فصل: باب حُكْمِ الْمُحَارِبِينَ وَالْمُرْتَدِّينَ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج المشهور بـ «شرح النووي على مسلم»



.باب حُكْمِ الْمُحَارِبِينَ وَالْمُرْتَدِّينَ:

فيه: حَدِيث الْعُرَنِيِّينَ أَنَّهُمْ قَدِمُوا الْمَدِينَة وَأَسْلَمُوا وَاسْتَوْخَمُوهَا وَسَقِمَتْ أَجْسَامهمْ، فَأَمَرَهُمْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْخُرُوجِ إِلَى إِبِل الصَّدَقَة، فَخَرَجُوا فَصَحُّوا، فَقَتَلُوا الرَّاعِي وَارْتَدُّوا عَنْ الْإِسْلَام وَسَاقُوا الذَّوْد، فَبَعَثَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي آثَارهمْ، فَقَطَعَ أَيْدِيهمْ وَأَرْجُلهمْ، وَسَمَلَ أَعْيُنهمْ، وَتَرَكَهُمْ فِي الْحَرَّة يَسْتَسْقُونَ فَلَا يُسْقَوْنَ، حَتَّى مَاتُوا، هَذَا الْحَدِيث أَصْل فِي عُقُوبَة الْمُحَارِبِينَ، وَهُوَ مُوَافِق لِقَوْلِ اللَّه تَعَالَى: {إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّه وَرَسُوله وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْض فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّع أَيْدِيهمْ وَأَرْجُلهمْ مِنْ خِلَاف أَوْ يُنْفَوْا مِنْ الْأَرْض}.
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي الْمُرَاد بِهَذِهِ الْآيَة الْكَرِيمَة، فَقَالَ مَالِك: هِيَ عَلَى التَّخْيِير، فَيُخَيَّر الْإِمَام بَيْن هَذِهِ الْأُمُور، إِلَّا أَنْ يَكُون الْمُحَارِب قَدْ قَتَلَ فَيَتَحَتَّم قَتْله، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة وَأَبُو مُصْعَب الْمَالِكِيّ: الْإِمَام بِالْخِيَارِ وَإِنْ قَتَلُوا.
وَقَالَ الشَّافِعِيّ وَآخَرُونَ: هِيَ عَلَى التَّقْسِيم، فَإِنْ قَتَلُوا وَلَمْ يَأْخُذُوا الْمَال قُتِلُوا، وَإِنْ قَتَلُوا وَأَخَذُوا الْمَال قُتِلُوا وَصُلِبُوا، فَإِنْ أَخَذُوا الْمَال وَلَمْ يَقْتُلُوا قُطِعَتْ أَيْدِيهمْ وَأَرْجُلهمْ مِنْ خِلَاف، فَإِنْ أَخَافُوا السَّبِيل وَلَمْ يَأْخُذُوا شَيْئًا وَلَمْ يَقْتُلُوا، طُلِبُوا حَتَّى يُعَزَّرُوا، وَهُوَ الْمُرَاد بِالنَّفْيِ عِنْدنَا، قَالَ أَصْحَابنَا: لِأَنَّ ضَرَر هَذِهِ الْأَفْعَال مُخْتَلِف، فَكَانَتْ عُقُوبَاتهَا مُخْتَلِفَة، وَلَمْ تَكُنْ لِلتَّخْيِيرِ، وَتَثْبُت أَحْكَام الْمُحَارَبَة فِي الصَّحْرَاء، وَهَلْ تَثْبُت فِي الْأَمْصَار؟ فيه خِلَاف، قَالَ أَبُو حَنِيفَة: لَا تَثْبُت، وَقَالَ مَالِك وَالشَّافِعِيّ: تَثْبُت، قَالَ الْقَاضِي عِيَاض رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي مَعْنَى حَدِيث الْعُرَنِيِّينَ هَذَا، فَقَالَ بَعْض السَّلَف: كَانَ هَذَا قَبْل نُزُول الْحُدُود وَآيَة الْمُحَارَبَة وَالنَّهْي عَنْ الْمُثْلَة فَهُوَ مَنْسُوخ، وَقِيلَ: لَيْسَ مَنْسُوخًا، وَفيهمْ نَزَلَتْ آيَة الْمُحَارَبَة وَإِنَّمَا فَعَلَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِمْ مَا فَعَلَ قِصَاصًا؛ لِأَنَّهُمْ فَعَلُوا بِالرُّعَاةِ مِثْل ذَلِكَ، وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِم فِي بَعْض طُرُقه، وَرَوَاهُ اِبْن إِسْحَاق وَمُوسَى بْن عُقْبَة وَأَهْل السِّيَر وَالتِّرْمِذِيّ، وَقَالَ بَعْضهمْ: النَّهْي عَنْ الْمُثْلَة نَهْي تَنْزِيه لَيْسَ بِحَرَامٍ.
وَأَمَّا قَوْله: «يَسْتَسْقُونَ فَلَا يُسْقَوْنَ» فَلَيْسَ فيه أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِذَلِكَ، وَلَا نَهَى عَنْ سَقْيهمْ.
قَالَ الْقَاضِي: وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَتْل فَاسْتَسْقَى لَا يُمْنَع الْمَاء قَصْدًا فَيُجْمَع عَلَيْهِ عَذَابَانِ، قُلْت: قَدْ ذُكِرَ فِي هَذَا الْحَدِيث الصَّحِيح أَنَّهُمْ قَتَلُوا الرُّعَاة، وَارْتَدُّوا عَنْ الْإِسْلَام، وَحِينَئِذٍ لَا يَبْقَى لَهُمْ حُرْمَة فِي سَقْي الْمَاء وَلَا غَيْره، وَقَدْ قَالَ أَصْحَابنَا: لَا يَجُوز لِمَنْ مَعَهُ مِنْ الْمَاء مَا يَحْتَاج إِلَيْهِ لِلطَّهَارَةِ أَنْ يَسْقِيَهُ لِمُرْتَدٍّ يَخَاف الْمَوْت مِنْ الْعَطَش، وَيَتَيَمَّم، وَلَوْ كَانَ ذَمِيمًا أَوْ بَهِيمَة وَجَبَ سَقْيه، وَلَمْ يَجُزْ الْوُضُوء بِهِ حِينَئِذٍ. وَاللَّهُ أَعْلَم.
3162- قَوْله: «أَنَّ نَاسًا مِنْ عُرَيْنَة» هِيَ بِضَمِّ الْعَيْن الْمُهْمَلَة وَفَتْح الرَّاء وَآخِرهَا نُون ثُمَّ هَاء وَهِيَ قَبِيلَة مَعْرُوفَة.
قَوْله: «قَدِمُوا الْمَدِينَة فَاجْتَوَوْهَا» هِيَ بِالْجِيمِ وَالْمُثَنَّاة فَوْق، وَمَعْنَاهُ: اِسْتَوْخَمُوهَا كَمَا فَسَّرَهُ فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى أَيْ: لَمْ تُوَافِقهُمْ، وَكَرِهُوهَا لِسَقَمٍ أَصَابَهُمْ، قَالُوا: وَهُوَ مُشْتَقّ مِنْ الْجَوَى، وَهُوَ دَاء فِي الْجَوْف.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنْ شِئْتُمْ أَنْ تَخْرُجُوا إِلَى إِبِل الصَّدَقَة فَتَشْرَبُوا مِنْ أَلْبَانهَا وَأَبْوَالهَا فَافْعَلُوا فَصَحُّوا» فِي هَذَا الْحَدِيث: أَنَّهَا إِبِل الصَّدَقَة، وَفِي غَيْر مُسْلِم: أَنَّهَا لِقَاح النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكِلَاهُمَا صَحِيح، فَكَانَ بَعْض الْإِبِل لِلصَّدَقَةِ، وَبَعْضهَا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَاسْتَدَلَّ أَصْحَاب مَالِك وَأَحْمَد بِهَذَا الْحَدِيث أَنَّ بَوْل مَا يُؤْكَل لَحْمه وَرَوْثه طَاهِرَانِ، وَأَجَابَ أَصْحَابنَا وَغَيْرهمْ مِنْ الْقَائِلِينَ بِنَجَاسَتِهِمَا بِأَنَّ شُرْبهمْ الْأَبْوَال كَانَ لِلتَّدَاوِي، وَهُوَ جَائِز بِكُلِّ النَّجَاسَات سِوَى الْخَمْر وَالْمُسْكِرَات، فَإِنْ قِيلَ: كَيْف أَذِنَ لَهُمْ فِي شُرْب لَبَن الصَّدَقَة؟ فَالْجَوَاب: أَنَّ أَلْبَانهَا لِلْمُحْتَاجِينَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَهَؤُلَاءِ إِذْ ذَاكَ مِنْهُمْ.
قَوْله: «ثُمَّ مَالُوا عَلَى الرُّعَاة فَقَتَلُوهُمْ» وَفِي بَعْض الْأُصُول الْمُعْتَمَدَة: «الرِّعَاء» وَهُمَا لُغَتَانِ، يُقَال رَاعٍ وَرُعَاة كَقَاضٍ وَقُضَاة، وَرَاعٍ وَرِعَاء بِكَسْرِ الرَّاء وَبِالْمَدِّ، مِثْل: صَاحِب وَصِحَاب.
قَوْله: «وَسَمَلَ أَعْيُنهمْ» هَكَذَا هُوَ فِي مُعْظَم النُّسَخ: «سَمَلَ» بِاللَّامِ، وَفِي بَعْضهَا: «سَمَرَ» بِالرَّاءِ وَالْمِيم مُخَفَّفَة، وَضَبَطْنَاهُ فِي بَعْض الْمَوَاضِع فِي الْبُخَارِيّ: «سَمَّرَ» بِتَشْدِيدِ الْمِيم، وَمَعْنَى سَمَلَ بِاللَّامِ نَقَّاهَا وَأَذْهَب مَا فيها، وَمَعْنَى سَمَّرَ بِالرَّاءِ: كَحَّلَهَا بِمَسَامِير مَحْمِيَّة، وَقِيلَ: هُمَا بِمَعْنًى.
3163- قَوْله: «لَهُمْ بِلِقَاحٍ» هِيَ جَمْع لِقْحَة بِكَسْرِ اللَّام وَفَتْحهَا، وَهِيَ: النَّاقَة ذَات الدُّرّ.
قَوْله: «وَلَمْ يَحْسِمهُمْ» أَيْ وَلَمْ يَكْوِهِمْ، وَالْحَسْم فِي اللُّغَة: كَيُّ الْعِرْق بِالنَّارِ لِنَقْطَع الدَّم.
قَوْله: «وَقَعَ بِالْمَدِينَةِ الْمُوم وَهُوَ الْبِرْسَام» (الْمُوم) بِضَمِّ الْمِيم وَإِسْكَان الْوَاو، وَأَمَّا (الْبِرْسَام) فَبِكَسْرِ الْبَاء، وَهُوَ: نَوْع مِنْ اِخْتِلَال الْعَقْل، وَيُطْلَق عَلَى وَرَم الرَّأْس وَوَرَم الصَّدْر، وَهُوَ مُعَرَّب وَأَصْل اللَّفْظَة سُرْيَانِيَّة.
قَوْله: «وَبَعَثَ مَعَهُمْ قَائِفًا يَقْتَصّ أَثَرهمْ» الْقَائِف هُوَ الَّذِي يَتَتَبَّع الْآثَار وَغَيْرهَا.

.باب ثُبُوتِ الْقِصَاصِ فِي الْقَتْلِ بِالْحَجَرِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْمُحَدَّدَاتِ وَالْمُثَقَّلاَتِ وَقَتْلِ الرَّجُلِ بِالْمَرْأَةِ:

قَوْله: «أَنَّ يَهُودِيًّا قَتَلَ جَارِيَة عَلَى أَوْضَاح لَهَا فَقَتَلَهَا بِحَجَرٍ فَجِيءَ بِهَا إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِهَا رَمَق، فَقِيلَ لَهَا: أَقَتَلَك فُلَان؟ فَأَشَارَتْ بِرَأْسِهَا: أَنْ لَا، ثُمَّ قَالَ لَهَا الثَّانِيَة فَأَشَارَتْ بِرَأْسِهَا أَنْ لَا، ثُمَّ سَأَلَهَا الثَّالِثَة، فَقَالَتْ: نَعَمْ وَأَشَارَتْ بِرَأْسِهَا، فَقَتَلَهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْن حَجَرَيْنِ» وَفِي رِوَايَة: «قَتَلَ جَارِيَة مِنْ الْأَنْصَار عَلَى حُلِيّ لَهَا، ثُمَّ أَلْقَاهَا فِي قَلِيب وَرَضَخَ رَأْسهَا بِالْحِجَارَةِ، فَأَمَرَ بِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُرْجَم حَتَّى يَمُوت فَرُجِمَ حَتَّى مَاتَ» وَفِي رِوَايَة: «أَنَّ جَارِيَة وُجِدَ رَأْسهَا قَدْ رُضَّ بَيْن حَجَرَيْنِ، فَسَأَلُوهَا مَنْ صَنَعَ هَذَا بِك. فُلَان... فُلَان حَتَّى ذَكَرُوا الْيَهُودِيّ، فَأَوْمَتْ بِرَأْسِهَا، فَأُخِذَ الْيَهُودِيّ فَأَقَرَّ، فَأَمَرَ بِهِ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُرَضّ رَأْسه بِالْحِجَارَةِ».
3165- أَمَّا (الْأَوْضَاح) بِالضَّادِ الْمُعْجَمَة، فَهِيَ: قِطَع فِضَّة، كَمَا فَسَّرَهُ فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى.
قَوْله: (وَبِهَا رَمَق) هُوَ بَقِيَّة الْحَيَاة وَالرُّوح. وَالْقَلِيب الْبِئْر، وَقَوْله: «رَضَخَهُ بَيْن حَجَرَيْنِ وَرَضَّهُ بِالْحِجَارَةِ وَرَجَمَهُ بِالْحِجَارَةِ» هَذِهِ الْأَلْفَاظ مَعْنَاهَا وَاحِد؛ لِأَنَّهُ إِذَا وَضَعَ رَأْسه عَلَى حَجَر وَرُمِيَ بِحَجَرٍ آخَر فَقَدْ رَجَمَ، وَقَدْ رَضَّ، وَقَدْ رَضَخَ.
وَقَدْ يَحْتَمِل أَنَّهُ رَجَمَهَا الرَّجْم الْمَعْرُوف مَعَ الرَّضْخ؛ لِقَوْلِهِ: ثُمَّ أَلْقَاهَا فِي قَلِيب.
وَفِي هَذَا الْحَدِيث فَوَائِد مِنْهَا: قَتْل الرَّجُل بِالْمَرْأَةِ، وَهُوَ إِجْمَاع مَنْ يُعْتَدّ بِهِ. وَمِنْهَا: أَنَّ الْجَانِي عَمْدًا يُقْتَل قِصَاصًا عَلَى الصِّفَة الَّتِي قَتَلَ، فَإِنْ بِسَيْفٍ قُتِلَ هُوَ بِالسَّيْفِ، وَإِنْ قُتِلَ بِحَجَرٍ أَوْ خَشَب أَوْ نَحْوهمَا قُتِلَ بِمِثْلِهِ؛ لِأَنَّ الْيَهُودِيّ رَضَخَهَا فَرُضِخَ هُوَ. وَمِنْهَا: ثُبُوت الْقِصَاص فِي الْقَتْل بِالْمُثْقَلَاتِ، وَلَا يَخْتَصّ بِالْمُحَدَّدَاتِ، وَهَذَا مَذْهَب الشَّافِعِيّ وَمَالِك وَأَحْمَد وَجَمَاهِير الْعُلَمَاء، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: لَا قِصَاص إِلَّا فِي الْقَتْل بِمُحَدَّدٍ مِنْ حَدِيد أَوْ حَجَر أَوْ خَشَب، أَوْ كَانَ مَعْرُوفًا بِقَتْلِ النَّاس بِالْمَنْجَنِيقِ، أَوْ بِالْإِلْقَاءِ فِي النَّار.
وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَة عَنْهُ فِي مُثَقَّل الْحَدِيد كَالدَّبُّوسِ. أَمَّا إِذَا كَانَتْ الْجِنَايَة شِبْه عَمْد بِأَنْ قَتَلَ بِمَا لَا يُقْصَد بِهِ الْقَتْل غَالِبًا فَتَعَمَّدَ الْقَتْل بِهِ كَالْعَصَا وَالسَّوْط وَاللَّطْمَة وَالْقَضِيب وَالْبُنْدُقَة وَنَحْوهَا، فَقَالَ مَالِك وَاللَّيْث: يَجِب فيه الْقَوَد، وَقَالَ الشَّافِعِيّ وَأَبُو حَنِيفَة وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَأَحْمَد وَإِسْحَاق وَأَبُو ثَوْر وَجَمَاهِير الْعُلَمَاء مِنْ الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ فَمَنْ بَعْدهمْ: لَا قِصَاص فيه. وَاللَّهُ أَعْلَم. وَمِنْهَا: وُجُوب الْقِصَاص عَلَى الَّذِي يَقْتُل الْمُسْلِم.
وَمِنْهَا: جَوَاز سُؤَال الْجَرِيح مَنْ جَرَحَك؟، وَفَائِدَة السُّؤَال: أَنْ يُعْرَف الْمُتَّهَم لِيُطَالَب، فَإِنْ أَقَرَّ ثَبَتَ عَلَيْهِ الْقَتْل، وَإِنْ أَنْكَرَ فَالْقَوْل قَوْله مَعَ يَمِينه، وَلَا يَلْزَمهُ شَيْء بِمُجَرَّدِ قَوْل الْمَجْرُوح، هَذَا مَذْهَبنَا وَمَذْهَب الْجَمَاهِير، وَقَدْ سَبَقَ فِي بَاب الْقَسَامَة، وَأَنَّ مَذْهَب مَالِك ثُبُوت الْقَتْل عَلَى الْمُتَّهَم بِمُجَرَّدِ قَوْل الْمَجْرُوح، وَتَعَلَّقُوا بِهَذَا الْحَدِيث، وَهَذَا تَعَلُّق بَاطِل؛ لِأَنَّ الْيَهُودِيّ اِعْتَرَفَ كَمَا صَرَّحَ بِهِ مُسْلِم فِي إِحْدَى رِوَايَاته الَّتِي ذَكَرْنَاهَا، فَإِنَّمَا قُتِلَ بِاعْتِرَافِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَم.

.باب الصَّائِلُ عَلَى نَفْسِ الإِنْسَانِ أَوْ عُضْوِهِ إِذَا دَفَعَهُ الْمَصُولُ عَلَيْهِ فَأَتْلَفَ نَفْسَهُ أَوْ عُضْوَهَ لاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ:

3168- قَوْله: «قَاتَلَ يَعْلَى بْن مُنْيَة أَوْ اِبْن أُمَيَّة رَجُلًا فَعَضَّ أَحَدهمَا صَاحِبه فَانْتَزَعَ يَده مِنْ فيه فَنَزَعَ ثَنِيَّته فَاخْتَصَمَا إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَيَعَضُّ أَحَدُكُمْ كَمَا يَعَضُّ الْفَحْلُ لَا دِيَةَ لَهُ» وَفِي رِوَايَة: «أَنَّ أَجِيرًا لِيَعْلَى عَضَّ رَجُل ذِرَاعه».
أَمَّا (مُنْيَة) فَبِضَمِّ الْمِيم وَإِسْكَان النُّون وَبَعْدهَا يَاء مُثَنَّاة تَحْت، وَهِيَ أُمّ يَعْلَى، وَقِيلَ: جَدَّته.
وَأَمَّا (أُمَيَّة): فَهُوَ أَبُوهُ، فَيَصِحّ أَنْ يُقَال: يَعْلَى بْن أُمَيَّة، وَيَعْلَى بْن مُنْيَة، وَأَمَّا قَوْله: أَنَّ يَعْلَى هُوَ الْمَعْضُوض، وَفِي الرِّوَايَة الثَّانِيَة وَالثَّالِثَة أَنَّ الْمَعْضُوض أَجِير يَعْلَى لَا يَعْلَى؛ فَقَالَ الْحُفَّاظ: الصَّحِيح الْمَعْرُوف أَنَّهُ أَجِير يَعْلَى لَا يَعْلَى، وَيَحْتَمِل أَنَّهُمَا قَضِيَّتَانِ جَرَتَا لِيَعْلَى وَلِأَجِيرِهِ فِي وَقْت أَوْ وَقْتَيْنِ.
وَقَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَمَا يَعَضّ الْفَحْل» هُوَ بِالْحَاءِ، أَيْ الْفَحْل مِنْ الْإِبِل وَغَيْرهَا، وَهُوَ إِشَارَة إِلَى تَحْرِيم ذَلِكَ، وَهَذَا الْحَدِيث دَلَالَة لِمَنْ قَالَ: إِنَّهُ إِذَا عَضَّ رَجُل يَد غَيْره فَنَزَعَ الْمَعْضُوض يَده فَسَقَطَتْ أَسْنَان الْعَاضّ أَوْ فَكّ لِحْيَته لَا ضَمَان عَلَيْهِ، وَهَذَا مَذْهَب الشَّافِعِيّ وَأَبِي حَنِيفَة وَكَثِيرِينَ أَوْ الْأَكْثَرِينَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ، وَقَالَ مَالِك: يَضْمَن.
3170- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَقْضَمهَا كَمَا يَقْضَم الْفَحْل» هُوَ بِفَتْحِ الضَّاد فيهمَا عَلَى اللُّغَة الْفَصِيحَة، وَمَعْنَاهُ يَعَضّهَا، قَالَ أَهْل اللُّغَة: الْقَضْم بِأَطْرَافِ الْأَسْنَان.
3171- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا تَأْمُرنِي؟ تَأْمُرنِي أَنْ آمُرهُ أَنْ يَضَع يَده فِي فِيك تَقْضَمهَا كَمَا يَقْضِم الْفَحْل اِدْفَعْ يَدك حَتَّى يَعَضّهَا ثُمَّ اِنْتَزِعْهَا» لَيْسَ الْمُرَاد بِهَذَا أَمْره بِدَفْعِ يَده لِيَعَضّهَا، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ الْإِنْكَار عَلَيْهِ، أَيْ إِنَّك لَا تَدَع يَدك فِي فيه يَعَضّهَا، فَكَيْفَ تُنْكِر عَلَيْهِ أَنْ يَنْتَزِع يَده مِنْ فِيك، وَتُطَالِبهُ بِمَا جَنَى فِي جَذْبه لِذَلِكَ؟ قَالَ الْقَاضِي: وَهَذَا الْبَاب مِمَّا تَتَبَّعَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَلَى مُسْلِم، لِأَنَّهُ ذَكَرَ أَوَّلًا حَدِيث شُعْبَة عَنْ قَتَادَةَ عَنْ زُرَارَة عَنْ عِمْرَان بْن حُصَيْنٍ، قَالَ: قَاتَلَ يَعْلَى، وَذَكَرَ مِثْله عَنْ مُعَاذ بْن هِشَام عَنْ أَبِيهِ عَنْ قَتَادَةَ، ثُمَّ عَنْ شُعْبَة عَنْ قَتَادَةَ عَنْ عَطَاء عَنْ اِبْن يَعْلَى، ثُمَّ عَنْ هَمَّام عَنْ عَطَاء عَنْ اِبْن يَعْلَى، ثُمَّ حَدِيث اِبْن جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاء عَنْ اِبْن يَعْلَى، ثُمَّ حَدِيث مُعَاذ عَنْ أَبِيهِ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ بُدَيْل عَنْ عَطَاء بْن صَفْوَان بْن يَعْلَى، وَهَذَا اِخْتِلَاف عَلَى عَطَاء، وَذَكَرَ أَيْضًا حَدِيث قُرَيْش بْن يُونُس عَنْ اِبْن عَوْن عَنْ اِبْن سِيرِينَ عَنْ عِمْرَان، وَلَمْ يَذْكُر فيه نَوْعًا مِنْهُ وَلَا مِنْ اِبْن سِيرِينَ مِنْ عِمْرَان، وَلَمْ يُخَرِّج الْبُخَارِيّ لِابْنِ سِيرِينَ عَنْ عِمْرَان شَيْئًا. وَاللَّهُ أَعْلَم. قُلْت: الْإِنْكَار عَلَى مُسْلِم فِي هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ: أَحَدهمَا لَا يَلْزَم مِنْ الِاخْتِلَاف عَلَى عَطَاء ضَعْف الْحَدِيث، وَلَا مِنْ كَوْن اِبْن سِيرِينَ لَمْ يُصَرِّح بِالسَّمَاعِ مِنْ عِمْرَان وَلَا رَوَى لَهُ الْبُخَارِيّ عَنْهُ شَيْئًا أَنْ لَا يَكُون سَمِعَ مِنْهُ؛ بَلْ هُوَ مَعْدُود فِيمَنْ سَمِعَ مِنْهُ، وَالثَّانِي: لَوْ ثَبَتَ ضَعْف هَذَا الطَّرِيق لَمْ يَلْزَم مِنْهُ ضَعْف الْمَتْن؛ فَإِنَّهُ صَحِيح بِالطُّرُقِ الْبَاقِيَة الَّتِي ذَكَرَهَا مُسْلِم، وَقَدْ سَبَقَ مَرَّات أَنَّ مُسْلِمًا يَذْكُر فِي الْمُتَابَعَات مَنْ هُوَ دُون شَرْط الصَّحِيح. وَاللَّهُ أَعْلَم.

.باب إِثْبَاتِ الْقِصَاصِ فِي الأَسْنَانِ وَمَا فِي مَعْنَاهَا:

3174- قَوْله: «عَنْ أَنَس أَنَّ أُخْت الرُّبَيِّع أُمّ حَارِثَة جَرَحَتْ إِنْسَانًا فَاخْتَصَمُوا إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْقِصَاص الْقِصَاص، فَقَالَتْ أُمّ الرَّبِيع: يَا رَسُول اللَّه أَيُقْتَصُّ مِنْ فُلَانَة؟!! وَاللَّهُ لَا يُقْتَصّ مِنْهَا، فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: سُبْحَان اللَّه يَا أُمّ الرَّبِيع الْقِصَاص كِتَاب اللَّه، قَالَتْ: لَا وَاَللَّه لَا يُقْتَصّ مِنْهَا أَبَدًا، قَالَ: فَمَا زَالَتْ حَتَّى قَبِلُوا الدِّيَة، فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ مِنْ عِبَاد اللَّه مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّه لَأَبَرَّهُ». هَذِهِ رِوَايَة مُسْلِم، وَخَالَفَهُ الْبُخَارِيّ فِي رِوَايَته فَقَالَ: عَنْ أَنَس بْن مَالِك أَنَّ عَمَّته الرُّبَيِّع كَسَرَتْ ثَنِيَّة جَارِيَة، وَطَلَبُوا إِلَيْهَا الْعَفْو فَأَتَوْا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَبَوْا إِلَّا الْقِصَاص، فَأَمَرَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقِصَاصِ، فَقَالَ أَنَس بْن النَّضْر: يَا رَسُول اللَّه أَتُكْسَرُ ثَنِيَّة الرُّبَيِّع، لَا وَاَلَّذِي بَعَثَك بِالْحَقِّ لَا تُكْسَر ثَنِيَّتهَا، فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كِتَاب اللَّه الْقِصَاص»، فَرَضِيَ الْقَوْم فَعَفَوْا، فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ مِنْ عِبَاد اللَّه مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّه لَأَبَرَّهُ»، هَذَا لَفْظ رِوَايَة الْبُخَارِيّ، فَحَصَلَ الِاخْتِلَاف فِي الرِّوَايَتَيْنِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدهمَا: أَنَّ فِي رِوَايَة مُسْلِم أَنَّ الْجَارِيَة أُخْت الرُّبَيِّع، وَفِي رِوَايَة الْبُخَارِيّ: أَنَّهَا الرُّبَيِّع بِنَفْسِهَا.
وَالثَّانِي: أَنَّ فِي رِوَايَة مُسْلِم: أَنَّ الْحَالِف لَا تَكْسِر ثَنِيَّتهَا هِيَ أُمّ الرَّبِيع بِفَتْحِ الرَّاء، وَفِي رِوَايَة الْبُخَارِيّ: أَنَّهُ أَنَس بْن النَّضْر، قَالَ الْعُلَمَاء: الْمَعْرُوف فِي الرِّوَايَات رِوَايَة الْبُخَارِيّ، وَقَدْ ذَكَرَهَا مِنْ طُرُقه الصَّحِيحَة كَمَا ذَكَرْنَا عَنْهُ، وَكَذَا رَوَاهُ أَصْحَاب كُتُب السُّنَن، قُلْت: إِنَّهُمَا قَضِيَّتَانِ، أَمَّا (الرُّبَيِّع) الْجَارِحَة فِي رِوَايَة الْبُخَارِيّ، وَأُخْت الْجَارِحَة فِي رِوَايَة مُسْلِم فَهِيَ بِضَمِّ الرَّاء وَفَتْح الْبَاء وَتَشْدِيد الْيَاء.
وَأَمَّا (أُمّ الرَّبِيع) الْحَالِفَة فِي رِوَايَة مُسْلِم فَبِفَتْحِ الرَّاء وَكَسْر الْبَاء وَتَخْفِيف الْيَاء.
وَقَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الرِّوَايَة الْأُولَى: «الْقِصَاص الْقِصَاص» هُمَا مَنْصُوبَانِ أَيْ: أَدُّوا الْقِصَاص وَسَلِّمُوهُ إِلَى مُسْتَحِقّه.
وَقَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كِتَاب اللَّه الْقِصَاص» أَيْ: حُكْم كِتَاب اللَّه وُجُوب الْقِصَاص فِي السِّنّ، وَهُوَ قَوْله: {وَالسِّنّ بِالسِّنِّ}، وَأَمَّا قَوْله: «وَاَللَّه لَا يُقْتَصّ مِنْهَا» فَلَيْسَ مَعْنَاهُ رَدّ حُكْم النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ بَلْ الْمُرَاد بِهِ الرَّغْبَة إِلَى مُسْتَحِقّ الْقِصَاص أَنْ يَعْفُو، وَإِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الشَّفَاعَة إِلَيْهِمْ فِي الْعَفْو، وَإِنَّمَا حَلَفَ ثِقَة بِهِمْ أَلَّا يُحْنِثُوهُ، أَوْ ثِقَة بِفَضْلِ اللَّه وَلُطْفه أَلَّا يُحْنِثهُ؛ بَلْ يُلْهِمهُمْ الْعَفْو، وَأَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ مِنْ عِبَاد اللَّه مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّه لَأَبَرَّهُ» مَعْنَاهُ: لَا يُحْنِثهُ لِكَرَامَتِهِ عَلَيْهِ.
وَفِي هَذَا الْحَدِيث فَوَائِد: مِنْهَا: جَوَاز الْحَلِف فِيمَا يَظُنّهُ الْإِنْسَان.
وَمِنْهَا: جَوَاز الثَّنَاء عَلَى مَنْ لَا يَخَاف الْفِتْنَة بِذَلِكَ، وَقَدْ سَبَقَ بَيَان هَذَا مَرَّات.
وَمِنْهَا: اِسْتِحْبَاب الْعَفْو عَنْ الْقِصَاص.
وَمِنْهَا: اِسْتِحْبَاب الشَّفَاعَة فِي الْعَفْو.
وَمِنْهَا: أَنَّ الْخِيَرَة فِي الْقِصَاص وَالدِّيَة إِلَى مُسْتَحِقّه لَا إِلَى الْمُسْتَحَقّ عَلَيْهِ.
وَمِنْهَا: إِثْبَات الْقِصَاص بَيْن الرَّجُل وَالْمَرْأَة، وَفيه ثَلَاثَة مَذَاهِب:
أَحَدهَا: مَذْهَب عَطَاء وَالْحَسَن: أَنَّهُ لَا قِصَاص بَيْنهمَا فِي نَفْس وَلَا طَرَف؛ بَلْ تَتَعَيَّن دِيَة الْجِنَايَة تَعَلُّقًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى}.
الثَّانِي: وَهُوَ مَذْهَب جَمَاهِير الْعُلَمَاء مِنْ الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ فَمَنْ بَعْدهمْ ثُبُوت الْقِصَاص بَيْنهمَا فِي النَّفْس وَفِيمَا دُونهَا مِمَّا يَقْبَل الْقِصَاص، وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {النَّفْس بِالنَّفْسِ} إِلَى آخِرهَا، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ شَرْعًا لِمَنْ قَبْلنَا، وَفِي الِاحْتِجَاج بِهِ خِلَاف مَشْهُور لِلْأُصُولِيِّينَ، فَإِنَّمَا الْخِلَاف إِذَا لَمْ يَرِد شَرْعُنَا بِتَقْرِيرِهِ وَمُوَافَقَته. فَإِنْ وَرَدَ كَانَ شَرْعًا لَنَا بِلَا خِلَاف، وَقَدْ وَرَدَ شَرْعنَا بِتَقْرِيرِهِ فِي حَدِيث أَنَس هَذَا. وَاللَّهُ أَعْلَم.
وَالثَّالِث وَهُوَ مَذْهَب أَبِي حَنِيفَة وَأَصْحَابه يَجِب الْقِصَاص بَيْن الرِّجَال وَالنِّسَاء فِي النَّفْس، وَلَا يَجِب فِيمَا دُونهَا. وَمِنْهَا وُجُوب الْقِصَاص فِي السِّنّ، وَهُوَ مُجْمَع عَلَيْهِ إِذَا أَقَلَّهَا كُلّهَا، فَإِنْ كَسَرَ بَعْضهَا فَفيه وَفِي كَسْر سَائِر الْعِظَام خِلَاف مَشْهُور لِلْعُلَمَاءِ، وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا قِصَاص. وَاللَّهُ أَعْلَم.

.باب مَا يُبَاحُ بِهِ دَمُ الْمُسْلِمِ:

3175- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَحِلّ دَم اِمْرِئٍ مُسْلِم يَشْهَد أَنْ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه وَأَنِّي رَسُول اللَّه إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاث: الثَّيِّب الزَّان، وَالنَّفْس بِالنَّفْسِ، وَالتَّارِك لِدِينِهِ الْمُفَارِق لِلْجَمَاعَةِ» هَكَذَا هُوَ فِي النُّسَخ (الزَّان) مِنْ غَيْر يَاء بَعْد النُّون، وَهِيَ لُغَة صَحِيحَة قُرِئَ بِهَا فِي السَّبْع كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {الْكَبِير الْمُتَعَال} وَغَيْره، وَالْأَشْهَر فِي اللُّغَة إِثْبَات الْيَاء فِي كُلّ هَذَا.
وَفِي هَذَا الْحَدِيث: إِثْبَات قَتْل الزَّانِي الْمُحْصَن، وَالْمُرَاد: رَجْمه بِالْحِجَارَةِ حَتَّى يَمُوت، وَهَذَا بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، وَسَيَأْتِي إِيضَاحه وَبَيَان شُرُوطه فِي بَابه إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى.
وَأَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَالنَّفْس بِالنَّفْسِ» فَالْمُرَاد بِهِ الْقِصَاص بِشَرْطِهِ، وَقَدْ يَسْتَدِلّ بِهِ أَصْحَاب أَبِي حَنِيفَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ فِي قَوْلهمْ: يُقْتَل الْمُسْلِم بِالذِّمِّيِّ، وَيُقْتَل الْحُرّ بِالْعَبْدِ، وَجُمْهُور الْعُلَمَاء عَلَى خِلَافه، مِنْهُمْ مَالِك وَالشَّافِعِيّ وَاللَّيْث وَأَحْمَد.
وَأَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَالتَّارِك لِدِينِهِ الْمُفَارِق لِلْجَمَاعَةِ» فَهُوَ عَامّ فِي كُلّ مُرْتَدّ عَنْ الْإِسْلَام بِأَيِّ رِدَّة كَانَتْ، فَيَجِب قَتْله إِنْ لَمْ يَرْجِع إِلَى الْإِسْلَام، قَالَ الْعُلَمَاء: وَيَتَنَاوَل أَيْضًا كُلّ خَارِج عَنْ الْجَمَاعَة بِبِدْعَةٍ أَوْ بَغْي أَوْ غَيْرهمَا، وَكَذَا الْخَوَارِج. وَاللَّهُ أَعْلَم.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا عَامّ يُخَصّ مِنْهُ الصَّائِل وَنَحْوه، فَيُبَاح قَتْله فِي الدَّفْع، وَقَدْ يُجَاب عَنْ هَذَا بِأَنَّهُ دَاخِل فِي الْمُفَارِق لِلْجَمَاعَةِ، أَوْ يَكُون الْمُرَاد: لَا يَحِلّ تَعَمُّد قَتْله قَصْدًا إِلَّا فِي هَذِهِ الثَّلَاثَة. وَاللَّهُ أَعْلَم.

.باب بَيَانِ إِثْمِ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ:

3177- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تُقْتَلُ نَفْسٌ ظُلْمًا إِلَّا كَانَ عَلَى اِبْن آدَم الْأَوَّل كِفْلٌ مِنْهَا؛ لِأَنَّهُ كَانَ أَوَّل مَنْ سَنَّ الْقَتْل»، «الْكِفْل»: بِكَسْرِ الْكَاف: الْجُزْء وَالنَّصِيب، وَقَالَ الْخَلِيل: هُوَ الضِّعْف.
وَهَذَا الْحَدِيث مِنْ قَوَاعِد الْإِسْلَام، وَهُوَ: أَنَّ كُلّ مَنْ اِبْتَدَعَ شَيْئًا مِنْ الشَّرّ كَانَ عَلَيْهِ مِثْل وِزْر كُلّ مَنْ اِقْتَدَى بِهِ فِي ذَلِكَ الْعَمَل مِثْل عَمَله إِلَى يَوْم الْقِيَامَة، وَمِثْله مَنْ اِبْتَدَعَ شَيْئًا مِنْ الْخَيْر كَانَ لَهُ مِثْل أَجْر كُلّ مَنْ يَعْمَل بِهِ إِلَى يَوْم الْقِيَامَة، وَهُوَ مُوَافِق لِلْحَدِيثِ الصَّحِيح: «مَنْ سَنَّ سُنَّة حَسَنَة وَمَنْ سَنَّ سُنَّة سَيِّئَة» وَلِلْحَدِيثِ الصَّحِيح: «مَنْ دَلَّ عَلَى خَيْر فَلَهُ مِثْل أَجْر فَاعِله» وَلِلْحَدِيثِ الصَّحِيح: «مَا مِنْ دَاعٍ يَدْعُو إِلَى هُدًى وَمَا مِنْ دَاعٍ يَدْعُو إِلَى ضَلَالَة». وَاللَّهُ أَعْلَم.

.باب الْمُجَازَاةِ بِالدِّمَاءِ فِي الآخِرَةِ وَأَنَّهَا أَوَّلُ مَا يُقْضَى فِيهِ بَيْنَ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ:

3178- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَوَّل مَا يُقْضَى بَيْن النَّاس يَوْم الْقِيَامَة فِي الدِّمَاء» فيه تَغْلِيظُ أَمْر الدِّمَاء، وَأَنَّهَا أَوَّل مَا يُقْضَى فيه بَيْن النَّاس يَوْم الْقِيَامَة، وَهَذَا لِعِظَمِ أَمْرهَا وَكَثِير خَطَرهَا، وَلَيْسَ هَذَا الْحَدِيث مُخَالِفًا لِلْحَدِيثِ الْمَشْهُور فِي السُّنَن: «أَوَّل مَا يُحَاسَب بِهِ الْعَبْد صَلَاته»؛ لِأَنَّ هَذَا الْحَدِيث الثَّانِي فِيمَا بَيْن الْعَبْد وَبَيْن اللَّه تَعَالَى، وَأَمَّا حَدِيث الْبَاب فَهُوَ فِيمَا بَيْن الْعِبَاد. وَاللَّهُ أَعْلَم بِالصَّوَابِ.

.باب تَغْلِيظِ تَحْرِيمِ الدِّمَاءِ وَالأَعْرَاضِ وَالأَمْوَالِ:

3179- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الزَّمَان قَدْ اِسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْم خَلَقَ اللَّه السَّمَاوَات وَالْأَرْض: السَّنَة اثْنَيْ عَشَر شَهْرًا، مِنْهَا أَرْبَعَة حُرُمٌ، ثَلَاثَة مُتَوَالِيَات: ذُو الْقَعَدَة وَذُو الْحِجَّة وَالْمُحَرَّم وَرَجَب شَهْر مُضَر الَّذِي بَيْن جُمَادَى وَشَعْبَان» أَمَّا ذُو الْقَعْدَة: فَبِفَتْحِ الْقَاف، وَذُو الْحِجَّة بِكَسْرِ الْحَاء هَذِهِ اللُّغَة الْمَشْهُورَة، وَيَجُوز فِي لُغَة قَلِيلَة كَسْر الْقَاف وَفَتْح الْحَاء.
وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ الْأَشْهُر الْحُرُم الْأَرْبَعَة هِيَ هَذِهِ الْمَذْكُورَة فِي الْحَدِيث، وَلَكِنْ اِخْتَلَفُوا فِي الْأَدَب الْمُسْتَحَبّ فِي كَيْفِيَّة عَدّهَا، فَقَالَتْ طَائِفَة مِنْ أَهْل الْكُوفَة وَأَهْل الْأَدَب: يُقَال: الْمُحَرَّم وَرَجَب وَذُو الْقَعْدَة وَذُو الْحِجَّة لِيَكُونَ الْأَرْبَعَة مِنْ سَنَة وَاحِدَة، وَقَالَ عُلَمَاء الْمَدِينَة وَالْبَصْرَة وَجَمَاهِير الْعُلَمَاء: هِيَ ذُو الْقَعْدَة وَذُو الْحِجَّة وَالْمُحَرَّم وَرَجَب، ثَلَاثَة سَرْد وَوَاحِد فَرْد، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح الَّذِي جَاءَتْ بِهِ الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة، مِنْهَا هَذَا الْحَدِيث الَّذِي نَحْنُ فيه، وَعَلَى هَذَا الِاسْتِعْمَال أَطْبَقَ النَّاس مِنْ الطَّوَائِف كُلّهَا.
وَأَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَرَجَب مُضَرَ الَّذِي بَيْن جُمَادَى، وَشَعْبَان» وَإِنَّمَا قَيَّدَهُ هَذَا التَّقْيِيد مُبَالَغَة فِي إِيضَاحه وَإِزَالَة لِلَّبْسِ عَنْهُ، قَالُوا: وَقَدْ كَانَ بَيْن بَنِي مُضَرَ وَبَيْن رَبِيعَة اِخْتِلَاف فِي رَجَب، فَكَانَتْ مُضَرَ تَجْعَل رَجَبًا هَذَا الشَّهْر الْمَعْرُوف الْآن، وَهُوَ الَّذِي بَيْن جُمَادَى وَشَعْبَان، وَكَانَتْ رَبِيعَة تَجْعَلهُ رَمَضَان، فَلِهَذَا أَضَافَهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى مُضَرَ، وَقِيلَ: لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُعَظِّمُونَهُ أَكْثَر مِنْ غَيْرهمْ، وَقِيلَ: إِنَّ الْعَرَب كَانَتْ تُسَمِّي رَجَبًا وَشَعْبَان الرَّجَبَيْنِ، وَقِيلَ: كَانَتْ تُسَمِّي جُمَادَى وَرَجَبًا جَمَادَيْنِ، وَتُسَمِّي شَعْبَان رَجَبًا.
وَأَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الزَّمَان قَدْ اِسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْم خَلَقَ اللَّه السَّمَاوَات وَالْأَرْض» فَقَالَ الْعُلَمَاء: مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّة يَتَمَسَّكُونَ بِمِلَّةِ إِبْرَاهِيم صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَحْرِيم الْأَشْهُر الْحُرُم، وَكَانَ يَشُقّ عَلَيْهِمْ تَأْخِير الْقِتَال ثَلَاثَة أَشْهُر مُتَوَالِيَات، فَكَانُوا إِذَا اِحْتَاجُوا إِلَى قِتَال أَخَّرُوا تَحْرِيم الْمُحَرَّم إِلَى الشَّهْر الَّذِي بَعْده وَهُوَ صَفَر، ثُمَّ يُؤَخِّرُونَهُ فِي السَّنَة الْأُخْرَى إِلَى شَهْر آخَر، وَهَكَذَا يَفْعَلُونَ فِي سَنَة بَعْد سَنَة، حَتَّى اِخْتَلَطَ عَلَيْهِمْ الْأَمْر، وَصَادَفَتْ حَجَّة النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَحْرِيمهمْ، وَقَدْ تَطَابَقَ الشَّرْع، وَكَانُوا فِي تِلْكَ السَّنَة قَدْ حَرَّمُوا ذَا الْحِجَّة لِمُوَافَقَةِ الْحِسَاب الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، فَأَخْبَرَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الِاسْتِدَارَة صَادَفَتْ مَا حَكَمَ اللَّه تَعَالَى بِهِ يَوْم خَلَقَ السَّمَاوَات وَالْأَرْض.
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: كَانُوا يَنْسَئُونَ، أَيْ: يُؤَخِّرُونَ وَهُوَ الَّذِي قَالَ اللَّه تَعَالَى فيه: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَة فِي الْكُفْر} فَرُبَّمَا اِحْتَاجُوا إِلَى الْحَرْب فِي الْمُحَرَّم، فَيُؤَخِّرُونَ تَحْرِيمه إِلَى صَفَر، ثُمَّ يُؤَخِّرُونَ صَفَر فِي سَنَة أُخْرَى، فَصَادَفَ تِلْكَ السَّنَة رُجُوع الْمُحَرَّم إِلَى مَوْضِعه.
وَذَكَرَ الْقَاضِي وُجُوهًا أُخَر فِي بَيَان مَعْنَى هَذَا الْحَدِيث لَيْسَتْ بِوَاضِحَةٍ وَيُنْكَر بَعْضهَا. قَوْله: «ثُمَّ قَالَ: أَيّ شَهْر هَذَا؟ قُلْنَا: اللَّه وَرَسُوله أَعْلَم، فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اِسْمه، قَالَ: أَلَيْسَ ذَا الْحِجَّة؟ قُلْنَا. بَلَى، قَالَ: فَأَيّ بَلَد هَذَا؟ قُلْنَا. اللَّه وَرَسُوله أَعْلَم... إِلَى آخِره» هَذَا السُّؤَال وَالسُّكُوت وَالتَّفْسِير أَرَادَ بِهِ التَّفْخِيم وَالتَّقْرِير وَالتَّنْبِيه عَلَى عِظَم مَرْتَبَة هَذَا الشَّهْر وَالْبَلَد وَالْيَوْم، وَقَوْلهمْ: «اللَّه وَرَسُوله أَعْلَم». هَذَا مِنْ حُسْن أَدَبهمْ، وَأَنَّهُمْ عَلِمُوا أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مَا يَعْرِفُونَهُ مِنْ الْجَوَاب فَعَرَفُوا أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَاد مُطْلَق الْإِخْبَار بِمَا يَعْرِفُونَ.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالكُمْ وَأَعْرَاضكُمْ حَرَام عَلَيْكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمكُمْ هَذَا فِي بَلَدكُمْ هَذَا فِي شَهْركُمْ هَذَا» الْمُرَاد بِهَذَا كُلّه: بَيَان تَوْكِيد غِلَظ تَحْرِيم الْأَمْوَال وَالدِّمَاء وَالْأَعْرَاض وَالتَّحْذِير مِنْ ذَلِكَ.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَلَا تَرْجِعُنَّ بَعْدِي ضُلَّالًا يَضْرِب بَعْضكُمْ رِقَاب بَعْض» هَذَا الْحَدِيث سَبَقَ شَرْحه فِي كِتَاب الْإِيمَان فِي أَوَّل الْكِتَاب، وَذِكْر بَيَان إِعْرَابه، وَأَنَّهُ لَا حُجَّة فيه لِمَنْ يَقُول بِالتَّكْفِيرِ بِالْمَعَاصِي، بَلْ الْمُرَاد بِهِ كُفْرَان النِّعَم، أَوْ هُوَ مَحْمُول عَلَى مَنْ اِسْتَحَلَّ قِتَال الْمُسْلِمِينَ بِلَا شُبْهَة.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لِيُبَلِّغ الشَّاهِد الْغَائِب» فيه: وُجُوب تَبْلِيغ الْعِلْم، وَهُوَ فَرْض كِفَايَة، فَيَجِبُ تَبْلِيغه بِحَيْثُ يَنْتَشِر.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَلَعَلَّ بَعْض مَنْ يَبْلُغهُ يَكُون أَوْعَى لَهُ مِنْ بَعْض مَنْ سَمِعَهُ» اِحْتَجَّ بِهِ الْعُلَمَاء لِجَوَازِ رِوَايَة الْفُضَلَاء وَغَيْرهمْ مِنْ الشُّيُوخ الَّذِينَ لَا عِلْم لَهُمْ عِنْدهمْ وَلَا فِقْه، إِذَا ضَبَطَ مَا يُحَدِّث بِهِ.
3180- قَوْله: «قَعَدَ عَلَى بَعِيره وَأَخَذَ إِنْسَان بِخِطَامِهِ» إِنَّمَا أَخَذَ بِخِطَامِهِ لِيَصُونَ الْبَعِير مِنْ الِاضْطِرَاب عَلَى صَاحِبه، وَالتَّهْوِيش عَلَى رَاكِبه، وَفيه: دَلِيل عَلَى اِسْتِحْبَاب الْخُطْبَة عَلَى مَوْضِع عَالٍ مِنْ مِنْبَر وَغَيْره، سَوَاء خُطْبَة الْجُمُعَة وَالْعِيد وَغَيْرهمَا، وَحِكْمَته أَنَّهُ كُلَّمَا اِرْتَفَعَ كَانَ أَبْلَغ فِي إِسْمَاعه النَّاس وَرُؤْيَتهمْ إِيَّاهُ، وَوُقُوع كَلَامه فِي نُفُوسهمْ.
قَوْله: «اِنْكَفَأَ إِلَى كَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ فَذَبَحَهُمَا وَإِلَى جُزَيْعَة مِنْ الْغَنَم فَقَسَمَهَا بَيْننَا» اِنْكَفَأَ بِهَمْزِ آخِره، أَيْ: اِنْقَلَبَ، وَالْأَمْلَح: هُوَ الَّذِي فيه بَيَاض وَسَوَاد وَالْبَيَاض أَكْثَر، وَقَوْله: (جُزَيْعَة) بِضَمِّ الْجِيم وَفَتْح الزَّاي، وَرَوَاهُ بَعْضهمْ (جَزِيعَة) بِفَتْحِ الْجِيم وَكَسْر الزَّاي وَكِلَاهُمَا صَحِيح، وَالْأَوَّل هُوَ الْمَشْهُور فِي رِوَايَة الْمُحَدِّثِينَ، وَهُوَ الَّذِي ضَبَطَهُ الْجَوْهَرِيّ وَغَيْره مِنْ أَهْل اللُّغَة، وَهِيَ الْقِطْعَة مِنْ الْغَنَم تَصْغِير جِزْعَة بِكَسْرِ الْجِيم، وَهِيَ الْقَلِيل مِنْ الشَّيْء، يُقَال جَزَعَ لَهُ مِنْ مَاله أَيْ: قَطَعَ، وَبِالثَّانِي ضَبَطَهُ اِبْن فَارِس فِي الْمُجْمَل، قَالَ: وَهِيَ الْقِطْعَة مِنْ الْغَنَم، كَأَنَّهَا فَعِيلَة بِمَعْنَى مَفْعُولَة كَضَفِيرَةٍ بِمَعْنَى مَضْفُورَة، قَالَ الْقَاضِي: قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: قَوْله: (ثُمَّ اِنْكَفَأَ...) إِلَى آخِر الْحَدِيث، وَهْم مِنْ اِبْن عَوْن فِيمَا قِيلَ، وَإِنَّمَا رَوَاهُ اِبْن سِيرِينَ عَنْ أَنَس فَأَدْرَجَهُ اِبْن عَوْن هُنَا فِي هَذَا الْحَدِيث، فَرَوَاهُ عَنْ اِبْن سِيرِينَ عَنْ عَبْد الرَّحْمَن بْن أَبِي بَكْرَة عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ الْقَاضِي: وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيّ هَذَا الْحَدِيث عَنْ اِبْن عَوْن، فَلَمْ يَذْكُر فيه هَذَا الْكَلَام فَلَعَلَّهُ تَرَكَهُ عَمْدًا، وَقَدْ رَوَاهُ أَيُّوب وَقُرَّة عَنْ اِبْن سِيرِينَ فِي كِتَاب مُسْلِم فِي هَذَا الْبَاب، وَلَمْ يَذْكُرُوا فيه هَذِهِ الزِّيَادَة، قَالَ الْقَاضِي: وَالْأَشْبَه أَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَة إِنَّمَا هِيَ فِي حَدِيث آخَر فِي خُطْبَة عِيد الْأَضْحَى، فَوَهَمَ فيها الرَّاوِي، فَذَكَرَهَا مَضْمُومَة إِلَى خُطْبَة الْحَجَّة، أَوْ هُمَا حَدِيثَانِ ضُمَّ أَحَدهمَا إِلَى الْآخَر، وَقَدْ ذَكَرَ مُسْلِم هَذَا بَعْد هَذَا فِي كِتَاب الضَّحَايَا مِنْ حَدِيث أَيُّوب وَهِشَام عَنْ اِبْن سِيرِينَ عَنْ أَنَس أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى ثُمَّ خَطَبَ، فَأَمَرَ مَنْ كَانَ ذَبَحَ قَبْل الصَّلَاة أَنْ يُعِيد، ثُمَّ قَالَ فِي آخِر الْحَدِيث: «فَانْكَفَأَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى كَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ فَذَبَحَهُمَا فَقَامَ النَّاس إِلَى غُنَيْمَة فَتَوَزَّعُوهَا» فَهَذَا هُوَ الصَّحِيح، وَهُوَ دَافِعٌ لِلْإِشْكَالِ.