فصل: باب حَدِّ الْخَمْرِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج المشهور بـ «شرح النووي على مسلم»



.باب رَجْمِ الْيَهُودِ أَهْلِ الذِّمَّةِ فِي الزِّنَا:

3211- قَوْله: «أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِيَهُودِيٍّ وَيَهُودِيَّة قَدْ زَنَيَا إِلَى قَوْله: فَرُجِمَا» فِي هَذَا دَلِيل لِوُجُوبِ حَدّ الزِّنَا عَلَى الْكَافِر، وَأَنَّهُ يَصِحّ نِكَاحه لِأَنَّهُ لَا يَجِب الرَّجْم إِلَّا عَلَى مُحْصَن، فَلَوْ لَمْ يَصِحّ نِكَاحه لَمْ يَثْبُت إِحْصَانه، وَلَمْ يُرْجَم، وَفيه أَنَّ الْكُفَّار مُخَاطَبُونَ بِفُرُوعِ الشَّرْع وَهُوَ الصَّحِيح، وَقِيلَ: لَا يُخَاطَبُونَ بِهَا، وَقِيلَ: إِنَّهُمْ مُخَاطَبُونَ بِالنَّهْيِ دُون الْأَمْر.
وَفيه أَنَّ الْكُفَّار إِذَا تَحَاكَمُوا إِلَيْنَا حَكَمَ الْقَاضِي بَيْنهمْ بِحُكْمِ شَرْعنَا، وَقَالَ مَالِك: لَا يَصِحّ إِحْصَان الْكَافِر.
قَالَ: وَإِنَّمَا رَجَمَهُمَا لِأَنَّهُمَا لَمْ يَكُونَا أَهْل ذِمَّة، وَهَذَا تَأْوِيل بَاطِل، لِأَنَّهُمَا كَانَا مِنْ أَهْل الْعَهْد، وَلِأَنَّهُ رَجَمَ الْمَرْأَة، وَالنِّسَاء لَا يَجُوز قَتْلهنَّ مُطْلَقًا.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَقَالَ مَا تَجِدُونَ فِي التَّوْرَاة؟» قَالَ الْعُلَمَاء: هَذَا السُّؤَال لَيْسَ لِتَقْلِيدِهِمْ وَلَا لِمَعْرِفَةِ الْحُكْم مِنْهُمْ، فَإِنَّمَا هُوَ لِإِلْزَامِهِمْ بِمَا يَعْتَقِدُونَهُ فِي كِتَابهمْ، وَلَعَلَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أُوحِيَ إِلَيْهِ أَنَّ الرَّجْم فِي التَّوْرَاة الْمَوْجُودَة فِي أَيْدِيهمْ لَمْ يُغَيِّرُوهُ كَمَا غَيَّرُوا أَشْيَاء، أَوْ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ بِذَلِكَ مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ، وَلِهَذَا لَمْ يَخَفْ ذَلِكَ عَلَيْهِ حِين كَتَمُوهُ.
قَوْله: «نُسَوِّد وُجُوههمَا وَنَحْمِلهُمَا» هَكَذَا هُوَ فِي أَكْثَر النُّسَخ: «نَحْمِلهُمَا» بِالْحَاءِ وَاللَّام، وَفِي بَعْضهَا: «نُجَمِّلهَا» بِالْجِيمِ، وَفِي بَعْضهَا: «نُحَمِّمهُمَا» بِمِيمَيْنِ وَكُلّه مُتَقَارِب، فَمَعْنَى الْأَوَّل: نَحْمِلهُمَا عَلَى الْحَمْل، وَمَعْنَى الثَّانِي: نُجَمِّلهُمَا جَمِيعًا عَلَى الْجَمَل، وَمَعْنَى الثَّالِث: نُسَوِّد وُجُوههمَا بِالْحُمَمِ- بِضَمِّ الْحَاء وَفَتْح الْمِيم- وَهُوَ الْفَحْم، وَهَذَا الثَّالِث ضَعِيف؛ لِأَنَّهُ قَالَ قَبْله: نُسَوِّد وُجُوههمَا، فَإِنْ قِيلَ: كَيْف رُجِمَ الْيَهُودِيَّانِ بِالْبَيِّنَةِ أَمْ بِالْإِقْرَارِ؟ قُلْنَا: الظَّاهِر أَنَّهُ بِالْإِقْرَارِ، وَقَدْ جَاءَ فِي سُنَن أَبِي دَاوُدَ وَغَيْره أَنَّهُ شَهِدَ عَلَيْهِمَا أَرْبَعَة أَنَّهُمْ رَأَوْا ذَكَرَهُ فِي فَرْجهَا، فَإِنْ صَحَّ هَذَا فَإِنْ كَانَ الشُّهُود مُسْلِمِينَ فَظَاهِر، وَإِنْ كَانُوا كُفَّارًا فَلَا اِعْتِبَار بِشَهَادَتِهِمْ، وَيَتَعَيَّن أَنَّهُمَا أَقَرَّا بِالزِّنَا.
3213- قَوْله: «رَجَمَ رَجُلًا مِنْ الْيَهُود وَامْرَأَته» أَيْ صَاحِبَته الَّتِي زَنَى بِهَا وَلَمْ يُرِدْ زَوْجَته، وَفِي رِوَايَة: «وَامْرَأَة».
3215- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا زَنَتْ أَمَة أَحَدكُمْ فَتَبَيَّنَ زِنَاهَا: فَلْيَجْلِدْهَا الْحَدّ وَلَا يُثَرِّب عَلَيْهَا» التَّثْرِيب: التَّوْبِيخ وَاللَّوْم عَلَى الذَّنْب، وَمَعْنَى تَبَيَّنَ زِنَاهَا: تَحَقَّقَهُ إِمَّا بِالْبَيِّنَةِ وَإِمَّا بِرُؤْيَةٍ أَوْ عِلْم عِنْد مَنْ يَجُوز الْقَضَاء بِالْعِلْمِ فِي الْحُدُود.
وَفِي هَذَا الْحَدِيث دَلِيل عَلَى وُجُوب حَدّ الزِّنَا عَلَى الْإِمَاء وَالْعَبِيد. وَفيه: أَنَّ السَّيِّد يُقِيم الْحَدّ عَلَى عَبْده وَأَمَته، وَهَذَا مَذْهَبنَا وَمَذْهَب مَالِك وَأَحْمَد وَجَمَاهِير الْعُلَمَاء مِنْ الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ فَمَنْ بَعْدهمْ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُ فِي طَائِفَة: لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ، وَهَذَا الْحَدِيث صَرِيح فِي الدَّلَالَة لِلْجُمْهُورِ، وَفيه دَلِيل عَلَى أَنَّ الْعَبْد وَالْأَمَة لَا يُرْجَمَانِ، سَوَاء كَانَا مُزَوَّجَيْنِ أَمْ لَا، لِقَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَلْيَجْلِدْهَا الْحَدّ» وَلَمْ يُفَرِّق بَيْن مُزَوَّجَة وَغَيْرهَا، وَفيه أَنَّهُ لَا يُوَبَّخ الزَّانِي، بَلْ يُقَام عَلَيْهِ الْحَدّ فَقَطْ.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنْ زَنَتْ فَلْيَجْلِدْهَا الْحَدّ وَلَا يُثَرِّب عَلَيْهَا، ثُمَّ إِنْ زَنَتْ الثَّالِثَة فَتَبَيَّنَ زِنَاهَا فَلْيَبِعْهَا وَلَوْ بِحَبْلٍ مِنْ شَعْر» فيه: أَنَّ الزَّانِي إِذَا حُدَّ ثُمَّ زَنَى ثَانِيًا يَلْزَمهُ حَدٌّ آخَر، فَإِنْ زَنَى ثَالِثَة لَزِمَهُ حَدّ آخَر، فَإِنْ حُدَّ ثُمَّ زَنَى لَزِمَهُ حَدّ آخَر، وَهَكَذَا أَبَدًا، فَأَمَّا إِذَا زَنَى مَرَّات وَلَمْ يُحَدّ لِوَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ فَيَكْفيه حَدّ وَاحِد لِلْجَمِيعِ. وَفيه تَرْك مُخَالَطَة الْفُسَّاق وَأَهْل الْمَعَاصِي وَفِرَاقهمْ، وَهَذَا الْبَيْع الْمَأْمُور بِهِ مُسْتَحَبّ لَيْسَ بِوَاجِبٍ عِنْدنَا وَعِنْد الْجُمْهُور، وَقَالَ دَاوُدُ وَأَهْل الظَّاهِر: هُوَ وَاجِب.
وَفيه جَوَاز بَيْع الشَّيْء النَّفِيس بِثَمَنٍ حَقِير، وَهَذَا مُجْمَع عَلَيْهِ إِذَا كَانَ الْبَائِع عَالِمًا بِهِ، فَإِنْ كَانَ جَاهِلًا فَكَذَلِكَ عِنْدنَا وَعِنْد الْجُمْهُور، وَلِأَصْحَابِ مَالِك فيه خِلَاف. وَاللَّهُ أَعْلَم.
وَهَذَا الْمَأْمُور بِهِ يَلْزَم صَاحِبه أَنْ يُبَيِّن حَالهَا لِلْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ عَيْب، وَالْإِخْبَار بِالْعَيْبِ وَاجِب، فَإِنْ قِيلَ: كَيْف يَكْرَه شَيْئًا وَيَرْتَضِيه لِأَخِيهِ الْمُسْلِم؟ فَالْجَوَاب: لَعَلَّهَا تَسْتَعِفّ عِنْد الْمُشْتَرِي بِأَنْ يُعِفّهَا بِنَفْسِهِ أَوْ يَصُونَهَا بِهَيْبَتِهِ أَوْ بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهَا وَالتَّوْسِعَة عَلَيْهَا أَوْ يُزَوِّجهَا أَوْ غَيْر ذَلِكَ. وَاللَّهُ أَعْلَم.
3216- قَوْله: قَرَأْت عَلَى مَالِك عَنْ اِبْن شِهَاب عَنْ عُبَيْد اللَّه بْن عَبْد اللَّه عَنْ أَبِي هُرَيْرَة: «أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ الْأَمَة إِذَا زَنَتْ وَلَمْ تُحْصَن قَالَ: إِنْ زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا» وَفِي الْحَدِيث الْآخَر (أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّه عَنْهُ خَطَبَ فَقَالَ: يَا أَيّهَا النَّاس أَقِيمُوا عَلَى أَرِقَّائِكُمْ الْحَدّ مَنْ أُحْصِنَ مِنْهُمْ، وَمَنْ لَمْ يُحْصَن).
قَالَ الطَّحَاوِيُّ: وَفِي الرِّوَايَة الْأُولَى لَمْ يَذْكُر أَحَد مِنْ الرُّوَاة قَوْله: «وَلَمْ يُحْصَن» غَيْر مَالِك، وَأَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى تَضْعِيفهَا، وَأَنْكَرَ الْحُفَّاظ هَذَا عَلَى الطَّحَاوِيِّ، قَالُوا: بَلْ رَوَى هَذِهِ اللَّفْظَة أَيْضًا اِبْن عُيَيْنَةَ وَيَحْيَى بْن سَعِيد عَنْ اِبْن شِهَاب كَمَا قَالَ مَالِك، فَحَصَلَ أَنَّ هَذِهِ اللَّفْظَة صَحِيحَة، وَلَيْسَ فيها حُكْم مُخَالِف؛ لِأَنَّ الْأَمَة تُجْلَد نِصْف جَلْد الْحُرَّة سَوَاء كَانَتْ الْأَمَة مُحْصَنَة بِالتَّزْوِيجِ أَمْ لَا. وَفِي هَذَا الْحَدِيث بَيَان مَنْ لَمْ يُحْصَن، وَقَوْله تَعَالَى: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَات مِنْ الْعَذَاب} فيه بَيَان مَنْ أُحْصِنَتْ فَحَصَلَ مِنْ الْآيَة الْكَرِيمَة وَالْحَدِيث بَيَان أَنَّ الْأَمَة الْمُحْصَنَة بِالتَّزْوِيجِ وَغَيْر الْمُحْصَنَة تُجْلَد، وَهُوَ مَعْنَى مَا قَالَهُ عَلِيّ رَضِيَ اللَّه تَعَالَى عَنْهُ وَخَطَبَ النَّاس بِهِ، فَإِنْ قِيلَ: فَمَا الْحِكْمَة فِي التَّقْيِيد فِي قَوْله تَعَالَى: {فَإِذَا أُحْصِنَّ} مَعَ أَنَّ عَلَيْهَا نِصْف جَلْد الْحُرَّة، سَوَاء كَانَتْ الْأَمَة مُحْصَنَة أَمْ لَا؟ فَالْجَوَاب أَنَّ الْآيَة نَبَّهَتْ عَلَى أَنَّ الْأَمَة وَإِنْ كَانَتْ مُزَوَّجَة لَا يَجِب عَلَيْهَا إِلَّا نِصْف جَلْد الْحُرَّة، لِأَنَّهُ الَّذِي يَنْتَصِف، وَأَمَّا الرَّجْم فَلَا يَنْتَصِف، فَلَيْسَ مُرَادًا فِي الْآيَة بِلَا شَكٍّ فَلَيْسَ لِلْأَمَةِ الْمُزَوَّجَة الْمَوْطُوءَة فِي النِّكَاح حُكْم الْحُرَّة الْمَوْطُوءَة فِي النِّكَاح، فَبَيَّنَتْ الْآيَة هَذَا لِئَلَّا يُتَوَهَّم أَنَّ الْأَمَة الْمُزَوَّجَة تُرْجَم، وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهَا لَا تُرْجَم، وَأَمَّا غَيْر الْمُزَوَّجَة فَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ عَلَيْهَا نِصْف جَلْد الْمُزَوَّجَة بِالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَة مِنْهَا حَدِيث مَالِك هَذَا، وَبَاقِي الرِّوَايَات الْمُطْلَقَة إِذَا زَنَتْ أَمَة أَحَدكُمْ فَلْيَجْلِدْهَا، وَهَذَا يَتَنَاوَل الْمُزَوَّجَة وَغَيْرهَا. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ وُجُوب نِصْف الْجَلْد عَلَى الْأَمَة سَوَاء كَانَتْ مُزَوَّجَة أَمْ لَا، هُوَ مَذْهَب الشَّافِعِيّ وَمَالِك وَأَبِي حَنِيفَة وَأَحْمَد وَجَمَاهِير عُلَمَاء الْأَمَة، وَقَالَ جَمَاعَة مِنْ السَّلَف: لَا حَدَّ عَلَى مَنْ لَمْ تَكُنْ مُزَوَّجَة مِنْ الْإِمَاء وَالْعَبِيد؛ مِمَّنْ قَالَهُ اِبْن عَبَّاس وَطَاوُسٌ وَعَطَاء وَابْن جُرَيْجٍ وَأَبُو عُبَيْدَة.

.باب تَأْخِيرِ الْحَدِّ عَنِ النُّفَسَاءِ:

3217- قَوْله: قَالَ عَلِيّ: «زَنَتْ أَمَة لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَنِي أَنْ أَجْلِدهَا، فَإِذَا هِيَ حَدِيثُ عَهْد بِنِفَاسٍ فَخَشِيت إِنْ أَنَا جَلَدْتهَا أَنْ أَقْتُلهَا، فَذَكَرْت ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: أَحْسَنْت» فيه أَنَّ الْجَلْد وَاجِب عَلَى الْأَمَة الزَّانِيَة، وَأَنَّ النُّفَسَاء وَالْمَرِيضَة وَنَحْوهمَا يُؤَخَّر جَلْدهمَا إِلَى الْبُرْء. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

.باب حَدِّ الْخَمْرِ:

قَوْله: «أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِرَجُلٍ قَدْ شَرِبَ الْخَمْر فَجَلَدَهُ بِجَرِيدَتَيْنِ نَحْو أَرْبَعِينَ، وَفَعَلَهُ أَبُو بَكْر، فَلَمَّا كَانَ عُمَر اِسْتَشَارَ النَّاس، فَقَالَ عَبْد الرَّحْمَن: أَخَفّ الْحُدُود ثَمَانِينَ فَأَمَرَ بِهِ عُمَر» وَفِي رِوَايَة: «جَلَدَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْخَمْر بِالْجَرِيدِ وَالنِّعَال ثُمَّ جَلَدَ أَبُو بَكْر أَرْبَعِينَ، فَلَمَّا كَانَ عُمَر وَدَنَا النَّاس مِنْ الرِّيف، قَالَ: مَا تَرَوْنَ فِي جَلْد الْخَمْر؟ فَقَالَ عَبْد الرَّحْمَن بْن عَوْف: أَرَى أَنْ تَجْعَلهَا كَأَخَفِّ الْحُدُود، قَالَ: فَجَلَدَ عُمَر ثَمَانِينَ»، وَفِي رِوَايَة: «أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَضْرِب فِي الْخَمْر بِالنِّعَالِ وَالْجَرِيد أَرْبَعِينَ». وَفِي حَدِيث عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: «أَنَّهُ جَلَدَ أَرْبَعِينَ، ثُمَّ قَالَ لِلْجَلَّادِ: أَمْسِكْ ثُمَّ قَالَ: جَلَدَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْبَعِينَ وَأَبُو بَكْر أَرْبَعِينَ وَعُمَر ثَمَانِينَ، وَكُلٌّ سُنَّةٌ، وَهَذَا أَحَبّ إِلَيَّ».
3218- أَمَّا قَوْله: (فَقَالَ عَبْد الرَّحْمَن: أَخَفّ الْحُدُود) فَهُوَ بِنَصْبِ (أَخَفّ) وَهُوَ مَنْصُوب بِفِعْلٍ مَحْذُوف أَيْ أَجْلِدهُ كَأَخَفّ الْحُدُود، أَوْ اِجْعَلْهُ كَأَخَفّ الْحُدُود كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى.
قَوْله: (يَجْلِد بِجَرِيدَتَيْنِ نَحْو أَرْبَعِينَ) اِخْتَلَفُوا فِي مَعْنَاهُ، فَأَصْحَابنَا يَقُولُونَ: مَعْنَاهُ: أَنَّ الْجَرِيدَتَيْنِ كَانَتَا مُفْرَدَتَيْنِ جَلَدَ بِكُلِّ وَاحِدَة مِنْهُمَا عَدَدًا حَتَّى كَمُلَ مِنْ الْجَمْع أَرْبَعُونَ، وَقَالَ آخَرُونَ مِمَّنْ يَقُول جَلَدَ الْخَمْر ثَمَانُونَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ جَمَعَهُمَا وَجَلَدَهُ بِهِمَا أَرْبَعِينَ جَلْدَة فَيَكُون الْمَبْلَغ ثَمَانِينَ، وَتَأْوِيل أَصْحَابنَا أَظْهَر، لِأَنَّ الرِّوَايَة الْأُخْرَى مُبَيِّنَة لِهَذِهِ، وَأَيْضًا فَحَدِيث عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ مُبَيِّنٌ لَهَا.
قَوْله: (فَلَمَّا كَانَ عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ اِسْتَشَارَ النَّاس، فَقَالَ عَبْد الرَّحْمَن: أَخَفّ الْحُدُود) هَكَذَا هُوَ فِي مُسْلِم وَغَيْره أَنَّ عَبْد الرَّحْمَن بْن عَوْف هُوَ الَّذِي أَشَارَ بِهَذَا، وَفِي الْمُوَطَّأ وَغَيْره أَنَّهُ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ وَكِلَاهُمَا صَحِيح، وَأَشَارَا جَمِيعًا، وَلَعَلَّ عَبْد الرَّحْمَن بَدَأَ بِهَذَا الْقَوْل فَوَافَقَهُ عَلِيّ وَغَيْره، فَنَسَبَ ذَلِكَ فِي رِوَايَة إِلَى عَبْد الرَّحْمَن رَضِيَ اللَّه عَنْهُ لِسَبَقِهِ بِهِ، وَنَسَبَهُ فِي رِوَايَة إِلَى عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ لِفَضِيلَتِهِ وَكَثْرَة عِلْمه وَرُجْحَانه عَلَى عَبْد الرَّحْمَن رَضِيَ اللَّه عَنْهُ.
3219- وَقَوْله: (أَرَى أَنْ تَجْعَلهَا) يَعْنِي الْعُقُوبَة الَّتِي هِيَ حَدّ الْخَمْر، وَقَوْله: (أَخَفّ الْحُدُود) يَعْنِي الْمَنْصُوص عَلَيْهَا فِي الْقُرْآن، وَهِيَ حَدّ السَّرِقَة بِقَطْعِ الْيَد، وَحَدّ الزِّنَا جَلْد مِائَة، وَحَدّ الْقَذْف ثَمَانِينَ، فَاجْعَلْهَا ثَمَانِينَ كَأَخَفّ هَذِهِ الْحُدُود، وَفِي هَذَا جَوَاز الْقِيَاس وَاسْتِحْبَاب مُشَاوَرَة الْقَاضِي وَالْمُفْتِي أَصْحَابه وَحَاضِرِي مَجْلِسه فِي الْأَحْكَام.
قَوْله: (فَلَمَّا كَانَ عُمَر وَدَنَا النَّاس مِنْ الرِّيف وَالْقُرَى) الرِّيف: الْمَوَاضِع الَّتِي فيها الْمِيَاه، أَوْ هِيَ قَرِيبَة مِنْهَا، وَمَعْنَاهُ: لَمَّا كَانَ زَمَن عُمَر بْن الْخَطَّاب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ وَفُتِحَتْ الشَّام وَالْعِرَاق وَسَكَنَ النَّاس فِي الرِّيف وَمَوَاضِع الْخِصْب وَسَعَة الْعَيْش وَكَثْرَة الْأَعْنَاب وَالثِّمَار أَكْثَرُوا مِنْ شُرْب الْخَمْر، فَزَادَ عُمَر فِي حَدّ الْخَمْر تَغْلِيظًا عَلَيْهِمْ وَزَجْرًا لَهُمْ عَنْهَا. قَوْله: (ضَرَبَهُ بِجَرِيدَتَيْنِ)، وَفِي رِوَايَة بِالْجَرِيدِ وَالنِّعَال، أَجْمَعَ الْعُلَمَاء عَلَى حُصُول حَدّ الْخَمْر بِالْجَلْدِ بِالْجَرِيدِ وَالنِّعَال وَأَطْرَاف الثِّيَاب، وَاخْتَلَفُوا فِي جَوَازه بِالسَّوْطِ، وَهُمَا وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا الْأَصَحّ الْجَوَاز، وَشَذَّ بَعْض أَصْحَابنَا فَشَرَطَ فيه السَّوْط، وَقَالَ: لَا يَجُوز بِالثِّيَابِ وَالنِّعَال، وَهَذَا غَلَط فَاحِش مَرْدُود عَلَى قَائِله لِمُنَابَذَتِهِ لِهَذِهِ الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة، قَالَ أَصْحَابنَا: وَإِذَا ضَرَبَهُ بِالسَّوْطِ يَكُون سَوْطًا مُعْتَدِلًا فِي الْحَجْم بَيْن الْقَضِيب وَالْعَصَا، فَإِنْ ضَرَبَهُ بِجَرِيدَةٍ فَلْتَكُنْ خَفِيفَة بَيْن الْيَابِسَة وَالرَّطْبَة، وَيَضْرِبهُ ضَرَبَا بَيْن ضَرْبَيْنِ فَلَا يَرْفَع يَده فَوْق رَأْسه، وَلَا يَكْتَفِي بِالْوَضْعِ، بَلْ يَرْفَع ذِرَاعه رَفْعًا مُعْتَدِلًا.
3220- قَوْله: (وَكُلٌّ سُنَّةٌ) مَعْنَاهُ أَنَّ فِعْل النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْر سُنَّة يُعْمَل بِهَا، وَكَذَا فِعْل عُمَر، وَلَكِنَّ فِعْل النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْر أَحَبّ إِلَيَّ.
وَقَوْله: (وَهَذَا أَحَبّ إِلَيَّ) إِشَارَة إِلَى الْأَرْبَعِينَ الَّتِي كَانَ جَلَدَهَا، وَقَالَ لِلْجَلَّادِ: أَمْسِكْ، وَمَعْنَاهُ هَذَا الَّذِي قَدْ جَلَدْته، وَهُوَ الْأَرْبَعُونَ أَحَبّ إِلَيَّ مِنْ الثَّمَانِينَ. وَفيه: أَنَّ فِعْل الصَّحَابِيّ سُنَّة يُعْمَل بِهَا، وَهُوَ مُوَافِق لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّة الْخُلَفَاء الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ» وَاَللَّه أَعْلَم.
وَأَمَّا الْخَمْر فَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى تَحْرِيم شُرْب الْخَمْر، وَأَجْمَعُوا عَلَى وُجُوب الْحَدّ عَلَى شَارِبهَا، سَوَاء شَرِبَ قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يُقْتَل بِشُرْبِهَا، وَإِنْ تَكَرَّرَ ذَلِكَ مِنْهُ هَكَذَا حَكَى الْإِجْمَاع فيه التِّرْمِذِيّ وَخَلَائِق، وَحَكَى الْقَاضِي عِيَاض رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى عَنْ طَائِفَة شَاذَّة أَنَّهُمْ قَالُوا: يُقْتَل بَعْد جَلْده أَرْبَع مَرَّات، لِلْحَدِيثِ الْوَارِد فِي ذَلِكَ، وَهَذَا الْقَوْل بَاطِل مُخَالِف لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَة فَمَنْ بَعْدهمْ، عَلَى أَنَّهُ لَا يُقْتَل وَإِنْ تَكَرَّرَ مِنْهُ أَكْثَر مِنْ أَرْبَع مَرَّات، وَهَذَا الْحَدِيث مَنْسُوخ، قَالَ جَمَاعَة: دَلَّ الْإِجْمَاع عَلَى نَسْخه، وَقَالَ بَعْضهمْ: نَسَخَهُ قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَحِلّ دَم اِمْرِئٍ مُسْلِم إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاث: النَّفْس بِالنَّفْسِ، وَالثَّيِّب الزَّانِي، وَالتَّارِك لِدِينِهِ الْمُفَارِق لِلْجَمَاعَةِ». وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي قَدْر حَدّ الْخَمْر، فَقَالَ الشَّافِعِيّ وَأَبُو ثَوْر وَدَاوُد وَأَهْل الظَّاهِر وَآخَرُونَ: حَدّه أَرْبَعُونَ، قَالَ الشَّافِعِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: وَلِلْإِمَامِ أَنْ يَبْلُغ بِهِ ثَمَانِينَ، وَتَكُون الزِّيَادَة عَلَى الْأَرْبَعِينَ تَعْزِيرَات عَلَى تَسَبُّبه فِي إِزَالَة عَقْله، وَفِي تَعَرُّضه لِلْقَذْفِ وَالْقَتْل، وَأَنْوَاع الْإِيذَاء، وَتَرْك الصَّلَاة، وَغَيْر ذَلِكَ، وَنَقَلَ الْقَاضِي عَنْ الْجُمْهُور مِنْ السَّلَف وَالْفُقَهَاء مِنْهُمْ مَالِك وَأَبُو حَنِيفَة وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَأَحْمَد وَإِسْحَاق رَحِمَهُمْ اللَّه تَعَالَى أَنَّهُمْ قَالُوا: حَدّه ثَمَانُونَ. وَاحْتَجُّوا بِأَنَّهُ الَّذِي اِسْتَقَرَّ عَلَيْهِ إِجْمَاع الصَّحَابَة، وَأَنَّ فِعْل النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ لِلتَّحْدِيدِ، وَلِهَذَا قَالَ فِي الرِّوَايَة الْأُولَى: نَحْو أَرْبَعِينَ، وَحُجَّة الشَّافِعِيّ وَمُوَافِقِيهِ: أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا جَلَدَ أَرْبَعِينَ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الرِّوَايَة الثَّانِيَة، وَأَمَّا زِيَادَة عُمَر تَعْزِيرَات، وَالتَّعْزِير إِلَى رَأْي الْإِمَام إِنْ شَاءَ فَعَلَهُ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُ بِحَسَبِ الْمَصْلَحَة فِي فِعْله وَتَرْكه، فَرَآهُ عُمَر فَفَعَلَهُ، وَلَمْ يَرَهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا أَبُو بَكْر وَلَا عَلِيّ فَتَرَكُوهُ، وَهَكَذَا يَقُول الشَّافِعِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: أَنَّ الزِّيَادَة إِلَى رَأْي الْإِمَام، وَأَمَّا الْأَرْبَعُونَ فَهِيَ الْحَدّ الْمُقَدَّر الَّذِي لابد مِنْهُ، وَلَوْ كَانَتْ الزِّيَادَة حَدًّا لَمْ يَتْرُكهَا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ وَلَمْ يَتْرُكهَا عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ بَعْد فِعْل عُمَر، وَلِهَذَا قَالَ عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: «وَكُلٌّ سُنَّةٌ» مَعْنَاهُ: الِاقْتِصَار عَلَى الْأَرْبَعِينَ وَبُلُوغ الثَّمَانِينَ، فَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الشَّافِعِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ هُوَ الظَّاهِر الَّذِي تَقْتَضِيه هَذِهِ الْأَحَادِيث، وَلَا يُشْكِل شَيْء مِنْهَا، ثُمَّ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ هُوَ حَدّ الْحُرّ، فَأَمَّا الْعَبْد فَعَلَى النِّصْف مِنْ الْحُرّ كَمَا فِي الزِّنَا وَالْقَذْف. وَاللَّهُ أَعْلَم.
وَأَجْمَعَتْ الْأُمَّة عَلَى أَنَّ الشَّارِب يُحَدّ، سَوَاء سَكِرَ أَمْ لَا. وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي مَنْ شَرِبَ النَّبِيذ، وَهُوَ مَا سِوَى عَصِير الْعِنَب مِنْ الْأَنْبِذَة الْمُسْكِرَة، فَقَالَ الشَّافِعِيّ وَمَالِك وَأَحْمَد رَحِمَهُمْ اللَّه تَعَالَى وَجَمَاهِير الْعُلَمَاء مِنْ السَّلَف وَالْخَلَف: هُوَ حَرَام يُجْلَد فيه كَجَلْدِ شَارِب الْخَمْر الَّذِي هُوَ عَصِير الْعِنَب، سَوَاء كَانَ يَعْتَقِد إِبَاحَته أَوْ تَحْرِيمه.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة وَالْكُوفِيُّونَ رَحِمَهُمْ اللَّه تَعَالَى: لَا يَحْرُم، وَلَا يُحَدّ شَارِبه، وَقَالَ أَبُو ثَوْر: هُوَ حَرَام يُجْلَد بِشُرْبِهِ مَنْ يَعْتَقِد تَحْرِيمه، دُون مَنْ يَعْتَقِد إِبَاحَته. وَاللَّهُ أَعْلَم.
قَوْله: (عَنْ عَبْد اللَّه الدَّانَاج) هُوَ بِالدَّالِ الْمُهْمَلَة وَالنُّون وَالْجِيم، وَيُقَال أَيْضًا: (الدَّانَا) بِحَذْفِ الْجِيم و(الدَّانَاه) بِالْهَاءِ، وَمَعْنَاهُ بِالْفَارِسِيَّةِ: الْعَالِم.
قَوْله: (حَدَّثَنَا حُضَيْن بْن الْمُنْذِر) هُوَ بِالضَّادِ الْمُعْجَمَة، وَقَدْ سَبَقَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الصَّحِيحَيْنِ حُضَيْن بِالْمُعْجَمَةِ غَيْره.
قَوْله: «فَشَهِدَ عَلَيْهِ رَجُلَانِ أَحَدهمَا: حُمْرَان، أَنَّهُ شَرِبَ الْخَمْر، وَشَهِدَ آخَر أَنَّهُ رَآهُ يَتَقَيَّأ، فَقَالَ عُثْمَان رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: إِنَّهُ لَمْ يَتَقَيَّأ حَتَّى شَرِبَهَا ثُمَّ جَلَدَهُ» هَذَا دَلِيل لِمَالِكٍ وَمُوَافِقِيهِ فِي أَنَّ مَنْ تَقَيَّأَ الْخَمْر يُحَدّ حَدَّ الشَّارِب، وَمَذْهَبنَا أَنَّهُ لَا يُحَدّ بِمُجَرَّدِ ذَلِكَ؛ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ شَرِبَهَا جَاهِلًا كَوْنهَا خَمْرًا أَوْ مُكْرَهًا عَلَيْهَا أَوْ غَيْر ذَلِكَ مِنْ الْأَعْذَار الْمُسْقِطَة لِلْحُدُودِ، وَدَلِيل مَالِك هُنَا قَوِيّ؛ لِأَنَّ الصَّحَابَة اِتَّفَقُوا عَلَى جَلْد الْوَلِيد بْن عُقْبَة الْمَذْكُور فِي هَذَا الْحَدِيث، وَقَدْ يُجِيب أَصْحَابنَا عَنْ هَذَا بِأَنَّ عُثْمَان رَضِيَ اللَّه عَنْهُ عَلِمَ شُرْب الْوَلِيد فَقَضَى بِعِلْمِهِ فِي الْحُدُود، وَهَذَا تَأْوِيل ضَعِيف، وَظَاهِر كَلَام عُثْمَان يَرُدّ عَلَى هَذَا التَّأْوِيل. وَاللَّهُ أَعْلَم.
قَوْله: (إِنَّ عُثْمَان رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ: يَا عَلِيّ قُمْ فَاجْلِدْهُ، فَقَالَ عَلِيّ: قُمْ يَا حَسَن فَاجْلِدْهُ، فَقَالَ حَسَن: وَلِّ حَارّهَا مَنْ تَوَلَّى قَارّهَا، فَكَأَنَّهُ وَجَدَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: يَا عَبْد اللَّه بْن جَعْفَر قُمْ فَاجْلِدْهُ، فَجَلَدَهُ وَعَلِيّ يَعُدّ حَتَّى بَلَغَ أَرْبَعِينَ فَقَالَ: أَمْسَكَ) مَعْنَى هَذَا الْحَدِيث أَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ الْحَدّ عَلَى الْوَلِيد بْن عُقْبَة، قَالَ عُثْمَان رَضِيَ اللَّه عَنْهُ وَهُوَ الْإِمَام لِعَلِيٍّ عَلَى سَبِيل التَّكْرِيم لَهُ وَتَفْوِيض الْأَمْر إِلَيْهِ فِي اِسْتِيفَاء الْحَدّ: قُمْ فَاجْلِدْهُ، أَيْ أَقِمْ عَلَيْهِ الْحَدّ بِأَنْ تَأْمُر مَنْ تَرَى بِذَلِكَ. فَقَبِلَ عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ ذَلِكَ، فَقَالَ لِلْحَسَنِ: قُمْ فَاجْلِدْهُ، فَامْتَنَعَ الْحَسَن، فَقَالَ لِابْنِ جَعْفَر، فَقَبِلَ فَجَلَدَهُ، وَكَانَ عَلِيّ مَأْذُونًا لَهُ فِي التَّفْوِيض إِلَى مَنْ رَأَى كَمَا ذَكَرْنَاهُ. وَقَوْله: (وَجَدَ) عَلَيْهِ أَيْ غَضِبَ عَلَيْهِ.
وَقَوْله: (وَلِّ حَارّهَا مَنْ تَوَلَّى قَارّهَا) الْحَارّ الشَّدِيد الْمَكْرُوه، وَالْقَارّ: الْبَارِد الْهَنِيء الطَّيِّب، وَهَذَا مَثَل مِنْ أَمْثَال الْعَرَب، قَالَ الْأَصْمَعِيّ وَغَيْره مَعْنَاهُ: وَلِّ شِدَّتهَا وَأَوْسَاخهَا مَنْ تَوَلَّى هَنِيئَهَا وَلَذَّاتهَا. الضَّمِير عَائِد إِلَى الْخِلَافَة وَالْوِلَايَة، أَيْ كَمَا أَنَّ عُثْمَان وَأَقَارِبه يَتَوَلَّوْنَ هَنِيء الْخِلَافَة وَيَخْتَصُّونَ بِهِ، يَتَوَلَّوْنَ نَكِدهَا وَقَاذُورَاتهَا. وَمَعْنَاهُ: لِيَتَوَلَّ هَذَا الْجَلْد عُثْمَان بِنَفْسِهِ أَوْ بَعْض خَاصَّة أَقَارِبه الْأَدْنِينَ. وَاللَّهُ أَعْلَم.
قَوْله: (قَالَ: أَمْسِكْ، ثُمَّ قَالَ: وَكُلٌّ سُنَّةٌ) هَذَا دَلِيل عَلَى أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّه عَنْهُ كَانَ مُعَظِّمًا لِآثَارِ عُمَر، وَأَنَّ حُكْمه وَقَوْله سُنَّة، وَأَمْره حَقّ، وَكَذَلِكَ أَبُو بَكْر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ خِلَاف مَا يُكَذِّبهُ الشِّيعَة عَلَيْهِ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ وَقَعَ هُنَا فِي مُسْلِم مَا ظَاهِره أَنَّ عَلِيًّا جَلَدَ الْوَلِيد بْن عُقْبَة أَرْبَعِينَ، وَوَقَعَ فِي صَحِيح الْبُخَارِيّ مِنْ رِوَايَة عَبْد اللَّه بْن عَدِيّ بْن الْخِيَار أَنَّ عَلِيًّا جَلَدَ ثَمَانِينَ، وَهِيَ قَضِيَّة وَاحِدَة.
قَالَ الْقَاضِي عِيَاض: الْمَعْرُوف مِنْ مَذْهَب عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ الْجَلْد فِي الْخَمْر ثَمَانِينَ، وَمِنْهُ قَوْله: (فِي قَلِيل الْخَمْر وَكَثِيرهَا ثَمَانُونَ جَلْدَة) وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ جَلَدَ الْمَعْرُوف بِالنَّجَاشِيِّ ثَمَانِينَ، قَالَ: وَالْمَشْهُور أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّه عَنْهُ هُوَ الَّذِي أَشَارَ عَلَى عُمَر بِإِقَامَةِ الْحَدّ ثَمَانِينَ كَمَا سَبَقَ عَنْ رِوَايَة الْمُوَطَّأ وَغَيْره، قَالَ: وَهَذَا كُلّه يُرَجِّح رِوَايَة مَنْ رَوَى أَنَّهُ جَلَدَ الْوَلِيد ثَمَانِينَ، قَالَ: وَيُجْمَع بَيْنه وَبَيْن مَا ذَكَرَهُ مُسْلِم مِنْ رِوَايَة الْأَرْبَعِينَ بِمَا رُوِيَ أَنَّهُ جَلَدَهُ بِسَوْطٍ لَهُ رَأْسَانِ فَضَرَبَهُ بِرَأْسِهِ أَرْبَعِينَ، فَتَكُون جُمْلَتهَا ثَمَانِينَ، قَالَ: وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون قَوْله: (وَهَذَا أَحَبّ إِلَيَّ) عَائِد إِلَى الثَّمَانِينَ الَّتِي فَعَلَهَا عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ، فَهَذَا كَلَام الْقَاضِي، وَقَدْ قَدَّمْنَا مَا يُخَالِف بَعْض مَا قَالَهُ، وَذَكَرْنَا تَأْوِيله، وَاللَّهُ أَعْلَم.
3221- قَوْله: (عَنْ أَبِي حَصِين عَنْ عُمَيْر بْن سَعِيد عَنْ عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ: مَا كُنْت أُقِيم عَلَى أَحَد حَدًّا فَيَمُوت فَأَجِد مِنْهُ إِلَّا صَاحِب الْخَمْر، لِأَنَّهُ إِنْ مَاتَ وَدَيْته؛ لِأَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَسُنّهُ) أَمَّا أَبُو حَصِين هَذَا فَهُوَ بِحَاءِ مَفْتُوحَة وَصَاد مَكْسُورَة، وَاسْمه: عُثْمَان بْن عَاصِم الْأَسَدِيُّ الْكُوفِيّ، وَأَمَّا عُمَيْر بْن سَعِيد فَهَكَذَا هُوَ فِي جَمِيع نُسَخ مُسْلِم عُمَيْر بْن سَعِيد بِالْيَاءِ فِي (عُمَيْر) وَفِي (سَعِيد)، هَكَذَا هُوَ فِي صَحِيح الْبُخَارِيّ وَجَمِيع كُتُب الْحَدِيث وَالْأَسْمَاء، وَلَا خِلَاف فيه، وَوَقَعَ فِي الْجَمْع بَيْن الصَّحِيحَيْنِ (عُمَيْر بْن سَعْد) بِحَذْفِ الْيَاء مِنْ (سَعِيد) وَهُوَ غَلَط وَتَصْحِيف، إِمَّا مِنْ الْحُمَيْدِيّ، وَإِمَّا مِنْ بَعْض النَّاقِلِينَ عَنْهُ، وَوَقَعَ فِي الْمُهَذَّب مِنْ كُتُب أَصْحَابنَا فِي الْمَذْهَب فِي بَاب التَّعْزِير (عُمَر بْن سَعْد) بِحَذْفِ الْيَاء مِنْ الِاثْنَيْنِ وَهُوَ غَلَط فَاحِش، وَالصَّوَاب إِثْبَات الْيَاء فيهمَا كَمَا سَبَقَ.
وَأَمَّا قَوْله: (إِنْ مَاتَ وَدَيْته) فَهُوَ بِتَخْفِيفِ الدَّال أَيْ غَرِمْت دِيَته، قَالَ بَعْض الْعُلَمَاء: وَجْه الْكَلَام أَنْ يُقَال: (فَإِنَّهُ إِنْ مَاتَ وَدَيْته) بِالْفَاءِ لَا بِاللَّامِ، وَهَكَذَا هُوَ فِي رِوَايَة الْبُخَارِيّ بِالْفَاءِ.
وَقَوْله: «أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَسُنّهُ» مَعْنَاهُ لَمْ يُقَدِّر فيه حَدًّا مَضْبُوطًا، وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدّ فَجَلَدَهُ الْإِمَام أَوْ جَلَّاده الْحَدّ الشَّرْعِيّ فَمَاتَ فَلَا دِيَة فيه وَلَا كَفَّارَة، لَا عَلَى الْإِمَام، وَلَا عَلَى جَلَّاده وَلَا فِي بَيْت الْمَال، وَأَمَّا مَنْ مَاتَ مِنْ التَّعْزِير فَمَذْهَبنَا وُجُوب ضَمَانه بِالدِّيَةِ وَالْكَفَّارَة، وَفِي مَحَلّ ضَمَانه قَوْلَانِ لِلشَّافِعِيِّ: أَصَحّهمَا: تَجِب دِيَته عَلَى عَاقِلَة الْإِمَام، وَالْكَفَّارَة فِي مَال الْإِمَام.
وَالثَّانِي: تَجِب الدِّيَة فِي بَيْت الْمَال. وَفِي الْكَفَّارَة عَلَى هَذَا وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا: أَحَدهمَا: فِي بَيْت الْمَال أَيْضًا، وَالثَّانِي: فِي مَال الْإِمَام، هَذَا مَذْهَبنَا، وَقَالَ جَمَاهِير الْعُلَمَاء: لَا ضَمَان فيه لَا عَلَى الْإِمَام وَلَا عَلَى عَاقِلَته وَلَا فِي بَيْت الْمَالِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

.باب قَدْرِ أَسْوَاطِ التَّعْزِيرِ:

3222- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يُجْلَد أَحَد فَوْق عَشْرَة أَسْوَاط إِلَّا فِي حَدّ مِنْ حُدُود اللَّه عَزَّ وَجَلَّ» ضَبَطُوهُ: «يَجْلِد» بِوَجْهَيْنِ: أَحَدهمَا: بِفَتْحِ الْيَاء وَبِكَسْرِ اللَّام، وَالثَّانِي بِضَمِّ الْيَاء وَفَتْح اللَّام، وَكِلَاهُمَا صَحِيح.
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي التَّعْزِير هَلْ يُقْتَصَر فيه عَلَى عَشْرَة أَسْوَاط فَمَا دُونهَا وَلَا يَجُوز الزِّيَادَة أَمْ تَجُوز الزِّيَادَة؟ فَقَالَ أَحْمَد بْن حَنْبَل وَأَشْهَب الْمَالِكِيّ وَبَعْض أَصْحَابنَا: لَا تَجُوز الزِّيَادَة عَلَى عَشْرَة أَسْوَاط، وَذَهَبَ الْجُمْهُور مِنْ الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدهمْ إِلَى جَوَاز الزِّيَادَة، ثُمَّ اِخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ، فَقَالَ مَالِك وَأَصْحَابه وَأَبُو يُوسُف وَمُحَمَّد وَأَبُو ثَوْر وَالطَّحَاوِيّ: لَا ضَبْط لِعَدَدِ الضَّرَبَات، بَلْ ذَلِكَ إِلَى رَأْي الْإِمَام، وَلَهُ أَنْ يَزِيد عَلَى قَدْر الْحُدُود، قَالُوا: لِأَنَّ عُمَر بْن الْخَطَّاب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ ضَرَبَ مَنْ نَقَشَ عَلَى خَاتَمه مِائَة، وَضَرَبَ صَبِيًّا أَكْثَر مِنْ الْحَدّ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: لَا يَبْلُغ بِهِ أَرْبَعِينَ، وَقَالَ اِبْن أَبِي لَيْلَى: خَمْسَة وَسَبْعُونَ، وَهِيَ رِوَايَة عَنْ مَالِك وَأَبِي يُوسُف، وَعَنْ عُمَر لَا يُجَاوِز بِهِ ثَمَانِينَ، وَعَنْ اِبْن أَبِي لَيْلَى رِوَايَة أُخْرَى هُوَ دُون الْمِائَة، وَهُوَ قَوْل اِبْن شُبْرُمَةَ، وَقَالَ اِبْن أَبِي ذِئْب وَابْن أَبِي يَحْيَى: لَا يَضْرِب أَكْثَر مِنْ ثَلَاثَة فِي الْأَدَب، وَقَالَ الشَّافِعِيّ وَجُمْهُور أَصْحَابه: لَا يَبْلُغ بِتَعْزِيرِ كُلّ إِنْسَان أَدْنَى حُدُوده، فَلَا يَبْلُغ بِتَعْزِيرِ الْعَبْد عِشْرِينَ، وَلَا بِتَعْزِيرِ الْحُرّ أَرْبَعِينَ، وَقَالَ بَعْض أَصْحَابنَا: لَا يَبْلُغ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا أَرْبَعِينَ، وَقَالَ بَعْضهمْ: لَا يَبْلُغ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا عِشْرِينَ، وَأَجَابَ أَصْحَابنَا عَنْ الْحَدِيث بِأَنَّهُ مَنْسُوخ، وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ الصَّحَابَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ جَاوَزُوا عَشْرَة أَسْوَاط، وَتَأَوَّلَهُ أَصْحَاب مَالِك عَلَى أَنَّهُ كَانَ ذَلِكَ مُخْتَصًّا بِزَمَنِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِأَنَّهُ كَانَ يَكْفِي الْجَانِي مِنْهُمْ هَذَا الْقَدْر، وَهَذَا التَّأْوِيل ضَعِيفٌ وَاللَّهُ أَعْلَم.
قَوْله فِي إِسْنَاد هَذَا الْحَدِيث: (أَخْبَرَنِي عَمْرو- يَعْنِي اِبْن الْحَارِث- عَنْ بُكَيْر بْن الْأَشَجّ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَان بْن بَشَّار قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْد الرَّحْمَن بْن جَابِر عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي بُرْدَة) قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: تَابَعَ عَمْرو بْن الْحَارِث أُسَامَة بْن زَيْد عَنْ بُكَيْر عَنْ سُلَيْمَان وَخَالَفَهُمَا اللَّيْث وَسَعِيد بْن أَبِي أَيُّوب وَابْن لَهِيعَة فَرَوَوْهُ عَنْ بُكَيْر عَنْ سُلَيْمَان عَنْ عَبْد الرَّحْمَن بْن جَابِر عَنْ أَبِي بُرْدَة لَمْ يَذْكُرُوا عَنْ أَبِيهِ، وَاخْتُلِفَ فيه عَلَى مُسْلِم بْن إِبْرَاهِيم، فَقَالَ اِبْن جُرَيْجٍ عَنْهُ عَنْ عَبْد الرَّحْمَن بْن جَابِر عَنْ رَجُل مِنْ الْأَنْصَار عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ حَفْص بْن مَيْسَرَة عَنْهُ عَنْ جَابِر عَنْ أَبِيهِ، قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي كِتَاب الْعِلَل: الْقَوْل قَوْل اللَّيْث وَمَنْ تَابَعَهُ عَنْ بُكَيْر، وَقَالَ فِي كِتَاب الْبَيْع: قَوْل عَمْرو صَحِيح. وَاللَّهُ أَعْلَم.

.باب الْحُدُودُ كَفَّارَاتٌ لأَهْلِهَا:

قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تُبَايِعُونِي عَلَى أَلَّا تُشْرِكُوا بِاَللَّهِ شَيْئًا وَلَا تَزْنُوا وَلَا تَسْرِقُوا وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْس الَّتِي حَرَّمَ اللَّه إِلَّا بِالْحَقِّ، فَمَنْ وَفَى مِنْكُمْ فَأَجْره عَلَى اللَّه، وَمَنْ أَصَابَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَعُوقِبَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَة لَهُ، وَمَنْ أَصَابَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَسَتَرَهُ اللَّه عَلَيْهِ فَأَمْره إِلَى اللَّه إِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ وَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ»، وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: «وَلَا يَعْضَه بَعْضنَا بَعْضًا، فَمَنْ وَفَى مِنْكُمْ فَأَجْره عَلَى اللَّه، وَمَنْ أَتَى مِنْكُمْ حَدًّا فَأُقِيم عَلَيْهِ فَهُوَ كَفَّارَته، وَمَنْ سَتَرَهُ اللَّه عَلَيْهِ فَأَمْره إِلَى اللَّه إِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ، وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ»، وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: «بَايَعْنَاهُ عَلَى أَلَّا نُشْرِك بِاَللَّهِ شَيْئًا، وَلَا نَزْنِي وَلَا نَسْرِق وَلَا نَقْتُل النَّفْس الَّتِي حَرَّمَ اللَّه وَلَا نَنْتَهِب وَلَا نَعْصِي، فَالْجَنَّة إِنْ فَعَلْنَا ذَلِكَ، فَإِنْ غَشِينَا مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا كَانَ قَضَاء ذَلِكَ اللَّه تَعَالَى».
3223- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَمَنْ وَفَى» فَبِتَخْفِيفِ الْفَاء، وَقَوْله: «وَلَا يَعْضَه» هُوَ بِفَتْحِ الْيَاء وَالضَّاد الْمُعْجَمَة، أَيْ لَا يَسْتَحِبّ، وَقِيلَ: لَا يَأْتِي بِبُهْتَانٍ، وَقِيلَ: لَا يَأْتِي بِنَمِيمَةٍ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْحَدِيث عَامّ مَخْصُوص، وَمَوْضِع التَّخْصِيص.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ أَصَابَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ» إِلَى آخِره الْمُرَاد بِهِ: مَا سِوَى الشِّرْك، وَإِلَّا فَالشِّرْك لَا يَغْفِر لَهُ وَتَكُون عُقُوبَته كَفَّارَة لَهُ. وَفِي هَذَا الْحَدِيث فَوَائِد:- مِنْهَا: تَحْرِيم هَذِهِ الْمَذْكُورَات وَمَا فِي مَعْنَاهَا. وَمِنْهَا: الدَّلَالَة لِمَذْهَبِ أَهْل الْحَقّ أَنَّ الْمَعَاصِي غَيْر الْكُفْر لَا يَقْطَع لِصَاحِبِهَا بِالنَّارِ إِذَا مَاتَ وَلَمْ يَتُبْ مِنْهَا، بَلْ هُوَ بِمَشِيئَةِ اللَّه تَعَالَى إِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ وَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ خِلَافًا لِلْخَوَارِجِ وَالْمُعْتَزِلَة؛ فَإِنَّ الْخَوَارِج يُكَفِّرُونَ بِالْمَعَاصِي، وَالْمُعْتَزِلَة يَقُولُونَ: لَا يَكْفُر، وَلَكِنْ يُخَلَّد فِي النَّار، وَسَبَقَتْ الْمَسْأَلَة فِي كِتَاب الْإِيمَان مَبْسُوطَة بِدَلَائِلِهَا.
وَمِنْهَا أَنَّ مَنْ اِرْتَكَبَ ذَنْبًا يُوجِب الْحَدّ فَحُدَّ سَقَطَ عَنْهُ الْإِثْم، قَالَ الْقَاضِي عِيَاض: قَالَ أَكْثَر الْعُلَمَاء: الْحُدُود كَفَّارَة اِسْتِدْلَالًا بِهَذَا الْحَدِيث، قَالَ: وَمِنْهُمْ مَنْ وَقَفَ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا أَدْرِي الْحُدُود كَفَّارَة»، قَالَ: وَلَكِنَّ حَدِيث عُبَادَةَ الَّذِي نَحْنُ فيه أَصَحّ إِسْنَادًا وَلَا تَعَارُض بَيْن الْحَدِيثَيْنِ، فَيَحْتَمِل أَنَّ حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة قَبْل حَدِيث عُبَادَةَ فَلَمْ يَعْلَم ثُمَّ عَلِمَ، قَالَ الْمَازِرِيّ: وَمِنْ نَفِيس الْكَلَام وَجَزْله قَوْله: «وَلَا نَعْصِي فَالْجَنَّة إِنْ فَعَلْنَا ذَلِكَ»، وَقَالَ فِي الرِّوَايَة الْأُولَى: «فَمَنْ وَفَى مِنْكُمْ فَأَجْره عَلَى اللَّه»، وَلَمْ يَقُلْ: فَالْجَنَّة؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ فِي الرِّوَايَة الْأُولَى: وَلَا نَعْصِي، وَقَدْ يَعْصِي الْإِنْسَان بِغَيْرِ الذُّنُوب الْمَذْكُورَة فِي هَذَا الْحَدِيث كَشُرْبِ الْخَمْر وَأَكْل الرِّبَا وَشَهَادَة الزُّور، وَقَدْ يَتَجَنَّب الْمَعَاصِي الْمَذْكُورَة فِي الْحَدِيث، وَيُعْطَى أَجْره عَلَى ذَلِكَ وَتَكُون لَهُ مَعَاصٍ غَيْر ذَلِكَ فَيُجَازَى بِهَا. وَاللَّهُ أَعْلَم.

.باب جَرْحُ الْعَجْمَاءِ وَالْمَعْدِنِ وَالْبِئْرِ جُبَارٌ:

3226- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْعَجْمَاء جُرْحهَا جُبَار وَالْبِئْر جُبَار وَالْمَعْدِن جُبَار وَفِي الرِّكَاز الْخُمُس» الْعَجْمَاء بِالْمَدِّ هِيَ: كُلّ الْحَيَوَان سِوَى الْآدَمِيّ، وَسُمِّيَتْ الْبَهِيمَة عَجْمَاء؛ لِأَنَّهَا لَا تَتَكَلَّم. وَالْجُبَار- بِضَمِّ الْجِيم وَتَخْفِيف الْبَاء- الْهَدَر. فَأَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْعَجْمَاء جُرْحهَا جُبَار» فَمَحْمُول عَلَى مَا إِذَا أَتْلَفَتْ شَيْئًا بِالنَّهَارِ أَوْ بِاللَّيْلِ بِغَيْرِ تَفْرِيط مِنْ مَالِكهَا، أَوْ أَتْلَفَتْ شَيْئًا وَلَيْسَ مَعَهَا أَحَد فَهَذَا مَضْمُون وَهُوَ مُرَاد الْحَدِيث، فَأَمَّا إِذَا كَانَ مَعَهَا سَائِق أَوْ قَائِد أَوْ رَاكِب فَأَتْلَفَتْ بِيَدِهَا أَوْ بِرِجْلِهَا أَوْ فَمهَا وَنَحْوه، وَجَبَ ضَمَانه فِي مَال الَّذِي هُوَ مَعَهَا، سَوَاء كَانَ مَالِكًا أَوْ مُسْتَأْجَرًا أَوْ مُسْتَعِيرًا أَوْ غَاصِبًا أَوْ مُودَعًا أَوْ وَكِيلًا أَوْ غَيْره، إِلَّا أَنْ تُتْلِف آدَمِيًّا فَتَجِب دِيَته عَلَى عَاقِلَة الَّذِي مَعَهَا، وَالْكَفَّارَة فِي مَاله، وَالْمُرَاد بِجُرْحِ الْعَجْمَاء إِتْلَافهَا، سَوَاء كَانَ بِجُرْحٍ أَوْ غَيْره، قَالَ الْقَاضِي: أَجْمَعَ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّ جِنَايَة الْبَهَائِم بِالنَّهَارِ لَا ضَمَان فيها إِذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهَا أَحَد، فَإِنْ كَانَ مَعَهَا رَاكِب أَوْ سَائِق أَوْ قَائِد فَجُمْهُور الْعُلَمَاء عَلَى ضَمَان مَا أَتْلَفَتْهُ، وَقَالَ دَاوُدُ وَأَهْل الظَّاهِر: لَا ضَمَان بِكُلِّ حَال إِلَّا أَنْ يَحْمِلهَا الَّذِي هُوَ مَعَهَا عَلَى ذَلِكَ أَوْ يَقْصِدهُ، وَجُمْهُورهمْ عَلَى أَنَّ الضَّارِيَة مِنْ الدَّوَابّ كَغَيْرِهَا عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، وَقَالَ مَالِك وَأَصْحَابه: يَضْمَن مَالِكهَا مَا أَتْلَفَتْ، وَكَذَا قَالَ أَصْحَاب الشَّافِعِيّ: يَضْمَن إِذَا كَانَتْ مَعْرُوفَة بِالْإِفْسَادِ؛ لِأَنَّ عَلَيْهِ رَبْطهَا وَالْحَالَة هَذِهِ.
وَأَمَّا إِذَا أَتْلَفَتْ لَيْلًا فَقَالَ مَالِك: يَضْمَن صَاحِبهَا مَا أَتْلَفَتْهُ.
وَقَالَ الشَّافِعِيّ وَأَصْحَابه: يَضْمَن إِنْ فَرَّطَ فِي حِفْظهَا، وَإِلَّا فَلَا وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة: لَا ضَمَان فِيمَا أَتْلَفَتْهُ الْبَهَائِم لَا فِي لَيْل وَلَا فِي نَهَار، وَجُمْهُورهمْ عَلَى أَنَّهُ لَا ضَمَان فِيمَا رَعَتْهُ نَهَارًا، وَقَالَ اللَّيْث وَسَحْنُون: يَضْمَن.
وَأَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَالْمَعْدِن جُبَار» فَمَعْنَاهُ: أَنَّ الرَّجُل يَحْفِر مَعْدِنًا فِي مِلْكه أَوْ فِي مَوَات فَيَمُرّ بِهَا مَارّ فَيَسْقُط فيها فَيَمُوت، أَوْ يَسْتَأْجِر أُجَرَاء يَعْمَلُونَ فيها فَيَقَع عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُونَ، فَلَا ضَمَان فِي ذَلِكَ، وَكَذَا الْبِئْر جُبَار مَعْنَاهُ: أَنَّهُ يَحْفِرهَا فِي مِلْكه أَوْ فِي مَوَات فَيَقَع فيها إِنْسَان أَوْ غَيْره وَيَتْلَف فَلَا ضَمَان، وَكَذَا لَوْ اِسْتَأْجَرَهُ لِحَفْرِهَا فَوَقَعَتْ عَلَيْهِ فَمَاتَ فَلَا ضَمَان، فَأَمَّا إِذَا حَفَرَ الْبِئْر فِي طَرِيق الْمُسْلِمِينَ أَوْ فِي مِلْك غَيْره بِغَيْرِ إِذْنه فَتَلِفَ فيها إِنْسَان فَيَجِب ضَمَانه عَلَى عَاقِلَة حَافِرهَا، وَالْكَفَّارَة فِي مَال الْحَافِر، وَإِنْ تَلِفَ بِهَا غَيْر الْآدَمِيّ وَجَبَ ضَمَانه فِي مَال الْحَافِر.
وَأَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَفِي الرِّكَاز الْخُمُس» فَفيه تَصْرِيح بِوُجُوبِ الْخُمُس فيه، وَهُوَ زَكَاة عِنْدنَا. وَالرِّكَاز هُوَ دَفِين الْجَاهِلِيَّة، وَهَذَا مَذْهَبنَا وَمَذْهَب أَهْل الْحِجَاز وَجُمْهُور الْعُلَمَاء، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة وَغَيْره مِنْ أَهْل الْعِرَاق: هُوَ الْمَعْدِن، وَهُمَا عِنْدهمْ لَفْظَانِ مُتَرَادِفَانِ، وَهَذَا الْحَدِيث يَرُدّ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَّقَ بَيْنهمَا، وَعَطَفَ أَحَدهمَا عَلَى الْآخَر، وَالْأَصْل الرِّكَاز فِي اللُّغَة: الثُّبُوت. وَاللَّهُ أَعْلَم.