فصل: باب جَوَازِ التَّمَتُّعِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج المشهور بـ «شرح النووي على مسلم»



.باب مَا جَاءَ أَنَّ عَرَفَةَ كُلَّهَا مَوْقِفٌ:

2138- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نَحَرْت هَاهُنَا، وَمِنًى كُلّهَا مَنْحَر، فَانْحَرُوا فِي رِحَالكُمْ، وَوَقَفْت هَاهُنَا، وَعَرَفَة كُلّهَا مَوْقِف، وَوَقَفْت هَاهُنَا، وَجَمْع كُلّهَا مَوْقِف» فِي هَذِهِ الْأَلْفَاظ بَيَان رِفْق النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأُمَّتِهِ وَشَفَقَته عَلَيْهِمْ فِي تَنْبِيههمْ عَلَى مَصَالِح دِينهمْ وَدُنْيَاهُمْ فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ لَهُمْ الْأَكْمَل وَالْجَائِز، فَالْأَكْمَل مَوْضِع نَحْره وَوُقُوفه، وَالْجَائِز كُلّ جُزْء مِنْ أَجْزَاء الْمَنْحَر، وَجُزْء مِنْ أَجْزَاء عَرَفَات، وَخَيْرهنَّ أَجْزَاء الْمُزْدَلِفَة وَهِيَ جَمْع بِفَتْحِ الْجِيم وَإِسْكَان الْمِيم، وَسَبَقَ بَيَانهَا وَبَيَان حَدّهَا وَحَدّ مِنًى فِي هَذَا الْبَاب.
وَأَمَّا عَرَفَات فَحَدّهَا مَا جَاوَزَ وَادِي عُرَنَة إِلَى الْجِبَال الْقَابِلَة مِمَّا يَلِي بَسَاتِين اِبْن عَامِر. هَكَذَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيّ وَجَمِيع أَصْحَابه. وَنَقَلَ الْأَزْرَقِيّ عَنْ اِبْن عَبَّاس أَنَّهُ قَالَ: حَدّ عَرَفَات مِنْ الْجَبَل الْمُشْرِف عَلَى بَطْن عُرَنَة إِلَى جِبَال عَرَفَات إِلَى وَصِيق بِفَتْحِ الْوَاو وَكَسْر الصَّاد الْمُهْمَلَة، وَآخِره قَاف إِلَى مُلْتَقَى وَصِيق وَادِي عُرَنَة. وَقِيلَ فِي حَدّهَا غَيْر هَذَا مِمَّا هُوَ مُقَارِب لَهُ، وَقَدْ بَسَطْت الْقَوْل فِي إِيضَاحه فِي شَرْح الْمُهَذَّب وَكِتَاب الْمَنَاسِك وَاَللَّه أَعْلَم.
قَالَ الشَّافِعِيّ وَأَصْحَابنَا: يَجُوز نَحْر الْهَدْي وَدِمَاء الْحَيَوَانَات فِي جَمِيع الْحَرَم، لَكِنْ الْأَفْضَل فِي حَقّ الْحَاجّ النَّحْر بِمِنًى، وَأَفْضَل مَوْضِع مِنْهَا لِلنَّحْرِ مَوْضِع نَحْر رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا قَارَبَهُ، وَالْأَفْضَل فِي حَقّ الْمُعْتَمِر أَنْ يَنْحَر فِي الْمَرْوَة لِأَنَّهَا مَوْضِع تَحَلُّله كَمَا أَنَّ مِنًى مَوْضِع تَحَلُّل الْحَاجّ. قَالُوا: وَيَجُوز الْوُقُوف بِعَرَفَاتٍ فِي أَيّ جُزْء كَانَ مِنْهَا، وَكَذَا يَجُوز الْوُقُوف عَلَى الْمَشْعَر الْحَرَام وَفِي كُلّ جُزْء مِنْ أَجْزَاء الْمُزْدَلِفَة لِهَذَا الْحَدِيث وَاَللَّه أَعْلَم.
وَأَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمِنًى كُلّهَا مَنْحَر فَانْحَرُوا فِي رِحَالكُمْ» فَالْمُرَاد بِالرِّحَالِ الْمَنَازِل.
قَالَ أَهْل اللُّغَة: رَحْل الرَّجُل مَنْزِله سَوَاء كَانَ مِنْ حَجَر أَوْ مَدَر أَوْ شَعْر أَوْ وَبَر، وَمَعْنَى الْحَدِيث مِنًى كُلّهَا مَنْحَر يَجُوز النَّحْر فيها فَلَا تَتَكَلَّفُوا النَّحْر فِي مَوْضِع نَحْرِي، بَلْ يَجُوز لَكُمْ النَّحْر فِي مَنَازِلكُمْ مِنْ مِنًى.
2139- قَوْله: «أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَدِمَ مَكَّة أَتَى الْحَجَر فَاسْتَلَمَهُ ثُمَّ مَشَى عَلَى يَمِينه فَرَمَلَ ثَلَاثًا وَمَشَى أَرْبَعًا» فِي هَذَا الْحَدِيث أَنَّ السُّنَّة لِلْحَاجِّ أَنْ يَبْدَأ أَوَّل قُدُومه بِطَوَافِ الْقُدُوم، وَيُقَدِّمهُ عَلَى كُلّ شَيْء، وَأَنْ يَسْتَلِم الْحَجَر الْأَسْوَد فِي أَوَّل طَوَافه، وَأَنْ يَرْمُل فِي ثَلَاث طَوْفَات مِنْ السَّبْع، وَيَمْشِي فِي الْأَرْبَع الْأَخِيرَة، وَسَيَأْتِي هَذَا كُلّه وَاضِحًا حَيْثُ ذَكَرَ مُسْلِم أَحَادِيثه. وَاَللَّه أَعْلَم.

.باب فِي الْوُقُوفِ وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ}:

2140- قَوْله: «كَانَ قُرَيْش وَمَنْ دَانَ دِينهَا يَقِفُونَ بِالْمُزْدَلِفَةِ وَكَانُوا يُسَمَّوْنَ الْحُمْس» إِلَى آخِره (الْحُمْس) بِضَمِّ الْحَاء الْمُهْمَلَة وَإِسْكَان الْمِيم وَبِسِينٍ مُهْمَلَة قَالَ أَبُو الْهَيْثَم: (الْحُمْس) هُمْ قُرَيْش وَمَنْ وَلَدَتْهُ قُرَيْش وَكِنَانَة وَجَدِيلَة قَيْس. سُمُّوا حُمْسًا لِأَنَّهُمْ تَحَمَّسُوا فِي دِينهمْ أَيْ تَشَدَّدُوا، وَقِيلَ: سُمُّوا حُمْسًا بِالْكَعْبَةِ لِأَنَّهَا حَمْسَاء حَجَرهَا أَبْيَض يَضْرِب إِلَى السَّوَاد، وَقَدْ سَبَقَ قَرِيبًا شَرْح هَذَا الْحَدِيث وَسَبَب وُقُوفهمْ بِالْمُزْدَلِفَةِ.
2141- قَوْله: «كَانَتْ الْعَرَب تَطُوف بِالْبَيْتِ عُرَاة إِلَّا الْحُمْس» هَذَا مِنْ الْفَوَاحِش الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا فِي الْجَاهِلِيَّة وَقِيلَ: نَزَلَ فيه قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَة قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا} وَلِهَذَا أَمَرَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَجَّة الَّتِي حَجّهَا أَبُو بَكْر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ سَنَة تِسْع أَنْ يُنَادِي مُنَادِيه أَلَّا يَطُوف بِالْبَيْتِ عُرْيَان.
2142- قَوْله: عَنْ جُبَيْر بْن مُطْعِم قَالَ: «أَضْلَلْت بَعِيرًا لِي فَذَهَبْت أَطْلُبهُ يَوْم عَرَفَة فَرَأَيْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاقِفًا مَعَ النَّاس بِعَرَفَة فَقُلْت: وَاَللَّه إِنَّ هَذَا لَمِنْ الْحُمْس فَمَا شَأْنه هَاهُنَا؟ وَكَانَتْ قُرَيْش تُعَدّ مِنْ الْحُمْس» قَالَ الْقَاضِي عِيَاض: كَانَ هَذَا فِي حَجّه قَبْل الْهِجْرَة، وَكَانَ جُبَيْر حِينَئِذٍ كَافِرًا، وَأَسْلَمَ يَوْم الْفَتْح، وَقِيلَ يَوْم خَيْبَر، فَتَعَجَّبَ مِنْ وُقُوف النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَرَفَاتٍ. وَاَللَّه أَعْلَم.

.باب فِي نَسْخِ التَّحَلُّلِ مِنَ الإِحْرَامِ وَالأَمْرِ بِالتَّمَامِ:

2143- حَدِيث أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: «أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ: أَحَجَجْت؟ قَالَ: فَقُلْت: نَعَمْ فَقَالَ: بِمَ أَهْلَلْت؟ قَالَ: قُلْت لَبَّيْكَ بِإِهْلَالٍ كَإِهْلَالِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: قَدْ أَحْسَنْت طُفْ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَة وَأَحِلّ قَالَ: فَطُفْت بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَة ثُمَّ أَتَيْت اِمْرَأَة مِنْ بَنِي قَيْس فَفَلَتْ رَأْسِي ثُمَّ أَهْلَلْت بِالْحَجِّ» فِي هَذَا الْحَدِيث فَوَائِد مِنْهَا جَوَاز تَعْلِيق الْإِحْرَام فَإِذَا قَالَ: أَحْرَمْت بِإِحْرَامٍ كَإِحْرَامِ زَيْد صَحَّ إِحْرَامه، وَكَانَ إِحْرَامه كَإِحْرَامِ زَيْد. فَإِنْ كَانَ زَيْد مُحْرِمًا بِحَجٍّ أَوْ بِعُمْرَةٍ أَوْ قَارِنًا كَانَ الْمُعَلِّق مِثْله، وَإِنْ كَانَ زَيْد أَحْرَمَ مُطْلَقًا كَانَ الْمُعَلِّق مُطْلَقًا، وَلَا يَلْزَمهُ أَنْ يَصْرِف إِحْرَامه إِلَى مَا يَصْرِف زَيْد إِحْرَامه إِلَيْهِ، فَلَوْ صَرَفَ زَيْد إِحْرَامه إِلَى حَجّ كَانَ لِلْمُعَلِّقِ صَرْف إِحْرَامه إِلَى عُمْرَة، وَكَذَا عَكْسه.
وَمِنْهَا اِسْتِحْبَاب الثَّنَاء عَلَى مَنْ فَعَلَ جَمِيلًا لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَحْسَنْت.
وَأَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «طُفْ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَة وَأَحِلّ» فَمَعْنَاهُ أَنَّهُ صَارَ كَالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَكُون وَظِيفَته أَنْ يَفْسَخ حَجّه إِلَى عُمْرَة فَيَأْتِي بِأَفْعَالِهَا وَهِيَ الطَّوَاف وَالسَّعْي وَالْحَلْق، فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ صَارَ حَلَالًا وَتَمَّتْ عُمْرَته، وَإِنَّمَا لَمْ يَذْكُر الْحَلْق هُنَا لِأَنَّهُ كَانَ مَشْهُورًا عِنْدهمْ وَيُحْتَمَل أَنَّهُ دَاخِل فِي قَوْله وَأَحِلّ.
وَقَوْله: «ثُمَّ أَتَيْت اِمْرَأَة مِنْ بَنِي قَيْس فَفَلَتْ رَأْسِي» هَذَا مَحْمُول عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْمَرْأَة كَانَتْ مَحْرَمًا لَهُ.
وَقَوْله: «ثُمَّ أَهْلَلْت بِالْحَجِّ» يَعْنِي أَنَّهُ تَحَلَّلَ بِالْعُمْرَةِ، وَأَقَامَ بِمَكَّة حَلَالًا إِلَى يَوْم التَّرْوِيَة وَهُوَ الثَّامِن مِنْ ذِي الْحِجَّة، ثُمَّ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ يَوْم التَّرْوِيَة كَمَا جَاءَ مُبَيَّنًا فِي غَيْر هَذِهِ الرِّوَايَة. فَإِنْ قِيلَ قَدْ عَلَّقَ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب وَأَبُو مُوسَى رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا إِحْرَامهمَا بِإِحْرَامِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَ عَلِيًّا بِالدَّوَامِ عَلَى إِحْرَامه قَارِنًا، وَأَمَرَ أَبَا مُوسَى بِفَسْخِهِ إِلَى عُمْرَة فَالْجَوَاب أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّه عَنْهُ كَانَ مَعَهُ الْهَدْي كَمَا كَانَ مَعَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْهَدْي فَبَقِيَ عَلَى إِحْرَامه كَمَا بَقِيَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكُلّ مَنْ مَعَهُ هَدْي، وَأَبُو مُوسَى لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْي فَتَحَلَّلَ بِعُمْرَةٍ كَمَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْي، وَلَوْلَا الْهَدْي مَعَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَجَعَلَهَا، عُمْرَة وَقَدْ سَبَقَ إِيضَاح هَذَا الْجَوَاب فِي الْبَاب الَّذِي قَبْل هَذَا.
قَوْله: «فَفَلَتْ رَأْسِي» هُوَ بِتَخْفِيفِ اللَّام.
قَوْله: «رُوَيْدك بَعْض فُتْيَاك» مَعْنَى (رُوَيْدك) اُرْفُقْ قَلِيلًا وَأَمْسِكْ عَنْ الْفُتْيَا، وَيُقَال فُتْيَا وَفَتْوَى لُغَتَانِ مَشْهُورَتَانِ.
قَوْله: «إِنَّ عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ: إِنْ نَأْخُذ بِكِتَابِ اللَّه فَإِنَّ كِتَاب اللَّه يَأْمُر بِالتَّمَامِ، وَإِنْ نَأْخُذ بِسُنَّةِ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَحِلّ حَتَّى بَلَغَ الْهَدْي مَحِلّه» قَالَ الْقَاضِي عِيَاض رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى: ظَاهِر كَلَام عُمَر هَذَا إِنْكَار فَسْخ الْحَجّ إِلَى الْعُمْرَة، وَأَنَّ نَهْيه عَنْ التَّمَتُّع إِنَّمَا هُوَ مِنْ بَاب تَرْك الْأَوْلَى لِأَنَّهُ مَنَعَ ذَلِكَ مَنْع تَحْرِيم وَإِبْطَال، وَيُؤَيِّد هَذَا قَوْله بَعْد هَذَا: قَدْ عَلِمْت أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ فَعَلَهُ وَأَصْحَابه، لَكِنْ كَرِهْت أَنْ يَظَلُّوا مُعْرِسِينَ بِهِنَّ فِي الْأَرَاك.
2145- وَقَوْله: (مُعْرِسِينَ) هُوَ بِإِسْكَانِ الْعَيْن وَتَخْفِيف الرَّاء وَالضَّمِير فِي بِهِنَّ يَعُود إِلَى النِّسَاء لِلْعِلْمِ بِهِنَّ وَإِنْ لَمْ يُذْكَرْنَ، وَمَعْنَاهُ كَرِهْت التَّمَتُّع لِأَنَّهُ يَقْتَضِي التَّحَلُّل وَوَطْء النِّسَاء إِلَى حِين الْخُرُوج إِلَى عَرَفَات.

.باب جَوَازِ التَّمَتُّعِ:

2146- قَوْله: (كَانَ عُثْمَان رَضِيَ اللَّه عَنْهُ يَنْهَى عَنْ الْمُتْعَة وَكَانَ عَلِيّ يَأْمُر بِهَا) الْمُخْتَار أَنَّ الْمُتْعَة الَّتِي نَهَى عَنْهَا عُثْمَان هِيَ التَّمَتُّع الْمَعْرُوف فِي الْحَجّ، وَكَانَ عُمَر وَعُثْمَان يَنْهَيَانِ عَنْهَا نَهْي تَنْزِيه لَا تَحْرِيم، وَإِنَّمَا نَهَيَا عَنْهَا لِأَنَّ الْإِفْرَاد أَفْضَل، فَكَانَ عُمَر وَعُثْمَان يَأْمُرَانِ بِالْإِفْرَادِ لِأَنَّهُ أَفْضَل، وَيَنْهَيَانِ عَنْ التَّمَتُّع نَهْي تَنْزِيه لِأَنَّهُ مَأْمُور بِصَلَاحِ رَعِيَّته، وَكَانَ يَرَى الْأَمْر بِالْإِفْرَادِ مِنْ جُمْلَة صَلَاحهمْ. وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله: (ثُمَّ قَالَ عَلِيّ لَقَدْ عَلِمْت أَنَّا قَدْ تَمَتَّعْنَا مَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: أَجَلْ وَلَكِنْ كُنَّا خَائِفِينَ) فَقَوْله: (أَجَلْ) بِإِسْكَانِ اللَّام أَيْ نَعَمْ. وَقَوْله: (كُنَّا خَائِفِينَ) لَعَلَّهُ أَرَادَ بِقَوْلِهِ خَائِفِينَ يَوْم عُمْرَة الْقَضَاء سَنَة سَبْع قَبْل فَتْح مَكَّة لَكِنْ لَمْ يَكُنْ تِلْكَ السَّنَة حَقِيقَة تَمَتُّع إِنَّمَا كَانَ عُمْرَة وَحْدهَا.
2147- قَوْله: (فَقَالَ عُثْمَان: دَعْنَا عَنْك فَقَالَ يَعْنِي عَلِيًّا إِنِّي لَا أَسْتَطِيع أَنْ أَدَعك، فَلَمَّا أَنْ رَأَى عَلِيّ ذَلِكَ أَهَلَّ بِهِمَا) فَفيه إِشَاعَة الْعِلْم وَإِظْهَاره وَمُنَاظَرَة وُلَاة الْأُمُور وَغَيْرهمْ فِي تَحْقِيقه وَوُجُوب مُنَاصَحَة الْمُسْلِم فِي ذَلِكَ وَهَذَا مَعْنَى قَوْل عَلِيّ: لَا أَسْتَطِيع أَنْ أَدَعك، وَأَمَّا إِهْلَال عَلِيّ بِهِمَا فَقَدْ يَحْتَجّ بِهِ مَنْ يُرَجِّح الْقِرَان، وَأَجَابَ عَنْهُ مَنْ رَجَّحَ الْإِفْرَاد بِأَنَّهُ إِنَّمَا أَهَلَّ بِهِمَا لِيُبَيِّن جَوَازهمَا لِئَلَّا يَظُنّ النَّاس أَوْ بَعْضهمْ أَنَّهُ لَا يَجُوز الْقِرَان وَلَا التَّمَتُّع، وَأَنَّهُ يَتَعَيَّن الْإِفْرَاد. وَاَللَّه أَعْلَم.
2148- قَوْله: (عَنْ أَبِي ذَرّ قَالَ: كَانَتْ الْمُتْعَة فِي الْحَجّ لِأَصْحَابِ مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّة) وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: (كَانَتْ لَنَا رُخْصَة)، يَعْنِي الْمُتْعَة فِي الْحَجّ. وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى قَالَ أَبُو ذَرّ: لَا تَصْلُح الْمُتْعَتَانِ إِلَّا لَنَا خَاصَّة يَعْنِي مُتْعَة النِّسَاء وَمُتْعَة الْحَجّ. وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى إِنَّمَا كَانَتْ لَنَا خَاصَّة دُونكُمْ.
قَالَ الْعُلَمَاء مَعْنَى هَذِهِ الرِّوَايَات كُلّهَا أَنَّ فَسْخ الْحَجّ إِلَى الْعُمْرَة كَانَ لِلصَّحَابَةِ فِي تِلْكَ السَّنَة، وَهِيَ حَجَّة الْوَدَاع، وَلَا يَجُوز بَعْد ذَلِكَ. وَلَيْسَ مُرَاد أَبِي ذَرّ إِبْطَال التَّمَتُّع مُطْلَقًا، بَلْ مُرَاده فَسْخ الْحَجّ كَمَا ذَكَرْنَا، وَحِكْمَته إِبْطَال مَا كَانَتْ عَلَيْهِ الْجَاهِلِيَّة مِنْ مَنْع الْعُمْرَة فِي أَشْهُر الْحَجّ، وَقَدْ سَبَقَ بَيَان هَذَا كُلّه فِي الْبَاب السَّابِق. وَاَللَّه أَعْلَم.
2150- قَوْله: (لَا تَصْلُح الْمُتْعَتَانِ إِلَّا لَنَا خَاصَّة) مَعْنَاهُ إِنَّمَا صَلَحَتَا لَنَا خَاصَّة فِي الْوَقْت الَّذِي فَعَلْنَاهُمَا فيه ثُمَّ صَارَتَا حَرَامًا بَعْد ذَلِكَ إِلَى يَوْم الْقِيَامَة. وَاَللَّه أَعْلَم.
2152- قَوْله: (سَأَلْت سَعْد بْن أَبِي وَقَّاص عَنْ الْمُتْعَة فَقَالَ: فَعَلْنَاهَا وَهَذَا يَوْمَئِذٍ كَافِر بِالْعُرُشِ يَعْنِي بُيُوت مَكَّة) وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى (يَعْنِي مُعَاوِيَة) وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى (الْمُتْعَة فِي الْحَجّ). أَمَّا الْعُرُش فَبِضَمِّ الْعَيْن وَالرَّاء وَهِيَ بُيُوت مَكّه كَمَا فَسَّرَهُ فِي الرِّوَايَة.
قَالَ أَبُو عُبَيْد: سُمِّيَتْ بُيُوت مَكَّة عُرُشًا لِأَنَّهَا عِيدَان تُنْصَب وَتُظَلَّل.
قَالَ: وَيُقَال لَهَا أَيْضًا عُرُوش بِالرَّاءِ وَوَاحِدهَا عَرْش كَفَلْسٍ وَفُلُوس، وَمَنْ قَالَ عَرْش فَوَاحِدهَا عَرِيش كَقَلِيبٍ وَقَلْب. وَفِي حَدِيث آخَر أَنَّ عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ كَانَ إِذَا نَظَرَ إِلَى عُرُوش مَكَّة قَطَعَ التَّلْبِيَة.
وَأَمَّا قَوْله (وَهَذَا يَوْمَئِذٍ كَافِر بِالْعُرُشِ) فَالْإِشَارَة بِهَذَا إِلَى مُعَاوِيَة بْن أَبِي سُفْيَان، وَفِي الْمُرَاد بِالْكُفْرِ هُنَا وَجْهَانِ أَحَدهمَا مَا قَالَهُ الْمَازِرِيُّ وَغَيْره الْمُرَاد وَهُوَ مُقِيم فِي بُيُوت مَكَّة.
قَالَ ثَعْلَب: يُقَال: اكْتَفَرَ الرَّجُل إِذَا لَزِمَ الْكُفُور، وَهِيَ الْقُرَى. وَفِي الْأَثَر عَنْ عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ (أَهْل الْكُفُور هُمْ أَهْل الْقُبُور) يَعْنِي الْقُرَى الْبَعِيدَة عَنْ الْأَمْصَار وَعَنْ الْعُلَمَاء.
وَالْوَجْه الثَّانِي الْمُرَاد الْكُفْر بِاَللَّهِ تَعَالَى، وَالْمُرَاد أَنَّا تَمَتَّعْنَا وَمُعَاوِيَة يَوْمئِذٍ كَافِر عَلَى دِين الْجَاهِلِيَّة مُقِيم بِمَكَّة، وَهَذَا اِخْتِيَار الْقَاضِي عِيَاض وَغَيْره، وَهُوَ الصَّحِيح الْمُخْتَار، وَالْمُرَاد بِالْمُتْعَةِ الْعُمْرَة الَّتِي كَانَتْ سَنَة سَبْع مِنْ الْهِجْرَة، وَهِيَ عُمْرَة الْقَضَاء، وَكَانَ مُعَاوِيَة يَوْمَئِذٍ كَافِرًا، وَإِنَّمَا أَسْلَمَ بَعْد ذَلِكَ عَام الْفَتْح سَنَة ثَمَانٍ، وَقِيلَ: إِنَّهُ أَسْلَمَ بَعْد عُمْرَة الْقَضَاء سَنَة سَبْع، وَالصَّحِيح الْأَوَّل.
وَأَمَّا غَيْر هَذِهِ الْعُمْرَة مِنْ عُمَر النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَكُنْ مُعَاوِيَة فيها كَافِرًا وَلَا مُقِيمًا بِمَكَّة بَلْ كَانَ مَعَهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ الْقَاضِي عِيَاض: وَقَالَهُ بَعْضهمْ كَافِر بِالْعَرْشِ بِفَتْحِ الْعَيْن وَإِسْكَان الرَّاء، وَالْمُرَاد عَرْش الرَّحْمَن.
قَالَ الْقَاضِي: هَذَا تَصْحِيف.
وَفِي هَذَا الْحَدِيث جَوَاز الْمُتْعَة فِي الْحَجّ.
2153- قَوْله: «عَنْ عِمْرَان بْن حُصَيْنٍ أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْمَرَ طَائِفَة مِنْ أَهْله فِي الْعَشْر فَلَمْ تَنْزِل آيَة تَنْسَخ ذَلِكَ وَلَمْ يُنْهَ عَنْهُ حَتَّى مَضَى لِوَجْهِهِ» وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَعَ بَيْن حَجّ وَعُمْرَة ثُمَّ لَمْ يَنْهَ عَنْهُ حَتَّى مَاتَ وَلَمْ يَنْزِل فيه قُرْآن يُحَرِّمهُ، وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى نَحْوه ثُمَّ قَالَ: قَالَ رَجُل بِرَأْيِهِ مَا شَاءَ يَعْنِي عُمَر بْن الْخَطَّاب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ. وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى تَمَتَّعْنَا مَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَنْزِل فيه الْقُرْآن قَالَ رَجُل بِرَأْيِهِ مَا شَاءَ. وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: «تَمَتَّعَ وَتَمَتَّعْنَا مَعَهُ». وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: «نَزَلَتْ آيَة الْمُتْعَة فِي كِتَاب اللَّه يَعْنِي مُتْعَة الْحَجّ وَأَمَرَنَا بِهَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ».
وَهَذِهِ الرِّوَايَات كُلّهَا مُتَّفِقَة عَلَى أَنَّ مُرَاد عُمَر أَنَّ التَّمَتُّع بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجّ جَائِزَة، وَكَذَلِكَ الْقِرَان، وَفيه التَّصْرِيح بِإِنْكَارِهِ عَلَى عُمَر بْن الْخَطَّاب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ مَنْعَ التَّمَتُّع، وَقَدْ سَبَقَ تَأْوِيل فِعْل عُمَر أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ إِبْطَال التَّمَتُّع بَلْ تَرْجِيح الْإِفْرَاد عَلَيْهِ.
2154- قَوْله: «وَقَدْ كَانَ يُسَلَّم عَلَيَّ حَتَّى اِكْتَوَيْت فَتُرِكْت ثُمَّ تَرَكْت الْكَيّ فَعَادَ» فَقَوْله: «يُسَلَّم عَلَيَّ» هُوَ بِفَتْحِ اللَّام الْمُشَدَّدَة. وَقَوْله: «فَتُرِكْت» هُوَ بِضَمِّ التَّاء أَيْ اِنْقَطَعَ السَّلَام عَلَيَّ، ثُمَّ تَرَكْت بِفَتْحِ التَّاء أَيْ تَرَكْت الْكَيّ فَعَادَ السَّلَام عَلَيَّ.
وَمَعْنَى الْحَدِيث أَنَّ عِمْرَان بْن الْحُصَيْن رَضِيَ اللَّه عَنْهُ كَانَتْ بِهِ بَوَاسِير فَكَانَ يَصْبِر عَلَى الْمُهِمَّات وَكَانَتْ الْمَلَائِكَة تُسَلِّم عَلَيْهِ، فَاكْتَوَى فَانْقَطَعَ سَلَامهمْ عَلَيْهِ، ثُمَّ تَرَكَ الْكَيّ فَعَادَ سَلَامهمْ عَلَيْهِ.
2155- قَوْله: «بَعَثَ إِلَيَّ عِمْرَان بْن حُصَيْنٍ فِي مَرَضه الَّذِي تُوُفِّيَ فيه فَقَالَ: إِنِّي كُنْت مُحَدِّثك بِأَحَادِيث لَعَلَّ اللَّه أَنْ يَنْفَعك بِهَا بَعْدِي، فَإِنْ عِشْت فَاكْتُمْ عَنِّي، وَإِنْ مُتّ فَحَدِّثْ بِهَا إِنْ شِئْت أَنَّهُ قَدْ سُلِّمَ عَلَيَّ وَاعْلَمْ أَنَّ نَبِيّ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ جَمَعَ بَيْن حَجّ وَعُمْرَة» أَمَّا قَوْله: «فَإِنْ عِشْت فَاكْتُمْ عَنِّي» فَأَرَادَ بِهِ الْإِخْبَار بِالسَّلَامِ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ كَرِهَ أَنْ يُشَاع عَنْهُ ذَلِكَ فِي حَيَاته لِمَا فيه مِنْ التَّعَرُّض لِلْفِتْنَةِ بِخِلَافِ مَا بَعْد الْمَوْت.
وَأَمَّا قَوْله: «لَعَلَّ اللَّه أَنْ يَنْفَعك بِهَا» فَمَعْنَاهُ تَعْمَل بِهَا وَتُعَلِّمهَا غَيْرك.
وَأَمَّا قَوْله: (أَحَادِيث) فَظَاهِره أَنَّهَا ثَلَاثَة فَصَاعِدًا وَلَمْ يَذْكُر مِنْهَا إِلَّا حَدِيثًا وَاحِدًا وَهُوَ الْجَمْع بَيْن الْحَجّ وَالْعُمْرَة.
وَأَمَّا إِخْبَاره بِالسَّلَامِ فَلَيْسَ حَدِيثًا فَيَكُون بَاقِي الْأَحَادِيث مَحْذُوفًا مِنْ الرِّوَايَة. 50
2158- قَوْله: (حَدَّثَنَا حَامِد بْن عُمَر الْبَكْرَاوِيُّ) هُوَ مَنْسُوب إِلَى جَدّ جَدّ أَبِيهِ أَبِي بَكْرَة الصَّحَابِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ فَإِنَّهُ حَامِد بْن عُمَر بْن حَفْص بْن عُمَر بْن عُبَيْد اللَّه بْن أَبِي بَكْرَة الثَّقَفِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ.

.باب وُجُوبِ الدَّمِ عَلَى الْمُتَمَتِّعِ وَأَنَّهُ إِذَا عَدِمَهُ لَزِمَهُ صَوْمُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ:

2159- قَوْله: «عَنْ اِبْن عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ: تَمَتَّعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّة الْوَدَاع بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجّ، وَأَهْدَى وَسَاقَ مَعَهُ الْهَدْي مِنْ ذِي الْحُلَيْفَة، وَبَدَأَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ، ثُمَّ أَهَلَّ بِالْحَجِّ، وَتَمَتَّعَ النَّاس مَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجّ» قَالَ الْقَاضِي: قَوْله: «تَمَتَّعَ» هُوَ مَحْمُول عَلَى التَّمَتُّع اللُّغَوِيّ وَهُوَ الْقِرَان آخِرًا، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْرَمَ أَوَّلًا بِالْحَجِّ مُفْرِدًا، ثُمَّ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ فَصَارَ قَارِنًا فِي آخِر أَمْره، وَالْقَارِن هُوَ مُتَمَتِّع مِنْ حَيْثُ اللُّغَة، وَمِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى لِأَنَّهُ تَرَفُّه بِاتِّحَادِ الْمِيقَات وَالْإِحْرَام وَالْفِعْل، وَيَتَعَيَّن هَذَا التَّأْوِيل هُنَا لِمَا قَدَّمْنَاهُ فِي الْأَبْوَاب السَّابِقَة مِنْ الْجَمْع بَيْن الْأَحَادِيث فِي ذَلِكَ. وَمِمَّنْ رَوَى إِفْرَاد النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اِبْن عُمَر الرَّاوِي هُنَا وَقَدْ ذَكَرَهُ مُسْلِم بَعْد هَذَا.
وَأَمَّا قَوْله: بَدَأَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَأَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ ثُمَّ أَهَلَّ بِالْحَجِّ فَهُوَ مَحْمُول عَلَى التَّلْبِيَة فِي أَثْنَاء الْإِحْرَام، وَلَيْسَ الْمُرَاد أَنَّهُ أَحْرَمَ فِي أَوَّل أَمْره بِعُمْرَةٍ، ثُمَّ أَحْرَمَ بِحَجٍّ، لِأَنَّهُ يُفْضِي إِلَى مُخَالَفَة الْأَحَادِيث السَّابِقَة، وَقَدْ سَبَقَ بَيَان الْجَمْع بَيْن الرِّوَايَات فَوَجَبَ تَأْوِيل هَذَا عَلَى مُوَافَقَتهَا، وَيُؤَيِّد هَذَا التَّأْوِيل قَوْله: «تَمَتَّعَ النَّاس مَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجّ» وَمَعْلُوم أَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ أَوْ أَكْثَرهمْ أَحْرَمُوا بِالْحَجِّ أَوَّلًا مُفْرَدًا، وَإِنَّمَا فَسَخُوهُ إِلَى الْعُمْرَة آخِرًا فَصَارُوا مُتَمَتِّعِينَ. فَقَوْله: «وَتَمَتَّعَ النَّاس» يَعْنِي فِي آخِر الْأَمْر. وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَهْدَى فَلْيَطُفْ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَة وَلْيُقَصِّرْ وَلْيَحْلِلْ، ثُمَّ لِيُهِلّ بِالْحَجِّ وَلْيُهْدِ، فَمَنْ لَمْ يَجِد هَدْيًا فَلْيَصُمْ ثَلَاثَة أَيَّام فِي الْحَجّ وَسَبْعَة إِذَا رَجَعَ إِلَى أَهْله» أَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَلْيَطُفْ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَة وَلْيُقَصِّرْ وَلْيَحْلِلْ» فَمَعْنَاهُ يَفْعَل الطَّوَاف وَالسَّعْي وَالتَّقْصِير، وَقَدْ صَارَ حَلَالًا، وَهَذَا دَلِيل عَلَى أَنَّ التَّقْصِير أَوْ الْحَلْق نُسُك مِنْ مَنَاسِك الْحَجّ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح فِي مَذْهَبنَا، وَبِهِ قَالَ جَمَاهِير الْعُلَمَاء، وَقِيلَ: إِنَّهُ اِسْتِبَاحَة مَحْظُور وَلَيْسَ بِنُسُكٍ، وَهَذَا ضَعِيف، وَسَيَأْتِي إِيضَاحه فِي مَوْضِعه إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى، وَإِنَّمَا أَمَرَهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالتَّقْصِيرِ وَلَمْ يَأْمُر بِالْحَلْقِ مَعَ أَنَّ الْحَلْق أَفْضَل لِيَبْقَى لَهُ شَعْر يَحْلِقهُ فِي الْحَجّ، فَإِنَّ الْحَلْق فِي تَحَلُّل الْحَجّ أَفْضَل مِنْهُ فِي تَحَلُّل الْعُمْرَة.
وَأَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَلْيَحْلِلْ» فَمَعْنَاهُ وَقَدْ صَارَ حَلَالًا فَلَهُ فِعْل مَا كَانَ مَحْظُورًا عَلَيْهِ فِي الْإِحْرَام مِنْ الطِّيب وَاللِّبَاس وَالنِّسَاء وَالصَّيْد وَغَيْر ذَلِكَ، وَأَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ثُمَّ لِيُهِلّ بِالْحَجِّ» فَمَعْنَاهُ: يُحْرِم بِهِ فِي وَقْت الْخُرُوج إِلَى عَرَفَات لَا أَنَّهُ يُهِلّ بِهِ عَقِب تَحَلُّل الْعُمْرَة، وَلِهَذَا قَالَ: «ثُمَّ لِيُهِلّ» فَأَتَى بِثُمَّ الَّتِي هِيَ لِلتَّرَاخِي وَالْمُهْلَة.
وَأَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَلْيُهْدِ» فَالْمُرَاد بِهِ هَدْي التَّمَتُّع فَهُوَ وَاجِب بِشُرُوطٍ اِتَّفَقَ أَصْحَابنَا عَلَى أَرْبَعَة مِنْهَا، وَاخْتَلَفُوا فِي ثَلَاثَة.
أَحَد الْأَرْبَعَة أَنْ يُحْرِم بِالْعُمْرَةِ فِي أَشْهُر الْحَجّ، الثَّانِي أَنْ يَحُجّ مِنْ عَامه، الثَّالِث أَنْ يَكُون أَفَقِيًّا لَا مِنْ حَاضِرِي الْمَسْجِد، وَحَاضِرُوهُ أَهْل الْحَرَم وَمَنْ كَانَ مِنْهُ عَلَى مَسَافَة لَا تُقْصَر فيها الصَّلَاة.
الرَّابِع أَلَّا يَعُود إِلَى الْمِيقَات لِإِحْرَامِ الْحَجّ.
وَأَمَّا الثَّلَاثَة فَأَحَدهَا نِيَّة التَّمَتُّع، وَالثَّانِي كَوْن الْحَجّ وَالْعُمْرَة فِي سَنَة فِي شَهْر وَاحِد، الثَّالِث كَوْنهمَا عَنْ شَخْص وَاحِد. وَالْأَصَحّ أَنَّ هَذِهِ الثَّلَاثَة لَا تُشْتَرَط. وَاَللَّه أَعْلَم.
وَأَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَمَنْ لَمْ يَجِد هَدْيًا» فَالْمُرَاد لَمْ يَجِدهُ هُنَاكَ إِمَّا لِعَدَمِ الْهَدْي، وَإِمَّا لِعَدَمِ ثَمَنه، وَإِمَّا لِكَوْنِهِ يُبَاع بِأَكْثَر مِنْ ثَمَن الْمِثْل، وَإِمَّا لِكَوْنِهِ مَوْجُودًا لَكِنَّهُ لَا يَبِيعهُ صَاحِبه، فَفِي كُلّ هَذِهِ الصُّوَر يَكُون عَادِمًا لِلْهَدْيِ فَيَنْتَقِل إِلَى الصَّوْم سَوَاء كَانَ وَاجِدًا لِثَمَنِهِ فِي بَلَده أَمْ لَا.
وَأَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَمَنْ لَمْ يَجِد هَدْيًا فَلْيَصُمْ ثَلَاثَة أَيَّام فِي الْحَجّ وَسَبْعَة إِذَا رَجَعَ» فَهُوَ مُوَافِق لِنَصِّ كِتَاب اللَّه تَعَالَى، وَيَجِب صَوْم هَذِهِ الثَّلَاثَة قَبْل يَوْم النَّحْر، وَيَجُوز صَوْم يَوْم عَرَفَة مِنْهَا، لَكِنْ الْأَوْلَى أَنْ يَصُوم الثَّلَاثَة قَبْله، وَالْأَفْضَل أَلَّا يَصُومهَا حَتَّى يُحْرِم بِالْحَجِّ بَعْد فَرَاغه مِنْ الْعُمْرَة، فَإِنْ صَامَهَا بَعْد فَرَاغه مِنْ الْعُمْرَة وَقَبْل الْإِحْرَام بِالْحَجِّ أَجْزَأَهُ عَلَى الْمَذْهَب الصَّحِيح عِنْدنَا، وَإِنْ صَامَهَا بَعْد الْإِحْرَام بِالْعُمْرَةِ وَقَبْل فَرَاغهَا لَمْ يُجْزِهِ عَلَى الصَّحِيح، فَإِنْ لَمْ يَصُمْهَا قَبْل يَوْم النَّحْر وَأَرَادَ صَوْمهَا فِي أَيَّام التَّشْرِيق فَفِي صِحَّته قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ لِلشَّافِعِيِّ أَشْهَرهمَا فِي الْمَذْهَب أَنَّهُ لَا يَجُوز، وَأَصَحّهمَا مِنْ حَيْثُ الدَّلِيل جَوَازه. هَذَا تَفْصِيل مَذْهَبنَا. وَوَافَقَنَا أَصْحَاب مَالِك فِي أَنَّهُ لَا يَجُوز صَوْم الثَّلَاثَة قَبْل الْفَرَاغ مِنْ الْعُمْرَة. وَجَوَّزَهُ الثَّوْرِيّ وَأَبُو حَنِيفَة، وَلَوْ تَرَكَ صِيَامهَا حَتَّى مَضَى الْعِيد وَالتَّشْرِيق لَزِمَهُ قَضَاؤُهَا عِنْدنَا.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة: يَفُوت صَوْمهَا وَيَلْزَمهُ الْهَدْي إِذَا اِسْتَطَاعَهُ. وَاَللَّه أَعْلَم.
وَأَمَّا صَوْم السَّبْعَة فَيَجِب إِذَا رَجَعَ. وَفِي الْمُرَاد بِالرُّجُوعِ خِلَاف. الصَّحِيح فِي مَذْهَبنَا أَنَّهُ إِذَا رَجَعَ إِلَى أَهْله، وَهَذَا هُوَ الصَّوَاب، لِهَذَا الْحَدِيث الصَّحِيح الصَّرِيح. وَالثَّانِي إِذَا فَرَغَ مِنْ الْحَجّ وَرَجَعَ إِلَى مَكَّة مِنْ مِنًى، وَهَذَا الْقَوْلَانِ لِلشَّافِعِيِّ وَمَالِك. وَبِالثَّانِي قَالَ أَبُو حَنِيفَة. وَلَوْ لَمْ يَصُمْ الثَّلَاثَة وَلَا السَّبْعَة حَتَّى عَادَ إِلَى وَطَنه لَزِمَهُ صَوْم عَشَرَة أَيَّام. وَفِي اِشْتِرَاط التَّفْرِيق بَيْن الثَّلَاثَة وَالسَّبْعَة إِذَا أَرَادَ صَوْمهَا خِلَاف قِيلَ: لَا يَجِب. وَالصَّحِيح أَنَّهُ يَجِب التَّفْرِيق الْوَاقِع فِي الْأَدَاء، وَهُوَ بِأَرْبَعَةِ أَيَّام وَمَسَافَة الطَّرِيق بَيْن مَكَّة وَوَطَنه. وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله: «وَطَافَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِين قَدِمَ مَكَّة وَاسْتَلَمَ الرُّكْن أَوَّل شَيْء ثُمَّ خَبَّ ثَلَاثَة أَطَوَاف» مِنْ السَّبْع وَمَشَى أَرْبَعَة أَطَوَاف إِلَى آخِر الْحَدِيث.
فيه إِثْبَات طَوَاف الْقُدُوم، وَاسْتِحْبَاب الرَّمَل فيه، وَأَنَّ الرَّمَل هُوَ الْخَبَب، وَأَنَّهُ يُصَلِّي رَكْعَتَيْ الطَّوَاف، وَأَنَّهُمَا يُسْتَحَبَّانِ خَلْف الْمَقَام، وَقَدْ سَبَقَ بَيَان هَذَا كُلّه وَسَنَذْكُرُهُ أَيْضًا حَيْثُ ذَكَرَهُ مُسْلِم بَعْد هَذَا إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى.

.باب بَيَانِ أَنَّ الْقَارِنَ لاَ يَتَحَلَّلُ إِلاَّ فِي وَقْتِ تَحَلُّلِ الْحَاجِّ الْمُفْرِدِ:

2161- قَوْلهَا: «يَا رَسُول اللَّه مَا شَأْن النَّاس حَلُّوا وَلَمْ تَحْلِلْ أَنْتَ مِنْ عُمْرَتك؟ قَالَ: إِنِّي لَبَّدْت رَأْسِي، وَقَلَّدْت هَدْيِي فَلَا أَحِلّ حَتَّى أَنْحَر» وَهَذَا دَلِيل لِلْمَذْهَبِ الصَّحِيح الْمُخْتَار الَّذِي قَدَّمْنَاهُ وَاضِحًا بِدَلَائِلِهِ فِي الْأَبْوَاب السَّابِقَة مَرَّات أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ قَارِنًا فِي حَجَّة الْوَدَاع. فَقَوْلهَا: «مِنْ عُمْرَتك» أَيْ الْعُمْرَة الْمَضْمُومَة إِلَى الْحَجّ. وَفيه أَنَّ الْقَارِن لَا يَتَحَلَّل بِالطَّوَافِ وَالسَّعْي، ولابد لَهُ فِي تَحَلُّله مِنْ الْوُقُوف بِعَرَفَاتٍ وَالرَّمْي وَالْحَلْق وَالطَّوَاف كَمَا فِي الْحَاجّ الْمُفْرِد.
وَقَدْ تَأَوَّلَهُ مَنْ يَقُول بِالْإِفْرَادِ تَأْوِيلَات ضَعِيفَة: مِنْهَا أَنَّهَا أَرَادَتْ بِالْعُمْرَةِ الْحَجّ لِأَنَّهُمَا يَشْتَرِكَانِ فِي كَوْنهمَا قَصْدًا، وَقِيلَ: الْمُرَاد بِهَا الْإِحْرَام، وَقِيلَ: إِنَّهَا ظَنَّتْ أَنَّهُ مُعْتَمِر، وَقِيلَ: مَعْنَى: «مِنْ عُمْرَتك» أَيْ بِعُمْرَتِك بِأَنْ تَفْسَخ حَجّك إِلَى عُمْرَة كَمَا فَعَلَ غَيْرك، وَكُلّ هَذَا ضَعِيف، وَالصَّحِيح مَا سَبَقَ.
وَقَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَبَّدْت رَأْسِي وَقَلَّدْت هَدْيِي» فيه اِسْتِحْبَاب التَّلْبِيد وَتَقْلِيد الْهَدْي، وَهُمَا سُنَّتَانِ بِالِاتِّفَاقِ، وَقَدْ سَبَقَ بَيَان هَذَا كُلّه.

.باب بَيَانِ جَوَازِ التَّحَلُّلِ بِالإِحْصَارِ وَجَوَازِ الْقِرَانِ:

2164- قَوْله: «صَنَعْنَا كَمَا صَنَعْنَا مَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخَرَجَ فَأَهَلَّ بِعُمْرَةٍ» فَالصَّوَاب فِي مَعْنَاهُ أَنَّهُ أَرَادَ إِنْ صُدِدْت وَحُصِرْت تَحَلَّلْت كَمَا تَحَلَّلْنَا عَام الْحُدَيْبِيَة مَعَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَالَ الْقَاضِي: يَحْتَمِل أَنَّهُ أَرَادَ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ كَمَا أَهَلَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعُمْرَةٍ فِي الْعَام الَّذِي أُحْصِرَ.
قَالَ: وَيَحْتَمِل أَنَّهُ أَرَادَ الْأَمْرَيْنِ.
قَالَ: وَهُوَ الْأَظْهَر. وَلَيْسَ هُوَ بِظَاهِرٍ كَمَا اِدَّعَاهُ، بَلْ الصَّحِيح الَّذِي يَقْتَضِيه سِيَاق كَلَامه مَا قَدَّمْنَاهُ وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله: (عَنْ نَافِع أَنَّ عَبْد اللَّه بْن عُمَر خَرَجَ فِي الْفِتْنَة مُعْتَمِرًا وَقَالَ: إِنْ صُدِدْت عَنْ الْبَيْت صَنَعْنَا كَمَا صَنَعْنَا مَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَخَرَجَ فَأَهَلَّ بِعُمْرَةٍ وَسَارَ حَتَّى إِذَا ظَهَرَ عَلَى الْبَيْدَاء اِلْتَفَتَ إِلَى أَصْحَابه فَقَالَ: مَا أَمْرهمَا إِلَّا وَاحِد أُشْهِدكُمْ أَنِّي قَدْ أَوْجَبْت الْحَجّ مَعَ الْعُمْرَة، فَخَرَجَ حَتَّى إِذَا جَاءَ الْبَيْت طَافَ سَبْعًا، وَبَيْن الصَّفَا وَالْمَرْوَة سَبْعًا، لَمْ يَزِدْ، وَرَأَى أَنَّهُ مُجْزِئ عَنْهُ وَأَهْدَى).
فِي هَذَا الْحَدِيث جَوَاز الْقِرَان، وَجَوَاز إِدْخَال الْحَجّ عَلَى الْعُمْرَة قَبْل الطَّوَاف، وَهُوَ مَذْهَبنَا وَمَذْهَب جَمَاهِير الْعُلَمَاء، وَسَبَقَ بَيَان الْمَسْأَلَة، وَفيه جَوَاز التَّحَلُّل بِالْإِحْصَارِ.
وَأَمَّا قَوْله: (أُشْهِدكُمْ) فَإِنَّمَا قَالَهُ لِيَعْلَمهُ مَنْ أَرَادَ الِاقْتِدَاء بِهِ، فَلِهَذَا قَالَ: (أُشْهِدكُمْ)، وَلَمْ يَكْتَفِ بِالنِّيَّةِ مَعَ أَنَّهَا كَافِيَة فِي صِحَّة الْإِحْرَام.
وَقَوْله: (مَا أَمْرهمَا إِلَّا وَاحِد) يَعْنِي فِي جَوَاز التَّحَلُّل مِنْهُمَا بِالْإِحْصَارِ، وَفيه صِحَّة الْقِيَاس وَالْعَمَل بِهِ، وَأَنَّ الصَّحَابَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ كَانُوا يَسْتَعْمِلُونَهُ، فَلِهَذَا قَاسَ الْحَجّ عَلَى الْعُمْرَة لِأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا تَحَلَّلَ مِنْ الْإِحْصَار عَام الْحُدَيْبِيَة مِنْ إِحْرَامه بِالْعُمْرَةِ وَحْدهَا.
وَفيه أَنَّ الْقَارِن يَقْتَصِر عَلَى طَوَاف وَاحِد وَسَعْي وَاحِد هُوَ مَذْهَبنَا وَمَذْهَب الْجُمْهُور، وَخَالَفَ فيه أَبُو حَنِيفَة وَطَائِفَةٌ وَسَبَقَتْ الْمَسْأَلَة.
2165- قَوْله: «حَتَّى حَلَّ مِنْهُمَا بِحَجَّةٍ يَوْم النَّحْر» مَعْنَاهُ حَتَّى أَهَلَّ مِنْهُمَا يَوْم النَّحْر بِعَمَلِ حَجَّة مُفْرَدَة.

.باب فِي الإِفْرَادِ وَالْقِرَانِ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ:

2167- قَوْله: «عَنْ اِبْن عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ: أَهْلَلْنَا مَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحَجِّ مُفْرَدًا» وَفِي رِوَايَة: «أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهَلَّ بِالْحَجِّ مُفْرَدًا» هَذَا مُوَافِق لِلرِّوَايَاتِ السَّابِقَة عَنْ جَابِر وَعَائِشَة وَابْن عَبَّاس وَغَيْرهمْ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ مُفْرَدًا. وَفيه بَيَان أَنَّ الرِّوَايَة السَّابِقَة قَرِيبًا عَنْ اِبْن عُمَر الَّتِي أَخْبَرَ فيها بِالْقِرَانِ مُتَأَوَّلَة، وَسَبَقَ بَيَان تَأْوِيله.
2168- قَوْله: «عَنْ أَنَس سَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: لَبَّيْكَ عُمْرَة وَحَجًّا» يَحْتَجّ بِهِ مَنْ يَقُول بِالْقِرَانِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الصَّحِيح الْمُخْتَار فِي حَجَّة النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ فِي أَوَّل إِحْرَامه مُفْرِدًا ثُمَّ أَدْخَلَ الْعُمْرَة عَلَى الْحَجّ فَصَارَ قَارِنًا، وَجَمَعْنَا بَيْن الْأَحَادِيث أَحْسَن جَمْع، فَحَدِيث اِبْن عُمَر هُنَا مَحْمُول عَلَى أَوَّل إِحْرَامه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَحَدِيث أَنَس مَحْمُول عَلَى أَوَاخِره وَأَثْنَائِهِ، وَكَأَنَّهُ لَمْ يَسْمَعهُ أَوَّلًا، ولابد مِنْ هَذَا التَّأْوِيل أَوْ نَحْوه لِتَكُونَ رِوَايَة أَنَس مُوَافِقَة لِرِوَايَةِ الْأَكْثَرِينَ كَمَا سَبَقَ وَاَللَّه أَعْلَم.

.باب مَا يَلْزَمُ مَنْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ ثُمَّ قَدِمَ مَكَّةَ مِنَ الطَّوَافِ وَالسَّعْيِ:

2170- قَوْله: (عَنْ وَبَرَة) هُوَ بِفَتْحِ الْبَاء.
قَوْله: (كُنْت جَالِسًا عِنْد اِبْن عُمَر فَجَاءَهُ رَجُل فَقَالَ: أَيَصْلُحُ لِي أَنْ أَطُوف قَبْل أَنْ آتِي الْمَوْقِف؟ فَقَالَ: نَعَمْ فَقَالَ: فَإِنَّ اِبْن عَبَّاس يَقُول: لَا تَطُفْ بِالْبَيْتِ حَتَّى تَأْتِي الْمَوْقِف، فَقَالَ اِبْن عُمَر: فَقَدْ حَجَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَطَافَ بِالْبَيْتِ قَبْل أَنْ يَأْتِي الْمَوْقِف، فَبِقَوْلِ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَقّ أَنْ تَأْخُذ أَوْ بِقَوْلِ اِبْن عَبَّاس إِنْ كُنْت صَادِقًا؟) هَذَا الَّذِي قَالَهُ اِبْن عُمَر هُوَ إِثْبَات طَوَاف الْقُدُوم لِلْحَاجِّ، وَهُوَ مَشْرُوع قَبْل الْوُقُوف بِعَرَفَاتٍ، وَبِهَذَا الَّذِي قَالَهُ اِبْن عُمَر وَقَالَ الْعُلَمَاء كَافَّة سِوَى اِبْن عَبَّاس، وَكُلّهمْ يَقُولُونَ: إِنَّهُ سُنَّة لَيْسَ بِوَاجِبٍ إِلَّا بَعْض أَصْحَابنَا وَمَنْ وَافَقَهُ فَيَقُولُونَ: وَاجِب يُجْبَر تَرْكه بِالدَّمِ. وَالْمَشْهُور أَنَّهُ سُنَّة لَيْسَ بِوَاجِبٍ وَلَا دَم فِي تَرْكه، فَإِنْ وَقَفَ بِعَرَفَاتٍ قَبْل طَوَاف الْقُدُوم فَاتَ، فَإِنْ طَافَ بَعْد ذَلِكَ بِنِيَّةِ طَوَاف الْقُدُوم لَمْ يَقَع عَنْ طَوَاف الْقُدُوم، بَلْ يَقَع عَنْ طَوَاف الْإِفَاضَة إِنْ لَمْ يَكُنْ طَافَ لِلْإِفَاضَةِ، فَإِنْ كَانَ طَافَ لِلْإِفَاضَةِ وَقَعَ الثَّانِي تَطَوُّعًا لَا عَنْ الْقُدُوم.
وَلِطَوَافِ الْقُدُوم أَسْمَاء طَوَاف الْقُدُوم وَالْقَادِم وَالْوُرُود وَالْوَارِد وَالتَّحِيَّة، وَلَيْسَ فِي الْعُمْرَة طَوَاف قُدُوم، بَلْ الطَّوَاف الَّذِي يَفْعَلهُ فيها رُكْنًا لَهَا، حَتَّى لَوْ نَوَى بِهِ طَوَاف الْقُدُوم وَقَعَ رُكْنًا، وَلَغَتْ نِيَّته، كَمَا لَوْ كَانَ عَلَيْهِ حَجَّة وَاجِبَة فَنَوَى حَجَّة تَطَوُّع فَإِنَّهَا تَقَع وَاجِبَة. وَاَللَّه أَعْلَم.
وَأَمَّا قَوْله: (إِنْ كُنْت صَادِقًا) فَمَعْنَاهُ إِنْ كُنْت صَادِقًا فِي إِسْلَامك وَاتِّبَاعك رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا تَعْدِل عَنْ فِعْله وَطَرِيقَته إِلَى قَوْل اِبْن عَبَّاس وَغَيْره. وَاَللَّه أَعْلَم.
2171- قَوْله: (رَأَيْنَاهُ قَدْ فَتَنَتْهُ الدُّنْيَا) هَكَذَا فِي كَثِير مِنْ الْأُصُول (فَتَنَتْهُ الدُّنْيَا)، وَفِي كَثِير مِنْهَا أَوْ أَكْثَرهَا (أَفْتَنَتْهُ)، وَكَذَا نَقَلَهُ الْقَاضِي عَنْ رِوَايَة الْأَكْثَرِينَ، وَهُمَا لُغَتَانِ صَحِيحَتَانِ (فَتَنَ وَأَفْتَنَ)، وَالْأُولَى أَصَحّ وَأَشْهَر، وَبِهَا جَاءَ الْقُرْآن، وَأَنْكَرَ الْأَصْمَعِيّ (أَفْتَنَ). وَمَعْنَى قَوْلهمْ: (فَتَنَتْهُ الدُّنْيَا) لِأَنَّهُ تَوَلَّى الْبَصْرَة، وَالْوِلَايَات مَحَلّ الْخَطَر وَالْفِتْنَة، وَأَمَّا اِبْن عُمَر فَلَمْ يَتَوَلَّ شَيْئًا.
وَأَمَّا قَوْل اِبْن عُمَر: (وَأَيّنَا لَمْ تَفْتِنهُ الدُّنْيَا)؟ فَهَذَا مِنْ زُهْده وَتَوَاضُعه وَإِنْصَافه. وَفِي بَعْض النُّسَخ وَأَيّنَا أَوْ أَيّكُمْ؟ وَفِي بَعْضهَا وَأَيّنَا أَوْ قَالَ: وَأَيّكُمْ؟ وَكُلّه صَحِيح.
2172- قَوْله: «سَأَلْنَا اِبْن عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ عَنْ رَجُل قَدِمَ بِعُمْرَةٍ فَطَافَ بِالْبَيْتِ وَلَمْ يَطُفْ بَيْن الصَّفَا وَالْمَرْوَة أَيَأْتِي اِمْرَأَته؟ فَقَالَ قَدِمَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَطَافَ بِالْبَيْتِ سَبْعًا وَصَلَّى خَلْف الْمَقَام رَكْعَتَيْنِ وَبَيْن الصَّفَا وَالْمَرْوَة سَبْعًا، وَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُول اللَّه أُسْوَة حَسَنَة» مَعْنَاهُ لَا يَحِلّ لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَتَحَلَّل مِنْ عُمْرَته حَتَّى طَافَ وَسَعَى فَتَجِب مُتَابَعَته وَالِاقْتِدَاء بِهِ، وَهَذَا الْحُكْم الَّذِي قَالَهُ اِبْن عُمَر هُوَ مَذْهَب الْعُلَمَاء كَافَّة، وَهُوَ أَنَّ الْمُعْتَمِر لَا يَتَحَلَّل إِلَّا بِالطَّوَافِ وَالسَّعْي وَالْحَلْق إِلَّا مَا حَكَاهُ الْقَاضِي عِيَاض عَنْ اِبْن عَبَّاس وَإِسْحَاق بْن رَاهْوَيْهِ أَنَّهُ يَتَحَلَّل بَعْد الطَّوَاف وَإِنْ لَمْ يَسْعَ، وَهَذَا ضَعِيف مُخَالِف لِلسُّنَّةِ.