لِلْحَائِضِ وَغَيْرهَا مِمَّنْ ذَكَرْنَا.
وَفيه دَلِيل عَلَى أَنَّ الطَّوَاف لَا يَصِحّ مِنْ الْحَائِض، وَهَذَا مُجْمَع عَلَيْهِ، لَكِنْ اِخْتَلَفُوا فِي عِلَّته عَلَى حَسَب اِخْتِلَافهمْ فِي اِشْتِرَاط الطَّهَارَة لِلطَّوَافِ، فَقَالَ مَالِك وَالشَّافِعِيّ وَأَحْمَد: هِيَ شَرْط، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة: لَيْسَتْ بِشَرْطٍ، وَبِهِ قَالَ دَاوُدُ، فَمَنْ شَرَطَ الطَّهَارَة قَالَ: الْعِلَّة فِي بُطْلَان طَوَاف الْحَائِض عَدَم الطَّهَارَة. وَمَنْ لَمْ يَشْتَرِطهَا قَالَ: الْعِلَّة فيه كَوْنهَا مَمْنُوعَة مِنْ اللُّبْث فِي الْمَسْجِد.
قَوْلهَا: «وَضَحَّى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ نِسَائِهِ بِالْبَقَرِ» هَذَا مَحْمُول عَلَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اِسْتَأْذَنَهُنَّ فِي ذَلِكَ، فَإِنَّ تَضْحِيَة الْإِنْسَان عَنْ غَيْره لَا تَجُوز إِلَّا بِإِذْنِهِ، وَاسْتَدَلَّ بِهِ مَالِك فِي أَنَّ التَّضْحِيَة بِالْبَقَرِ أَفْضَل مِنْ بَدَنَة، وَلَا دَلَالَة فيه؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فيه ذِكْر تَفْضِيل الْبَقَر وَلَا عُمُوم لَفْظ، إِنَّمَا هِيَ قَضِيَّة عَيْن مُحْتَمِلَة لِأُمُورٍ، فَلَا حُجَّة فيها لِمَا قَالَهُ، وَذَهَبَ الشَّافِعِيّ وَالْأَكْثَرُونَ إِلَى أَنَّ التَّضْحِيَة بِالْبَدَنَةِ أَفْضَل مِنْ الْبَقَرَة؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ رَاحَ فِي السَّاعَة الْأُولَى فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَدَنَة، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَة الثَّانِيَة فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَقَرَة» إِلَى آخِره.
2115- قَوْلهَا: «فَطَمِثْت» هُوَ بِفَتْحِ الطَّاء وَكَسْر الْمِيم أَيْ حِضْت، يُقَال: حَاضَتْ الْمَرْأَة وَتَحَيَّضَتْ، وَطَمِثَتْ وَعَرَكَتْ بِفَتْحِ الرَّاء، وَنَفِسَتْ وَضَحِكَتْ وَأَعْصَرَتْ وَأَكْبَرَتْ، كُلّه بِمَعْنًى وَاحِد، وَالِاسْم مِنْهُ الْحَيْض وَالطَّمْس وَالْعَرَاك وَالضَّحِك وَالْإِكْبَار وَالْإِعْصَار، وَهِيَ حَائِض وَحَائِضَة فِي لُغَة غَرِيبَة، حَكَاهَا الْفَرَّاء، وَطَامِث وَعَارِك وَمُكَبِّر وَمُعْصِر.
وَفِي هَذِهِ الْأَحَادِيث جَوَاز حَجّ الرَّجُل بِامْرَأَتِهِ، وَهُوَ مَشْرُوع بِالْإِجْمَاعِ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْحَجّ يَجِب عَلَى الْمَرْأَة إِذَا اِسْتَطَاعَتْهُ.
وَاخْتَلَفَ السَّلَف هَلْ الْمُحْرِم لَهَا مِنْ شُرُوط الِاسْتِطَاعَة؟ وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ لِزَوْجِهَا أَنْ يَمْنَعهَا مِنْ حَجّ التَّطَوُّع، وَأَمَّا حَجّ الْفَرْض فَقَالَ جُمْهُور الْعُلَمَاء: لَيْسَ لَهُ مَنْعهَا مِنْهُ، وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ: أَحَدهمَا: لَا يَمْنَعهَا مِنْهُ، كَمَا قَالَ الْجُمْهُور، وَأَصَحّهمَا: لَهُ مَنْعهَا، لِأَنَّ حَقّه عَلَى الْفَوْر، وَالْحَجّ عَلَى التَّرَاخِي، قَالَ أَصْحَابنَا: وَيُسْتَحَبّ لَهُ أَنْ يَحُجّ بِزَوْجَتِهِ، لِلْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَة فيه.
قَوْلهَا: «ثُمَّ أَهَلُّوا حِين رَاحُوا» يَعْنِي الَّذِينَ تَحَلَّلُوا بِعُمْرَةٍ وَأَهَلُّوا بِالْحَجِّ حِين رَاحُوا إِلَى مِنًى، وَذَلِكَ يَوْم التَّرْوِيَة وَهُوَ الثَّامِن مِنْ ذِي الْحِجَّة. وَفيه دَلَالَة لِمَذْهَبِ الشَّافِعِيّ وَمُوَافِقِيهِ أَنَّ الْأَفْضَل فِيمَنْ هُوَ بِمَكَّة أَنْ يُحْرِم بِالْحَجِّ يَوْم التَّرْوِيَة، وَلَا يُقَدِّمهُ عَلَيْهِ، وَقَدْ سَبَقَتْ الْمَسْأَلَة.
قَوْلهَا: «أَنْعُس» هُوَ بِضَمِّ الْعَيْن.
قَوْلهَا: «فَأَهْلَلْت مِنْهَا بِعُمْرَةٍ جَزَاء بِعُمْرَةِ النَّاس» أَيْ تَقُوم مَقَام عُمْرَة النَّاس وَتَكْفِينِي عَنْهَا.
2117- قَوْلهَا: «خَرَجْنَا مَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُهَلِّينَ بِالْحَجِّ فِي أَشْهُر الْحَجّ وَفِي حُرُم الْحَجّ وَلَيَالِي الْحَجّ» قَوْلهَا: «حُرُم الْحَجّ». هُوَ بِضَمِّ الْحَاء وَالرَّاء كَذَا ضَبَطْنَاهُ، وَكَذَا نَقَلَهُ الْقَاضِي عِيَاض فِي الْمَشَارِق عَنْ جُمْهُور الرُّوَاة، قَالَ: وَضَبَطَهُ الْأَصِيلِيّ بِفَتْحِ الرَّاء، قَالَ: فَعَلَى الضَّمّ كَأَنَّهَا تُرِيد الْأَوْقَات وَالْمَوَاضِع وَالْأَشْيَاء وَالْحَالَات، أَمَّا بِالْفَتْحِ فَجَمْع (حُرْمَة) أَيْ مَمْنُوعَات الشَّرْع وَمُحَرَّمَاته، وَكَذَلِكَ قِيلَ لِلْمَرْأَةِ الْمُحْرِمَة بِنَسَبٍ حُرْمَة، وَجَمْعهَا حُرُم وَأَمَّا قَوْلهَا: «فِي أَشْهُر الْحُرُم» فَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي الْمُرَاد بِأَشْهُرِ الْحَجّ فِي قَوْل اللَّه تَعَالَى: {الْحَجّ أَشْهُر مَعْلُومَات} فَقَالَ الشَّافِعِيّ وَجَمَاهِير الْعُلَمَاء مِنْ الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ فَمَنْ بَعْدهمْ: هِيَ شَوَّال وَذُو الْقَعْدَة وَعَشْر لَيَالٍ مِنْ ذِي الْحِجَّة تَمْتَدّ إِلَى الْفَجْر لَيْلَة النَّحْر، وَرُوِيَ هَذَا عَنْ مَالِك أَيْضًا، وَالْمَشْهُور عَنْهُ شَوَّال وَذُو الْقَعْدَة وَذُو الْحِجَّة بِكَمَالِهِ، وَهُوَ مَرْوِيّ أَيْضًا عَنْ اِبْن عَبَّاس وَابْن عُمَر، وَالْمَشْهُور عَنْهُمَا مَا قَدَّمْنَاهُ عَنْ الْجُمْهُور.
قَوْلهَا: «فَخَرَجَ إِلَى أَصْحَابه فَقَالَ: مَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ مِنْكُمْ هَدْي فَأَحَبَّ أَنْ يَجْعَلهَا عُمْرَة فَلْيَفْعَلْ، وَمَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْي فَلَا، فَمِنْهُمْ الْآخِذ بِهَا وَالتَّارِك لَهَا مِمَّنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْي» وَفِي الْحَدِيث الْآخَر بَعْد هَذَا أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَوَمَا شَعَرْت أَنِّي أَمَرْت النَّاس بِأَمْرٍ فَإِذَا هُمْ يَتَرَدَّدُونَ»، وَفِي حَدِيث جَابِر: «فَأَمَرَنَا أَنْ نَحِلّ» يَعْنِي بِعُمْرَةٍ، وَقَالَ فِي آخِره: «قَالَ: فَحِلُّوا قَالَ: فَحَلَلْنَا وَسَمِعْنَا وَأَطَعْنَا»، وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: «أَحِلُّوا مِنْ إِحْرَامكُمْ فَطُوفُوا بِالْبَيْتِ وَبَيْن الصَّفَا وَالْمَرْوَة وَقَصِّرُوا وَأَقِيمُوا حَلَالًا، حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْم التَّرْوِيَة فَأَهِّلُوا بِالْحَجِّ، وَاجْعَلُوا الَّذِي قَدِمْتُمْ بِهَا مُتْعَة، قَالُوا: كَيْف نَجْعَلهَا مُتْعَة وَقَدْ سَمَّيْنَا بِالْحَجِّ؟ قَالَ: اِفْعَلُوا مَا آمُركُمْ بِهِ».
هَذِهِ الرِّوَايَات صَحِيحَة فِي أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُمْ بِفَسْخِ الْحَجّ إِلَى الْعُمْرَة أَمْر عَزِيمَة وَتَحَتُّم بِخِلَافِ الرِّوَايَة الْأُولَى وَهِيَ قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْي فَأَحَبَّ أَنْ يَجْعَلهَا عُمْرَة فَلْيَفْعَلْ» قَالَ الْعُلَمَاء: خَيَّرَهُمْ أَوَّلًا بَيْن الْفَسْخ وَعَدَمه مُلَاطَفَة لَهُمْ وَإِينَاسًا بِالْعُمْرَةِ فِي أَشْهُر الْحَجّ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَرَوْنَهَا مِنْ أَفْجَر الْفُجُور، ثُمَّ حَتَّمَ عَلَيْهِمْ بَعْد ذَلِكَ الْفَسْخ وَأَمَرَهُمْ بِهِ أَمْر عَزِيمَة وَأَلْزَمَهُمْ إِيَّاهُ وَكَرِهَ تَرَدُّدهمْ فِي قَبُول ذَلِكَ، ثُمَّ قَبِلُوهُ وَفَعَلُوهُ إِلَّا مَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْي وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْلهَا: «سَمِعْت كَلَامك مَعَ أَصْحَابك فَسَمِعْت بِالْعُمْرَةِ» كَذَا هُوَ فِي النُّسَخ: «فَسَمِعْت بِالْعُمْرَةِ» قَالَ الْقَاضِي: كَذَا رَوَاهُ جُمْهُور رُوَاة مُسْلِم، وَرَوَاهُ بَعْضهمْ: «فَمُنِعْت الْعُمْرَة» وَهُوَ الصَّوَاب.
قَوْلهَا: «قَالَ: وَمَا لَك؟ قُلْت: لَا أُصَلِّي» فيه اِسْتِحْبَاب الْكِنَايَة عَنْ الْحَيْض وَنَحْوه مِمَّا يُسْتَحَى مِنْهُ، وَيُسْتَشْنَع لَفْظه، إِلَّا إِذَا كَانَتْ حَاجَة كَإِزَالَةِ وَهْم وَنَحْو ذَلِكَ.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اُخْرُجْ بِأُخْتِك مِنْ الْحَرَم فَلْتُهِلَّ بِعُمْرَةٍ» فيه دَلِيل لِمَا قَالَهُ الْعُلَمَاء أَنَّ مَنْ كَانَ بِمَكَّة وَأَرَادَ الْعُمْرَة فَمِيقَاته لَهَا أَدْنَى الْحِلّ، وَلَا يَجُوز أَنْ يُحْرِم بِهَا مِنْ الْحَرَم، فَإِنْ خَالَفَ وَأَحْرَمَ بِهَا مِنْ الْحَرَم وَخَرَجَ إِلَى الْحِلّ قَبْل الطَّوَاف أَجْزَأَهُ وَلَا دَم عَلَيْهِ. وَإِنْ لَمْ يَخْرُج وَطَافَ وَسَعَى وَحَلَقَ فَفيه قَوْلَانِ: أَحَدهمَا لَا تَصِحّ عُمْرَته حَتَّى يَخْرُج إِلَى الْحِلّ ثُمَّ يَطُوف وَيَسْعَى وَيَحْلِق، وَالثَّانِي وَهُوَ الْأَصَحّ يَصِحّ وَعَلَيْهِ دَم لِتَرْكِهِ الْمِيقَات.
قَالَ الْعُلَمَاء: وَإِنَّمَا وَجَبَ الْخُرُوج إِلَى الْحِلّ لِيَجْمَع فِي نُسُكه بَيْن الْحِلّ وَالْحَرَم، كَمَا أَنَّ الْحَاجّ يَجْمَع بَيْنهمَا فَإِنَّهُ يَقِف بِعَرَفَاتٍ وَهِيَ فِي الْحِلّ، ثُمَّ يَدْخُل مَكَّة لِلطَّوَافِ وَغَيْره.
هَذَا تَفْصِيل مَذْهَب الشَّافِعِيّ، وَهَكَذَا قَالَ جُمْهُور الْعُلَمَاء أَنَّهُ يَجِب الْخُرُوج لِإِحْرَامِ الْعُمْرَة إِلَى أَدْنَى الْحِلّ، وَأَنَّهُ لَوْ أَحْرَمَ بِهَا فِي الْحَرَم وَلَمْ يَخْرُج لَزِمَهُ دَم.
وَقَالَ عَطَاء: لَا شَيْء عَلَيْهِ.
وَقَالَ مَالِك: لَا يُجْزِئهُ حَتَّى يَخْرُج إِلَى الْحِلّ.
قَالَ الْقَاضِي عِيَاض: وَقَالَ مَالِك: لابد مِنْ إِحْرَامه مِنْ التَّنْعِيم خَاصَّة. قَالُوا: وَهُوَ مِيقَات الْمُعْتَمِرِينَ مِنْ مَكَّة، وَهَذَا شَاذّ مَرْدُود، وَاَلَّذِي عَلَيْهِ الْجَمَاهِير أَنَّ جَمِيع جِهَات الْحِلّ سَوَاء، وَلَا تَخْتَصّ بِالتَّنْعِيمِ. وَاَللَّه أَعْلَم.
وَأَمَّا قَوْلهَا: «فَأَذَّنَ فِي أَصْحَابه فَخَرَجَ فَمَرَّ بِالْبَيْتِ وَطَافَ» فَيُتَأَوَّل عَلَى أَنَّ فِي الْكَلَام تَقْدِيمًا وَتَأْخِيرًا وَأَنَّ طَوَافه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ بَعْد خُرُوجهَا إِلَى الْعُمْرَة وَقَبْل رُجُوعهَا، وَأَنَّهُ فَرَغَ قَبْل طَوَافهَا لِلْعُمْرَةِ.
2120- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَلَكِنَّهَا عَلَى قَدْر نَصَبك أَوْ قَالَ: نَفَقَتك» هَذَا ظَاهِر فِي أَنَّ الثَّوَاب وَالْفَضْل فِي الْعِبَادَة يَكْثُر بِكَثْرَةِ النَّصَب وَالنَّفَقَة، وَالْمُرَاد النَّصَب الَّذِي لَا يَذُمّهُ الشَّرْع، وَكَذَا النَّفَقَة.
2121- قَوْلهَا: «قَالَتْ صَفِيَّة: مَا أُرَانِي إِلَّا حَابِسَتكُمْ. قَالَ: عَقْرَى حَلْقَى أَوْ مَا كُنْت طُفْت يَوْم النَّحْر قَالَتْ: بَلَى قَالَ: لَا بَأْس اِنْفِرِي» مَعْنَاهُ أَنَّ صَفِيَّة أُمّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّه عَنْهَا حَاضَتْ قَبْل طَوَاف الْوَدَاع، فَلَمَّا أَرَادَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرُّجُوع إِلَى الْمَدِينَة قَالَتْ: مَا أَظُنّنِي إِلَّا حَابِسَتكُمْ لِانْتِظَارِ طُهْرِي وَطَوَافِي لِلْوَدَاعِ فَإِنِّي لَمْ أَطُفْ لِلْوَدَاعِ، وَقَدْ حِضْت وَلَا يُمْكِننِي الطَّوَاف الْآن، وَظَنَّتْ أَنَّ طَوَاف الْوَدَاع لَا يَسْقُط عَنْ الْحَائِض، فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَمَا كُنْت طُفْت طَوَاف الْإِفَاضَة يَوْم النَّحْر؟ قَالَتْ: بَلَى قَالَ: يَكْفِيك ذَلِكَ» لِأَنَّهُ هُوَ الطَّوَاف الَّذِي هُوَ رُكْن. ولابد لِكُلِّ أَحَد مِنْهُ.
وَأَمَّا طَوَاف الْوَدَاع فَلَا يَجِب عَلَى الْحَائِض.
وَأَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عَقْرَى حَلْقَى» فَهَكَذَا يَرْوِيه الْمُحَدِّثُونَ بِالْأَلِفِ الَّتِي هِيَ أَلِف التَّأْنِيث، وَيَكْتُبُونَهُ بِالْيَاءِ وَلَا يُنَوِّنُونَهُ، وَهَكَذَا نَقَلَهُ جَمَاعَة لَا يُحْصَوْنَ مِنْ أَئِمَّة اللُّغَة، وَغَيْرهمْ عَنْ رِوَايَة الْمُحَدِّثِينَ. وَهُوَ صَحِيح فَصِيح.
قَالَ الْأَزْهَرِيّ فِي تَهْذِيب اللُّغَة: قَالَ أَبُو عُبَيْد: مَعْنَى (عَقْرَى) عَقَرَهَا اللَّه تَعَالَى، و(حَلْقَى) حَلَقَهَا اللَّه.
قَالَ: يَعْنِي عَقَرَ اللَّه جَسَدهَا وَأَصَابَهَا بِوَجَعٍ فِي حَلْقهَا.
قَالَ أَبُو عُبَيْد: أَصْحَاب الْحَدِيث يَرْوُونَهُ (عَقْرَى حَلْقَى)، وَإِنَّمَا هُو: (عَقْرًا حَلْقًا).
قَالَ: وَهَذَا عَلَى مَذْهَب الْعَرَب فِي الدُّعَاء عَلَى الشَّيْء مِنْ غَيْر إِرَادَة وُقُوعه.
قَالَ شَمِر: قُلْت لِأَبِي عُبَيْد: لِمَ لَا تُجِيز (عَقْرَى)؟ فَقَالَ: لِأَنَّ (فَعْلَى) تَجِيء نَعْتًا وَلَمْ تَجِئْ فِي الدُّعَاء، فَقُلْت: رَوَى اِبْن شُمَيْلٍ عَنْ الْعَرَب (مَطْبَرَى)، وَعَقْرَى أَخَفّ مِنْهَا، فَلَمْ يُنْكِرهُ. هَذَا آخِر مَا ذَكَرَهُ الْأَزْهَرِيّ.
وَقَالَ صَاحِب الْمُحْكَم: يُقَال لِلْمَرْأَةِ عَقْرَى حَلْقَى مَعْنَاهُ عَقَرَهَا اللَّه وَحَلَقَهَا أَيْ حَلَقَ شَعْرهَا أَوْ أَصَابَهَا بِوَجَعٍ فِي حَلْقهَا قَالَ: فَعَقْرَى هَاهُنَا مَصْدَر كَدَعْوَى.
وَقِيلَ: مَعْنَاهُ تَعْقِر قَوْمهَا وَتَحْلُقهُمْ بِشُؤْمِهَا.
وَقِيلَ: الْعَقْرَى الْحَائِض.
وَقِيلَ: عَقْرَى حَلْقَى أَيْ عَقَرَهَا اللَّه وَحَلَقَهَا. هَذَا آخِر كَلَام صَاحِب الْمُحْكَم.
وَقِيلَ: مَعْنَاهُ جَعَلَهَا اللَّه عَاقِرًا لَا تَلِد، وَحَلْقَى مَشْئُومَة عَلَى أَهْلهَا. وَعَلَى كُلّ قَوْل فَهِيَ كَلِمَة كَانَ أَصْلهَا مَا ذَكَرْنَاهُ، ثُمَّ اِتَّسَعَتْ الْعَرَب فيها فَصَارَتْ تُطْلِقهَا وَلَا تُرِيد حَقِيقَة مَا وُضِعَتْ لَهُ أَوَّلًا، وَنَظِيره تَرِبَتْ يَدَاهُ، وَقَاتَلَهُ اللَّه مَا أَشْجَعه وَمَا أَشْعَره. وَاَللَّه أَعْلَم.
وَفِي هَذَا الْحَدِيث دَلِيل عَلَى أَنَّ طَوَاف الْوَدَاع لَا يَجِب عَلَى الْحَائِض، وَلَا يَلْزَمهَا الصَّبْر إِلَى طُهْرهَا لِتَأْتِي بِهِ، وَلَا دَم عَلَيْهَا فِي تَرْكه، وَهَذَا مَذْهَبنَا وَمَذْهَب الْعُلَمَاء كَافَّة إِلَّا مَا حَكَاهُ الْقَاضِي عَنْ بَعْض السَّلَف وَهُوَ شَاذّ مَرْدُود.
قَوْلهَا: «فَلَقِيَنِي رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُصْعِد مِنْ مَكَّة، وَأَنَا مُنْهَبِطَة عَلَيْهَا، أَوْ أَنَا مُصْعِدَة، وَهُوَ مُنْهَبِط مِنْهَا» وَقَالَتْ فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: «فَجِئْنَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي مَنْزِله فَقَالَ: هَلْ فَرَغْت؟ فَقُلْت: نَعَمْ فَأَذَّنَ فِي أَصْحَابه فَخَرَجَ فَمَرَّ بِالْبَيْتِ وَطَافَ» وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: «فَأَقْبَلْنَا حَتَّى أَتَيْنَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بِالْحَصْبَةِ» وَجْه الْجَمْع بَيْن هَذِهِ الرِّوَايَات أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ عَائِشَة مَعَ أَخِيهَا بَعْد نُزُوله الْمُحَصَّب، وَوَاعَدَهَا أَنْ تَلْحَقهُ بَعْد اِعْتِمَارهَا، ثُمَّ خَرَجَ هُوَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْد ذَهَابهَا، فَقَصَدَ الْبَيْت لِيَطُوفَ طَوَاف الْوَدَاع، ثُمَّ رَجَعَ بَعْد فَرَاغه مِنْ طَوَاف الْوَدَاع، وَكُلّ هَذَا فِي اللَّيْل وَهِيَ اللَّيْلَة الَّتِي تَلِي أَيَّام التَّشْرِيق، فَلَقِيَهَا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ صَادِر بَعْد طَوَاف الْوَدَاع، وَهِيَ دَاخِلَة لِطَوَافِ عُمْرَتهَا، ثُمَّ فَرَغَتْ مِنْ عُمْرَتهَا، وَلَحِقَتْهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بَعْد فِي مَنْزِله بِالْمُحَصَّبِ.
2122- وَقَوْلهَا: «فَدَخَلَ عَلَيَّ وَهُوَ غَضْبَان فَقُلْت: مَنْ أَغْضَبَك يَا رَسُول اللَّه أَدْخَلَهُ اللَّه النَّار قَالَ: أَوَمَا شَعَرْت أَنِّي أَمَرْت النَّاس بِأَمْرٍ فَإِذَا هُمْ يَتَرَدَّدُونَ» أَمَّا غَضَبه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلِانْتِهَاكِ حُرْمَة الشَّرْع، وَتَرَدُّدهمْ فِي قَبُول حُكْمه، وَقَدْ قَالَ اللَّه تَعَالَى: {فَلَا وَرَبّك لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوك فِيمَا شَجَرَ بَيْنهمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسهمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْت وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} فَغَضِبَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ اِنْتَهَاك حُرْمَة الشَّرْع وَالْحُزْن عَلَيْهِمْ فِي نَقْص إِيمَانهمْ بِتَوَقُّفِهِمْ. وَفيه دَلَالَة لِاسْتِحْبَابِ الْغَضَب عِنْد اِنْتَهَاك حُرْمَة الدِّين، وَفيه جَوَاز الدُّعَاء عَلَى الْمُخَالِف لِحُكْمِ الشَّرْع. وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَوَمَا شَعَرْت أَنِّي أَمَرْت النَّاس بِأَمْرٍ فَإِذَا هُمْ يَتَرَدَّدُونَ قَالَ الْحَكَم: كَأَنَّهُمْ يَتَرَدَّدُونَ أَحْسِب» قَالَ الْقَاضِي: كَذَا وَقَعَ هَذَا اللَّفْظ وَهُوَ صَحِيح وَإِنْ كَانَ فيه إِشْكَال قَالَ: وَزَادَ إِشْكَاله تَغْيِير فيه وَهُوَ قَوْله: (قَالَ الْحَكَم: كَأَنَّهُمْ يَتَرَدَّدُونَ) وَكَذَا رَوَاهُ اِبْن أَبِي شَيْبَة عَنْ الْحَكَم، وَمَعْنَاهُ أَنَّ الْحَكَم شَكَّ فِي لَفْظ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا مَعَ ضَبْطه لِمَعْنَاهُ فَشَكَّ هَلْ قَالَ: يَتَرَدَّدُونَ أَوْ نَحْوه مِنْ الْكَلَام؟ وَلِهَذَا قَالَ بَعْده: أَحْسِب أَيْ أَظُنّ أَنَّ هَذَا لَفْظه، وَيُؤَيِّدهُ قَوْل مُسْلِم بَعْده فِي حَدِيث غُنْدَر وَلَمْ يَذْكُر الشَّكّ مِنْ الْحَكَم فِي قَوْله: (يَتَرَدَّدُونَ) وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَلَوْ أَنِّي اِسْتَقْبَلْت مِنْ أَمْرِي مَا اِسْتَدْبَرْت مَا سُقْت الْهَدْي» هَذَا دَلِيل عَلَى جَوَاز قَوْل (لَوْ) فِي التَّأَسُّف عَلَى فَوَات أُمُور الدِّين وَمَصَالِح الشَّرْع، وَأَمَّا الْحَدِيث الصَّحِيح فِي أَنَّ: «لَوْ تَفْتَح عَمَل الشَّيْطَان» فَمَحْمُول عَلَى التَّأَسُّف عَلَى حُظُوظ الدُّنْيَا وَنَحْوهَا، وَقَدْ كَثُرَتْ الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة فِي اِسْتِعْمَال (لَوْ) فِي غَيْر حُظُوظ الدُّنْيَا وَنَحْوهَا، فَيُجْمَع بَيْن الْأَحَادِيث بِمَا ذَكَرْنَاهُ. وَاَللَّه أَعْلَم.
2124- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يُجْزِئ عَنْك طَوَافك بِالصَّفَا وَالْمَرْوَة عَنْ حَجّك وَعُمْرَتك» فيه دَلَالَة ظَاهِرَة عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ قَارِنَة، وَلَمْ تَرْفُض الْعُمْرَة رَفْض إِبْطَال، بَلْ تَرَكَتْ الِاسْتِمْرَار فِي أَعْمَال الْعُمْرَة بِانْفِرَادِهَا وَقَدْ سَبَقَ تَقْرِير هَذَا فِي أَوَّل هَذَا الْبَاب، وَسَبَقَ هُنَاكَ الِاسْتِدْلَال أَيْضًا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هُنَا: «يَسَعك طَوَافك لِحَجِّك وَعُمْرَتك».
2125- قَوْله فِي حَدِيث صَفِيَّة بِنْت شَيْبَة: عَنْ عَائِشَة: «فَجَعَلْت أَرْفَع خِمَارِي أَحْسُرهُ عَنْ عُنُقِي فَيَضْرِب رِجْلِي بِعِلَّةِ الرَّاحِلَة قُلْت لَهُ: وَهَلْ تَرَى مِنْ أَحَد؟ قَالَتْ: فَأَهْلَلْت بِعُمْرَةٍ» أَمَّا قَوْلهَا: «أَحْسُرهُ» فَبِكَسْرِ السِّين وَضَمّهَا لُغَتَانِ أَيْ أَكْشِفهُ وَأُزِيلهُ، وَأَمَّا قَوْلهَا (بِعِلَّةِ الرَّاحِلَة) فَالْمَشْهُور فِي اللُّغَة أَنَّهُ بِبَاءٍ مُوَحَّدَة ثُمَّ عَيْن مُهْمَلَة مَكْسُورَتَيْنِ ثُمَّ لَام مُشَدَّدَة ثُمَّ هَاء.
وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاض رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى: وَقَعَ فِي بَعْض الرِّوَايَات: «نَعْلَة» يَعْنِي بِالنُّونِ، وَفِي بَعْضهَا بِالْبَاءِ قَالَ: وَهُوَ كَلَام مُخْتَلّ قَالَ: قَالَ بَعْضهمْ: صَوَابه (ثَفِنَة الرَّاحِلَة) أَيْ فَخِذهَا يُرِيد مَا خَشُنَ مِنْ مَوَاضِع مَبَارِكهَا قَالَ أَهْل اللُّغَة: كُلّ مَا وَلِيَ الْأَرْض مِنْ كُلّ ذِي أَرْبَع إِذَا بَرَكَ فَهُو: (ثَفِنَة).
قَالَ الْقَاضِي: وَمَعَ هَذَا فَلَا يَسْتَقِيم هَذَا الْكَلَام، وَلَا جَوَابهَا لِأَخِيهَا بِقَوْلِهَا: «وَهَلْ تَرَى مِنْ أَحَد؟» وَلِأَنَّ رِجْل الرَّاكِب قَلَّ مَا تَبْلُغ ثَفِنَة الرَّاحِلَة، قَالَ: وَكُلّ هَذَا وَهْم.
قَالَ: وَالصَّوَاب: «فَيَضْرِب رِجْلِي بِنَعْلَة السَّيْف» يَعْنِي أَنَّهَا لَمَّا حَسَرَتْ خِمَارهَا ضَرَبَ أَخُوهَا رِجْلهَا بِنَعْلَة السَّيْف فَقَالَتْ: وَهَلْ تَرَى مِنْ أَحَد؟ هَذَا كَلَام الْقَاضِي. قُلْت: وَيُحْتَمَل أَنَّ الْمُرَاد فَيَضْرِب رِجْلِي بِسَبَبِ الرَّاحِلَة أَيْ يَضْرِب رِجْلِي عَامِدًا لَهَا فِي صُورَة مَنْ يَضْرِب الرَّاحِلَة، وَيَكُون قَوْلهَا (بِعِلَّةِ) مَعْنَاهُ بِسَبَبِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ يَضْرِب رِجْلهَا بِسَوْطٍ أَوْ عَصًا أَوْ غَيْر ذَلِكَ حِين تَكْشِف خِمَارهَا عَنْ عُنُقهَا غَيْرَة عَلَيْهَا، فَتَقُول لَهُ هِيَ: وَهَلْ تَرَى مِنْ أَحَد؟ أَيْ نَحْنُ فِي خَلَاء لَيْسَ هُنَا أَجْنَبِيّ أَسْتَتِر مِنْهُ. وَهَذَا التَّأْوِيل مُتَعَيِّن أَوْ كَالْمُتَعَيِّنِ لِأَنَّهُ مُطَابِق لِلَفْظِ الَّذِي صَحَّتْ بِهِ الرِّوَايَة، وَلِلْمَعْنَى، وَلِسِيَاقِ الْكَلَام، فَتَعَيَّنَ اِعْتِمَاده. وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْلهَا: «وَهُوَ بِالْحَصْبَةِ» هُوَ بِفَتْحِ الْحَاء وَإِسْكَان الصَّاد الْمُهْمَلَتَيْنِ أَيْ بِالْمُحَصَّبِ.
2127- قَوْله فِي حَدِيث جَابِر: «أَنَّ عَائِشَة عَرَكَتْ» هُوَ بِفَتْحِ الْعَيْن وَالرَّاء وَمَعْنَاهُ حَاضَتْ. يُقَال: عَرَكَتْ تَعْرُك عُرُوكًا كَقَعَدَتْ تَقْعُد قُعُودًا.
قَوْله: «أَهْلَلْنَا يَوْم التَّرْوِيَة» وَهُوَ الْيَوْم الثَّامِن مِنْ ذِي الْحِجَّة، سَبَقَ بَيَانه، وَفيه دَلِيل لِمَذْهَبِ الشَّافِعِيّ وَمُوَافِقِيهِ أَنَّ مَنْ كَانَ بِمَكَّة وَأَرَادَ الْإِحْرَام بِالْحَجِّ اُسْتُحِبَّ لَهُ أَنْ يُحْرِم يَوْم التَّرْوِيَة، وَلَا يُقَدِّمهُ عَلَيْهِ، وَسَبَقَتْ الْمَسْأَلَة وَمَذَاهِب الْعُلَمَاء فيها فِي أَوَائِل كِتَاب الْحَجّ.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هَذَا أَمْر كَتَبَهُ اللَّه عَلَى بَنَات آدَم فَاغْتَسِلِي ثُمَّ أَهِلِّي بِالْحَجِّ» هَذَا الْغُسْل هُوَ الْغُسْل لِلْإِحْرَامِ، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانه، وَأَنَّهُ يُسْتَحَبّ لِكُلِّ مَنْ أَرَادَ الْإِحْرَام بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَة سَوَاء الْحَائِض وَغَيْرهَا.
قَوْله: «حَتَّى إِذَا طَهَرَتْ» بِفَتْحِ الطَّاء وَضَمّهَا، وَالْفَتْح أَفْصَح.
قَوْله: «حَتَّى إِذَا طَهَرَتْ طَافَتْ بِالْكَعْبَةِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَة ثُمَّ قَالَ: قَدْ حَلَلْت مِنْ حَجّك وَعُمْرَتك جَمِيعًا» هَذَا صَرِيح فِي أَنَّ عُمْرَتهَا لَمْ تَبْطُل، وَلَمْ تَخْرُج مِنْهَا، وَأَنَّ قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اُرْفُضِي عُمْرَتك وَدَعِي عُمْرَتك» مُتَأَوَّل كَمَا سَبَقَ بَيَانه وَاضِحًا فِي أَوَائِل هَذَا الْبَاب.
قَوْله: «حَتَّى إِذَا طَهَرَتْ طَافَتْ بِالْكَعْبَةِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَة ثُمَّ قَالَ: قَدْ حَلَلْت مِنْ حَجّك وَعُمْرَتك جَمِيعًا» يُسْتَنْبَط مِنْهُ ثَلَاث مَسَائِل حَسَنَة إِحْدَاهَا أَنَّ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا كَانَتْ قَارِنَة وَلَمْ تَبْطُل عُمْرَتهَا، وَأَنَّ الرَّفْض الْمَذْكُور مُتَأَوَّل كَمَا سَبَقَ، وَالثَّانِيَة أَنَّ الْقَارِن يَكْفيه طَوَاف وَاحِد وَسَعْي وَاحِد، وَهُوَ مَذْهَب الشَّافِعِيّ، وَالْجُمْهُور، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة وَطَائِفَة: يَلْزَمهُ طَوَافَانِ وَسَعْيَانِ، وَالثَّالِثَة أَنَّ السَّعْي بَيْن الصَّفَا وَالْمَرْوَة يُشْتَرَط وُقُوعه بَعْد طَوَاف صَحِيح، وَمَوْضِع الدَّلَالَة أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهَا أَنْ تَصْنَع مَا يَصْنَع الْحَاجّ غَيْر الطَّوَاف بِالْبَيْتِ، وَلَمْ تَسْعَ كَمَا لَمْ تَطُفْ فَلَوْ لَمْ يَكُنْ السَّعْي مُتَوَقِّفًا عَلَى تَقَدُّم الطَّوَاف عَلَيْهِ لَمَا أَخَّرَتْهُ. وَاعْلَمْ أَنَّ طُهْر عَائِشَة هَذَا الْمَذْكُور كَانَ يَوْم السَّبْت، وَهُوَ يَوْم النَّحْر فِي حَجَّة الْوَدَاع، وَكَانَ اِبْتِدَاء حَيْضهَا هَذَا يَوْم السَّبْت أَيْضًا لِثَلَاثٍ خَلَوْنَ مِنْ ذِي الْحِجَّة سَنَة عَشْرَة، ذَكَرَهُ أَبُو مُحَمَّد بْن حَزْم فِي كِتَاب حَجَّة الْوَدَاع.
قَوْله: «وَكَانَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا سَهْلًا حَتَّى إِذَا هَوِيَتْ الشَّيْء تَابَعَهَا عَلَيْهِ» مَعْنَاهُ إِذَا هَوِيَتْ شَيْئًا لَا نَقْص فيه فِي الدِّين مِثْل طَلَبهَا الِاعْتِمَار وَغَيْره أَجَابَهَا إِلَيْهِ. وَقَوْله: «سَهْلًا» أَيْ سَهْل الْخُلُق كَرِيم الشَّمَائِل لَطِيفًا مُيَسَّرًا فِي الْخُلُق كَمَا قَالَ اللَّه تَعَالَى: {وَإِنَّك لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيم} وَفيه حُسْن مُعَاشَرَة الْأَزْوَاج.
قَالَ اللَّه تَعَالَى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} لاسيما فِيمَا كَانَ مِنْ بَاب الطَّاعَة وَاَللَّه أَعْلَم.
2128- قَوْله: «وَمَسِسْنَا الطِّيب» هُوَ بِكَسْرِ السِّين الْأُولَى هَذِهِ اللُّغَة الْمَشْهُورَة، وَفِي لُغَة قَلِيلَة بِفَتْحِهَا حَكَاهَا أَبُو عُبَيْد وَالْجَوْهَرِيّ قَالَ الْجَوْهَرِيّ: يُقَال: (مَسِسْت الشَّيْء) بِكَسْرِ السِّين (أَمَسّهُ) بِفَتْحِ الْمِيم (مَسًّا) فَهَذِهِ اللُّغَة الْفَصِيحَة.
قَالَ: وَحَكَى أَبُو عُبَيْدَة: (مَسَسْت الشَّيْء) بِالْفَتْحِ (أَمُسُّهُ) بِضَمِّ الْمِيم.
قَالَ: وَرُبَّمَا قَالُوا: (مَسَّتْ الشَّيْء) يَحْذِفُونَ مَعَهُ السِّين الْأُولَى، وَيُحَوِّلُونَ كَسْرَتهَا إِلَى الْمِيم.
قَالَ: وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُحَوِّل وَيَتْرُك الْمِيم عَلَى حَالهَا مَفْتُوحَة.
قَوْله: (وَكَفَانَا الطَّوَاف الْأَوَّل بَيْن الصَّفَا وَالْمَرْوَة) يَعْنِي الْقَارِن مِنَّا.
وَأَمَّا الْمُتَمَتِّع فلابد لَهُ مِنْ السَّعْي بَيْن الصَّفَا وَالْمَرْوَة فِي الْحَجّ بَعْد رُجُوعه مِنْ عَرَفَات وَبَعْد طَوَاف الْإِفَاضَة.
قَوْله: «فَأَمَرَنَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نَشْتَرِك فِي الْإِبِل وَالْبَقَر كُلّ سَبْعَة مِنَّا فِي بَدَنَة» (الْبَدَنَة) تُطْلَق عَلَى الْبَعِير وَالْبَقَرَة وَالشَّاة، لَكِنْ غَالِب اِسْتِعْمَالهَا فِي الْبَعِير، وَالْمُرَاد بِهَا هَاهُنَا الْبَعِير وَالْبَقَرَة، وَهَكَذَا قَالَ الْعُلَمَاء تَجْزِي الْبَدَنَة مِنْ الْإِبِل وَالْبَقَر كُلّ وَاحِدَة مِنْهُمَا عَنْ سَبْعَة. فَفِي هَذَا الْحَدِيث دَلَالَة لِإِجْزَاءِ كُلّ وَاحِدَة مِنْهُمَا عَنْ سَبْعَة أَنْفُس، وَقِيَامهَا مَقَام سَبْع شِيَاه. وَفيه دَلَالَة لِجَوَازِ الِاشْتِرَاك فِي الْهَدْي وَالْأُضْحِيَّة، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيّ وَمُوَافِقُوهُ، فَيَجُوز عِنْد الشَّافِعِيّ اِشْتَرَاك السَّبْعَة فِي بَدَنَة سَوَاء كَانُوا مُتَفَرِّقِينَ أَوْ مُجْتَمِعِينَ، وَسَوَاء كَانُوا مُفْتَرِضِينَ أَوْ مُتَطَوِّعِينَ، وَسَوَاء كَانُوا مُتَقَرِّبِينَ كُلّهمْ أَوْ كَانَ بَعْضهمْ مُتَقَرِّبًا، وَبَعْضهمْ يُرِيد اللَّحْم، رُوِيَ هَذَا عَنْ اِبْن عُمَر وَأَنَس، وَبِهِ قَالَ أَحْمَد، وَقَالَ مَالِك: يَجُوز إِنْ كَانُوا مُتَطَوِّعِينَ، وَلَا يَجُوز إِنْ كَانُوا مُفْتَرِضِينَ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة: إِنْ كَانُوا مُتَقَرِّبِينَ جَازَ سَوَاء اِتَّفَقَتْ قُرْبَتهمْ أَوْ اِخْتَلَفَتْ، وَإِنْ كَانَ بَعْضهمْ مُتَقَرِّبًا وَبَعْضهمْ يُرِيد اللَّحْم لَمْ يَصِحّ لِلِاشْتِرَاكِ.
2129- قَوْله: «أَمَرَنَا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَحْلَلْنَا أَنْ نُحْرِم إِذَا تَوَجَّهْنَا إِلَى مِنًى قَالَ: فَأَهْلَلْنَا مِنْ الْأَبْطَح» الْأَبْطَح هُوَ بَطْحَاء مَكَّة، وَهُوَ مُتَّصِل بِالْمُحَصَّبِ.
وَقَوْله: «إِذَا تَوَجَّهْنَا إِلَى مِنًى» يَعْنِي يَوْم التَّرْوِيَة كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الرِّوَايَة السَّابِقَة. وَفيه دَلِيل لِمَذْهَبِ الشَّافِعِيّ وَمُوَافِقِيهِ أَنَّ الْأَفْضَل لِلْمُتَمَتِّعِ وَكُلّ مَنْ أَرَادَ الْإِحْرَام بِالْحَجِّ مِنْ مَكَّة أَنْ لَا يُحْرِم بِهِ إِلَّا يَوْم التَّرْوِيَة.
وَقَالَ مَالِك وَآخَرُونَ: يُحْرِم مِنْ أَوَّل ذِي الْحِجَّة. وَسَبَقَتْ الْمَسْأَلَة بِأَدِلَّتِهَا. أَمَّا قَوْله: «فَأَهْلَلْنَا مِنْ الْأَبْطَح» فَقَدْ يَسْتَدِلّ بِهِ مَنْ يُجَوِّز لِلْمَكِّيِّ وَالْمُقِيم بِهَا الْإِحْرَام بِالْحَجِّ مِنْ الْحَرَم، وَفِي الْمَسْأَلَة وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا: أَصَحّهمَا لَا يَجُوز أَنْ يُحْرِم بِالْحَجِّ إِلَّا مِنْ دَاخِل مَكَّة، وَأَفْضَله مِنْ بَاب دَاره.
وَقِيلَ: مِنْ الْمَسْجِد الْحَرَام. وَالثَّانِي يَجُوز مِنْ مَكَّة وَمِنْ سَائِر الْحَرَم، وَقَدْ سَبَقَتْ الْمَسْأَلَة فِي بَاب الْمَوَاقِيت. فَمَنْ قَالَ بِالثَّانِي اِحْتَجَّ بِحَدِيثِ جَابِر هَذَا لِأَنَّهُمْ أَحْرَمُوا مِنْ الْأَبْطَح، وَهُوَ خَارِج مَكَّة، لَكِنَّهُ مِنْ الْحَرَم، وَمَنْ قَالَ بِالْأَوَّلِ، وَهُوَ الْأَصَحّ، قَالَ: إِنَّمَا أَحْرَمُوا مِنْ الْأَبْطَح لِأَنَّهُمْ كَانُوا نَازِلِينَ بِهِ، وَكُلّ مَنْ كَانَ دُون الْمِيقَات الْمَحْدُود فَمِيقَاته مَنْزِله كَمَا سَبَقَ فِي بَاب الْمَوَاقِيت. وَاَللَّه أَعْلَم.
2130- قَوْله: (لَمْ يَطُفْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا أَصْحَابه بَيْن الصَّفَا وَالْمَرْوَة إِلَّا طَوَافًا وَاحِدًا وَهُوَ طَوَافه الْأَوَّل) يَعْنِي النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابه قَارِنًا، فَهَؤُلَاءِ لَمْ يَسْعَوْا بَيْن الصَّفَا وَالْمَرْوَة إِلَّا مَرَّة وَاحِدَة، وَأَمَّا مَنْ كَانَ مُتَمَتِّعًا فَإِنَّهُ سَعَى سَعْيَيْنِ، سَعْيًا لِعُمْرَتِهِ، ثُمَّ سَعْيًا آخَر لِحَجِّهِ يَوْم النَّحْر. وَفِي هَذَا الْحَدِيث دَلَالَة ظَاهِرَة لِلشَّافِعِيِّ وَمُوَافِقِيهِ فِي أَنَّ الْقَارِن لَيْسَ عَلَيْهِ إِلَّا طَوَاف وَاحِد لِلْإِفَاضَةِ وَسَعْي وَاحِد، وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا اِبْن عُمَر وَجَابِر بْن عَبْد اللَّه وَعَائِشَة وَطَاوُسٌ وَعَطَاء وَالْحَسَن الْبَصْرِيّ وَمُجَاهِد وَمَالِك وَابْن الْمَاجِشُونِ وَأَحْمَد وَإِسْحَاق وَدَاوُد وَابْن الْمُنْذِر وَقَالَتْ طَائِفَة: يَلْزَمهُ طَوَافَانِ وَسَعْيَانِ، وَمِمَّنْ قَالَهُ الشَّعْبِيّ وَالنَّخَعِيّ وَجَابِر بْن زَيْد وَعَبْد الرَّحْمَن بْن الْأَسْوَد وَالثَّوْرِيُّ وَالْحَسَن بْن صَالِح وَأَبُو حَنِيفَة، وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيّ وَابْن مَسْعُود.
قَالَ اِبْن الْمُنْذِر: لَا يَثْبُت هَذَا عَنْ عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ.
2131- قَوْله: (صُبْح رَابِعَة) هُوَ بِضَمِّ الصَّاد وَكَسْرهَا.
قَوْله: «فَأَمَرَنَا أَنْ نَحِلّ قَالَ عَطَاء: قَالَ: حِلُّوا وَأَصِيبُوا النِّسَاء قَالَ عَطَاء: وَلَمْ يَعْزِم عَلَيْهِمْ وَلَكِنْ أَحَلَّهُنَّ لَهُمْ» مَعْنَاهُ لَمْ يَعْزِم عَلَيْهِمْ فِي وَطْء النِّسَاء بَلْ أَبَاحَهُ وَلَمْ يُوجِبهُ، وَأَمَّا الْإِحْلَال فَعَزَمَ فيه عَلَى مَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْي.
قَوْله: «فَنَأْتِي عَرَفَة تَقْطُر مَذَاكِيرنَا الْمَنِيّ» هُوَ إِشَارَة إِلَى قُرْب الْعَهْد بِوَطْءِ النِّسَاء.
قَوْله: «فَقَدِمَ عَلِيّ مِنْ سِعَايَته فَقَالَ: بِمَ أَهْلَلْت؟ قَالَ: بِمَا أَهَلَّ بِهِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَأَهْدِ وَامْكُثْ حَرَامًا قَالَ: وَأَهْدَى لَهُ عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ هَدْيًا» السِّعَايَة بِكَسْرِ السِّين قَالَ الْقَاضِي عِيَاض: قَوْله: «مِنْ سِعَايَته» أَيْ مِنْ عَمَله فِي السَّعْي فِي الصَّدَقَات.
قَالَ: وَقَالَ بَعْض عُلَمَائِنَا الَّذِي فِي غَيْر هَذَا الْحَدِيث إِنَّهُ إِنَّمَا بَعَثَ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَمِيرًا لَا عَامِلًا عَلَى الصَّدَقَات إِذْ لَا يَجُوز اِسْتِعْمَال بَنِي هَاشِم عَلَى الصَّدَقَات لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْفَضْلِ بْن عَبَّاس وَعَبْد الْمُطَّلِب بْنِ رَبِيعَة حِين سَأَلَاهُ ذَلِكَ: «إِنَّ الصَّدَقَة لَا تَحِلّ لِمُحَمَّدٍ وَلَا لِآلِ مُحَمَّد» وَلَمْ يَسْتَعْمِلهُمَا.
قَالَ الْقَاضِي: يُحْتَمَل أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّه عَنْهُ وَلِيَ الصَّدَقَات وَغَيْرهَا اِحْتِسَابًا، أَوْ أَعْطَى عِمَالَته عَلَيْهَا مِنْ غَيْر الصَّدَقَة.
قَالَ: وَهَذَا أَشْبَه لِقَوْلِهِ: «مِنْ سِعَايَته»، وَالسِّعَايَة تَخْتَصّ بِالصَّدَقَةِ، هَذَا كَلَام الْقَاضِي، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ حَسَن إِلَّا قَوْله: إِنَّ السِّعَايَة تَخْتَصّ بِالْعَمَلِ عَلَى الصَّدَقَة، فَلَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّهَا تُسْتَعْمَل فِي مُطْلَق الْوِلَايَة وَإِنْ كَانَ أَكْثَر اِسْتِعْمَالهَا فِي الْوِلَايَة عَلَى الصَّدَقَة، وَمِمَّا يَدُلّ لِمَا ذَكَرْته حَدِيث حُذَيْفَة السَّابِق فِي كِتَاب الْإِيمَان مِنْ صَحِيح مُسْلِم قَالَ فِي حَدِيث رَفْع الْأَمَانَة: وَلَقَدْ أَتَى عَلَيَّ زَمَان وَمَا أُبَالِي أَيّكُمْ بَايَعْت لَئِنْ كَانَ مُسْلِمًا لَيَرُدَّنَّهُ عَلَيَّ دِينُهُ، وَلَئِنْ كَانَ نَصْرَانِيًّا أَوْ يَهُودِيًّا لَيَرُدَّنَّهُ عَلَيَّ سَاعِيه يَعْنِي الْوَالِي عَلَيْهِ وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله: «فَقَدِمَ عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ مِنْ سِعَايَته فَقَالَ: بِمَ أَهْلَلْت؟ قَالَ: بِمَا أَهَلَّ بِهِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَأَهْدِ وَامْكُثْ حَرَامًا قَالَ: وَأَهْدَى لَهُ عَلِيّ هَدْيًا» ثُمَّ ذَكَرَ مُسْلِم بَعْد هَذَا بِقَلِيلٍ حَدِيث أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ: «قَدِمْت عَلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُنِيخ بِالْبَطْحَاءِ فَقَالَ لِي: حَجَجْت؟ فَقُلْت: نَعَمْ فَقَالَ: بِمَ أَهْلَلْت؟ قَالَ: قُلْت: لَبَّيْكَ بِإِهْلَالٍ كَإِهْلَالِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: قَدْ أَحْسَنْت طُفْ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَة ثُمَّ حِلَّ». وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى عَنْ أَبِي مُوسَى أَيْضًا أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ: «بِمَ أَهْلَلْت؟ قَالَ: أَهْلَلْت بِإِهْلَالِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: هَلْ سُقْت مِنْ هَدْي؟ قُلْت: لَا قَالَ: طُفْ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَة ثُمَّ حِلَّ». هَذَانِ الْحَدِيثَانِ مُتَّفِقَانِ عَلَى صِحَّة الْإِحْرَام مُعَلَّقًا، وَهُوَ أَنْ يُحْرِم إِحْرَامًا كَإِحْرَامِ فُلَان فَيَنْعَقِد إِحْرَامه وَيَصِير مُحْرِمًا بِمَا أَحْرَمَ بِهِ فُلَان. وَاخْتَلَفَ آخِر الْحَدِيثَيْنِ فِي التَّحَلُّل فَأَمَرَ عَلِيًّا بِالْبَقَاءِ عَلَى إِحْرَامه، وَأَمَرَ أَبَا مُوسَى بِالتَّحَلُّلِ، وَإِنَّمَا اِخْتَلَفَ آخِرهمَا لِأَنَّهُمَا أَحْرَمَا كَإِحْرَامِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ مَعَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْهَدْي فَشَارَكَهُ عَلِيّ فِي أَنَّ مَعَهُ الْهَدْي، فَلِهَذَا أَمَرَهُ بِالْبَقَاءِ عَلَى إِحْرَامه كَمَا بَقِيَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى إِحْرَامه بِسَبَبِ الْهَدْي، وَكَانَ قَارِنًا، وَصَارَ عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَارِنًا.
وَأَمَّا أَبُو مُوسَى فَلَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْي فَصَارَ لَهُ حُكْم النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْي، وَقَدْ قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّهُ لَوْلَا الْهَدْي لَجَعَلَهَا عُمْرَة وَتَحَلَّلَ، فَأَمَرَ أَبَا مُوسَى بِذَلِكَ، فَلِذَلِكَ اُخْتُلِفَ فِي أَمْره صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُمَا فَاعْتَمِدْ مَا ذَكَرْته فَهُوَ الصَّوَاب.
وَقَدْ تَأَوَّلَهُمَا الْخَطَّابِيُّ وَالْقَاضِي عِيَاض تَأْوِيلَيْنِ غَيْر مَرْضِيَّيْنِ وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله: «وَأَهْدَى لَهُ عَلِيّ هَدْيًا» يَعْنِي هَدْيًا اِشْتَرَاهُ لَا أَنَّهُ مِنْ السِّعَايَة عَلَى الصَّدَقَة وَفِي هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ دَلَالَة لِمَذْهَبِ الشَّافِعِيّ وَمُوَافِقِيهِ أَنَّهُ يَصِحّ الْإِحْرَام مُعَلَّقًا بِأَنْ يَنْوِي إِحْرَامًا كَإِحْرَامِ زَيْد فَيَصِير هَذَا الْمُعَلَّق كَزَيْدٍ، فَإِنْ كَانَ زَيْد مُحْرِمًا بِحَجٍّ كَانَ هَذَا بِالْحَجِّ أَيْضًا، وَإِنْ كَانَ بِعُمْرَةٍ فَبِعُمْرَةٍ، وَإِنْ كَانَ بِهِمَا فَبِهِمَا، وَإِنْ كَانَ زَيْد أَحْرَمَ مُطْلَقًا صَارَ هَذَا مُحْرِمًا إِحْرَامًا مُطْلَقًا فَيَصْرِفهُ إِلَى مَا شَاءَ مِنْ حَجّ أَوْ عُمْرَة، وَلَا يَلْزَمهُ مُوَافَقَة زَيْد فِي الصَّرْف. وَلِهَذِهِ الْمَسْأَلَة فُرُوع كَثِيرَة مَشْهُورَة فِي كُتُب الْفِقْه وَقَدْ اِسْتَقْصَيْتهَا فِي شَرْح الْمُهَذَّب وَلِلَّهِ الْحَمْد.
قَوْله: «فَقَالَ سُرَاقَة بْن مَالِك بْن جُعْشُم: يَا رَسُول اللَّه أَلِعَامِنَا هَذَا أَمْ لِأَبَدٍ؟ قَالَ: لِأَبَدٍ» وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: «فَقَامَ سُرَاقَة بْن جُعْشُم فَقَالَ: يَا رَسُول اللَّه أَلِعَامِنَا هَذَا أَمْ لِأَبَدٍ؟ فَشَبَّكَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصَابِعه وَاحِدَة فِي الْأُخْرَى وَقَالَ: دَخَلَتْ الْعُمْرَة فِي الْحَجّ مَرَّتَيْنِ لَا بَلْ لِأَبَدِ أَبَد». وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي مَعْنَاهُ عَلَى أَقْوَال أَصَحّهَا وَبِهِ قَالَ جُمْهُورهمْ مَعْنَاهُ أَنَّ الْعُمْرَة يَجُوز فِعْلهَا فِي أَشْهُر الْحَجّ إِلَى يَوْم الْقِيَامَة. وَالْمَقْصُود بِهِ بَيَان إِبْطَال مَا كَانَتْ الْجَاهِلِيَّة تَزْعُمهُ مِنْ اِمْتِنَاع الْعُمْرَة فِي أَشْهُر الْحَجّ، وَالثَّانِي مَعْنَاهُ جَوَاز الْقِرَان، وَتَقْدِير الْكَلَام دَخَلَتْ أَفْعَال الْعُمْرَة فِي أَفْعَال الْحَجّ إِلَى يَوْم الْقِيَامَة، وَالثَّالِث تَأْوِيل بَعْض الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الْعُمْرَة لَيْسَتْ وَاجِبَة قَالُوا: مَعْنَاهُ سُقُوط الْعُمْرَة. قَالُوا: وَدُخُولهَا فِي الْحَجّ مَعْنَاهُ سُقُوط وُجُوبهَا، وَهَذَا ضَعِيف أَوْ بَاطِل، وَسِيَاق الْحَدِيث يَقْتَضِي بُطْلَانه، وَالرَّابِع تَأْوِيل بَعْض أَهْل الظَّاهِر أَنَّ مَعْنَاهُ جَوَاز فَسْخ الْحَجّ إِلَى الْعُمْرَة، وَهَذَا أَيْضًا ضَعِيف.
2132- قَوْله: «حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْم التَّرْوِيَة وَجَعَلْنَا مَكَّة بِظَهْرٍ أَهْلَلْنَا بِالْحَجِّ» فيه دَلِيل لِلشَّافِعِيِّ وَمُوَافِقِيهِ أَنَّ الْمُتَمَتِّع وَكُلّ مَنْ كَانَ بِمَكَّة وَأَرَادَ الْإِحْرَام بِالْحَجِّ فَالسُّنَّة لَهُ أَنْ يُحْرِم يَوْم التَّرْوِيَة، وَهُوَ الثَّامِن مِنْ ذِي الْحِجَّة، وَقَدْ سَبَقَتْ الْمَسْأَلَة مَرَّات.
وَقَوْله: «جَعَلْنَا مَكَّة بِظَهْرٍ» مَعْنَاهُ أَهْلَلْنَا عِنْد إِرَادَتنَا الذَّهَاب إِلَى مِنًى.
2133- قَوْله: حَدَّثَنِي جَابِر بْن عَبْد اللَّه الْأَنْصَارِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: «أَنَّهُ حَجَّ مَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَام سَاقَ الْهَدْي مَعَهُ، وَقَدْ أَهَلُّوا بِالْحَجِّ مُفْرَدًا فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَحِلُّوا مِنْ إِحْرَامكُمْ فَطُوفُوا بِالْبَيْتِ وَبَيْن الصَّفَا وَالْمَرْوَة، وَقَصِّرُوا وَأَقِيمُوا حَلَالًا حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْم التَّرْوِيَة فَأَهِلُّوا بِالْحَجِّ وَاجْعَلُوا الَّتِي قَدِمْتُمْ بِهَا مُتْعَة» اِعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْكَلَام فيه تَقْدِيم وَتَأْخِير، وَتَقْدِيره: وَقَدْ أَهَلُّوا بِالْحَجِّ مُفْرَدًا فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اِجْعَلُوا إِحْرَامكُمْ عُمْرَة وَتَحَلَّلُوا بِعَمَلِ الْعُمْرَة وَهُوَ مَعْنَى فَسْخ الْحَجّ إِلَى الْعُمْرَة.
وَقَدْ اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي هَذَا الْفَسْخ هَلْ هُوَ خَاصّ لِلصَّحَابَةِ تِلْكَ السَّنَة خَاصَّة أَمْ بَاقٍ لَهُمْ وَلِغَيْرِهِمْ إِلَى يَوْم الْقِيَامَة؟ فَقَالَ أَحْمَد وَطَائِفَة مِنْ أَهْل الظَّاهِر: لَيْسَ خَاصًّا بَلْ هُوَ بَاقٍ إِلَى يَوْم الْقِيَامَة، فَيَجُوز لِكُلِّ مَنْ أَحْرَمَ بِحَجٍّ وَلَيْسَ مَعَهُ هَدْي أَنْ يَقْلِب إِحْرَامه عُمْرَة وَيَتَحَلَّل بِأَعْمَالِهَا.
وَقَالَ مَالِك وَالشَّافِعِيّ وَأَبُو حَنِيفَة وَجَمَاهِير الْعُلَمَاء مِنْ السَّلَف وَالْخَلَف: هُوَ مُخْتَصّ بِهِمْ فِي تِلْكَ السَّنَة لَا يَجُوز بَعْدهَا، وَإِنَّمَا أُمِرُوا بِهِ تِلْكَ السَّنَة لِيُخَالِفُوا مَا كَانَتْ عَلَيْهِ الْجَاهِلِيَّة مِنْ تَحْرِيم الْعُمْرَة فِي أَشْهُر الْحَجّ، وَمِمَّا يُسْتَدَلّ بِهِ لِلْجَمَاهِيرِ حَدِيث أَبِي ذَرّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ الَّذِي ذَكَرَهُ مُسْلِم بَعْدهَا بِقَلِيلٍ (كَانَتْ الْمُتْعَة فِي الْحَجّ لِأَصْحَابِ مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّة) يَعْنِي فَسْخ الْحَجّ إِلَى الْعُمْرَة وَفِي كِتَاب النَّسَائِيِّ عَنْ الْحَارِث بْن بِلَال عَنْ أَبِيهِ قَالَ: «قُلْت: يَا رَسُول اللَّه فَسْخ الْحَجّ لَنَا خَاصَّة أَمْ لِلنَّاسِ عَامَّة؟ فَقَالَ: بَلْ لَنَا خَاصَّة».
وَأَمَّا الَّذِي فِي حَدِيث سُرَاقَة: «أَلِعَامِنَا هَذَا أَمْ لِأَبَدٍ؟ فَقَالَ: لِأَبَدِ أَبَد» فَمَعْنَاهُ جَوَاز الِاعْتِمَار فِي أَشْهُر الْحَجّ كَمَا سَبَقَ تَفْسِيره.
فَالْحَاصِل مِنْ مَجْمُوع طُرُق الْأَحَادِيث أَنَّ الْعُمْرَة فِي أَشْهُر الْحَجّ جَائِزَة إِلَى يَوْم الْقِيَامَة وَكَذَلِكَ الْقِرَان، وَأَنَّ فَسْخ الْحَجّ إِلَى الْعُمْرَة مُخْتَصّ بِتِلْكَ السَّنَة وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْم التَّرْوِيَة فَأَهِلُّوا بِالْحَجِّ وَاجْعَلُوا الَّذِي قَدِمْتُمْ بِهَا مُتْعَة. قَالُوا: كَيْف نَجْعَلهَا مُتْعَة وَقَدْ سَمَّيْنَا الْحَجّ؟ فَقَالَ: اِفْعَلُوا مَا آمُركُمْ بِهِ فَلَوْلَا أَنِّي سُقْت الْهَدْي لَفَعَلْت مِثْل الَّذِي أَمَرْتُكُمْ بِهِ» هَذَا دَلِيل ظَاهِر لِمَذْهَبِ الشَّافِعِيّ وَمَالِك وَمُوَافِقَيْهِمَا فِي تَرْجِيح الْإِفْرَاد، وَأَنَّ غَالِبهمْ كَانُوا مُحْرِمِينَ بِالْحَجِّ، وَيُتَأَوَّل رِوَايَة مَنْ رَوَى: «مُتَمَتِّعِينَ» أَنَّهُ أَرَادَ فِي آخِر الْأَمْر صَارُوا مُتَمَتِّعِينَ كَمَا سَبَقَ تَقْرِيره فِي أَوَائِل هَذَا الْبَاب. وَفيه دَلِيل لِلشَّافِعِيِّ وَمُوَافِقِيهِ فِي أَنَّ مَنْ كَانَ بِمَكَّة وَأَرَادَ الْحَجّ إِنَّمَا يُحْرِم بِهِ مِنْ يَوْم التَّرْوِيَة، وَقَدْ ذَكَرْنَا الْمَسْأَلَة مَرَّات.