فصل: باب رَجْمِ الثَّيِّبِ فِي الزِّنَا:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج المشهور بـ «شرح النووي على مسلم»



.باب رَجْمِ الثَّيِّبِ فِي الزِّنَا:

3201- قَوْله: «فَكَانَ مِمَّا أَنْزَلَ اللَّه عَلَيْهِ آيَة الرَّجْم قَرَأْنَاهَا وَوَعَيْنَاهَا وَعَقَلْنَاهَا» أَرَادَ بِآيَةِ الرَّجْم: «الشَّيْخ وَالشَّيْخَة إِذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا الْبَتَّة» وَهَذَا مِمَّا نُسِخَ لَفْظه وَبَقِيَ حُكْمه، وَقَدْ وَقَعَ نَسْخ حُكْم دُون اللَّفْظ، وَقَدْ وَقَعَ نَسْخُهُمَا جَمِيعًا، فَمَا نُسِخَ لَفْظه لَيْسَ لَهُ حُكْم الْقُرْآن فِي تَحْرِيمه عَلَى الْجُنُب. وَنَحْو ذَلِكَ، وَفِي تَرْك الصَّحَابَة كِتَابَة هَذِهِ الْآيَة دَلَالَة ظَاهِرَة أَنَّ الْمَنْسُوخ لَا يُكْتَب فِي الْمُصْحَف، وَفِي إِعْلَان عُمَر بِالرَّجْمِ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَر وَسُكُوت الصَّحَابَة وَغَيْرهمْ مِنْ الْحَاضِرِينَ عَنْ مُخَالَفَته بِالْإِنْكَارِ دَلِيل عَلَى ثُبُوت الرَّجْم، وَقَدْ يُسْتَدَلّ بِهِ عَلَى أَنَّهُ لَا يُجْلَد مَعَ الرَّجْم، وَقَدْ تَمْتَنِع دَلَالَته؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَرَّض لِلْجَلْدِ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الْقُرْآن وَالسُّنَّة.
قَوْله: «فَأَخْشَى إِنْ طَالَ بِالنَّاسِ زَمَان أَنْ يَقُول قَائِل: مَا نَجِد الرَّجْم فِي كِتَاب اللَّه فَيَضِلُّوا بِتَرْكِ فَرِيضَة» هَذَا الَّذِي خَشِيَهُ قَدْ وَقَعَ مِنْ الْخَوَارِج وَمَنْ وَافَقَهُمْ كَمَا سَبَقَ بَيَانه، وَهَذَا مِنْ كَرَامَات عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ وَيَحْتَمِل أَنَّهُ عَلِمَ ذَلِكَ مِنْ جِهَة النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَوْله: «وَإِنَّ الرَّجْم فِي كِتَاب اللَّه حَقّ عَلَى مَنْ زَنَى إِذَا أُحْصِنَ مِنْ الرِّجَال وَالنِّسَاء إِذَا قَامَتْ الْبَيِّنَة أَوْ كَانَ الْحَبَل أَوْ الِاعْتِرَاف» أَجْمَعَ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّ الرَّجْم لَا يَكُون إِلَّا عَلَى مَنْ زَنَى وَهُوَ مُحْصَن، وَسَبَقَ بَيَان صِفَة الْمُحْصَن، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ إِذَا قَامَتْ الْبَيِّنَة بِزِنَاهُ وَهُوَ مُحْصَن يُرْجَم، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْبَيِّنَة أَرْبَعَة شُهَدَاء ذُكُور عُدُول هَذَا إِذَا شَهِدُوا عَلَى نَفْس الزِّنَا، وَلَا يَقْبَل دُون الْأَرْبَعَة، وَإِنْ اِخْتَلَفُوا فِي صِفَاتهمْ، وَأَجْمَعُوا عَلَى وُجُوب الرَّجْم عَلَى مَنْ اِعْتَرَفَ بِالزِّنَا وَهُوَ مُحْصَن يَصِحّ إِقْرَاره بِالْحَدِّ، وَاخْتَلَفُوا فِي اِشْتِرَاط تَكْرَار إِقْرَاره أَرْبَع مَرَّات، وَسَنَذْكُرُهُ قَرِيبًا إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى.
وَأَمَّا الْحَبَل وَحْده فَمَذْهَب عُمَر بْن الْخَطَّاب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ وُجُوب الْحَدّ بِهِ، إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا زَوْج وَلَا سَيِّد، وَتَابَعَهُ مَالِك وَأَصْحَابه فَقَالُوا: إِذَا حَبِلَتْ وَلَمْ يُعْلَم لَهَا زَوْج وَلَا سَيِّد وَلَا عَرَفْنَا إِكْرَاههَا لَزِمَهَا الْحَدّ إِلَّا أَنْ تَكُون غَرِيبَة طَارِئَة، وَتَدَّعِي أَنَّهُ مِنْ زَوْج أَوْ سَيِّد، قَالُوا: وَلَا تُقْبَل دَعْوَاهَا الْإِكْرَاه إِذَا لَمْ تُقِمْ بِذَلِكَ مُسْتَغِيثَة عِنْد الْإِكْرَاه قَبْل ظُهُور الْحَمْل، وَقَالَ الشَّافِعِيّ وَأَبُو حَنِيفَة وَجَمَاهِير الْعُلَمَاء: لَا حَدَّ عَلَيْهَا بِمُجَرَّدِ الْحَبَل سَوَاء لَهَا زَوْج أَوْ سَيِّد أَمْ لَا، سَوَاء الْغَرِيبَة وَغَيْرهَا، وَسَوَاء اِدَّعَتْ الْإِكْرَاه أَمْ سَكَتَتْ فَلَا حَدَّ عَلَيْهَا مُطْلَقًا إِلَّا بِبَيِّنَةٍ أَوْ اِعْتِرَاف؛ لِأَنَّ الْحُدُود تَسْقُط بِالشُّبُهَاتِ.

.باب مَنِ اعْتَرَفَ عَلَى نَفْسِهِ بِالزِّنَا:

3202- قَوْله فِي الرَّجُل الَّذِي اِعْتَرَفَ بِالزِّنَا: «فَأَعْرَضَ عَنْهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَاءَهُ مِنْ جَوَانِبه حَتَّى أَقَرَّ أَرْبَع مَرَّات فَسَأَلَهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ بِهِ جُنُون؟ فَقَالَ: لَا. فَقَالَ: هَلْ أُحْصِنْت؟ قَالَ: نَعَمْ فَقَالَ: اِذْهَبُوا بِهِ فَارْجُمُوهُ». اِحْتَجَّ بِهِ أَبُو حَنِيفَة وَسَائِر الْكُوفِيِّينَ وَأَحْمَد وَمُوَافِقُوهُمَا فِي أَنَّ الْإِقْرَار بِالزِّنَا لَا يَثْبُت، وَيُرْجَم بِهِ الْمُقِرّ حَتَّى يُقِرَّ أَرْبَع مَرَّات، وَقَالَ مَالِك وَالشَّافِعِيّ وَآخَرُونَ: يَثْبُت الْإِقْرَار بِهِ بِمَرَّةٍ وَاحِدَة وَيُرْجَم، وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَاغْدُ يَا أُنَيْس عَلَى اِمْرَأَة هَذَا فَإِنْ اِعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا» وَلَمْ يَشْتَرِط عَدَدًا، وَحَدِيث الْغَامِدِيَّة لَيْسَ فيه إِقْرَارهَا أَرْبَع مَرَّات، وَاشْتَرَطَ اِبْن أَبِي لَيْلَى وَغَيْره مِنْ الْعُلَمَاء إِقْرَاره أَرْبَع مَرَّات فِي أَرْبَع مَجَالِس.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَبِكَ جُنُون؟» إِمَّا قَالَهُ لِيَتَحَقَّق حَاله، فَإِنَّ الْغَالِب أَنَّ الْإِنْسَان لَا يُصِرّ عَلَى الْإِقْرَار بِمَا يَقْتَضِي قَتْله مِنْ غَيْر سُؤَال، مَعَ أَنَّ لَهُ طَرِيقًا إِلَى سُقُوط الْإِثْم بِالتَّوْبَةِ، وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: «أَنَّهُ سَأَلَ قَوْمه عَنْهُ فَقَالُوا: مَا نَعْلَم بِهِ بَأْسًا»، وَهَذَا مُبَالَغَة فِي تَحْقِيق حَاله، وَفِي صِيَانَة دَم الْمُسْلِم، وَفيه إِشَارَة إِلَى أَنَّ إِقْرَار الْمَجْنُون بَاطِل، وَأَنَّ الْحُدُود لَا تَجِب عَلَيْهِ، وَهَذَا كُلّه مُجْمَع عَلَيْهِ.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هَلْ أُحْصِنْت؟» فيه أَنَّ الْإِمَام يَسْأَل عَنْ شُرُوط الرَّجْم مِنْ الْإِحْصَان وَغَيْره، سَوَاء ثَبَتَ بِالْإِقْرَارِ أَمْ بِالْبَيِّنَةِ، وَفيه مُؤَاخَذَة الْإِنْسَان بِإِقْرَارِهِ.
قَوْله: «حَتَّى ثَنَى ذَلِكَ عَلَيْهِ أَرْبَع مَرَّات» هُوَ بِتَخْفِيفِ النُّون أَيْ كَرَّرَهُ أَرْبَع مَرَّات.
وَفيه: التَّعْرِيض لِلْمُقِرِّ بِالزِّنَا بِأَنْ يَرْجِع وَيُقْبَل رُجُوعه بِلَا خِلَاف.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اِذْهَبُوا بِهِ فَارْجُمُوهُ» فيه جَوَاز اِسْتِنَابَة الْإِمَام مَنْ يُقِيم الْحَدّ، قَالَ الْعُلَمَاء: لَا يَسْتَوْفِي الْحَدّ إِلَّا الْإِمَام أَوْ مَنْ فَوَّضَ ذَلِكَ إِلَيْهِ، وَفيه دَلِيل عَلَى أَنَّهُ يَكْفِي الرَّجْم، وَلَا يُجْلَد مَعَهُ، وَقَدْ سَبَقَ بَيَان الْخِلَاف فِي هَذَا.
قَوْله: «فَرَجَمْنَاهُ بِالْمُصَلَّى» قَالَ الْبُخَارِيّ وَغَيْره مِنْ الْعُلَمَاء: فيه دَلِيل عَلَى أَنَّ مُصَلَّى الْجَنَائِز وَالْأَعْيَاد إِذَا لَمْ يَكُنْ قَدْ وُقِفَ مَسْجِدًا لَا يَثْبُت لَهُ حُكْم الْمَسْجِد، إِذْ لَوْ كَانَ لَهُ حُكْم الْمَسْجِد تُجُنِّبَ الرَّجْم فيه وَتَلَطُّخه بِالدِّمَاءِ وَالْمَيْتَة، قَالُوا: وَالْمُرَاد بِالْمُصَلَّى هُنَا مُصَلَّى الْجَنَائِز، وَلِهَذَا قَالَ فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: «فِي بَقِيع الْغَرْقَد» وَهُوَ مَوْضِع الْجَنَائِز بِالْمَدِينَةِ، وَذَكَرَ الدَّارِمِيُّ مِنْ أَصْحَابنَا أَنَّ الْمُصَلَّى الَّذِي لِلْعِيدِ وَلِغَيْرِهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ مَسْجِدًا هَلْ يَثْبُت لَهُ حُكْم الْمَسْجِد؟ فيه وَجْهَانِ: أَصَحّهمَا: لَيْسَ لَهُ حُكْم الْمَسْجِد. وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله: «فَلَمَّا أَذْلَقَتْهُ الْحِجَارَة هَرَبَ» هُوَ بِالذَّالِ الْمُعْجَمَة وَبِالْقَافِ أَيْ أَصَابَتْهُ بِحَدِّهَا.
قَوْله: «فَأَدْرَكْنَاهُ بِالْحَرَّةِ فَرَجَمْنَاهُ» اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي الْمُحْصَن إِذَا أَقَرَّ بِالزِّنَا فَشَرَعُوا فِي رَجْمه ثُمَّ هَرَبَ، هَلْ يُتْرَك أَمْ يُتْبَع لِيُقَامَ عَلَيْهِ الْحَدّ؟ فَقَالَ الشَّافِعِيّ وَأَحْمَد وَغَيْرهمَا: يُتْرَك وَلَا يُتْبَع لِكَيْ أَنْ يُقَال لَهُ بَعْد ذَلِكَ، فَإِنْ رَجَعَ عَنْ الْإِقْرَار تُرِكَ، وَإِنْ أَعَادَ رُجِمَ، وَقَالَ مَالِك فِي رِوَايَة وَغَيْره: أَنَّهُ يُتْبَع وَيُرْجَم، وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيّ وَمُوَافِقُوهُ بِمَا جَاءَ فِي رِوَايَة أَبِي دَاوُدَ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَلَا تَرَكْتُمُوهُ حَتَّى أَنْظُر فِي شَأْنه»، وَفِي رِوَايَة: «هَلَّا تَرَكْتُمُوهُ فَلَعَلَّهُ يَتُوب فَيَتُوب اللَّه عَلَيْهِ» وَاحْتَجَّ الْآخَرُونَ بِأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُلْزِمهُمْ ذَنْبه مَعَ أَنَّهُمْ قَتَلُوهُ بَعْد هَرَبَهُ، وَأَجَابَ الشَّافِعِيّ وَمُوَافِقُوهُ عَنْ هَذَا بِأَنَّهُ لَمْ يُصَرِّح بِالرُّجُوعِ، وَقَدْ ثَبَتَ إِقْرَاره فَلَا يَتْرُكهُ حَتَّى يُصَرِّح بِالرُّجُوعِ، قَالُوا: وَإِنَّمَا قُلْنَا: لَا يُتْبَع فِي هَرَبه لَعَلَّهُ يُرِيد الرُّجُوع، وَلَمْ نَقُلْ إِنَّهُ سَقَطَ الرَّجْم بِمُجَرَّدِ الْهَرَب. وَاللَّهُ أَعْلَم.
3203- قَوْله: «رَجُل قَصِير أَعْضَل» هُوَ بِالضَّادِ الْمُعْجَمَة، أَيْ مُشْتَدّ الْخَلْق.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَلَعَلَّك. قَالَ: لَا. وَاَللَّه إِنَّهُ قَدْ زَنَى الْآخَر» مَعْنَى هَذَا الْكَلَام الْإِشَارَة إِلَى تَلْقِينه الرُّجُوع عَنْ الْإِقْرَار بِالزِّنَا، وَاعْتِذَاره بِشُبْهَةٍ يَتَعَلَّق بِهَا، كَمَا جَاءَ فِي الرِّوَايَة: الْأُخْرَى: «لَعَلَّك قَبَّلْت أَوْ غَمَزْت» فَاقْتَصَرَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَة عَلَى: «لَعَلَّك» اِخْتِصَارًا وَتَنْبِيهًا وَاكْتِفَاء بِدَلَالَةِ الْكَلَام وَالْحَال عَلَى الْمَحْذُوف، أَيْ لَعَلَّك قَبَّلْت أَوْ نَحْو ذَلِكَ. فَفيه اِسْتِحْبَاب تَلْقِين الْمُقِرّ بِحَدِّ الزِّنَا وَالسَّرِقَة وَغَيْرهمَا مِنْ حُدُود اللَّه تَعَالَى، وَأَنَّهُ يُقْبَل رُجُوعه عَنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْحُدُود مَبْنِيَّة عَلَى الْمُسَاهَلَة وَالدَّرْء بِخِلَافِ حُقُوق الْآدَمِيِّينَ وَحُقُوق اللَّه تَعَالَى الْمَالِيَّة كَالزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَة وَغَيْرهمَا لَا يَجُوز التَّلْقِين فيها، وَلَوْ رَجَعَ لَمْ يُقْبَل رُجُوعه، وَقَدْ جَاءَ تَلْقِين الرُّجُوع عَنْ الْإِقْرَار بِالْحُدُودِ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَنْ الْخُلَفَاء الرَّاشِدِينَ وَمَنْ بَعْدهمْ، وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاء عَلَيْهِ.
قَوْله: «إِنَّهُ قَدْ زَنَى الْآخَر» وَهُوَ بِهَمْزَةٍ مَقْصُورَة وَخَاء مَكْسُورَة، وَمَعْنَاهُ: الْأَرْذَل وَالْأَبْعَد وَالْأَدْنَى، وَقِيلَ: اللَّئِيم، وَقِيلَ: الشَّقِيّ، وَكُلّه مُتَقَارِب وَمُرَاده نَفْسه فَحَقَّرَهَا وَعَابَهَا، لاسيما وَقَدْ فَعَلَ هَذِهِ الْفَاحِشَة، وَقِيلَ: إِنَّهَا كِنَايَة يُكَنِّي بِهَا عَنْ نَفْسه وَعَنْ غَيْره إِذَا أَخْبَرَ عَنْهُ بِمَا يُسْتَقْبَح.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلَا كُلَّمَا نَفَرْنَا فِي سَبِيل اللَّه خَلَفَ أَحَدهمْ لَهُ نَبِيب كَنَبِيبِ التَّيْس يَمْنَح أَحَدهمْ الْكُثْبَة»، وَفِي بَعْض النُّسَخ: «إِحْدَاهُنَّ» بَدَل أَحَدهمْ، وَنَبِيب التَّيْس: صَوْته عِنْد السِّفَاد، وَيَمْنَح بِفَتْحِ الْيَاء وَالنُّون أَيْ يُعْطِي، وَالْكُثْبَة: بِضَمِّ الْكَاف وَإِسْكَان الْمُثَلَّثَة، الْقَلِيل مِنْ اللَّبَن وَغَيْره.
3204- قَوْله: «أُتِيَ بِرَجُلٍ قَصِير أَشْعَث ذِي عَضَلَات» هُوَ بِفَتْحِ الْعَيْن وَالضَّاد، قَالَ أَهْل اللُّغَة: الْعَضَلَة: كُلّ لَحْمَة صُلْبَة مُكْتَنَزَة.
قَوْله: «تَخَلَّفَ أَحَدكُمْ يَنِبّ» هُوَ بِفَتْحٍ وَكَسْر النُّون وَتَشْدِيد الْبَاء الْمُوَحَّدَة.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِلَّا جَعَلْته نَكَالًا» أَيْ عِظَة وَعِبْرَة لِمَنْ بَعْده بِمَا أَصَبْته مِنْهُ مِنْ الْعُقُوبَة لِيَمْتَنِعُوا مِنْ تِلْكَ الْفَاحِشَة.
3205- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَاعِزٍ: «أَحَقُّ مَا بَلَغَنِي عَنْك؟ قَالَ: وَمَا بَلَغَك عَنِّي؟. قَالَ: بَلَغَنِي عَنْك أَنَّك وَقَعَتْ بِجَارِيَةِ آلِ فُلَان، قَالَ: نَعَمْ، فَشَهِدَ أَرْبَع شَهَادَات ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَرُجِمَ» هَكَذَا وَقَعَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَة، وَالْمَشْهُور فِي بَاقِي الرِّوَايَات: «أَنَّهُ أَتَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: طَهِّرْنِي»، قَالَ الْعُلَمَاء: لَا تَنَاقُضَ بَيْن الرِّوَايَات، فَيَكُون قَدْ جِيءَ بِهِ إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَيْر اِسْتِدْعَاء مِنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ جَاءَ فِي غَيْر مُسْلِم: «أَنَّ قَوْمه أَرْسَلُوهُ إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلَّذِي أَرْسَلَهُ: لَوْ سَتَرْته بِثَوْبِك يَا هُزَال لَكَانَ خَيْرًا لَك»، وَكَانَ مَاعِز عِنْد هُزَال، فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَاعِزٍ بَعْد أَنْ ذَكَرَ لَهُ الَّذِينَ حَضَرُوا مَعَهُ مَا جَرَى لَهُ: «أَحَقُّ مَا بَلَغَنِي عَنْك؟» إِلَى آخِرِهِ.
3206- قَوْله: «فَمَا أَوْثَقنَا وَلَا حَفَرْنَا لَهُ»، وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى فِي صَحِيح مُسْلِم: «فَلَمَّا كَانَ الرَّابِعَة حَفَرَ لَهُ حُفْرَة ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَرُجِمَ» وَذَكَرَ بَعْده فِي حَدِيث الْغَامِدِيَّة: «ثُمَّ أَمَرَ بِهَا فَحُفِرَ لَهَا إِلَى صَدْرهَا، وَأَمَرَ النَّاس فَرَجَمُوهَا».
أَمَّا قَوْله: «فَمَا أَوْثَقْنَاهُ» فَهَكَذَا الْحُكْم عِنْد الْفُقَهَاء، وَأَمَّا الْحَفْر لِلْمَرْجُومِ وَالْمَرْجُومَة فَفيه مَذَاهِب لِلْعُلَمَاءِ، قَالَ مَالِك وَأَبُو حَنِيفَة وَأَحْمَد رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ فِي الْمَشْهُور عَنْهُمْ: لَا يُحْفَر لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَقَالَ قَتَادَةُ وَأَبُو ثَوْر وَأَبُو يُوسُف وَأَبُو حَنِيفَة فِي رِوَايَة: يُحْفَر لَهُمَا، وَقَالَ بَعْض الْمَالِكِيَّة: يُحْفَر لِمَنْ يُرْجَم بِالْبَيِّنَةِ، لَا مَنْ يُرْجَم بِالْإِقْرَارِ.
وَأَمَّا أَصْحَابنَا فَقَالُوا: لَا يُحْفَر لِلرَّجُلِ سَوَاء ثَبَتَ زِنَاهُ بِالْبَيِّنَةِ أَمْ بِالْإِقْرَارِ، وَأَمَّا الْمَرْأَة فَفيها ثَلَاثَة أَوْجُه لِأَصْحَابِنَا: أَحَدهَا: يُسْتَحَبّ الْحَفْر لَهَا إِلَى صَدْرهَا لِيَكُونَ أَسْتَر لَهَا.
وَالثَّانِي: لَا يُسْتَحَبّ وَلَا يُكْرَه، بَلْ هُوَ إِلَى خِيَرَة الْإِمَام. وَالثَّالِث- وَهُوَ الْأَصَحّ-: إِنْ ثَبَتَ زِنَاهَا بِالْبَيِّنَةِ اُسْتُحِبَّ، وَإِنْ ثَبَتَ بِالْإِقْرَارِ فَلَا لِيُمْكِنهَا الْهَرَب إِنْ رَجَعَتْ، فَمَنْ قَالَ بِالْحَفْرِ لَهُمَا اِحْتَجَّ بِأَنَّهُ حَفَرَ لِلْغَامِدِيَّةِ، وَكَذَا لِمَاعِزٍ فِي رِوَايَة، وَيُجِيب هَؤُلَاءِ عَنْ الرِّوَايَة الْأُخْرَى فِي مَاعِز أَنَّهُ لَمْ يَحْفِر لَهُ أَنَّ الْمُرَاد حَفِيرَة عَظِيمَة أَوْ غَيْر ذَلِكَ مِنْ تَخْصِيص الْحَفِيرَة، وَأَمَّا مَنْ قَالَ: لَا يَحْفِر فَاحْتَجَّ بِرِوَايَةِ مَنْ رَوَى: «فَمَا أَوْثَقْنَاهُ وَلَا حَفَرْنَا لَهُ»، وَهَذَا الْمَذْهَب ضَعِيف؛ لِأَنَّهُ مُنَابِذ لِحَدِيثِ الْغَامِدِيَّة، وَلِرِوَايَةِ الْحَفْر لِمَاعِزٍ، وَأَمَّا مِنْ قَالَ بِالتَّخْيِيرِ فَظَاهِر، وَأَمَّا مَنْ فَرَّقَ بَيْن الرَّجُل وَالْمَرْأَة فَيَحْمِل رِوَايَة الْحَفْر لِمَاعِزٍ عَلَى أَنَّهُ لِبَيَانِ الْجَوَاز، وَهَذَا تَأْوِيل ضَعِيف، وَمِمَّا اِحْتَجَّ بِهِ مَنْ تَرَكَ الْحَفْر حَدِيث الْيَهُودِيَّيْنِ الْمَذْكُور بَعْد هَذَا.
وَقَوْله: «جَعَلَ يَجْنَأ عَلَيْهَا» وَلَوْ حَفَرَ لَهُمَا لَمْ يَجْنَأ عَلَيْهَا وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِقَوْلِهِ فِي حَدِيث مَاعِز: «فَلَمَّا أَذْلَقَتْهُ الْحِجَارَة هَرَبَ» وَهَذَا ظَاهِر، فِي أَنَّهُ لَمْ تَكُنْ حُفْرَة. وَاللَّهُ أَعْلَم.
قَوْله: «فَرَمَيْنَاهُ بِالْعِظَامِ وَالْمَدَر وَالْخَزَف» هَذَا دَلِيل لِمَا اِتَّفَقَ عَلَيْهِ الْعُلَمَاء أَنَّ الرَّجْم يَحْصُل بِالْحَجَرِ أَوْ الْمَدَر أَوْ الْعِظَام أَوْ الْخَزَف أَوْ الْخَشَب وَغَيْر ذَلِكَ مِمَّا يَحْصُل بِهِ الْقَتْل، وَلَا تَتَعَيَّن الْأَحْجَار، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ثُمَّ رَجْمًا بِالْحِجَارَةِ» لَيْسَ هُوَ لِلِاشْتِرَاطِ، قَالَ أَهْل اللُّغَة: الْخَزَف قَطْع الْفُخَّار الْمُنْكَسِر.
قَوْله: «حَتَّى أَتَى عُرْض الْحَرَّة» هُوَ بِضَمِّ الْعَيْن أَيْ جَانِبهَا.
قَوْله: «فَرَمَيْنَاهُ بِجَلَامِيد الْحَرَّة» أَيْ الْحِجَارَة الْكِبَار، وَاحِدهَا: جَلْمَد، بِفَتْحِ الْجِيم وَالْمِيم، وَجُلْمُود بِضَمِّ الْجِيم.
قَوْله: «حَتَّى سَكَتَ» هُوَ بِالتَّاءِ فِي آخِره هَذَا هُوَ الْمَشْهُور فِي الرِّوَايَات، قَالَ الْقَاضِي: وَرَوَاهُ بَعْضهمْ: «سَكَنَ» بِالنُّونِ، وَالْأَوَّل الصَّوَاب، وَمَعْنَاهُمَا مَاتَ.
قَوْله: «فَمَا اِسْتَغْفَرَ لَهُ وَلَا سَبَّهُ» أَمَّا عَدَم السَّبّ فَلِأَنَّ الْحَدّ كَفَّارَة لَهُ مَطْهَرَة لَهُ مِنْ مَعْصِيَته، وَأَمَّا عَدَم الِاسْتِغْفَار فَلِئَلَّا يَغْتَرّ غَيْره فَيَقَع فِي الزِّنَا اِتِّكَالًا عَلَى اِسْتِغْفَار رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
3207- قَوْله: «جَاءَ مَاعِز بْن مَالِك إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُول اللَّه طَهِّرْنِي، فَقَالَ: وَيْحك اِرْجِعْ فَاسْتَغْفِرْ اللَّه وَتُبْ إِلَيْهِ، فَرَجَعَ غَيْر بَعِيد ثُمَّ جَاءَ فَقَالَ: يَا رَسُول اللَّه طَهِّرْنِي... إِلَى آخِره» وَمِثْله فِي حَدِيث الْغَامِدِيَّة: «قَالَتْ: طَهِّرْنِي، قَالَ: وَيْحك اِرْجِعِي فَاسْتَغْفِرِي اللَّه وَتُوبِي إِلَيْهِ» هَذَا دَلِيل عَلَى أَنَّ الْحَدّ يُكَفِّر ذَنْب الْمَعْصِيَة الَّتِي حُدَّ لَهَا، وَقَدْ جَاءَ ذَلِكَ صَرِيحًا فِي حَدِيث عُبَادَةَ بْن الصَّامِت رَضِيَ اللَّه عَنْهُ، وَهُوَ قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ فَعَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَعُوقِبَ بِهِ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ كَفَّارَته» وَلَا نَعْلَم فِي هَذَا خِلَافًا. وَفِي هَذَا الْحَدِيث دَلِيل عَلَى سُقُوط إِثْم الْمَعَاصِي الْكَبَائِر بِالتَّوْبَةِ، وَهُوَ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ إِلَّا مَا قَدَّمْنَاهُ عَنْ اِبْن عَبَّاس فِي تَوْبَة الْقَاتِل خَاصَّة. وَاللَّهُ أَعْلَم. فَإِنْ قِيلَ: فَمَا بَال مَاعِز وَالْغَامِدِيَّة لَمْ يَقْنَعَا بِالتَّوْبَةِ وَهِيَ مُحَصِّلَة لِغَرَضِهِمَا وَهُوَ سُقُوط الْإِثْم، بَلْ أَصَرَّا عَلَى الْإِقْرَار وَاخْتَارَا الرَّجْم؟ فَالْجَوَاب: أَنَّ تَحْصِيل الْبَرَاءَة بِالْحُدُودِ وَسُقُوط الْإِثْم مُتَيَقَّن عَلَى كُلّ حَال لاسيما وَإِقَامَة الْحَدّ بِأَمْرِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَمَّا التَّوْبَة فَيُخَاف أَنْ لَا تَكُون نَصُوحًا، وَأَنْ يُخِلّ بِشَيْءٍ مِنْ شُرُوطهَا، فَتَبْقَى الْمَعْصِيَة وَإِثْمهَا دَائِمًا عَلَيْهِ، فَأَرَادَا حُصُول الْبَرَاءَة بِطَرِيقٍ مُتَيَقَّن دُون مَا يَتَطَرَّق إِلَيْهِ اِحْتِمَال. وَاللَّهُ أَعْلَم.
وَرُوِّينَا عَنْ الْحَسَن الْبَصْرِيّ قَالَ: وَيْح: كَلِمَة رَحْمَة، وَاللَّهُ أَعْلَم.
وَقَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فِيمَ أُطَهِّرك؟ قَالَ: مِنْ الزِّنَا» هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيع النُّسَخ (فِيمَ) بِالْفَاءِ وَالْيَاء وَهُوَ صَحِيح، وَتَكُون فِي هُنَا لِلسَّبَبِيَّةِ أَيْ بِسَبَبِ مَاذَا أُطَهِّرك.
قَوْله فِي إِسْنَاد هَذَا الْحَدِيث: (حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْعَلَاء الْهَمْدَانِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَعْلَى، وَهُوَ اِبْن الْحَارِث الْمُحَارِبِيّ، عَنْ غَيْلَان وَهُوَ اِبْن جَامِع الْمُحَارِبِيّ، عَنْ عَلْقَمَة) هَكَذَا فِي النُّسَخ (عَنْ يَحْيَى بْن يَعْلَى عَنْ غَيْلَان) قَالَ الْقَاضِي: وَالصَّوَاب مَا وَقَعَ فِي نُسْخَة الدِّمَشْقِيّ (عَنْ يَحْيَى بْن يَعْلَى عَنْ أَبِيهِ عَنْ غَيْلَان) فَزَادَ فِي الْإِسْنَاد عَنْ أَبِيهِ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ فِي كِتَاب السُّنَن وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيث يَحْيَى بْن يَعْلَى عَنْ أَبِيهِ عَنْ غَيْلَان، وَهُوَ الصَّوَاب، وَقَدْ نَبَّهَ فِي كِتَاب السُّنَن وَالنَّسَائِيِّ مِنْ حَدِيث يَحْيَى بْن يَعْلَى عَنْ أَبِيهِ عَنْ غَيْلَان، وَهُوَ الصَّوَاب، وَقَدْ نَبَّهَ عَبْد الْغَنِيّ عَلَى السَّاقِط مِنْ هَذَا الْإِسْنَاد فِي نُسْخَة أَبِي الْعَلَاء بْن مَاهَانَ، وَوَقَعَ فِي كِتَاب الزَّكَاة مِنْ السُّنَن لِأَبِي دَاوُدَ: حَدَّثَنَا عُثْمَان بْن شَيْبَة حَدَّثَنَا يَحْيَى بْن يَعْلَى حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا غَيْلَان عَنْ جَعْفَر عَنْ مُجَاهِد عَنْ اِبْن عَبَّاس، قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: {وَاَلَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَب وَالْفِضَّة} الْآيَة. فَهَذَا السَّنَد يَشْهَد بِصِحَّةِ مَا تَقَدَّمَ، قَالَ الْبُخَارِيّ فِي تَارِيخه: يَحْيَى بْن يَعْلَى سَمِعَ أَبَاهُ وَزَائِدَة بْن قُدَامَةَ، هَذَا آخِر كَلَام الْقَاضِي وَهُوَ الصَّحِيح كَمَا قَالَ، وَلَمْ يَذْكُر أَحَد سَمَاعًا لِيَحْيَى بْن يَعْلَى هَذَا مِنْ غَيْلَان، بَلْ قَالُوا: سَمِعَ أَبَاهُ وَزَائِدَة.
قَوْله: «فَقَالَ أَشَرِبَ خَمْرًا؟ فَقَامَ رَجُل فَاسْتَنْهَكَهُ فَلَمْ يَجِد مِنْهُ رِيح خَمْر» مَذْهَبنَا الصَّحِيح الْمَشْهُور صِحَّة إِقْرَار السَّكْرَان وَنُفُوذ أَقْوَاله فِيمَا لَهُ وَعَلَيْهِ، وَالسُّؤَال عَنْ شُرْبه الْخَمْر مَحْمُول عِنْدنَا أَنَّهُ لَوْ كَانَ سَكْرَان لَمْ يُقِمْ عَلَيْهِ الْحَدّ، وَمَعْنَى اسْتَنْكَهَهُ أَيْ شَمَّ رَائِحَة فَمه، وَاحْتَجَّ أَصْحَاب مَالِك وَجُمْهُور الْحِجَازِيِّينَ أَنَّهُ يُحَدّ مَنْ وُجِدَ مِنْهُ رِيح الْخَمْر وَإِنْ لَمْ تَقُمْ عَلَيْهِ بَيِّنَة بِشُرْبِهَا، وَلَا أَقَرَّ بِهِ، وَمَذْهَب الشَّافِعِيّ وَأَبِي حَنِيفَة وَغَيْرهمَا: لَا يُحَدّ بِمُجَرَّدِ رِيحهَا، بَلْ لابد مِنْ بَيِّنَة عَلَى شُرْبه أَوْ إِقْرَاره، وَلَيْسَ فِي هَذَا الْحَدِيث دَلَالَة لِأَصْحَابِ مَالِك.
قَوْله: «جَاءَتْ اِمْرَأَة مِنْ غَامِد» هِيَ بِغَيْنٍ مُعْجَمَة وَدَال مُهْمَلَة وَهِيَ بَطْن مِنْ جُهَيْنَة.
قَوْله: «فَقَالَ لَهَا: حَتَّى تَضَعِي مَا فِي بَطْنك» فيه: أَنَّهُ لَا تُرْجَم الْحُبْلَى حَتَّى تَضَع، سَوَاء كَانَ حَمْلهَا مِنْ زِنًا أَوْ غَيْره، وَهَذَا مُجْمَع عَلَيْهِ لِئَلَّا يُقْتَل جَنِينهَا، وَكَذَا لَوْ كَانَ حَدّهَا الْجَلْد وَهِيَ حَامِل لَمْ تُجْلَد بِالْإِجْمَاعِ حَتَّى تَضَع.
وَفيه: أَنَّ الْمَرْأَة تُرْجَم إِذَا زَنَتْ وَهِيَ مُحْصَنَة كَمَا يُرْجَم الرَّجُل، وَهَذَا الْحَدِيث مَحْمُول عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ مُحْصَنَة؛ لِأَنَّ الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة وَالْإِجْمَاع مُتَطَابِقَانِ عَلَى أَنَّهُ لَا يُرْجَم غَيْر الْمُحْصَن.
وَفيه: أَنَّ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهَا قِصَاص وَهِيَ حَامِل لَا يُقْتَصّ مِنْهَا حَتَّى تَضَع، وَهَذَا مُجْمَع عَلَيْهِ، ثُمَّ لَا تُرْجَم الْحَامِل الزَّانِيَة وَلَا يُقْتَصّ مِنْهَا بَعْد وَضْعهَا حَتَّى تَسْقِي وَلَدهَا اللَّبَن وَيَسْتَغْنِي عَنْهَا بِلَبَنِ غَيْرهَا. وَفيه: أَنَّ الْحَمْل يُعْرَف وَيُحْكَم بِهِ: وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح فِي مَذْهَبنَا.
قَوْله: «فَكَفَلَهَا رَجُل مِنْ الْأَنْصَار حَتَّى وَضَعَتْ» أَيْ قَامَ بِمُؤْنَتِهَا وَمَصَالِحهَا، وَلَيْسَ هُوَ مِنْ الْكَفَالَة الَّتِي هِيَ بِمَعْنَى الضَّمَان؛ لِأَنَّ هَذَا لَا يَجُوز فِي الْحُدُود الَّتِي لِلَّهِ تَعَالَى.
قَوْله: «لَمَّا وَضَعَتْ قِيلَ: قَدْ وَضَعَتْ الْغَامِدِيَّة، فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إذًا لَا نَرْجُمهَا وَنَدَع وَلَدهَا صَغِيرًا لَيْسَ لَهُ مَنْ يَرْضِعهُ، فَقَامَ رَجُل مِنْ الْأَنْصَار فَقَالَ: إِلَيَّ رَضَاعه يَا نَبِيّ اللَّه قَالَ: فَرَجَمَهَا»، وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: «أَنَّهَا لَمَّا وَلَدَتْ جَاءَتْ بِالصَّبِيِّ فِي خِرْقَة قَالَتْ: هَذَا قَدْ وَلَدْته، قَالَ: فَاذْهَبِي فَأَرْضِعِيهِ حَتَّى تَفْطِمِيهِ، فَلَمَّا فَطَمَتْهُ أَتَتْهُ بِالصَّبِيِّ فِي يَده كِسْرَة خُبْز فَقَالَتْ: يَا نَبِيّ اللَّه هَذَا قَدْ فَطَمَتْهُ وَقَدْ أَكَلَ الطَّعَام، فَدَفَعَ الصَّبِيّ إِلَى رَجُل مِنْ الْمُسْلِمِينَ ثُمَّ أَمَرَ بِهَا فَرَجَمُوهَا» فَهَاتَانِ الرِّوَايَتَانِ ظَاهِرهمَا الِاخْتِلَاف، فَإِنَّ الثَّانِيَة صَرِيحَة فِي أَنَّ رَجْمهَا كَانَ بَعْد فِطَامه وَأَكْله الْخُبْز، وَالْأُولَى ظَاهِرهَا أَنَّهُ رَجَمَهَا عَقِب الْوِلَادَة، وَيَجِب تَأْوِيل الْأُولَى وَحَمْلهَا عَلَى وَفْق الثَّانِيَة؛ لِأَنَّهَا قَضِيَّة وَاحِدَة، وَالرِّوَايَتَانِ صَحِيحَتَانِ، وَالثَّانِيَة مِنْهُمَا صَرِيحَة لَا يُمْكِن تَأْوِيلهَا، وَالْأُولَى لَيْسَتْ صَرِيحَة فَيَتَعَيَّن تَأْوِيل الْأُولَى، وَيَكُون قَوْله فِي الرِّوَايَة الْأُولَى: «قَامَ رَجُل مِنْ الْأَنْصَار فَقَالَ: إِلَيَّ رَضَاعه» إِنَّمَا قَالَهُ بَعْد الْفِطَام، وَأَرَادَ بِالرَّضَاعَةِ كَفَالَته وَتَرْبِيَته، وَسَمَّاهُ رَضَاعًا مَجَازًا.
وَاعْلَمْ أَنَّ مَذْهَب الشَّافِعِيّ وَأَحْمَد وَإِسْحَاق وَالْمَشْهُور مِنْ مَذْهَب مَالِك: أَنَّهَا لَا تُرْجَم حَتَّى تَجِد مَنْ تُرْضِعهُ فَإِنْ لَمْ تَجِد أَرْضَعَتْهُ، حَتَّى تَفْطِمهُ ثُمَّ رُجِمَتْ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة وَمَالك فِي رِوَايَة عَنْهُ: إِذَا وَضَعَتْ رُجِمَتْ وَلَا يُنْتَظَر حُصُول مُرْضِعَة، وَأَمَّا هَذَا الْأَنْصَارِيّ الَّذِي كَفَلَهَا فَقَصَدَ مَصْلَحَة وَهُوَ الرِّفْق بِهَا وَمُسَاعَدَتهَا عَلَى تَعْجِيل طَهَارَتهَا بِالْحَدِّ لِمَا رَأَى بِهَا مِنْ الْحِرْص التَّامّ عَلَى تَعْجِيل ذَلِكَ، قَالَ أَهْل اللُّغَة: الْفِطَام قَطْع الْإِرْضَاع لِاسْتِغْنَاءِ الْوَلَد عَنْهُ.
3208- قَوْله: «قَالَ إِمَّا لَا فَاذْهَبِي حَتَّى تَلِدِي» هُوَ بِكَسْرِ الْهَمْزَة مِنْ (إِمَّا) وَتَشْدِيد الْمِيم وَبِالْإِمَالَةِ، وَمَعْنَاهُ إِذَا أَبَيْت أَنْ تَسْتُرِي عَلَى نَفْسك وَتَتُوبِي وَتَرْجِعِي عَنْ قَوْلك فَاذْهَبِي حَتَّى تَلِدِي فَتُرْجَمِينَ بَعْد ذَلِكَ، وَقَدْ سَبَقَ شَرْح هَذِهِ اللَّفْظَة مَبْسُوطًا.
قَوْله: «فَتَنَضَّحَ الدَّم عَلَى وَجْه خَالِد» رُوِيَ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَة وَبِالْمُعْجَمَةِ، وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى الْمُهْمَلَة، وَمَعْنَاهُ تَرَشَّشَ وَانْصَبَّ.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَقَدْ تَابَتْ تَوْبَة لَوْ تَابَهَا صَاحِب مَكْس لَغُفِرَ لَهُ» فيه: أَنَّ الْمَكْس مِنْ أَقْبَح الْمَعَاصِي وَالذُّنُوب الْمُوبِقَات، وَذَلِكَ لِكَثْرَةِ مُطَالَبَات النَّاس لَهُ وَظِلَامَاتهمْ عِنْده، وَتَكَرُّر ذَلِكَ مِنْهُ وَانْتِهَاكه لِلنَّاسِ وَأَخْذ أَمْوَالهمْ بِغَيْرِ حَقّهَا وَصَرْفهَا فِي غَيْر وَجْههَا. وَفيه أَنَّ تَوْبَة الزَّانِي لَا تُسْقِط عَنْهُ حَدّ الزِّنَا، وَكَذَا حُكْم حَدّ السَّرِقَة وَالشُّرْب. هَذَا أَصَحّ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبنَا وَمَذْهَب مَالِك. وَالثَّانِي أَنَّهَا تُسْقِط ذَلِكَ.
وَأَمَّا تَوْبَة الْمُحَارِب قَبْل الْقُدْرَة عَلَيْهِ فَتُسْقِط حَدّ الْمُحَارَبَة بِلَا خِلَاف عِنْدنَا، وَعِنْد اِبْن عَبَّاس وَغَيْره لَا تُسْقِط.
قَوْله: «ثُمَّ أَمَرَ بِهَا فَصَلَّى عَلَيْهَا ثُمَّ دُفِنَتْ» وَفِي الرِّوَايَة الثَّانِيَة: «أَمَرَ بِهَا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرُجِمَتْ ثُمَّ صَلَّى عَلَيْهَا، فَقَالَ لَهُ عُمَر: تُصَلِّي عَلَيْهَا يَا نَبِيّ اللَّه وَقَدْ زَنَتْ؟!!»، أَمَّا الرِّوَايَة الثَّانِيَة فَصَرِيحَة فِي أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى عَلَيْهَا، وَأَمَّا الرِّوَايَة الْأُولَى فَقَالَ الْقَاضِي عِيَاض رَضِيَ اللَّه عَنْهُ هِيَ بِفَتْحِ الصَّاد وَاللَّام عِنْد جَمَاهِير رُوَاة صَحِيح مُسْلِم، قَالَ: وَعِنْد الطَّبَرِيِّ بِضَمِّ الصَّاد، قَالَ: وَكَذَا هُوَ فِي رِوَايَة اِبْن أَبِي شَيْبَة وَأَبِي دَاوُدَ، قَالَ: وَفِي رِوَايَة لِأَبِي دَاوُدَ ثُمَّ أَمَرَهُمْ أَنْ يُصَلُّوا عَلَيْهَا، قَالَ الْقَاضِي: وَلَمْ يَذْكُر مُسْلِم صَلَاته صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَاعِز، وَقَدْ ذَكَرهَا الْبُخَارِيّ، وَقَدْ اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي الصَّلَاة عَلَى الْمَرْجُوم فَكَرِهَهَا مَالِك وَأَحْمَد لِلْإِمَامِ وَلِأَهْلِ الْفَضْل دُون بَاقِي النَّاس، وَيُصَلِّي عَلَيْهِ غَيْر الْإِمَام وَأَهْل الْفَضْل، قَالَ الشَّافِعِيّ وَآخَرُونَ: يُصَلِّي عَلَيْهِ الْإِمَام وَأَهْل الْفَضْل وَغَيْرهمْ، وَالْخِلَاف بَيْن الشَّافِعِيّ وَمَالِك إِنَّمَا هُوَ فِي الْإِمَام وَأَهْل الْفَضْل، وَأَمَّا غَيْرهمْ فَاتَّفَقَا عَلَى أَنَّهُ يُصَلِّي، وَبِهِ قَالَ جَمَاهِير الْعُلَمَاء، قَالُوا: فَيُصَلَّى عَلَى الْفُسَّاق وَالْمَقْتُولِينَ فِي الْحُدُود وَالْمُحَارَبَة وَغَيْرهمْ، وَقَالَ الزُّهْرِيّ: لَا يُصَلِّي أَحَد عَلَى الْمَرْجُوم وَقَاتِل نَفْسه، وَقَالَ قَتَادَةُ: لَا يُصَلَّى عَلَى وَلَد الزِّنَا، وَاحْتَجَّ الْجُمْهُور بِهَذَا الْحَدِيث.
وَفيه دَلَالَة لِلشَّافِعِيِّ أَنَّ الْإِمَام وَأَهْل الْفَضْل يُصَلُّونَ عَلَى الْمَرْجُوم كَمَا يُصَلِّي عَلَيْهِ غَيْرهمْ، وَأَجَابَ أَصْحَاب مَالِك عَنْهُ بِجَوَابَيْنِ: أَحَدهمَا: أَنَّهُمْ ضَعَّفُوا رِوَايَة الصَّلَاة لِكَوْنِ أَكْثَر الرُّوَاة لَمْ يَذْكُرُوهَا.
وَالثَّانِي: تَأَوَّلُوهَا عَلَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِالصَّلَاةِ أَوْ دَعَا فَسَمَّى صَلَاة عَلَى مُقْتَضَاهَا فِي اللُّغَة. وَهَذَانِ الْجَوَابَانِ فَاسِدَانِ؛ أَمَّا الْأَوَّل فَإِنَّ هَذِهِ الزِّيَادَة ثَابِتَة فِي الصَّحِيح، وَزِيَادَة الثِّقَة مَقْبُولَة، وَأَمَّا الثَّانِي فَهَذَا التَّأْوِيل مَرْدُود لِأَنَّ التَّأْوِيل إِنَّمَا يُصَار إِلَيْهِ إِذَا اِضْطَرَبَتْ الْأَدِلَّة الشَّرْعِيَّة إِلَى اِرْتِكَابه، وَلَيْسَ هُنَا شَيْء مِنْ ذَلِكَ، فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى ظَاهِره. وَاللَّهُ أَعْلَم.
3209- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِوَلِيِّ الْغَامِدِيَّة: «أَحْسِنْ إِلَيْهَا فَإِذَا وَضَعَتْ فَائْتِنِي بِهَا» هَذَا الْإِحْسَان لَهُ سَبَبَانِ: أَحَدهمَا الْخَوْف عَلَيْهَا مِنْ أَقَارِبهَا أَنْ تَحْمِلهُمْ الْغَيْرَة وَلُحُوق الْعَار بِهِمْ أَنْ يُؤْذُوهَا، فَأَوْصَى بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهَا تَحْذِيرًا لَهُمْ مِنْ ذَلِكَ.
وَالثَّانِي: أَمَرَ بِهِ رَحْمَة لَهَا إِذْ قَدْ تَابَتْ، وَحَرَّضَ عَلَى الْإِحْسَان إِلَيْهَا لِمَا فِي نُفُوس النَّاس مِنْ النُّفْرَة مِنْ مِثْلهَا، وَإِسْمَاعهَا الْكَلَام الْمُؤْذِي وَنَحْو ذَلِكَ فَنَهَى عَنْ هَذَا كُلّه.
قَوْله: «فَأَمَرَ بِهَا فَشُكَّتْ عَلَيْهَا ثِيَابهَا ثُمَّ أَمَرَ بِهَا فَرُجِمَتْ» هَكَذَا هُوَ فِي مُعْظَم النُّسَخ: «فَشُكَّتْ»، وَفِي بَعْضهَا: «فَشُدَّتْ» بِالدَّالِ بَدَل الْكَاف، وَهُوَ مَعْنَى الْأَوَّل، وَفِي هَذَا اِسْتِحْبَاب جَمْع أَثْوَابهَا عَلَيْهَا وَشَدّهَا بِحَيْثُ لَا تَنْكَشِف عَوْرَتهَا فِي تَقَلُّبهَا وَتَكْرَار اِضْطِرَابهَا، وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّهُ لَا تُرْجَم إِلَّا قَاعِدَة، وَأَمَّا الرَّجُل فَجُمْهُورهمْ عَلَى أَنَّهُ يُرْجَم قَائِمًا، وَقَالَ مَالِك: قَاعِدًا، وَقَالَ غَيْره: يُخَيَّر الْإِمَام بَيْنهمَا.
قَوْله فِي بَعْض الرِّوَايَات: «فَأَمَرَ بِهَا فَرُجِمَتْ»، وَفِي بَعْضهَا: «وَأَمَرَ النَّاس فَرَجَمُوهَا» وَفِي حَدِيث مَاعِز: «أَمَرَنَا أَنْ نَرْجُمهُ» وَنَحْو ذَلِكَ فيها كُلّهَا دَلَالَة لِمَذْهَبِ الشَّافِعِيّ وَمَالِك وَمُوَافِقِيهِمَا أَنَّهُ لَا يَلْزَم الْإِمَام حُضُور الرَّجْم، وَكَذَا لَوْ ثَبَتَ بِشُهُودٍ لَمْ يَلْزَمهُ الْحُضُور، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة وَأَحْمَد: يَحْضُر الْإِمَام مُطْلَقًا، وَكَذَا الشُّهُود إِنْ ثَبَتَ بِبَيِّنَةٍ، وَيَبْدَأ الْإِمَام بِالرَّجْمِ إِنْ ثَبَتَ بِالْإِقْرَارِ، وَإِنْ ثَبَتَ بِالشُّهُودِ بَدَأَ الشُّهُود، وَحُجَّة الشَّافِعِيّ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَحْضُر أَحَدًا مِمَّنْ رُجِمَ، وَاللَّهُ أَعْلَم.
3210- قَوْله: «أَنْشُدك اللَّه إِلَّا قَضَيْت لِي بِكِتَابِ اللَّه» مَعْنَى أَنْشُدك: أَسْأَلك رَافِعًا نَشِيدِي وَهُوَ صَوْتِي، وَهُوَ بِفَتْحِ الْهَمْزَة وَضَمّ الشِّين: وَقَوْله: «بِكِتَابِ اللَّه» أَيْ بِمَا تَضَمَّنَهُ كِتَاب اللَّه: وَفيه أَنَّهُ يُسْتَحَبّ لِلْقَاضِي أَنْ يَصْبِر عَلَى مَنْ يَقُول مِنْ جُفَاة الْخُصُوم: اُحْكُمْ بِالْحَقِّ بَيْننَا وَنَحْو ذَلِكَ.
قَوْله: «فَقَالَ الْخَصْم الْآخَر وَهُوَ أَفْقَه مِنْهُ» قَالَ الْعُلَمَاء يَجُوز أَنْ يَكُون أَرَادَ أَنَّهُ بِالْإِضَافَةِ أَكْثَر فِقْهًا مِنْهُ، وَيَحْتَمِل أَنَّ الْمُرَاد أَفْقَه مِنْهُ فِي هَذِهِ الْقَضِيَّة لِوَصْفِهِ إِيَّاهَا عَلَى وَجْههَا، وَيَحْتَمِل أَنَّهُ لِأَدَبِهِ وَاسْتِئْذَانه فِي الْكَلَام وَحَذَره مِنْ الْوُقُوع فِي النَّهْي فِي قَوْله تَعَالَى: {لَا تُقَدِّمُوا بَيْن يَدَيْ اللَّه وَرَسُوله} بِخِلَافِ خِطَاب الْأَوَّل فِي قَوْله: «أَنْشُدك اللَّه...» إِلَى آخِره فَإِنَّهُ مِنْ جَفَاء الْأَعْرَاب.
قَوْله: «إِنَّ اِبْنِي كَانَ عَسِيفًا عَلَى هَذَا» هُوَ بِالْعَيْنِ وَالسِّين الْمُهْمَلَتَيْنِ أَيْ أَجِيرًا، وَجَمْعه عُسَفَاء كَأَجِيرٍ وَأُجَرَاء، وَفَقِيه وَفُقَهَاء.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَأَقْضِيَنَّ بَيْنكُمَا بِكِتَابِ اللَّه» يَحْتَمِل أَنَّ الْمُرَاد بِحُكْمِ اللَّه، وَقِيلَ: هُوَ إِشَارَة إِلَى قَوْله تَعَالَى: {أَوْ يَجْعَل اللَّه لَهُنَّ سَبِيلًا} وَفَسَّرَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالرَّجْمِ فِي حَقّ الْمُحْصَن كَمَا سَبَقَ فِي حَدِيث عُبَادَةَ بْن الصَّامِت، وَقِيلَ: هُوَ إِشَارَة إِلَى آيَة: (الشَّيْخ وَالشَّيْخَة إِذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا) وَقَدْ سَبَقَ أَنَّهُ مِمَّا نُسِخَتْ تِلَاوَته وَبَقِيَ حُكْمه؛ فَعَلَى هَذَا يَكُون الْجَلْد قَدْ أَخَذَهُ مِنْ قَوْله تَعَالَى: {الزَّانِيَة وَالزَّانِي} وَقِيلَ: الْمُرَاد نَقْض صُلْحهمَا الْبَاطِل عَلَى الْغَنَم وَالْوَلِيدَة.
قَوْله: (فَسَأَلْت أَهْل الْعِلْم) فيه جَوَاز اِسْتِفْتَاء غَيْر النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي زَمَنه؛ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُنْكِر ذَلِكَ عَلَيْهِ.
وَفيه جَوَاز اِسْتِفْتَاء الْمَفْضُول مَعَ وُجُود أَفْضَل مِنْهُ.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْوَلِيدَة وَالْغَنَم رَدٌّ» أَيْ مَرْدُودَة، وَمَعْنَاهُ يَجِب رَدُّهَا إِلَيْك، وَفِي هَذَا أَنَّ الصُّلْح الْفَاسِد يُرَدّ، وَأَنَّ أَخْذ الْمَال فيه بَاطِل يَجِب رَدّه، وَأَنَّ الْحُدُود لَا تَقْبَل الْفِدَاء.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَعَلَى اِبْنك جَلْد مِائَة وَتَغْرِيب عَام» هَذَا مَحْمُول عَلَى أَنَّ الِابْن كَانَ بِكْرًا، وَعَلَى أَنَّهُ اِعْتَرَفَ وَإِلَّا فَإِقْرَار الْأَب عَلَيْهِ لَا يُقْبَل، أَوْ يَكُون هَذَا إِفْتَاء، أَيْ إِنْ كَانَ اِبْنك زَنَى وَهُوَ بِكْر فَعَلَيْهِ جَلْد مِائَة وَتَغْرِيب عَام.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَاغْدُ يَا أُنَيْس عَلَى اِمْرَأَة هَذَا فَإِنْ اِعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا، فَغَدَا عَلَيْهَا فَاعْتَرَفَتْ فَأَمَرَ بِهَا فَرُجِمَتْ» (أُنَيْس) هَذَا صَحَابِيّ مَشْهُور، وَهُوَ أُنَيْس بْن الضَّحَّاك الْأَسْلَمِيّ، مَعْدُود فِي الشَّامِيِّينَ، وَقَالَ اِبْن عَبْد الْبَرّ: هُوَ أُنَيْس بْن مَرْثَد، وَالْأَوَّل هُوَ الصَّحِيح الْمَشْهُور، وَأَنَّهُ أَسْلَمِيّ، وَالْمَرْأَة أَيْضًا أَسْلَمِيَّة.
وَاعْلَمْ أَنَّ بَعْث أُنَيْس مَحْمُول عِنْد الْعُلَمَاء مِنْ أَصْحَابنَا وَغَيْرهمْ عَلَى إِعْلَام الْمَرْأَة بِأَنَّ هَذَا الرَّجُل قَذَفَهَا بِابْنِهِ، فَيَعْرِفهَا بِأَنَّ لَهَا عِنْده حَدّ الْقَذْف فَتُطَالِب بِهِ أَوْ تَعْفُو عَنْهُ إِلَّا أَنْ تَعْتَرِف بِالزِّنَا، فَلَا يَجِب عَلَيْهِ حَدّ الْقَذْف، بَلْ يَجِب عَلَيْهَا حَدّ الزِّنَا وَهُوَ الرَّجْم؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ مُحْصَنَة فَذَهَبَ إِلَيْهَا أُنَيْس فَاعْتَرَفَتْ بِالزِّنَا فَأَمَرَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرَجْمِهَا فَرُجِمَتْ، ولابد مِنْ هَذَا التَّأْوِيل؛ لِأَنَّ ظَاهِره أَنَّهُ بُعِثَ لِإِقَامَةِ حَدّ الزِّنَا وَهَذَا غَيْر مُرَاد؛ لِأَنَّ حَدّ الزِّنَا لَا يَحْتَاج لَهُ بِالتَّجَسُّسِ وَالتَّفْتِيش عَنْهُ، بَلْ لَوْ أَقَرَّ بِهِ الزَّانِي اُسْتُحِبَّ أَنْ يُلَقَّن الرُّجُوع كَمَا سَبَقَ، فَحِينَئِذٍ يَتَعَيَّن التَّأْوِيل الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، وَقَدْ اِخْتَلَفَ أَصْحَابنَا فِي هَذَا الْبَعْث هَلْ يَجِب عَلَى الْقَاضِي إِذَا قَذَفَ إِنْسَان مُعَيَّن فِي مَجْلِسه أَنْ يَبْعَث إِلَيْهِ لِيُعَرِّفهُ بِحَقِّهِ مِنْ حَدّ الْقَذْف أَمْ لَا يَجِب؟ وَالْأَصَحّ وُجُوبه. وَفِي هَذَا الْحَدِيث أَنَّ الْمُحْصَن يُرْجَم وَلَا يُجْلَد مَعَ الرَّجْم، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ الْخِلَافِ فيه.