فصل: باب فِي صِبْغِ الشَّعْرِ وَتَغْيِيرِ الشَّيْبِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج المشهور بـ «شرح النووي على مسلم»



.باب النَّهْيِ عَنِ اشْتِمَالِ الصَّمَّاءِ وَالاِحْتِبَاءِ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ:

3916- قَوْله: «إِنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى أَنْ يَأْكُل الرَّجُل بِشِمَالِهِ، أَوْ يَمْشِي فِي نَعْل وَاحِدَة، وَأَنْ يَشْتَمِل الصَّمَّاء، وَأَنْ يَحْتَبِي فِي ثَوْب وَاحِد كَاشِفًا عَنْ فَرْجه» أَمَّا الْأَكْل بِالشِّمَالِ فَسَبَقَ بَيَانه فِي بَابه، وَسَبَقَ فِي الْبَاب الْمَاضِي حُكْم الْمَشْي فِي نَعْل وَاحِدَة.
وَأَمَّا اِشْتِمَال الصَّمَّاء بِالْمَدِّ فَقَالَ الْأَصْمَعِيّ: هُوَ أَنْ يَشْتَمِل بِالثَّوْبِ حَتَّى يُجَلِّل بِهِ جَسَده، لَا يَرْفَع مِنْهُ جَانِبًا، فَلَا يَبْقَى مَا يُخْرِج مِنْهُ يَده، وَهَذَا يَقُولهُ أَكْثَر أَهْل اللُّغَة.
قَالَ اِبْن قُتَيْبَة: سُمِّيَتْ صَمَّاء لِأَنَّهُ سَدّ الْمَنَافِذ كُلّهَا كَالصَّخْرَةِ الصَّمَّاء الَّتِي لَيْسَ فيها خَرْق وَلَا صَدْع.
قَالَ أَبُو عُبَيْد: وَأَمَّا الْفُقَهَاء فَيَقُولُونَ هُوَ أَنْ يَشْتَمِل بِثَوْبٍ لَيْسَ عَلَيْهِ غَيْره، ثُمَّ يَرْفَعهُ مِنْ أَحَد جَانِبَيْهِ فَيَضَعهُ عَلَى أَحَد مَنْكِبَيْهِ.
قَالَ الْعُلَمَاء: فَعَلَى تَفْسِير أَهْل اللُّغَة يُكْرَه الِاشْتِمَال الْمَذْكُور لِئَلَّا تَعْرِض لَهُ حَاجَة مِنْ دَفْع بَعْض الْهَوَامّ وَنَحْوهَا أَوْ غَيْر ذَلِكَ فَيَعْسُر عَلَيْهِ، أَوْ يَتَعَذَّر فَيَلْحَقهُ الضَّرَر. وَعَلَى تَفْسِير الْفُقَهَاء يَحْرُم الِاشْتِمَال الْمَذْكُور إِنْ اِنْكَشَفَ بِهِ بَعْض الْعَوْرَة، وَإِلَّا فَيُكْرَه.
وَأَمَّا الِاحْتِبَاء بِالْمَدِّ فَهُوَ أَنْ يَقْعُد الْإِنْسَان عَلَى أَلْيَتَيْهِ، وَيُنْصَب سَاقَيْهِ، وَيَحْتَوِي عَلَيْهِمَا بِثَوْبٍ أَوْ نَحْوه أَوْ بِيَدِهِ، وَهَذِهِ الْقَعْدَة يُقَال لَهَا الْحُبْوَة بِضَمِّ الْحَاء وَكَسْرهَا، وَكَانَ هَذَا الِاحْتِبَاء عَادَة لِلْعَرَبِ فِي مَجَالِسهمْ، فَإِنْ اِنْكَشَفَ مَعَهُ شَيْء مِنْ عَوْرَته فَهُوَ حَرَام. وَاللَّهُ أَعْلَم.
3917- سبق شرحه بالباب.

.باب فِي مَنْعِ الاِسْتِلْقَاءِ عَلَى الظَّهْرِ وَوَضْعِ إِحْدَى الرِّجْلَيْنِ عَلَى الأُخْرَى:

3918- قَوْله: «نَهَى عَنْ اِشْتِمَال الصَّمَّاء، وَأَنْ يَرْفَع الرَّجُل إِحْدَى رِجْلَيْهِ عَلَى الْأُخْرَى، وَهُوَ مُسْتَلْقٍ عَلَى ظَهْره». وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: «أَنَّهُ رَأَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسْتَلْقِيًا فِي الْمَسْجِد وَاضِعًا إِحْدَى رِجْلَيْهِ عَلَى الْأُخْرَى» قَالَ الْعُلَمَاء: أَحَادِيث النَّهْي عَنْ الِاسْتِلْقَاء رَافِعًا إِحْدَى رِجْلَيْهِ عَلَى الْأُخْرَى مَحْمُولَة عَلَى حَالَة تَظْهَر فيها الْعَوْرَة أَوْ شَيْء مِنْهَا.
وَأَمَّا فِعْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانَ عَلَى وَجْه لَا يَظْهَر مِنْهَا شَيْء، وَهَذَا لَا بَأْس بِهِ. وَلَا كَرَاهَة فيه عَلَى هَذِهِ الصِّفَة. وَفِي هَذَا الْحَدِيث جَوَاز الِاتِّكَاء فِي الْمَسْجِد وَالِاسْتِلْقَاء فيه.
قَالَ الْقَاضِي: لَعَلَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَ هَذَا لِضَرُورَةٍ أَوْ حَاجَة مِنْ تَعَب، أَوْ طَلَب رَاحَة، أَوْ نَحْو ذَلِكَ.
قَالَ: وَإِلَّا فَقَدْ عُلِمَ أَنَّ جُلُوسه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَجَامِع عَلَى خِلَاف هَذَا، بَلْ كَانَ يَجْلِس مُتَرَبِّعًا أَوْ مُحْتَبِيًا، وَهُوَ كَانَ أَكْثَر جُلُوسه، أَوْ الْقُرْفُصَاء أَوْ مُقْعِيًا وَشَبَههَا مِنْ جِلْسَات الْوَقَار وَالتَّوَاضُع. قُلْت: وَيُحْتَمَل أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَهُ لِبَيَانِ الْجَوَاز، وَأَنَّكُمْ إِذَا أَرَدْتُمْ الِاسْتِلْقَاء فَلْيَكُنْ هَكَذَا، وَأَنَّ النَّهْي الَّذِي نَهَيْتُكُمْ عَنْ الِاسْتِلْقَاء لَيْسَ هُوَ عَلَى الْإِطْلَاق، بَلْ الْمُرَاد بِهِ مَنْ يَنْكَشِف شَيْء مِنْ عَوْرَته، أَوْ يُقَارِب اِنْكِشَافهَا. وَاللَّهُ أَعْلَم.
3919- سبق شرحه بالباب.
3920- سبق شرحه بالباب.

.باب فِي إِبَاحَةِ الاِسْتِلْقَاءِ وَوَضْعِ إِحْدَى الرِّجْلَيْنِ عَلَى الأُخْرَى:

3921- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (وَحَدَّثَنَا إِسْحَق بْن إِبْرَاهِيم وَعَبْد بْن حَمِيد قَالَا: أَخْبَرَنَا عَبْد الرَّزَّاق) هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيع نُسَخ بِلَادنَا، وَكَذَا ذَكَرَهُ أَبُو عَلِيّ الْغَسَّانِيّ عَنْ رِوَايَة الْجُلُودِيّ قَالَ: وَكَذَا ذَكَرَهُ أَبُو مَسْعُود الدِّمَشْقِيّ عَنْ مُسْلِم.
قَالَ: وَفِي رِوَايَة اِبْن مَاهَانَ إِسْحَق بْن مَنْصُور بَدَل إِسْحَق بْن إِبْرَاهِيم.
قَالَ الْغَسَّانِيّ: الْأَوَّل هُوَ الَّذِي أَعْتَقِد صَوَابه لِكَثْرَةِ مَا يَجِيء إِسْحَاق بْن إِبْرَاهِيم وَعَبْد بْن حَمِيد فِي رِوَايَة مُسْلِم مَقْرُونِينَ عَنْ عَبْد الرَّزَّاق، وَإِنْ كَانَ إِسْحَاق بْن مَنْصُور أَيْضًا يَرْوِي عَنْ عَبْد الرَّزَّاق، وَهَذَا الَّذِي صَوَّبَهُ الْغَسَّانِيّ هُوَ الصَّوَاب، وَكَذَا ذَكَرَهُ الْوَاسِطِيُّ فِي الْأَطْرَاف عَنْ رِوَايَة مُسْلِم.

.باب النَّهْيِ عَنِ التَّزَعْفُرِ لِلرِّجَالِ:

3923- قَوْله: «نَهَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَتَزَعْفَر الرَّجُل» هَذَا دَلِيل لِمَذْهَبِ الشَّافِعِيّ وَمُوَافِقِيهِ فِي تَحْرِيم لُبْس الثَّوْب الْمُزَعْفَر عَلَى الرَّجُل، وَقَدْ سَبَقَتْ الْمَسْأَلَة فِي بَاب نَهْي الرَّجُل عَنْ الثَّوْب الْمُعَصْفَر. وَاللَّهُ أَعْلَم.

.باب فِي صِبْغِ الشَّعْرِ وَتَغْيِيرِ الشَّيْبِ:

3924- سبق شرحه بالباب.

.باب فِي مُخَالَفَةِ الْيَهُودِ فِي الصَّبْغِ:

3925- قَوْله: «أَتَى بِأَبِي قُحَافَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُ يَوْم فَتْح مَكَّة، وَرَأْسه وَلِحْيَته كَالثَّغَامَةِ بَيَاضًا، فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: غَيِّرُوا هَذَا بِشَيْءٍ وَاجْتَنِبُوا السَّوَاد». وَفِي رِوَايَة: «إِنَّ الْيَهُود وَالنَّصَارَى لَا يَصْبُغُونَ فَخَالِفُوهُمْ». أَمَّا الثَّغَامَة بِثَاءٍ مُثَلَّثَة مَفْتُوحَة ثُمَّ غَيْن مُعْجَمَة مُخَفَّفَة قَالَ أَبُو عُبَيْد: هُوَ نَبْت أَبْيَض الزَّهْر وَالثَّمَر، شَبَّهَ بَيَاض الشَّيْب بِهِ، وَقَالَ اِبْن الْأَعْرَابِيّ: شَجَرَة تَبْيَضّ كَأَنَّهَا الْمِلْح.
وَأَمَّا أَبُو قُحَافَة بِضَمِّ الْقَاف وَتَخْفِيف الْحَاء الْمُهْمَلَة، وَاسْمه عُثْمَان، فَهُوَ وَالِد أَبِي بَكْر الصِّدِّيق، أَسْلَمَ يَوْم فَتْح مَكَّة، وَيُقَال: صَبَغَ يَصْبُغ بِضَمِّ الْبَاء وَفَتْحهَا، وَمَذْهَبنَا اِسْتِحْبَاب خِضَاب الشَّيْب لِلرَّجُلِ وَالْمَرْأَة بِصُفْرَةٍ أَوْ حُمْرَة، وَيَحْرُم خِضَابه بِالسَّوَادِ عَلَى الْأَصَحّ، وَقِيلَ: يُكْرَه كَرَاهَة تَنْزِيه، وَالْمُخْتَار التَّحْرِيم لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَاجْتَنِبُوا السَّوَاد» هَذَا مَذْهَبنَا.
وَقَالَ الْقَاضِي: اِخْتَلَفَ السَّلَف مِنْ الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ فِي الْخِضَاب وَفِي جِنْسه، فَقَالَ بَعْضهمْ: تَرْك الْخِضَاب أَفْضَل، وَرَوَوْا حَدِيثًا عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النَّهْي عَنْ تَغْيِير الشَّيْب، لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُغَيِّر شَيْبه. رُوِيَ هَذَا عَنْ عُمَر وَعَلِيّ وَأُبَيّ وَآخَرِينَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ.
وَقَالَ آخَرُونَ: الْخِضَاب أَفْضَل، وَخَضَّبَ جَمَاعَة مِنْ الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدهمْ لِلْأَحَادِيثِ الَّتِي ذَكَرهَا مُسْلِم وَغَيْره، ثُمَّ اِخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ فَكَانَ أَكْثَرهمْ يُخَضِّب بِالصُّفْرَةِ مِنْهُمْ اِبْن عُمَر وَأَبُو هُرَيْرَة وَآخَرُونَ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيّ، وَخَضَّبَ جَمَاعَة مِنْهُمْ بِالْحِنَّاءِ وَالْكَتْم، وَبَعْضهمْ بِالزَّعْفَرَانِ، وَخَضَّبَ جَمَاعَة بِالسَّوَادِ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُثْمَان وَالْحَسَن وَالْحُسَيْن اِبْنَيْ عَلِيّ وَعُقْبَة بْن عَامِر وَابْن سِيرِينَ وَأَبِي بُرْدَة وَآخَرِينَ.
قَالَ الْقَاضِي: قَالَ الطَّبَرَانِيُّ: الصَّوَاب أَنَّ الْآثَار الْمَرْوِيَّة عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَغْيِيرِ الشَّيْب، وَبِالنَّهْيِ عَنْهُ، كُلّهَا صَحِيحَة، وَلَيْسَ فيها تَنَاقُض، بَلْ الْأَمْر بِالتَّغْيِيرِ لِمَنْ شَيْبه كَشَيْبِ أَبِي قُحَافَة وَالنَّهْي لِمَنْ لَهُ شَمَط فَقَطْ قَالَ وَاخْتِلَاف السَّلَف فِي فِعْل الْأَمْرَيْنِ بِحَسَبِ اِخْتِلَاف أَحْوَالهمْ فِي ذَلِكَ، مَعَ أَنَّ الْأَمْر وَالنَّهْي فِي ذَلِكَ لَيْسَ لِلْوُجُوبِ بِالْإِجْمَاعِ، وَلِهَذَا لَمْ يُنْكِر بَعْضهمْ عَلَى بَعْض خِلَافه فِي ذَلِكَ.
قَالَ: وَلَا يَجُوز أَنْ يُقَال: فيهمَا نَاسِخ وَمَنْسُوخ.
قَالَ الْقَاضِي، وَقَالَ غَيْره: هُوَ عَلَى حَالَيْنِ، فَمَنْ كَانَ فِي مَوْضِع عَادَة أَهْله الصَّبْغ أَوْ تَرْكه فَخُرُوجه عَنْ الْعَادَة شُهْرَة وَمَكْرُوه، وَالثَّانِي أَنَّهُ يَخْتَلِف بِاخْتِلَافِ نَظَافَة الشَّيْب، فَمَنْ كَانَتْ شَيْبَته تَكُون نَقِيَّة أَحْسَن مِنْهَا مَصْبُوغَة فَالتَّرْك أَوْلَى، وَمَنْ كَانَتْ شَيْبَتُهُ تُسْتَبْشَع فَالصَّبْغ أَوْلَى. هَذَا مَا نَقَلَهُ الْقَاضِي. وَالْأَصَحّ الْأَوْفَق لِلسُّنَّةِ مَا قَدَّمْنَاهُ عَنْ مَذْهَبنَا. وَاللَّهُ أَعْلَم.

.باب لاَ تَدْخُلُ الْمَلاَئِكَةُ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ وَلاَ صُورَةٌ:

قَالَ أَصْحَابنَا وَغَيْرهمْ مِنْ الْعُلَمَاء: تَصْوِير صُورَة الْحَيَوَان حَرَام شَدِيد التَّحْرِيم، وَهُوَ مِنْ الْكَبَائِر؛ لِأَنَّهُ مُتَوَعَّد عَلَيْهِ بِهَذَا الْوَعِيد الشَّدِيد الْمَذْكُور فِي الْأَحَادِيث، وَسَوَاء صَنَعَهُ بِمَا يُمْتَهَن أَوْ بِغَيْرِهِ، فَصَنْعَته حَرَام بِكُلِّ حَال؛ لِأَنَّ فيه مُضَاهَاة لِخَلْقِ اللَّه تَعَالَى، وَسَوَاء مَا كَانَ فِي ثَوْب أَوْ بِسَاط أَوْ دِرْهَم أَوْ دِينَار أَوْ فَلْس أَوْ إِنَاء أَوْ حَائِط أَوْ غَيْرهَا.
وَأَمَّا تَصْوِير صُورَة الشَّجَر وَرِحَال الْإِبِل وَغَيْر ذَلِكَ مِمَّا لَيْسَ فيه صُورَة حَيَوَان فَلَيْسَ بِحِرَامٍ. هَذَا حُكْم نَفْس التَّصْوِير.
وَأَمَّا اِتِّخَاذ الْمُصَوَّر فيه صُورَة حَيَوَان فَإِنْ كَانَ مُعَلَّقًا عَلَى حَائِط أَوْ ثَوْبًا مَلْبُوسًا أَوْ عِمَامَة وَنَحْو ذَلِكَ مِمَّا لَا يُعَدّ مُمْتَهَنًا فَهُوَ حَرَام، وَإِنْ كَانَ فِي بِسَاط يُدَاس وَمِخَدَّة وَوِسَادَة وَنَحْوهَا مِمَّا يُمْتَهَن فَلَيْسَ بِحِرَامٍ. وَلَكِنْ هَلْ يَمْنَع دُخُول مَلَائِكَة الرَّحْمَة ذَلِكَ الْبَيْت؟ فيه كَلَام نَذْكُرهُ قَرِيبًا إِنْ شَاءَ اللَّه، وَلَا فَرْق فِي هَذَا كُلّه بَيْن مَا لَهُ ظِلّ وَمَا لَا ظِلّ لَهُ. هَذَا تَلْخِيص مَذْهَبنَا فِي الْمَسْأَلَة، وَبِمَعْنَاهُ قَالَ جَمَاهِير الْعُلَمَاء مِنْ الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدهمْ، وَهُوَ مَذْهَب الثَّوْرِيّ وَمَالِك وَأَبِي حَنِيفَة وَغَيْرهمْ، وَقَالَ بَعْض السَّلَف: إِنَّمَا يَنْهَى عَمَّا كَانَ لَهُ ظِلّ، وَلَا بَأْس بِالصُّوَرِ الَّتِي لَيْسَ لَهَا ظِلّ، وَهَذَا مَذْهَب بَاطِل؛ فَإِنَّ السِّتْر الَّذِي أَنْكَرَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصُّورَة فيه لَا يَشُكّ أَحَد أَنَّهُ مَذْمُوم، وَلَيْسَ لِصُورَتِهِ ظِلّ، مَعَ بَاقِي الْأَحَادِيث الْمُطْلَقَة فِي كُلّ صُورَة.
وَقَالَ الزُّهْرِيّ: النَّهْي فِي الصُّورَة عَلَى الْعُمُوم، وَكَذَلِكَ اِسْتِعْمَال مَا هِيَ فيه، وَدُخُول الْبَيْت الَّذِي هِيَ فيه، سَوَاء كَانَتْ رَقْمًا فِي ثَوْب، أَوْ غَيْر رَقْم، وَسَوَاء كَانَتْ فِي حَائِط، أَوْ ثَوْب، أَوْ بِسَاط مُمْتَهَن، أَوْ غَيْر مُمْتَهَن، عَمَلًا بِظَاهِرِ الْأَحَادِيث، لاسيما حَدِيث: «النُّمْرُقَة» الَّذِي ذَكَرَهُ مُسْلِم، وَهَذَا مَذْهَب قَوِيّ، قَالَ آخَرُونَ: يَجُوز مِنْهَا مَا كَانَ رَقْمًا فِي ثَوْب سَوَاء اُمْتُهِنَ أَمْ لَا، وَسَوَاء عُلِقَ فِي حَائِط أَمْ لَا، وَكَرِهُوا مَا كَانَ لَهُ ظِلّ، أَوْ كَانَ مُصَوَّرًا فِي الْحِيطَان وَشَبَههَا، سَوَاء كَانَ رَقْمًا أَوْ غَيْره، وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ فِي بَعْض أَحَادِيث الْبَاب: «إِلَّا مَا كَانَ رَقْمًا فِي ثَوْب» وَهَذَا مَذْهَب الْقَاسِم بْن مُحَمَّد. وَأَجْمَعُوا عَلَى مَنْع مَا كَانَ لَهُ ظِلّ، وَوُجُوب تَغْيِيره.
قَالَ الْقَاضِي: إِلَّا مَا وَرَدَ فِي اللَّعِب بِالْبَنَاتِ لِصِغَارِ الْبَنَات، وَالرُّخْصَة فِي ذَلِكَ، لَكِنْ كَرِهَ مَالِك شِرَاء الرَّجُل ذَلِكَ لِابْنَتِهِ. وَادَّعَى بَعْضهمْ أَنَّ إِبَاحَة اللَّعِب لَهُنَّ بِالْبَنَاتِ مَنْسُوخ بِهَذِهِ الْأَحَادِيث، وَاللَّه أَعْلَم.
3928- قَوْله: «أَصْبَحَ يَوْمًا وَاجِمًا» هُوَ بِالْجِيمِ.
قَالَ أَهْل اللُّغَة: هُوَ السَّاكِت الَّذِي يَظْهَر عَلَيْهِ الْهَمّ وَالْكَآبَة، وَقِيلَ: هُوَ الْحَزِين، يُقَال: وَجَمَ يَجِم وُجُومًا.
قَوْله: «أَصْبَحَ يَوْمًا وَاجِمًا، فَقَالَتْ مَيْمُونَة: يَا رَسُول اللَّه لَقَدْ اِسْتَنْكَرْت هَيْئَتك مُنْذُ الْيَوْم، قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ جِبْرِيل كَانَ وَعَدَنِي أَنْ يَلْقَانِي اللَّيْلَة فَلَمْ يَلْقَنِي، أَمَ وَاللَّه مَا أَخْلَفَنِي» وَذَكَرَ الْحَدِيث. فيه أَنَّهُ يُسْتَحَبّ لِلْإِنْسَانِ إِذَا رَأَى صَاحِبه وَمَنْ لَهُ حَقّ وَاجِمًا أَنْ يَسْأَلهُ عَنْ سَبَبه، فَيُسَاعِدهُ فِيمَا يُمْكِن مُسَاعِدَته، أَوْ يَتَحَزَّن مَعَهُ، أَوْ يَذْكُرهُ بِطَرِيقٍ يَزُول بِهِ ذَلِكَ الْعَارِض. وَفيه التَّنْبِيه عَلَى الْوُثُوق بِوَعْدِ اللَّه وَرُسُله، لَكِنْ قَدْ يَكُون لِلشَّيْءِ شَرْط فَيَتَوَقَّف عَلَى حُصُوله، أَوْ يَتَخَيَّل تَوْقِيته بِوَقْتِ، وَيَكُون غَيْر مُوَقَّت بِهِ، وَنَحْو ذَلِكَ. وَفيه أَنَّهُ إِذَا تَكَدَّرَ وَقْت الْإِنْسَان أَوْ تَنَكَّدَتْ وَظِيفَته وَنَحْو ذَلِكَ فَيَنْبَغِي أَنْ يُفَكِّر فِي سَبَبه كَمَا فَعَلَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُنَا حَتَّى اِسْتَخْرَجَ الْكَلْب، وَهُوَ مِنْ نَحْو قَوْل اللَّه تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ اِتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنْ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ}.
قَوْله: «ثُمَّ وَقَعَ فِي نَفْسه جِرْو كَلْب تَحْت فُسْطَاط لَنَا، فَأَمَرَ بِهِ فَأُخْرِج، ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِهِ مَاء فَنَضَحَ مَكَانه» أَمَّا (الْجَرْو) فَبِكَسْرِ الْجِيم وَضَمّهَا وَفَتْحهَا، ثَلَاث لُغَات مَشْهُورَات، وَهُوَ الصَّغِير مِنْ أَوْلَاد الْكَلْب وَسَائِر السِّبَاع، وَالْجَمْع أَجْرٍ وَجِرَاء، وَجَمْع الْجِرَاء أَجْرِيَةٌ.
وَأَمَّا الْفُسْطَاط فَفيه سِتّ لُغَات: فُسْطَاط وَفُسْتَاط بِالتَّاءِ، وَفُسَّاط بِتَشْدِيدِ السِّين وَضَمّ الْفَاء فيهنَّ، وَتُكْسَر، وَهُوَ نَحْو الْخِبَاء.
قَالَ الْقَاضِي: وَالْمُرَاد بِهِ هُنَا بَعْض حِجَال الْبَيْت، بِدَلِيلِ قَوْلهَا فِي الْحَدِيث الْآخَر: «تَحْت سَرِير عَائِشَة» وَأَصْل الْفُسْطَاط عَمُود الْأَخْبِيَة الَّتِي يُقَام عَلَيْهَا. وَاللَّهُ أَعْلَم.
وَأَمَّا قَوْله: «ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِهِ مَاء فَنَضَحَ بِهِ مَكَانه» فَقَدْ اِحْتَجَّ بِهِ جَمَاعَة فِي نَجَاسَة الْكَلْب. قَالُوا: وَالْمُرَاد بِالنَّضْحِ الْغَسْل وَتَأَوَّلَتْهُ الْمَالِكِيَّة عَلَى أَنَّهُ غَسَلَهُ لِخَوْفِ حُصُول بَوْله أَوْ رَوْثه.
قَوْله: «فَأَمَرَ بِقَتْلِ الْكِلَاب حَتَّى أَنَّهُ يَأْمُر بِقَتْلِ كَلْب الْحَائِط الصَّغِير، وَيَتْرُك كَلْب الْحَائِط الْكَبِير» الْمُرَاد بِالْحَائِطِ الْبُسْتَان، وَفَرْق بَيْن الْحَائِطَيْنِ، لِأَنَّ الْكَبِير تَدْعُو الْحَاجَة إِلَى حِفْظ جَوَانِبه، وَلَا يَتَمَكَّن النَّاظُور مِنْ الْمُحَافَظَة عَلَى ذَلِكَ، بِخِلَافِ الصَّغِير، وَالْأَمْر بِقَتْلِ الْكِلَاب مَنْسُوخ، وَسَبَقَ إِيضَاحه فِي كِتَاب الْبُيُوع، حَيْثُ بَسَطَ مُسْلِم أَحَادِيثه هُنَاكَ.
3929- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَدْخُل الْمَلَائِكَة بَيْتًا فيه كَلْب وَلَا صُورَة» قَالَ الْعُلَمَاء: سَبَب اِمْتِنَاعهمْ مِنْ بَيْتٍ فيه صُورَة كَوْنهَا مَعْصِيَة فَاحِشَة، وَفيها مُضَاهَاة لِخَلْقِ اللَّه تَعَالَى، وَبَعْضهَا فِي صُورَة مَا يَعْبُد مِنْ دُون اللَّه تَعَالَى. وَسَبَب اِمْتِنَاعهمْ مِنْ بَيْت فيه كَلْب لِكَثْرَةِ أَكْله النَّجَاسَات، وَلِأَنَّ بَعْضهَا يُسَمَّى شَيْطَانًا كَمَا جَاءَ بِهِ الْحَدِيث، وَالْمَلَائِكَة ضِدّ الشَّيَاطِين، وَلِقُبْحِ رَائِحَة الْكَلْب وَالْمَلَائِكَة تَكْرَه الرَّائِحَة الْقَبِيحَة، وَلِأَنَّهَا مَنْهِيّ عَنْ اِتِّخَاذهَا؛ فَعُوقِبَ مُتَّخِذهَا بِحِرْمَانِهِ دُخُول الْمَلَائِكَة بَيْته، وَصَلَاتهَا فيه، وَاسْتِغْفَارهَا لَهُ، وَتَبْرِيكهَا عَلَيْهِ وَفِي بَيْته، وَدَفْعهَا أَذًى لِلشَّيْطَانِ.
وَأَمَّا هَؤُلَاءِ الْمَلَائِكَة الَّذِينَ لَا يَدْخُلُونَ بَيْتًا فيه كَلْب أَوْ صُورَة فَهُمْ مَلَائِكَة يَطُوفُونَ بِالرَّحْمَةِ وَالتَّبْرِيك وَالِاسْتِغْفَار، وَأَمَّا الْحَفَظَة فَيَدْخُلُونَ فِي كُلّ بَيْت، وَلَا يُفَارِقُونَ بَنِي آدَم فِي كُلّ حَال، لِأَنَّهُمْ مَأْمُورُونَ بِإِحْصَاءِ أَعْمَالهمْ، وَكِتَابَتهَا.
قَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَإِنَّمَا لَا تَدْخُل الْمَلَائِكَة بَيْتًا فيه كَلْب أَوْ صُورَة مِمَّا يَحْرُم اِقْتِنَاؤُهُ مِنْ الْكِلَاب وَالصُّوَر، فَأَمَّا مَا لَيْسَ بِحِرَامٍ مِنْ كَلْب الصَّيْد وَالزَّرْع وَالْمَاشِيَة وَالصُّورَة الَّتِي تُمْتَهَن فِي الْبِسَاط وَالْوِسَادَة وَغَيْرهمَا فَلَا يَمْتَنِع دُخُول الْمَلَائِكَة بِسَبَبِهِ، وَأَشَارَ الْقَاضِي إِلَى نَحْو مَا قَالَهُ الْخَطَّابِيُّ، وَالْأَظْهَر أَنَّهُ عَامّ فِي كُلّ كَلْب، وَكُلّ صُورَة، وَأَنَّهُمْ يَمْتَنِعُونَ مِنْ الْجَمِيع لِإِطْلَاقِ الْأَحَادِيث، وَلِأَنَّ الْجِرْو الَّذِي كَانَ فِي بَيْت النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَحْت السَّرِير كَانَ لَهُ فيه عُذْر ظَاهِر؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَعْلَم بِهِ، وَمَعَ هَذَا اِمْتَنَعَ جِبْرِيل صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ دُخُول الْبَيْت، وَعَلَّلَ بِالْجِرْوِ، فَلَوْ كَانَ الْعُذْر فِي وُجُود الصُّورَة وَالْكَلْب لَا يَمْنَعهُمْ لَمْ يَمْتَنِع جِبْرِيل. وَاللَّه أَعْلَم.
3930- سبق شرحه بالباب.
3931- قَوْله: «إِلَّا رَقْمًا فِي ثَوْب» هَذَا يَحْتَجّ بِهِ مَنْ يَقُول بِإِبَاحَةِ مَا كَانَ رَقْمًا مُطْلَقًا كَمَا سَبَقَ، وَجَوَابنَا وَجَوَاب الْجُمْهُور عَنْهُ: أَنَّهُ مَحْمُول عَلَى رَقْم عَلَى صُورَة الشَّجَر وَغَيْره مِمَّا لَيْسَ بِحَيَوَانٍ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ هَذَا جَائِز عِنْدنَا.
3932- سبق شرحه بالباب.
3933- قَوْله عَنْ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا قَالَتْ: «خَرَجَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزَاتِهِ، فَأَخَذْت نَمَطًا، فَسُتْرَته عَلَى الْبَاب، فَلَمَّا قَدِمَ فَرَأَى النَّمَط عَرَفْت الْكَرَاهِيَة فِي وَجْهه، فَجَذَبَهُ حَتَّى هَتَكَهُ أَوْ قَطَعَهُ، وَقَالَ: إِنَّ اللَّه لَمْ يَأْمُرنَا أَنْ نَكْسُو الْحِجَارَة وَالطِّين قَالَتْ: فَقَطَعْنَا مِنْهُ وِسَادَتَيْنِ، وَحَشَوْتهمَا لِيفًا، فَلَمْ يَعِبْ ذَلِكَ عَلَيَّ».
الْمُرَاد بِالنَّمَطِ هُنَا بِسَاط لَطِيف لَهُ خَمْل، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانه قَرِيبًا فِي بَاب اِتِّخَاذ الْأَنْمَاط.
وَقَوْلهَا: «هَتَكَهُ»، هُوَ بِمَعْنَى قَطَعَهُ، وَأَتْلَفَ الصُّورَة الَّتِي فيه، وَقَدْ صَرَّحَتْ فِي الرِّوَايَات الْمَذْكُورَات بَعْد هَذِهِ بِأَنَّ هَذَا النَّمَط كَانَ فيه صُوَر الْخَيْل ذَوَات الْأَجْنِحَة، وَأَنَّهُ كَانَ فيه صُورَة، فَيَسْتَدِلّ بِهِ لِتَغْيِيرِ الْمُنْكَر بِالْيَدِ، وَهَتْك الصُّوَر الْمُحَرَّمَة، وَالْغَضَب عِنْد رُؤْيَة الْمُنْكَر، وَأَنَّهُ يَجُوز اِتِّخَاذ الْوَسَائِد. وَاللَّهُ أَعْلَم.
وَأَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِين جَذَبَ النَّمَط وَأَزَالَهُ: «إِنَّ اللَّه لَمْ يَأْمُرنَا أَنْ نَكْسُو الْحِجَارَة وَالطِّين» فَاسْتَدَلُّوا بِهِ عَلَى أَنَّهُ يُمْنَع مِنْ سَتْر الْحِيطَان وَتَنْجِيد الْبُيُوت بِالثِّيَابِ، وَهُوَ مَنْع كَرَاهَة تَنْزِيه لَا تَحْرِيم، هَذَا هُوَ الصَّحِيح.
وَقَالَ الشَّيْخ أَبُو الْفَتْح نَصْر الْمَقْدِسِيُّ مِنْ أَصْحَابنَا: هُوَ حَرَام، وَلَيْسَ فِي هَذَا الْحَدِيث مَا يَقْتَضِي تَحْرِيمه؛ لِأَنَّ حَقِيقَة اللَّفْظ أَنَّ اللَّه تَعَالَى لَمْ يَأْمُرنَا بِذَلِكَ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَلَا مَنْدُوب، وَلَا يَقْتَضِي التَّحْرِيم. وَاللَّه أَعْلَم.
3934- قَوْله: «عَنْ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ لَنَا سِتْر فيه تِمْثَال طَائِر، وَكَانَ الدَّاخِل إِذَا دَخَلَ اِسْتَقْبَلَهُ، فَقَالَ لِي رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: حَوِّلِي هَذَا، فَإِنِّي كُلَّمَا دَخَلْت فَرَأَيْته ذَكَرْت الدُّنْيَا» هَذَا مَحْمُول عَلَى أَنَّهُ كَانَ قَبْل تَحْرِيم اِتِّخَاذ مَا فيه صُورَة، فَلِهَذَا كَانَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْخُل، وَيَرَاهُ، وَلَا يُنْكِرهُ قَبْل هَذِهِ الْمَرَّة الْأَخِيرَة.
3935- قَوْلهَا: «سَتَّرْت عَلَى بَابِي دُرْنُوكًا فيه الْخَيْل ذَوَات الْأَجْنِحَة، فَأَمَرَنِي فَنَزَعْته» أَمَّا قَوْلهَا: (سَتَّرْت) فَهُوَ بِتَشْدِيدِ التَّاء الْأُولَى.
وَأَمَّا (الدُّرْنُوكُ) فَبِضَمِّ الدَّال وَفَتْحهَا، حَكَاهُمَا الْقَاضِي وَآخَرُونَ، وَالْمَشْهُور ضَمّهَا، وَالنُّون مَضْمُومَة لَا غَيْر. وَيُقَال فيه: (دُرْمُوكٌ) بِالْمِيمِ، وَهُوَ سِتْر لَهُ خَمْل، وَجَمْعه دَرَانِكُ.
3936- قَوْلهَا: «دَخَلَ عَلَيَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَا مُتَسَتِّرَة بِقِرَامِ» هَكَذَا هُوَ فِي مُعْظَم النُّسَخ (مُتَسَتِّرَة) بِتَاءَيْنِ مُثَنَّاتَيْنِ فَوْق بَيْنهمَا سِين، وَفِي بَعْضهَا (مُسْتَتِرَة) بِسِينٍ ثُمَّ تَاءَيْنِ، أَيْ مُتَّخِذَة سِتْرًا.
وَأَمَّا (الْقِرَام) فَبِكَسْرِ الْقَاف وَهُوَ السِّتْر الرَّقِيق.
3937- قَوْلهَا: «وَقَدْ سَتَّرْت سَهْوَة لِي بِقِرَامِ» السَّهْوَة بِفَتْحِ السِّين الْمُهْمَلَة.
قَالَ الْأَصْمَعِيّ: هِيَ شَبِيهَة بِالرَّفِّ أَوْ بِالطَّاقِ يُوضَع عَلَيْهِ الشَّيْء.
قَالَ أَبُو عُبَيْد: وَسَمِعْت غَيْر وَاحِد مِنْ أَهْل الْيَمَن يَقُولُونَ: السَّهْوَة عِنْدنَا بَيْت صَغِير مُتَحَدِّر فِي الْأَرْض، وَسُمْكه مُرْتَفِع فِي الْأَرْض، يُشْبِه الْخِزَانَة الصَّغِيرَة، يَكُون فيها الْمَتَاع.
قَالَ أَبُو عُبَيْد: وَهَذَا عِنْدِي أَشْبَهَ مَا قِيلَ فِي السَّهْوَة.
وَقَالَ الْخَلِيل: هِيَ أَرْبَعَة أَعْوَاد أَوْ ثَلَاثَة يُعْرَض بَعْضهَا عَلَى بَعْض، ثُمَّ يُوضَع عَلَيْهَا شَيْء مِنْ الْأَمْتِعَة.
وَقَالَ اِبْن الْأَعْرَابِيّ: هِيَ الْكَوَّة بَيْن الدَّارَيْنِ، وَقِيلَ: بَيْت صَغِير يُشْبِه الْمِخْدَع، وَقِيلَ: هِيَ كَالصُّفَّةِ تَكُون بَيْن يَدَيْ الْبَيْت، وَقِيلَ: شَبِيه دَخْلَة فِي جَانِب الْبَيْت. وَاللَّهُ أَعْلَم.
3941- قَوْله: «اِشْتَرَيْت نُمْرُقَة» هِيَ بِضَمِّ النُّون وَالرَّاء، وَيُقَال: بِكَسْرِهِمَا، وَيُقَال: بِضَمِّ النُّون وَفَتْح الرَّاء، ثَلَاث لُغَات، وَيُقَال: (نُمْرُق) بِلَا هَاء، وَهِيَ وِسَادَة صَغِيرَة، وَقِيلَ: هِيَ مِرْفَقَة.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنْ أَصْحَاب هَذِهِ الصُّوَر يُعَذَّبُونَ، وَيُقَال لَهُمْ: أَحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ». وَفِي الرِّوَايَة السَّابِقَة: «أَشَدّ النَّاس عَذَابًا يَوْم الْقِيَامَة الَّذِينَ يُضَاهِئُونَ بِخَلْقِ اللَّه تَعَالَى» وَفِي رِوَايَة: «الَّذِينَ يَصْنَعُونَ الصُّوَر يُعَذَّبُونَ يَوْم الْقِيَامَةَ، يُقَال لَهُمْ: أَحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ» وَفِي رِوَايَة اِبْن عَبَّاس: «كُلّ مُصَوِّر فِي النَّار يُجْعَل لَهُ بِكُلِّ صُورَة صَوَّرَهَا نَفْسًا فَتُعَذِّبهُ فِي جَهَنَّم» وَفِي رِوَايَة: «مَنْ صَوَّرَ صُورَة فِي الدُّنْيَا كُلِّفَ أَنْ يَنْفُخ فيها الرُّوح يَوْم الْقِيَامَة وَلَيْسَ بِنَافِخٍ». وَفِي رِوَايَة: «قَالَ اللَّه تَعَالَى، وَمَنْ أَظْلِم مِمَّنْ ذَهَبَ يَخْلُق خَلْقًا كَخَلْقِي، فَلْيَخْلُقُوا ذَرَّة، أَوْ لِيَخْلُقُوا حَبَّة، أَوْ لِيَخْلُقُوا شُعَيْرَة».
وَأَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَيُقَال لَهُمْ: أَحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ» فَهُوَ الَّذِي يُسَمِّيه الْأُصُولِيُّونَ أَمْر تَعْجِيز كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ}.
وَأَمَّا قَوْله فِي رِوَايَة اِبْن عَبَّاس: (يَجْعَل لَهُ) فَهُوَ بِفَتْحِ الْيَاء مِنْ (يَجْعَل) وَالْفَاعِل هُوَ اللَّه تَعَالَى، أُضْمِرَ لِلْعِلْمِ بِهِ.
قَالَ الْقَاضِي فِي رِوَايَة اِبْن عَبَّاس: تُحْتَمَل أَنَّ مَعْنَاهَا أَنَّ الصُّورَة الَّتِي صَوَّرَهَا هِيَ تُعَذِّبهُ، بَعْد أَنْ يَجْعَل فيها رُوح، وَتَكُون الْبَاء فِي: «بِكُلِّ» بِمَعْنَى (فِي) قَالَ: وَيُحْتَمَل أَنْ يَجْعَل لَهُ بِعَدَدِ كُلّ صُورَة وَمَكَانهَا شَخْص يُعَذِّبهُ، وَتَكُون الْبَاء بِمَعْنَى لَام السَّبَب. وَهَذِهِ الْأَحَادِيث صَرِيحَة فِي تَحْرِيم تَصْوِير الْحَيَوَان، وَأَنَّهُ غَلِيظ التَّحْرِيم، وَأَمَّا الشَّجَر وَنَحْوه مِمَّا لَا رُوح فيه فَلَا تَحْرُم صَنْعَته، وَلَا التَّكَسُّب بِهِ، وَسَوَاء الشَّجَر الْمُثْمِر وَغَيْره، وَهَذَا مَذْهَب الْعُلَمَاء كَافَّة إِلَّا مُجَاهِدًا فَإِنَّهُ جَعَلَ الشَّجَر الْمُثْمِر مِنْ الْمَكْرُوه.
قَالَ الْقَاضِي: لَمْ يَقُلْهُ أَحَد غَيْر مُجَاهِد، وَاحْتَجَّ مُجَاهِد بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذَهَبَ يَخْلُق خَلْقًا كَخَلْقِي} وَاحْتَجَّ الْجُمْهُور بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَيُقَال لَهُمْ أَحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ» أَيْ اِجْعَلُوهُ حَيَوَانًا ذَا رُوح كَمَا ضَاهَيْتُمْ، وَعَلَيْهِ رِوَايَة: «وَمَنْ أَظْلَم مِمَّنْ ذَهَبَ يَخْلُق خَلْقًا كَخَلْقِي» وَيُؤَيِّدهُ حَدِيث اِبْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّه عَنْهُ الْمَذْكُور فِي الْكِتَاب: «إِنْ كُنْت لابد فَاعِلًا فَاصْنَعْ الشَّجَر، وَمَا لَا نَفْس لَهُ».
3942- سبق شرحه بالباب.
3943- قَوْله: «أَشَدّ النَّاس عَذَابًا» فَقِيلَ هِيَ مَحْمُولَة عَلَى مَنْ فَعَلَ الصُّورَة لِتُعْبَد، وَهُوَ صَانِع الْأَصْنَام، وَنَحْوهَا، فَهَذَا كَافِر، وَهُوَ أَشَدّ عَذَابًا، وَقِيلَ: هِيَ فِيمَنْ قَصَدَ الْمَعْنَى الَّذِي فِي الْحَدِيث مِنْ مُضَاهَاة خَلْق اللَّه تَعَالَى، وَاعْتَقَدَ ذَلِكَ، فَهَذَا كَافِر لَهُ مِنْ أَشَدّ الْعَذَاب مَا لِلْكُفَّارِ، وَيَزِيد عَذَابه بِزِيَادَةِ قُبْح كُفْره. فَأَمَّا مَنْ لَمْ يَقْصِد بِهَا الْعِبَادَة وَلَا الْمُضَاهَاة، فَهُوَ فَاسِق صَاحِب ذَنْب كَبِير، وَلَا يَكْفُر كَسَائِرِ الْمَعَاصِي.
3944- سبق شرحه بالباب.
3945- سبق شرحه بالباب.
3946- سبق شرحه بالباب.
3947- وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: «فَلْيَخْلُقُوا ذَرَّة أَوْ حَبَّة أَوْ شُعَيْرَة» فَالذَّرَّة بِفَتْحِ الذَّال وَتَشْدِيد الرَّاء، وَمَعْنَاهُ، فَلْيَخْلُقُوا ذَرَّة فيها رُوح تَتَصَرَّف بِنَفْسِهَا كَهَذِهِ الذَّرَّة الَّتِي هِيَ خَلْق اللَّه تَعَالَى، وَكَذَلِكَ فَلْيَخْلُقُوا حَبَّة حِنْطَة أَوْ شَعِير أَيْ لِيَخْلُقُوا حَبَّة فيها طَعْم تُؤْكَل وَتُزْرَع وَتَنْبُت، وَيُوجَد فيها مَا يُوجَد فِي حَبَّة الْحِنْطَة وَالشَّعِير وَنَحْوهمَا مِنْ الْحَبّ الَّذِي يَخْلُقهُ اللَّه تَعَالَى، وَهَذَا أَمْر تَعْجِيز كَمَا سَبَقَ. وَاللَّه أَعْلَم.
3948- سبق شرحه بالباب.

.باب كَرَاهَةِ الْكَلْبِ وَالْجَرَسِ فِي السَّفَرِ:

3949- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَصْحَب الْمَلَائِكَةُ رُفْقَة فيها كَلْب وَلَا جَرَس» وَفِي رِوَايَة: «الْجَرَس مَزَامِير الشَّيْطَان» الرُّفْقَة بِضَمِّ الرَّاء وَكَسْرهَا، وَالْجَرَس بِفَتْحِ الرَّاء، وَهُوَ مَعْرُوف، هَكَذَا ضَبَطَهُ الْجُمْهُور، وَنَقَلَ الْقَاضِي أَنَّ هَذِهِ رِوَايَة الْأَكْثَرِينَ.
قَالَ: وَضَبَطْنَاهُ عَنْ أَبِي بَحْر بِإِسْكَانِهَا وَهُوَ اِسْم لِلصَّوْتِ، فَأَصْل الْجَرَس بِالْإِسْكَانِ الصَّوْت الْخَفِيّ.
أَمَّا فِقْه الْحَدِيث فَفيه كَرَاهَة اِسْتِصْحَاب الْكَلْب وَالْجَرَس فِي الْأَسْفَار، وَأَنَّ الْمَلَائِكَة لَا تَصْحَب رُفْقَة فيها أَحَدهمَا، وَالْمُرَاد بِالْمَلَائِكَةِ مَلَائِكَة الرَّحْمَة وَالِاسْتِغْفَار، لَا الْحَفَظَة، وَقَدْ سَبَقَ بَيَان هَذَا قَرِيبًا، وَسَبَقَ بَيَان الْحِكْمَة فِي مُجَانَبَة الْمَلَائِكَة بَيْتًا فيه كَلْب.
وَأَمَّا الْجَرَس فَقِيلَ: سَبَب مُنَافَرَة الْمَلَائِكَة لَهُ أَنَّهُ شَبِيه بِالنَّوَاقِيسِ، أَوْ لِأَنَّهُ مِنْ الْمَعَالِيق الْمَنْهِيّ عَنْهَا، وَقِيلَ: سَبَبه كَرَاهَة صَوْتهَا، وَتُؤَيِّدهُ رِوَايَة: «مَزَامِير الشَّيْطَان» وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ كَرَاهَة الْجَرَس عَلَى الْإِطْلَاق هُوَ مَذْهَبنَا، وَمَذْهَب مَالِك وَآخَرِينَ وَهِيَ كَرَاهَة تَنْزِيه، وَقَالَ جَمَاعَة مِنْ مُتَقَدِّمِي عُلَمَاء الشَّام: يُكْرَه الْجَرَس الْكَبِير دُون الصَّغِير.
3950- سبق شرحه بالباب.

.باب كَرَاهَةِ قِلاَدَةِ الْوَتَرِ فِي رَقَبَةِ الْبَعِيرِ:

3951- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَبْقَيَنَّ فِي رَقَبَة بَعِير قِلَادَة مِنْ وَتَر، أَوْ قِلَادَة إِلَّا قُطِعَتْ قَالَ مَالِك: أَرَى ذَلِكَ مِنْ الْعَيْن» هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيع النُّسَخ: «قِلَادَة مِنْ وَتَر أَوْ قِلَادَة» فَقِلَادَة الثَّانِيَة مَرْفُوعَة مَعْطُوفَة عَلَى قِلَادَة الْأُولَى، وَمَعْنَاهُ أَنَّ الرَّاوِي شَكّ هَلْ قَالَ: قِلَادَة مِنْ وَتَر، أَوْ قَالَ: قِلَادَة فَقَطْ؟ وَلَمْ يُقَيِّدهَا بِالْوَتَرِ. وَقَوْل مَالِك: «أُرَى ذَلِكَ مِنْ الْعَيْن» هُوَ بِضَمِّ هَمْزَة أُرَى أَيْ أَظُنّ أَنَّ النَّهْي مُخْتَصّ بِمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ بِسَبَبِ رَفْع ضَرَر الْعَيْن.
وَأَمَّا مَنْ فَعَلَهُ لِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ زِينَة أَوْ غَيْرهَا فَلَا بَأْس.
قَالَ الْقَاضِي: الظَّاهِر مِنْ مَذْهَب مَالِك أَنَّ النَّهْي مُخْتَصّ بِالْوَتَرِ دُون غَيْره مِنْ الْقَلَائِد.
قَالَ: وَقَدْ اِخْتَلَفَ النَّاس فِي تَقْلِيد الْبَعِير وَغَيْره مِنْ الْإِنْسَان وَسَائِر الْحَيَوَان مَا لَيْسَ بِتَعَاوِيذ مَخَافَة الْعَيْن، فَمِنْهُمْ مَنْ مَنَعَهُ قَبْل الْحَاجَة إِلَيْهِ، وَأَجَازَهُ عِنْد الْحَاجَة إِلَيْهِ لِدَفْعِ مَا أَصَابَهُ مِنْ ضَرَر الْعَيْن وَنَحْوه، وَمِنْهُمْ مَنْ أَجَازَهُ قَبْل الْحَاجَة وَبَعْدهَا، كَمَا يَجُوز الِاسْتِظْهَار بِالتَّدَاوِي قَبْل الْمَرَض. هَذَا كَلَام الْقَاضِي: وَقَالَ أَبُو عُبَيْد: كَانُوا يُقَلِّدُونَ الْإِبِل الْأَوْتَار لِئَلَّا تُصِيبهَا الْعَيْن، فَأَمَرَهُمْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِزَالَتِهَا إِعْلَامًا لَهُمْ أَنَّ الْأَوْتَار لَا تَرُدّ شَيْئًا.
وَقَالَ مُحَمَّد بْن الْحَسَن وَغَيْره: مَعْنَاهُ لَا تُقَلِّدُوهَا أَوْتَار الْقِسِيّ لِئَلَّا تَضِيق عَلَى أَعْنَاقهَا فَتَخْنُقهَا، وَقَالَ النَّضْر: مَعْنَاهُ لَا تَطْلُبُوا الدُّخُول الَّتِي وَتَّرْتُمْ بِهَا فِي الْجَاهِلِيَّة، وَهَذَا تَأْوِيل ضَعِيف فَاسِد. وَاللَّه أَعْلَم.

.باب النَّهْيِ عَنْ ضَرْبِ الْحَيَوَانِ فِي وَجْهِهِ وَوَسْمِهِ فِيهِ:

3952- قَوْله: «نَهَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ضَرْب الْحَيَوَان فِي الْوَجْه، وَعَنْ الْوَسْم فِي الْوَجْه» وَفِي رِوَايَة: «مَرَّ عَلَيْهِ حِمَار وَقَدْ وُسِمَ فِي وَجْهه فَقَالَ: لَعَنَ اللَّه الَّذِي وَسَمَهُ» وَفِي رِوَايَة اِبْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: «فَأَنْكَرَ ذَلِكَ قَالَ: فَوَاللَّهِ لَا أَسِمهُ إِلَّا فِي أَقْصَى شَيْء مِنْ الْوَجْه، فَأَمَرَ بِحِمَارِ لَهُ فَكُوِيَ فِي جَاعِرَتَيْهِ، فَهُوَ أَوَّل مَنْ كَوَى الْجَاعِرَتَيْنِ» أَمَّا الْوَسْم فَبِالسِّينِ الْمُهْمَلَة، هَذَا هُوَ الصَّحِيح الْمَعْرُوف فِي الرِّوَايَات وَكُتُب الْحَدِيث.
قَالَ الْقَاضِي: ضَبَطْنَاهُ بِالْمُهْمَلَةِ.
قَالَ: وَبَعْضهمْ يَقُولهُ بِالْمُهْمَلَةِ وَبِالْمُعْجَمَةِ، وَبَعْضهمْ فَرَّقَ فَقَالَ: بِالْمُهْمَلَةِ فِي الْوَجْه، وَبِالْمُعْجَمَةِ فِي سَائِر الْجَسَد.
وَأَمَّا الْجَاعِرَتَانِ فَهُمَا حَرْفَا الْوَرِك الْمُشْرِفَانِ مِمَّا يَلِي الدُّبُر.
وَأَمَّا الْقَائِل: فَوَاللَّهِ لَا أَسِمهُ إِلَّا فِي أَقْصَى شَيْء مِنْ الْوَجْه فَقَدْ قَالَ الْقَاضِي عِيَاض: هُوَ الْعَبَّاس بْن عَبْد الْمُطَّلَب، كَذَا ذَكَرَهُ فِي سُنَن أَبِي دَاوُدَ، وَكَذَا صَرَّحَ بِهِ فِي رِوَايَة الْبُخَارِيّ فِي تَارِيخه، قَالَ الْقَاضِي: وَهُوَ فِي كِتَاب مُسْلِم مُشْكِل، يُوهَم أَنَّهُ مِنْ قَوْل النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالصَّوَاب أَنَّهُ قَوْل الْعَبَّاس رَضِيَ اللَّه عَنْهُ كَمَا ذَكَرْنَا. هَذَا كَلَام الْقَاضِي. وَقَوْله: يُوهِم أَنَّهُ مِنْ كَلَام النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ هُوَ بِظَاهِرٍ فيه، بَلْ ظَاهِره أَنَّهُ مِنْ كَلَام اِبْن عَبَّاس، وَحِينَئِذٍ يَجُوز أَنْ تَكُون الْقَضِيَّة جَرَتْ لَلْعَبَّاس وَلِابْنِهِ.
وَأَمَّا الضَّرْب فِي الْوَجْه فَمَنْهِيّ عَنْهُ فِي كُلّ الْحَيَوَان الْمُحْتَرَم مِنْ الْآدَمِيّ وَالْحَمِير وَالْخَيْل وَالْإِبِل وَالْبِغَال وَالْغَنَم وَغَيْرهَا، لَكِنَّهُ فِي الْآدَمِيّ أَشَدّ، لِأَنَّهُ مَجْمَع الْمَحَاسِن، مَعَ أَنَّهُ لَطِيف لِأَنَّهُ يَظْهَر فيه أَثَر الضَّرْب، وَرُبَّمَا شَانَهُ، وَرُبَّمَا آذَى بَعْض الْحَوَاسّ.
وَأَمَّا الْوَسْم فِي الْوَجْه فَمَنْهِيّ عَنْهُ بِالْإِجْمَاعِ لِلْحَدِيثِ، وَلِمَا ذَكَرْنَاهُ. فَأَمَّا الْآدَمِيّ فَوَسْمه حَرَام لِكَرَامَتِهِ، وَلِأَنَّهُ لَا حَاجَة إِلَيْهِ، فَلَا يَجُوز تَعْذِيبه.
وَأَمَّا غَيْر الْآدَمِيّ فَقَالَ جَمَاعَة مِنْ أَصْحَابنَا: يُكْرَه، وَقَالَ الْبَغَوِيُّ مِنْ أَصْحَابنَا: لَا يَجُوز فَأَشَارَ إِلَى تَحْرِيمه، وَهُوَ الْأَظْهَر لِأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعَنَ فَاعِله، وَاللَّعْن يَقْتَضِي التَّحْرِيم.
وَأَمَّا وَسْم غَيْر الْوَجْه مِنْ غَيْر الْآدَمِيّ فَجَائِز بِلَا خِلَاف عِنْدنَا. لَكِنْ يُسْتَحَبّ فِي نَعَم الزَّكَاة وَالْجِزْيَة، وَلَا يُسْتَحَبّ فِي غَيْرهَا، وَلَا يَنْهَى عَنْهُ.
قَالَ أَهْل اللُّغَة: الْوَسْم أَثَر كَيَّة، يُقَال: بَعِير مَوْسُوم، وَقَدْ وَسَمَهُ يَسِمهُ وَسْمًا وَسِمَة، وَالْمِيسَم الشَّيْء الَّذِي يُوسَم بِهِ، وَهُوَ بِكَسْرِ الْمِيم وَفَتْح السِّين، وَجَمْعه مَيَاسِمُ وَمَوَاسِم، وَأَصْله كُلّه مِنْ السِّمَة، وَهِيَ الْعَلَامَة، وَمِنْهُ مَوْسِم الْحَجّ أَيْ مَعْلَم جَمْع النَّاس، وَفُلَان مَوْسُوم بِالْخَيْرِ، وَعَلَيْهِ سِمَة الْخَيْر أَيْ عَلَامَته، وَتَوَسَّمْت فيه كَذَا أَيْ رَأَيْت فيه عَلَامَته. وَاللَّه أَعْلَم.
3953- سبق شرحه بالباب.
3954- سبق شرحه بالباب.