فصل: باب كَرَاهِيَةِ الشُّرْبِ قَائِمًا:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج المشهور بـ «شرح النووي على مسلم»



.باب الأَمْرِ بِتَغْطِيَةِ الإِنَاءِ وَإِيكَاءِ السِّقَاءِ وَإِغْلاَقِ الأَبْوَابِ وَذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ عَلَيْهَا وَإِطْفَاءِ السِّرَاجِ وَالنَّارِ عِنْدَ النَّوْمِ وَكَفِّ الصِّبْيَانِ وَالْمَوَاشِي بَعْدَ الْمَغْرِبِ:

3755- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَإِنَّ الْفُوَيْسِقَة تُضْرِم عَلَى أَهْل الْبَيْت بَيْتهمْ» الْمُرَاد بِالْفُوَيْسِقَةِ: الْفَأْرَة، وَتُضْرِم بِالتَّاءِ وَإِسْكَان الضَّاد أَيْ: تُحْرِق سَرِيعًا، قَالَ أَهْل اللُّغَة: ضَرِمَتْ النَّار بِكَسْرِ الرَّاء وَتَضَرَّمَتْ وَأَضْرَمَتْ، أَيْ: اِلْتَهَمَتْ، وَأَضْرَمْتهَا أَنَا وَضَرَمْتها.
قَوْل مُسْلِم رَحِمه اللَّه: (وَلَمْ يَذْكُر تَعْرِيض الْعُود عَلَى الْإِنَاء) هَكَذَا هُوَ فِي أَكْثَر الْأُصُول، وَفِي بَعْضهَا (تَعْرُض) فَأَمَّا هَذِهِ فَظَاهِرَة، وَأَمَّا (تَعْرُض) فَفيه تَسَمُّح فِي الْعِبَارَة، وَالْوَجْه أَنْ يَقُول: وَلَمْ يَذْكُر عَرْض الْعُود؛ لِأَنَّهُ الْمَصْدَر الْجَارِي عَلَى تَعْرُض. وَاللَّهُ أَعْلَم.
3756- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا كَانَ جُنْح اللَّيْل أَوْ أَمْسَيْتُمْ فَكُفُّوا صِبْيَانكُمْ فَإِنَّ الشَّيْطَان يَنْتَشِر حِينَئِذٍ، فَإِذَا ذَهَبَ سَاعَة مِنْ اللَّيْل فَخَلُّوهُمْ، وَأَغْلِقُوا الْبَاب وَاذْكُرُوا اِسْم اللَّه، فَإِنَّ الشَّيْطَان لَا يَفْتَح بَابًا مُغْلَقًا، وَأَوْكُوا قِرَبكُمْ وَاذْكُرُوا اِسْم اللَّه، وَخَمِّرُوا آنِيَتكُمْ، وَاذْكُرُوا اِسْم اللَّه، وَلَوْ أَنْ تَعْرُضُوا عَلَيْهَا شَيْئًا» هَذَا الْحَدِيث فيه جُمَل مِنْ أَنْوَاع الْخَيْر وَالْأَدَب الْجَامِعَة لِمَصَالِح الْآخِرَة وَالدُّنْيَا، فَأَمَرَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذِهِ الْآدَاب الَّتِي هِيَ سَبَب لِلسَّلَامَةِ مِنْ إِيذَاء الشَّيْطَان، وَجَعَلَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ هَذِهِ الْأَسْبَاب أَسْبَابًا لِلسَّلَامَةِ مِنْ إِيذَائِهِ فَلَا يَقْدِر عَلَى كَشْف إِنَاء وَلَا حَلّ سِقَاء، وَلَا فَتْح بَاب، وَلَا إِيذَاء صَبِيّ وَغَيْره، إِذَا وَجَدْت هَذِهِ الْأَسْبَاب. وَهَذَا كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيث الصَّحِيح: «إِنَّ الْعَبْد إِذَا سَمَّى عِنْد دُخُول بَيْته قَالَ الشَّيْطَان: لَا مَبِيت» أَيْ: لَا سُلْطَان لَنَا عَلَى الْمَبِيت عِنْد هَؤُلَاءِ، وَكَذَلِكَ إِذَا قَالَ الرَّجُل عِنْد جِمَاع أَهْله: «اللَّهُمَّ جَنِّبْنَا الشَّيْطَان وَجَنِّبْ الشَّيْطَان مَا رَزَقْتنَا» كَانَ سَبَب سَلَامَة الْمَوْلُود مِنْ ضَرَر الشَّيْطَان، وَكَذَلِكَ شِبْه هَذَا مِمَّا هُوَ مَشْهُور فِي الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة. وَفِي هَذَا الْحَدِيث: الْحَثّ عَلَى ذِكْر اللَّه تَعَالَى فِي هَذِهِ الْمَوَاضِع، وَيَلْحَق بِهَا مَا فِي مَعْنَاهَا.
قَالَ أَصْحَابنَا: يُسْتَحَبّ أَنْ يُذْكَر اِسْم اللَّه تَعَالَى عَلَى كُلّ أَمْر ذِي بَال، وَكَذَلِكَ يَحْمَد اللَّه تَعَالَى فِي أَوَّل كُلّ أَمْر ذِي بَال لِلْحَدِيثِ الْحَسَن الْمَشْهُور فيه.
قَوْله: (جُنْح اللَّيْل) هُوَ بِضَمِّ الْجِيم وَكَسْرهَا لُغَتَانِ مَشْهُورَتَانِ، وَهُوَ ظَلَامه، وَيُقَال: أَجْنَحَ اللَّيْل أَيْ: أَقْبَلَ ظَلَامه، وَأَصْل الْجُنُوح الْمَيْل.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَكُفُّوا صِبْيَانكُمْ» أَيْ: اِمْنَعُوهُمْ مِنْ الْخُرُوج ذَلِكَ الْوَقْت.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَإِنَّ الشَّيْطَان يَنْتَشِر» أَيْ: جِنْس الشَّيْطَان، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ يُخَاف عَلَى الصَّبِيَّانِ ذَلِكَ الْوَقْت مِنْ إِيذَاء الشَّيَاطِين لِكَثْرَتِهِمْ حِينَئِذٍ. وَاللَّهُ أَعْلَم.
3757- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تُرْسِلُوا فَوَاشِيكُمْ وَصِبْيَانكُمْ إِذَا غَابَتْ الشَّمْس حَتَّى تَذْهَب فَحْمَة الْعِشَاء» قَالَ أَهْل اللُّغَة: (الْفَوَاشِي) كُلّ مُنْتَشِر مِنْ الْمَال كَالْإِبِلِ وَالْغَنَم وَسَائِر الْبَهَائِم وَغَيْرهَا، وَهِيَ جَمْع فَاشِيَة؛ لِأَنَّهَا تَفْشُو، أَيْ: تَنْتَشِر فِي الْأَرْض، وَفَحْمَة الْعِشَاء ظُلْمَتهَا وَسَوَادهَا، وَفَسَّرَهَا بَعْضهمْ هُنَا بِإِقْبَالِهِ وَأَوَّل ظَلَامه، وَكَذَا ذَكَرَهُ صَاحِب نِهَايَة الْغَرِيب، قَالَ: وَيُقَال لِلظُّلْمَةِ الَّتِي بَيْن صَلَاتَيْ الْمَغْرِب وَالْعِشَاء: الْفَحْمَة، وَلِلَّتِي بَيْن الْعِشَاء وَالْفَجْر الْعَسْعَسَة.
3758- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَإِنَّ فِي السَّنَة لَيْلَة يَنْزِل فيها وَبَاء» وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: «يَوْمًا» بَدَل: «لَيْلَة».
قَالَ اللَّيْث: فَالْأَعَاجِم عِنْدنَا يَتَّقُونَ ذَلِكَ فِي كَانُون الْأَوَّل. «الْوَبَاء» يُمَدّ وَيُقْصَر لُغَتَانِ حَكَاهُمَا الْجَوْهَرِيّ وَغَيْره، الْقَصْر أَشْهَر، قَالَ الْجَوْهَرِيّ: جَمْع الْمَقْصُور: أَوْبَاء، وَجَمْع الْمَمْدُود أَوْبِيَة، قَالُوا: وَالْوَبَاء مَرَض عَامّ يُفْضِي إِلَى الْمَوْت غَالِبًا.
وَقَوْله: «يَتَّقُونَ ذَلِكَ» أَيْ: يَتَوَقَّعُونَهُ وَيَخَافُونَهُ، وَكَانُون غَيْر مَصْرُوف؛ لِأَنَّهُ عَلَم أَعْجَمِيّ، وَهُوَ الشَّهْر الْمَعْرُوف.
وَأَمَّا قَوْله فِي رِوَايَة: «لَيْلَة» فَلَا مُنَافَاة بَيْنهمَا إِذْ لَيْسَ فِي أَحَدهمَا نَفْي الْآخَر، فَهُمَا ثَابِتَانِ.
3759- وَقَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَتْرُكُوا النَّار فِي بُيُوتكُمْ حِين تَنَامُونَ» هَذَا عَامّ تَدْخُل فيه نَار السِّرَاج وَغَيْرهَا، وَأَمَّا الْقَنَادِيل الْمُعَلَّقَة فِي الْمَسَاجِد وَغَيْرهَا فَإِنْ خِيفَ حَرِيق بِسَبَبِهَا دَخَلَتْ فِي الْأَمْر بِالْإِطْفَاءِ، وَإِنْ أُمِنَ ذَلِكَ كَمَا هُوَ الْغَالِب فَالظَّاهِر أَنَّهُ لَا بَأْس بِهَا لِانْتِفَاءِ الْعِلَّة؛ لِأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَّلَ الْأَمْر بِالْإِطْفَاءِ فِي الْحَدِيث السَّابِق بِأَنَّ الْفُوَيْسِقَة تُضْرِم عَلَى أَهْل الْبَيْت بَيْتهمْ، فَإِذَا اِنْتَفَتْ الْعِلَّة زَالَ الْمَنْع.
3760- قَوْله: (سَعِيد بْن عَمْرو الْأَشْعَثِيّ) تَقَدَّمَ مَرَّات أَنَّهُ مَنْسُوب إِلَى جَدّه الْأَعْلَى الْأَشْعَث بْن قَيْس.
قَوْله: (بُرَيْد عَنْ أَبِي بُرْدَة) تَقَدَّمَ أَيْضًا مَرَّات أَنَّهُ بِضَمِّ الْمُوَحَّدَة وَاللَّهُ أَعْلَم.

.باب آدَابِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَأَحْكَامِهِمَا:

3761- قَوْله: عَنْ الْأَعْمَش عَنْ خَيْثَمَةَ عَنْ أَبِي حُذَيْفَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ: «كُنَّا إِذَا حَضَرْنَا مَعَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَعَامًا لَمْ نَضَع أَيْدِينَا حَتَّى يَبْدَأ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَضَع يَده... إِلَى آخِره» هَذَا الْإِسْنَاد فيه ثَلَاثَة تَابِعِيُّونَ كُوفِيُّونَ بَعْضهمْ عَنْ بَعْض الْأَعْمَش عَنْ خَيْثَمَةَ- وَهُوَ خَيْثَمَة بْن عَبْد الرَّحْمَن الْعَبْد الصَّالِح- وَأَبُو حُذَيْفَة وَاسْمه سَلَمَة بْن صُهَيْب، وَقِيلَ: اِبْن صُهَيْبَة وَقِيلَ: اِبْن صَهْبَان، وَقِيلَ: اِبْن صُهْبَة، وَقِيلَ: اِبْن صُهَيْبَة الْهَمْدَانِيُّ الْأَرْحَبِيّ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَة وَبِالْمُوَحَّدَةِ.
وَقَوْله: «لَمْ نَضَع أَيْدِينَا حَتَّى يَبْدَأ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» فيه بَيَان هَذَا الْأَدَب، وَهُوَ أَنَّهُ يَبْدَأ الْكَبِير وَالْفَاضِل فِي غَسْل الْيَد لِلطَّعَامِ وَفِي الْأَكْل.
قَوْله: «فَجَاءَتْ جَارِيَة كَأَنَّهَا تَدْفَع»؛ وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: «كَأَنَّهَا تَطْرُد» يَعْنِي لِشِدَّةِ سُرْعَتهَا: «فَذَهَبَتْ لِتَضَع يَدهَا فِي الطَّعَام فَأَخَذَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهَا، ثُمَّ جَاءَ أَعْرَابِيّ كَأَنَّمَا يَدْفَع فَأَخَذَ بِيَدِهِ فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ الشَّيْطَان يَسْتَحِلّ الطَّعَام إِذَا لَمْ يُذْكَر اِسْم اللَّه تَعَالَى عَلَيْهِ، وَإِنَّهُ جَاءَ بِهَذِهِ الْجَارِيَة لِيَسْتَحِلّ بِهَا فَأَخَذْت بِيَدِهَا، فَجَاءَ بِهَذَا الْأَعْرَابِيّ لِيَسْتَحِلّ بِهِ فَأَخَذْت بِيَدِهِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّ يَده فِي يَدِي مَعَ يَدهَا»، ثُمَّ زَادَ فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى فِي آخِر الْحَدِيث: «ثُمَّ ذَكَرَ اِسْم اللَّه تَعَالَى وَأَكَلَ». فِي هَذَا الْحَدِيث فَوَائِد: مِنْهَا جَوَاز الْحَلِف مِنْ غَيْر اِسْتِحْلَاف، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانه مَرَّات، وَتَفْصِيل الْحَال فِي اِسْتِحْبَابه وَكَرَاهَته، وَمِنْهَا: اِسْتِحْبَاب التَّسْمِيَة فِي اِبْتِدَاء الطَّعَام، وَهَذَا مُجْمَع عَلَيْهِ، وَكَذَا تُسْتَحَبّ حَمْد اللَّه تَعَالَى فِي آخِره كَمَا سَيَأْتِي فِي مَوْضِعه إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى، وَكَذَا تُسْتَحَبّ التَّسْمِيه فِي أَوَّل الشَّرَاب، بَلْ فِي أَوَّل كُلّ أَمْر ذِي بَال كَمَا ذَكَرْنَا قَرِيبًا، قَالَ الْعُلَمَاء: وَيُسْتَحَبّ أَنْ يَجْهَر بِالتَّسْمِيَةِ لِيُسْمِع غَيْره وَيُنَبِّههُ عَلَيْهَا، وَلَوْ تَرَكَ التَّسْمِيَة فِي أَوَّل الطَّعَام عَامِدًا أَوْ نَاسِيًا أَوْ جَاهِلًا أَوْ مُكْرَهًا أَوْ عَاجِزًا لِعَارِضٍ آخَر ثُمَّ تَمَكَّنَ فِي أَثْنَاء أَكْله مِنْهَا يُسْتَحَبّ أَنْ يُسَمِّي وَيَقُول: بِسْمِ اللَّه أَوَّله وَآخِره، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا أَكَلَ أَحَدكُمْ فَلْيَذْكُرْ اِسْم اللَّه فَإِنْ نَسِيَ أَنْ يَذْكُر اللَّه فِي أَوَّله فَلْيَقُلْ: بِسْمِ اللَّه أَوَّله وَآخِره» رَوَاه أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيّ وَغَيْرهمَا، قَالَ التِّرْمِذِيّ: حَدِيث حَسَن صَحِيح، وَالتَّسْمِيَة فِي شُرْب الْمَاء وَاللَّبَن وَالْعَسَل وَالْمَرَق وَالدَّوَاء وَسَائِر الْمَشْرُوبَات كَالتَّسْمِيَةِ عَلَى الطَّعَام فِي كُلّ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَتَحْصُل التَّسْمِيَة بِقَوْلِهِ: (بِسْمِ اللَّه) فَإِنْ قَالَ: بِسْمِ اللَّه الرَّحْمَن الرَّحِيم، كَانَ حَسَنًا، وَسَوَاء فِي اِسْتِحْبَاب التَّسْمِيَة الْجُنُب وَالْحَائِض وَغَيْرهمَا، وَيَنْبَغِي أَنْ يُسَمِّي كُلّ وَاحِد مِنْ الْآكِلِينَ، فَإِنْ سَمَّى وَاحِدٌ مِنْهُمْ حَصَلَ أَصْل السُّنَّة، نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ، وَيُسْتَدَلّ لَهُ بِأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَ أَنَّ الشَّيْطَان إِنَّمَا يَتَمَكَّن مِنْ الطَّعَام إِذَا لَمْ يُذْكَر اِسْم اللَّه تَعَالَى عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ الْمَقْصُود يَحْصُل بِوَاحِدٍ، وَيُؤَيِّدهُ أَيْضًا مَا سَيَأْتِي فِي حَدِيث الذِّكْر عِنْد دُخُول الْبَيْت، وَقَدْ أَوْضَحْت هَذِهِ الْمَسَائِل وَمَا يَتَعَلَّق بِهَا فِي كِتَاب أَذْكَار الطَّعَام. وَاللَّهُ أَعْلَم.
وَقَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ يَده فِي يَدِي مَعَ يَدهَا» هَكَذَا هُوَ فِي مُعْظَم الْأُصُول: «يَدهَا» وَفِي بَعْضهَا: «يَدهمَا» فَهَذَا ظَاهِر، وَالتَّثْنِيَة تَعُود إِلَى الْجَارِيَة وَالْأَعْرَابِيّ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ يَدِي فِي يَد الشَّيْطَان مَعَ يَد الْجَارِيَة وَالْأَعْرَابِيّ.
وَأَمَّا عَلَى رِوَايَة: «يَدهَا» بِالْإِفْرَادِ فَيَعُود الضَّمِير عَلَى الْجَارِيَة، وَقَدْ حَكَى الْقَاضِي عِيَاض رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّ الْوَجْه التَّثْنِيَة، وَالظَّاهِر أَنَّ رِوَايَة الْإِفْرَاد أَيْضًا مُسْتَقِيمَة، فَإِنَّ إِثْبَات يَدهَا لَا يَنْفِي يَد الْأَعْرَابِيّ، وَإِذَا صَحَّتْ الرِّوَايَة بِالْإِفْرَادِ وَجَبَ قَبُولهَا وَتَأْوِيلهَا عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ. وَاللَّهُ أَعْلَم.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الشَّيْطَان يَسْتَحِلّ الطَّعَام أَنْ لَا يُذْكَر اِسْم اللَّه تَعَالَى عَلَيْهِ» مَعْنَى (يَسْتَحِلّ) يَتَمَكَّن مِنْ أَكْله، وَمَعْنَاهُ: أَنَّهُ يَتَمَكَّن مِنْ أَكْل الطَّعَام إِذَا شَرَعَ فيه إِنْسَان بِغَيْرِ ذِكْر اللَّه تَعَالَى.
وَأَمَّا إِذَا لَمْ يَشْرَع فيه أَحَد فَلَا يَتَمَكَّن. وَإِنْ كَانَ جَمَاعَة فَذَكَرَ اِسْم اللَّه بَعْضهمْ دُون بَعْض لَمْ يَتَمَكَّن مِنْهُ، ثُمَّ الصَّوَاب الَّذِي عَلَيْهِ جَمَاهِير الْعُلَمَاء مِنْ السَّلَف وَالْخَلَف مِنْ الْمُحَدِّثِينَ وَالْفُقَهَاء وَالْمُتَكَلِّمِينَ أَنَّ هَذَا الْحَدِيث وَشَبَهه مِنْ الْأَحَادِيث الْوَارِدَة فِي أَكْل الشَّيْطَان مَحْمُولَة عَلَى ظَوَاهِرهَا، وَأَنَّ الشَّيْطَان يَأْكُل حَقِيقَة إِذْ الْعَقْل لَا يُحِيلهُ، وَالشَّرْع لَمْ يُنْكِرهُ، بَلْ أَثْبَته فَوَجَبَ قَبُوله وَاعْتِقَاده. وَاللَّهُ أَعْلَم. قَوْله فِي الرِّوَايَة الثَّانِيَة وَقَدَّمَ مَجِيء الْأَعْرَابِيّ قَبْل الْجَارِيَة عَكْس الرِّوَايَة الْأُولَى، وَالثَّالِثَة كَالْأُولَى، وَوَجْه الْجَمْع بَيْنهمَا أَنَّ الْمُرَاد بِقَوْلِهِ فِي الثَّانِيَة (قَدَّمَ مَجِيء الْأَعْرَابِيّ) أَنَّهُ قَدَّمَهُ فِي اللَّفْظ بِغَيْرِ حَرْف تَرْتِيب، فَذَكَرَهُ بِالْوَاوِ فَقَالَ: جَاءَ أَعْرَابِيّ وَجَاءَتْ جَارِيَة، وَالْوَاو لَا تَقْتَضِي تَرْتِيبًا، وَأَمَّا الرِّوَايَة الْأُولَى فَصَرِيحَة فِي التَّرْتِيب وَتَقْدِيم الْجَارِيَة؛ لِأَنَّهُ قَالَ: ثُمَّ جَاءَ أَعْرَابِيّ، وَثُمَّ لِلتَّرْتِيبِ فَيَتَعَيَّن حَمْل الثَّانِيَة عَلَى الْأُولَى وَيَبْعُد حَمْله عَلَى وَاقِعَتَيْنِ.
3762- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا دَخَلَ الرَّجُل بَيْته فَذَكَرَ اللَّه تَعَالَى عِنْد دُخُوله وَعِنْد طَعَامه قَالَ الشَّيْطَان: لَا مَبِيت لَكُمْ وَلَا عِشَاء، وَإِذَا دَخَلَ فَلَمْ يَذْكُر اللَّه تَعَالَى عِنْد دُخُوله قَالَ الشَّيْطَان: أَدْرَكْتُمْ الْمَبِيت. وَإِذَا لَمْ يَذْكُر اللَّه تَعَالَى عِنْد طَعَامه قَالَ: أَدْرَكْتُمْ الْمَبِيت وَالْعِشَاء» مَعْنَاهُ: قَالَ الشَّيْطَان لِإِخْوَانِهِ وَأَعْوَانه وَرُفْقَته. وَفِي هَذَا اِسْتِحْبَاب ذِكْر اللَّه تَعَالَى عِنْد دُخُول الْبَيْت وَعِنْد الطَّعَام.
3763- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَأْكُلُوا بِالشِّمَالِ فَإِنَّ الشَّيْطَان يَأْكُل بِالشِّمَالِ» فيه اِسْتِحْبَاب الْأَكْل وَالشُّرْب بِالْيَمِينِ وَكَرَاهَتهمَا بِالشِّمَالِ، وَقَدْ زَادَ نَافِع الْأَخْذ وَالْإِعْطَاء، وَهَذَا إِذَا لَمْ يَكُنْ عُذْر، فَإِنْ كَانَ عُذْر يَمْنَع الْأَكْل وَالشُّرْب بِالْيَمِينِ مِنْ مَرَض أَوْ جِرَاحَة أَوْ غَيْر ذَلِكَ فَلَا كَرَاهَة فِي الشِّمَال. وَفيه: أَنَّهُ يَنْبَغِي اِجْتِنَاب الْأَفْعَال الَّتِي تُشْبِه أَفْعَال الشَّيَاطِين وَأَنَّ لِلشَّيَاطِينِ يَدَيْنِ.
3764- فِي رِوَايَة اِبْن عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: «إِذَا أَكَلَ أَحَدكُمْ فَلْيَأْكُلْ بِيَمِينِهِ، وَإِذَا شَرِبَ فَلْيَشْرَبْ بِيَمِينِهِ، فَإِنَّ الشَّيْطَان يَأْكُل بِشِمَالِهِ، وَيَشْرَب بِشِمَالِهِ»، وَكَانَ نَافِع يَزِيد فيها: «وَلَا يَأْخُذ بِهَا وَلَا يُعْطِي بِهَا» فيه: اِسْتِحْبَاب الْأَكْل وَالشُّرْب بِالْيَمِينِ، وَكَرَاهَتهمَا بِالشِّمَالِ، وَقَدْ زَادَ نَافِع الْأَخْذ وَالْإِعْطَاء، وَهَذَا إِذَا لَمْ يَكُنْ عُذْر فَإِنْ كَانَ عُذْر يَمْنَع الْأَكْل وَالشُّرْب بِالْيَمِينِ مِنْ مَرَض أَوْ جِرَاحَة أَوْ غَيْر ذَلِكَ فَلَا كَرَاهَة اِجْتِنَاب الْأَفْعَال الَّتِي تُشْبِه أَفْعَال الشَّيَاطِين، وَأَنَّ لِلشَّيَاطِينِ يَدَيْنِ.
3766- قَوْله: «إِنَّ رَجُلًا أَكَلَ عِنْد رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشِمَالِهِ فَقَالَ: كُلْ بِيَمِينِك، قَالَ: لَا أَسْتَطِيع، قَالَ: لَا اِسْتَطَعْت، مَا مَنَعَهُ إِلَّا الْكِبْر، قَالَ: فَمَا رَفَعَهَا إِلَى فيه» هَذَا الرَّجُل هُو: (بُسْر) بِضَمِّ الْبَاء وَبِالسِّينِ الْمُهْمَلَة، اِبْن رَاعِي الْعَيْر، بِفَتْحِ الْعَيْن وَبِالْمُثَنَّاةِ، الْأَشْجَعِيّ، كَذَا ذَكَرَ اِبْن مَنْدَهْ وَأَبُو نُعَيْم الْأَصْبَهَانِيّ، وَابْن مَاكُولَا وَآخَرُونَ وَهُوَ صَحَابِيّ مَشْهُور عَدَّهُ هَؤُلَاءِ وَغَيْرهمْ مِنْ الصَّحَابَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ، وَأَمَّا قَوْل الْقَاضِي عِيَاض رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: إِنَّ قَوْله: مَا مَنَعَهُ إِلَّا الْكِبْر، يَدُلّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مُنَافِقًا، فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، فَإِنَّ مُجَرَّد الْكِبْر وَالْمُخَالَفَة لَا يَقْتَضِي النِّفَاق وَالْكُفْر، لَكِنَّهُ مَعْصِيَة إِنْ كَانَ الْأَمْر أَمْر إِيجَاب. وَفِي هَذَا الْحَدِيث: جَوَاز الدُّعَاء عَلَى مَنْ خَالَفَ الْحُكْم الشَّرْعِيّ بِلَا عُذْر، وَفيه: الْأَمْر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَنْ الْمُنْكَر فِي كُلّ حَال حَتَّى فِي حَال الْأَكْل، وَاسْتِحْبَاب تَعْلِيم الْآكِل آدَاب الْأَكْل إِذَا خَالَفَهُ كَمَا فِي حَدِيث عُمَر بْن أَبِي سَلَمَة الَّذِي بَعْد هَذَا.
3767- قَوْله: «مِنْ عُمَر بْن أَبِي سَلَمَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ: كُنْت فِي حِجْر رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَتْ يَدِي تَطِيش فِي الصَّحْفَة فَقَالَ لِي: يَا غُلَام سَمِّ اللَّه وَكُلْ بِيَمِينِك، وَكُلْ مِمَّا يَلِيك» قَوْله: (تَطِيش) بِكَسْرِ الطَّاء وَبَعْدهَا مُثَنَّاة تَحْت سَاكِنَة أَيْ تَتَحَرَّك وَتَمْتَدّ إِلَى نَوَاحِي الصَّحْفَة، وَلَا تَقْتَصِر عَلَى مَوْضِع وَاحِد، وَالصَّحْفَة دُون الْقَصْعَة، وَهِيَ مَا تَسَع مَا يُشْبِع خَمْسَة، فَالْقَصْعَة تُشْبِع عَشْرَة، كَذَا قَالَهُ الْكِسَائِيّ فِيمَا حَكَاهُ الْجَوْهَرِيّ وَغَيْره عَنْهُ.
وَقِيلَ: الصَّحْفَة كَالْقَصْعَةِ، وَجَمْعهَا صِحَاف. وَفِي هَذَا الْحَدِيث بَيَان ثَلَاث سُنَن مِنْ سُنَن الْأَكْل وَهِيَ: التَّسْمِيَة، وَالْأَكْل بِالْيَمِينِ، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانهمَا، وَالثَّالِثَة: الْأَكْل مِمَّا يَلِيه؛ لِأَنَّ أَكْله مِنْ مَوْضِع يَد صَاحِبه سُوء عِشْرَة وَتَرْك مُرُوءَة فَقَدْ يَتَقَذَّرهُ صَاحِبه لاسيما فِي الْأَمْرَاق وَشَبَههَا، وَهَذَا فِي الثَّرِيد وَالْأَمْرَاق وَشَبَههَا، فَإِنْ كَانَ تَمْرًا أَوْ أَجْنَاسًا فَقَدْ نَقَلُوا إِبَاحَة اِخْتِلَاف الْأَيْدِي فِي الطَّبَق وَنَحْوه، وَالَّذِي يَنْبَغِي تَعْمِيم النَّهْي حَمْلًا لِلنَّهْيِ عَلَى عُمُومه حَتَّى يَثْبُت دَلِيل مُخَصِّص.
3768- قَوْله: (مُحَمَّد بْن عَمْرو بْن حَلْحَلَة) هُوَ بِفَتْحِ الْحَاءَيْنِ الْمُهْمَلَتَيْنِ وَإِسْكَان اللَّام بَيْنهمَا. وَاللَّهُ أَعْلَم.
3769- قَوْله: «نَهَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ اِخْتِنَاث الْأَسْقِيَة»، قَالَ فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: «وَاخْتِنَاثهَا أَنْ يَقْلِب رَأْسهَا حَتَّى يَشْرَب مِنْهُ». الِاخْتِنَاث بِخَاءٍ مُعْجَمَة ثُمَّ تَاء مُثَنَّاة فَوْق ثُمَّ نُون ثُمَّ أَلِف ثُمَّ مُثَلَّثَة، وَقَدْ فَسَّرَهُ فِي الْحَدِيث، وَأَصْل هَذِهِ الْكَلِمَة التَّكَسُّر وَالِانْطِوَاء، وَمِنْهُ سُمِّيَ الرَّجُل الْمُتَشَبِّه بِالنِّسَاءِ فِي طَبْعه وَكَلَامه وَحَرَكَاته مُخَنَّثًا، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ النَّهْي عَنْ اِخْتِنَاثهَا نَهْي تَنْزِيه لَا تَحْرِيم، ثُمَّ قِيلَ: سَبَبُهُ أَنَّهُ لَا يُؤْمِن أَنْ يَكُون فِي الْبَقَاء مَا يُؤْذِيه، فَيَدْخُل فِي جَوْفه وَلَا يَدْرِي، وَقِيلَ: لِأَنَّهُ يُقَذِّرهُ عَلَى غَيْره، وَقِيلَ: إِنَّهُ يُنْتِنهُ أَوْ لِأَنَّهُ مُسْتَقْذَر، وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيّ وَغَيْره عَنْ كَبْشَة بِنْت ثَابِت وَهِيَ أُخْت حَسَّان بْن ثَابِت رَضِيَ اللَّه تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَشَرِبَ مِنْ قِرْبَة مُعَلَّقَة قَائِمًا فَقُمْت إِلَى فيها فَقَطَعْته، قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث حَسَن صَحِيح، وَقَطْعهَا لِفَمِ الْقِرْبَة فَعَلَتْهُ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدهمَا أَنْ تَصُونَ مَوْضِعًا أَصَابَهُ فَم رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَنْ يُبْتَذَل وَيَمَسّهُ كُلّ أَحَد، وَالثَّانِي أَنْ تَحْفَظهُ لِلتَّبَرُّكِ بِهِ وَالِاسْتِشْفَاء. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَهَذَا الْحَدِيث يَدُلّ عَلَى أَنَّ النَّهْي لَيْسَ لِلتَّحْرِيمِ. وَاللَّهُ أَعْلَم.
3770- سبق شرحه بالباب.

.باب كَرَاهِيَةِ الشُّرْبِ قَائِمًا:

3771- حَدِيث قَتَادَة: «عَنْ أَنَس رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَجَرَ عَنْ الشُّرْب قَائِمًا»، وَفِي رِوَايَة: «نَهَى عَنْ الشُّرْب قَائِمًا قَالَ قَتَادَة: فَالْأَكْل؟ قَالَ: أَشَرّ أَوْ أَخْبَث»، وَفِي رِوَايَة: عَنْ قَتَادَة عَنْ أَبِي عِيسَى الْأَسْوَارِيّ عَنْ أَبِي سَعِيد الْخُدْرِيِّ: «أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَجَرَ عَنْ الشُّرْب قَائِمًا»، وَفِي رِوَايَة عَنْهُمْ: «نَهَى عَنْ الشُّرْب قَائِمًا»، وَفِي رِوَايَة: عَنْ عُمَر بْن حَمْزَة قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو غَطَفَان الْمُرِّيّ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَة يَقُول: قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَشْرَبَنَّ أَحَدكُمْ قَائِمًا فَمَنْ نَسِيَ فَلْيَسْتَقِيء» وَعَنْ اِبْن عَبَّاس: «سَقَيْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ زَمْزَم فَشَرِبَ وَهُوَ قَائِم»، وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: «أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَرِبَ مِنْ زَمْزَم وَهُوَ قَائِم» وَفِي صَحِيح الْبُخَارِيّ: «أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّه عَنْهُ شَرِبَ قَائِمًا وَقَالَ: رَأَيْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَ كَمَا رَأَيْتُمُونِي فَعَلْت». اِعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْأَحَادِيث أَشْكَلَ مَعْنَاهَا عَلَى بَعْض الْعُلَمَاء حَتَّى قَالَ فيها أَقْوَالًا بَاطِلَة، وَزَادَ حَتَّى تَجَاسَرَ وَرَامَ أَنْ يُضَعِّف بَعْضهَا، وَادَّعَى فيها دَعَاوِي بَاطِلَة لَا غَرَض لَنَا فِي ذِكْرهَا، وَلَا وَجْه لِإِشَاعَةِ الْأَبَاطِيل وَالْغَلَطَات فِي تَفْسِير السُّنَن، بَلْ نَذْكُر الصَّوَاب، وَيُشَار إِلَى التَّحْذِير مِنْ الِاغْتِرَار بِمَا خَالَفَهُ، وَلَيْسَ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيث بِحَمْدِ اللَّه تَعَالَى إِشْكَال، وَلَا فيها ضَعْف، بَلْ كُلّهَا صَحِيحَة، وَالصَّوَاب فيها أَنَّ النَّهْي فيها مَحْمُول عَلَى كَرَاهَة التَّنْزِيه.
وَأَمَّا شُرْبه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَائِمًا فَبَيَان لِلْجَوَازِ، فَلَا إِشْكَال وَلَا تَعَارُض، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ يَتَعَيَّن الْمَصِير إِلَيْهِ، وَأَمَّا مَنْ زَعَمَ نَسْخًا أَوْ غَيْره فَقَدْ غَلِطَ غَلَطًا فَاحِشًا، وَكَيْف يُصَار إِلَى النَّسْخ مَعَ إِمْكَان الْجَمْع بَيْن الْأَحَادِيث لَوْ ثَبَتَ التَّارِيخ وَأَنَّى لَهُ بِذَلِكَ. وَاللَّهُ أَعْلَم. فَإِنْ قِيلَ: كَيْف يَكُون الشُّرْب قَائِمًا مَكْرُوهًا وَقَدْ فَعَلَهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَالْجَوَاب: أَنَّ فِعْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا كَانَ بَيَانًا لِلْجَوَازِ لَا يَكُون مَكْرُوهًا، بَلْ الْبَيَان وَاجِب عَلَيْهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكَيْف يَكُون مَكْرُوهًا وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَضَّأَ مَرَّة مَرَّة وَطَافَ عَلَى بَعِير مَعَ أَنَّ الْإِجْمَاع عَلَى أَنَّ الْوُضُوء ثَلَاثًا وَالطَّوَاف مَاشِيًا أَكْمَل، وَنَظَائِر هَذَا غَيْر مُنْحَصِرَة، فَكَانَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُنَبِّه عَلَى جَوَاز الشَّيْء مَرَّة أَوْ مَرَّات، وَيُوَاظِب عَلَى الْأَفْضَل مِنْهُ، وَهَكَذَا كَانَ أَكْثَر وُضُوئِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاث ثَلَاثًا، وَأَكْثَر طَوَافه مَاشِيًا، وَأَكْثَر شُرْبه جَالِسًا، وَهَذَا وَاضِح لَا يَتَشَكَّك فيه مَنْ لَهُ أَدْنَى نِسْبَة إِلَى عِلْم. وَاللَّهُ أَعْلَم.
3772- وَقَوْله: (قَالَ قَتَادَة: قُلْنَا- يَعْنِي لِأَنَسٍ-: فَالْأَكْل؟ قَالَ: أَشَرّ وَأَخْبَث) هَكَذَا وَقَعَ فِي الْأُصُول (أَشَرّ) بِالْأَلِفِ وَالْمَعْرُوف فِي الْعَرَبِيَّة (شَرّ) بِغَيْرِ أَلِف، وَكَذَلِكَ (خَيْر) قَالَ اللَّه تَعَالَى: {أَصْحَاب الْجَنَّة يَوْمئِذٍ خَيْر مُسْتَقَرًّا} وَقَالَ تَعَالَى: {فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرّ مَكَانًا} وَلَكِنَّ هَذِهِ اللَّفْظَة وَقَعَتْ هُنَا عَلَى الشَّكّ، فَإِنَّهُ قَالَ: أَشَرّ أَوْ أَخْبَث، فَشَكَّ قَتَادَة فِي أَنَّ أَنَسًا قَالَ: أَشَرّ أَوْ قَالَ: أَخْبَث، فَلَا يَثْبُت عَنْ أَنَس (أَشَرّ) بِهَذِهِ الرِّوَايَة، فَإِنْ جَاءَتْ هَذِهِ اللَّفْظَة بِلَا شَكّ، وَثَبَتَتْ عَنْ أَنَس، فَهُوَ عَرَبِيّ فَصِيح فَهِيَ لُغَة، وَإِنْ كَانَتْ قَلِيلَة الِاسْتِعْمَال، وَلِهَذَا نَظَائِر مِمَّا لَا يَكُون مَعْرُوفًا عِنْد النَّحْوِيِّينَ وَجَارِيًا عَلَى قَوَاعِدهمْ، وَقَدْ صَحَّتْ بِهِ الْأَحَادِيث فَلَا يَنْبَغِي رَدّه إِذَا ثَبَتَ، بَلْ يُقَال: هَذِهِ لُغَة قَلِيلَة الِاسْتِعْمَال، وَنَحْو هَذَا مِنْ الْعِبَارَات، وَسَبَبه أَنَّ النَّحْوِيِّينَ لَمْ يُحِيطُوا إِحَاطَة قَطْعِيَّة بِجَمِيعِ كَلَام الْعَرَب، وَلِهَذَا يَمْنَع بَعْضهمْ مَا يَنْقُلهُ غَيْره عَنْ الْعَرَب كَمَا هُوَ مَعْرُوف. وَاللَّهُ أَعْلَم.
3773- وَقَوْله: (عَنْ أَبِي عِيسَى الْأُسْوَارِيّ) هُوَ بِضَمِّ الْهَمْزَة وَحُكِيَ كَسْرهَا، وَالَّذِي ذَكَرَهُ السَّمْعَانِيّ وَصَاحِبَا الْمَشَارِق وَالْمَطَالِع هُوَ الضَّمّ فَقَطْ، قَالَ أَبُو عَلِيّ الْغَسَّانِيّ وَالسَّمْعَانِيّ وَغَيْرهمَا: لَا يُعْرَف اِسْمه، قَالَ الْإِمَام أَحْمَد بْن حَنْبَل: لَا نَعْلَم أَحَدًا رَوَى عَنْهُ غَيْر قَتَادَة، وَقَالَ الطَّبَرَانِيُّ: هُوَ بَصْرِيّ ثِقَة، وَهُوَ مَنْسُوب إِلَى الْأُسْوَار، وَهُوَ الْوَاحِد مِنْ أَسَاوِرَة الْفُرْس، قَالَ الْجَوْهَرِيّ: قَالَ أَبُو عُبَيْد هُمْ الْفُرْسَانِ، قَالَ: وَالْأَسَاوِرَة أَيْضًا قَوْم مِنْ الْعَجَم بِالْبَصْرَةِ نَزَلُوهَا قَدِيمًا كَالْأَخَامِرَة بِالْكُوفَةِ.
3775- وَأَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَمَنْ نَسِيَ فَلْيَسْتَقِيء» فَمَحْمُول عَلَى الِاسْتِحْبَاب وَالنَّدْب، فَيُسْتَحَبّ لِمَنْ شَرِبَ قَائِمًا أَنْ يَتَقَايَأَهُ لِهَذَا الْحَدِيث الصَّحِيح الصَّرِيح؛ فَإِنَّ الْأَمْر إِذَا تَعَذَّرَ حَمْله عَلَى الْوُجُوب حُمِلَ عَلَى الِاسْتِحْبَاب.
وَأَمَّا قَوْل الْقَاضِي عِيَاض: لَا خِلَاف بَيْن أَهْل الْعِلْم أَنَّ مَنْ شَرِبَ نَاسِيًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَقَيَّأَهُ، فَأَشَارَ إِلَى تَضْعِيف الْحَدِيث فَلَا يُلْتَفَت إِلَى إِشَارَته، وَكَوْن أَهْل الْعِلْم لَمْ يُوجِبُوا الِاسْتِقَاءَة لَا يَمْنَع كَوْنهَا مُسْتَحَبَّة، فَإِنْ اِدَّعَى مُدَّعٍ مَنْع الِاسْتِحْبَاب فَهُوَ مُجَازِف لَا يُلْتَفَت إِلَيْهِ، فَمِنْ أَيْنَ لَهُ الْإِجْمَاع عَلَى مَنْع الِاسْتِحْبَاب؟ وَكَيْف تُتْرَك هَذِهِ السُّنَّة الصَّحِيحَة الصَّرِيحَة بِالتَّوَهُّمَاتِ وَالدَّعَاوَى وَالتُّرَّهَات؟ ثُمَّ اِعْلَمْ أَنَّهُ تُسْتَحَبّ الِاسْتِقَاءَة لِمَنْ شَرِبَ قَائِمًا نَاسِيًا أَوْ مُتَعَمِّدًا، وَذِكْر النَّاسِي فِي الْحَدِيث لَيْسَ الْمُرَاد بِهِ أَنَّ الْقَاصِد يُخَالِفهُ، بَلْ لِلتَّنْبِيهِ بِهِ عَلَى غَيْره بِطَرِيقِ الْأَوْلَى؛ لِأَنَّهُ إِذَا أَمَرَ بِهِ النَّاسِي وَهُوَ غَيْر مُخَاطَب فَالْعَامِد الْمُخَاطَب الْمُكَلَّف أَوْلَى، وَهَذَا وَاضِح لَا شَكّ فيه لاسيما عَلَى مَذْهَب الشَّافِعِيّ وَالْجُمْهُور فِي أَنَّ الْقَاتِل عَمْدًا تَلْزَمهُ الْكَفَّارَة، وَأَنَّ قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأ فَتَحْرِير رَقَبَة} لَا يَمْنَع وُجُوبهَا عَلَى الْعَامِد بَلْ لِلتَّنْبِيهِ. وَاللَّهُ أَعْلَم.
وَأَمَّا مَا يَتَعَلَّق بِأَسَانِيد الْبَاب وَأَلْفَاظه: فَقَالَ مُسْلِم: (حَدَّثَنَا هَدَّاب بْن خَالِد حَدَّثَنَا هَمَّام حَدَّثَنَا قَتَادَة عَنْ أَنَس رَضِيَ اللَّه تَعَالَى عَنْهُ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ. وَحَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا عَبْد الْأَعْلَى حَدَّثَنَا سَعِيد عَنْ قَتَادَة عَنْ أَنَس). هَذَانِ الْإِسْنَادَانِ بَصْرِيُّونَ كُلّهمْ، وَقَدْ سَبَقَ مَرَّات أَنَّ هَدَّابًا يُقَال فيه: هُدْبَة، وَأَنَّ أَحَدهمَا اِسْم وَالْآخَر لَقَب، وَاخْتُلِفَ فيهمَا، وَسَعِيد هَذَا هُوَ اِبْن أَبِي عَرُوبَة.
قَوْله: (أَبُو غَطَفَان الْمُرِّيّ) هُوَ بِضَمِّ الْمِيم وَتَشْدِيد الرَّاء وَلَا يُعْرَف اِسْمه، وَفيه: سُرَيْج بْن يُونُس تَقَدَّمَ مَعْنَاهُ مَرَّات أَنَّهُ بِالْمُهْمَلَةِ وَالْجِيم.

.باب فِي الشُّرْبِ مِنْ زَمْزَمَ قَائِمًا:

3779- قَوْله: «وَاسْتَسْقَى وَهُوَ عِنْد الْبَيْت» مَعْنَاهُ: طَلَبَ وَهُوَ عِنْد الْبَيْت مَا يَشْرَبهُ، وَالْمُرَاد بِالْبَيْتِ الْكَعْبَة زَادَهَا اللَّه شَرَفًا.

.باب كَرَاهَةِ التَّنَفُّسِ فِي نَفْسِ الإِنَاءِ وَاسْتِحْبَابِ التَّنَفُّسِ ثَلاَثًا خَارِجَ الإِنَاءِ:

فيه حَدِيث: «نَهَى أَنْ يُتَنَفَّس فِي الْإِنَاء» وَحَدِيث: «كَانَ يَتَنَفَّس فِي الْإِنَاء ثَلَاثًا»، وَفِي رِوَايَة: «فِي الشَّرَاب، وَيَقُول: إِنَّهُ أَرْوَى وَأَبْرَأ وَأَمْرَأ». هَذَانِ الْحَدِيثَانِ مَحْمُولَانِ عَلَى مَا تَرْجَمْنَاهُ لَهُمَا، فَالْأَوَّل مَحْمُول عَلَى أَوَّل التَّرْجَمَة، وَالثَّانِي عَلَى آخِرهَا.
3780- سبق شرحه بالباب.
3781- سبق شرحه بالباب.
3782- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَرْوَى» مِنْ الرِّيّ أَيْ أَكْثَر رِيًّا، وَأَمْرَأ وَأَبْرَأ مَهْمُوزَانِ، وَمَعْنَى (أَبْرَأ): أَيْ أَبْرَأ مِنْ أَلَم الْعَطَش، وَقِيلَ: أَبْرَأ أَيْ أَسْلَم مِنْ مَرَض أَوْ أَذَى يَحْصُل بِسَبَبِ الشُّرْب. فِي نَفَس وَاحِد، وَمَعْنَى (أَمْرَأ): أَيْ أَجْمَل اِنْسِيَاغًا. وَاللَّهُ أَعْلَم.
قَوْله: (عَنْ أَبِي عِصَام عَنْ أَنَس) اِسْم أَبِي عِصَام: خَالِد بْن أَبِي عُبَيْد.
وَقَوْله فِي الْحَدِيث الثَّانِي: «كَانَ يَتَنَفَّس فِي الْإِنَاء أَوْ فِي الشَّرَاب» مَعْنَاهُ: فِي أَثْنَاء شُرْبه مِنْ الْإِنَاء أَوْ فِي أَثْنَاء شُرْبه الشَّرَاب. وَاللَّهُ أَعْلَم.

.بَاب اِسْتِحْبَاب إِدَارَة الْمَاء وَاللَّبَن وَنَحْوهمَا عَنْ يَمِين الْمُبْتَدِئ:

فيه أَنَس رَضِيَ اللَّه تَعَالَى عَنْهُ: «أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِلَبَنٍ قَدْ شِيبَ بِمَاءٍ، وَعَنْ يَمِينه أَعْرَابِيّ وَعَنْ يَسَاره أَبُو بَكْر الصِّدِّيق، فَشَرِبَ، ثُمَّ أَعْطَى الْأَعْرَابِيّ وَقَالَ: الْأَيْمَن فَالْأَيْمَن»، وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: «فَقَالَ لَهُ عُمَر- وَأَبُو بَكْر عَنْ شِمَاله-: يَا رَسُول اللَّه أَعْطِ أَبَا بَكْر فَأَعْطَاهُ أَعْرَابِيًّا عَنْ يَمِينه، وَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْأَيْمَن فَالْأَيْمَن»، وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: «الْأَيْمَنُونَ الْأَيْمَنُونَ الْأَيْمَنُونَ قَالَ أَنَس: فَهِيَ سُنَّة فَهِيَ سُنَّة فَهِيَ سُنَّة»، وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: «أُتِيَ بِشَرَابٍ فَشَرِبَ مِنْهُ وَعَنْ يَمِينه غُلَام وَعَنْ يَسَارَة أَشْيَاخ فَقَالَ لِلْغُلَامِ: أَتَأْذَنُ لِي أَنْ أُعْطِيَ هَؤُلَاءِ؟ فَقَالَ الْغُلَام: لَا وَاللَّهُ لَا أُوثِر بِنَصِيبِي مِنْك أَحَدًا، فَتَلَّهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي يَده». فِي هَذِهِ الْأَحَادِيث بَيَان هَذِهِ السُّنَّة الْوَاضِحَة، وَهُوَ مُوَافِق لِمَا تَظَاهَرَتْ عَلَيْهِ دَلَائِل الشَّرْع مِنْ اِسْتِحْبَاب التَّيَامُن فِي كُلّ مَا كَانَ مِنْ أَنْوَاع الْإِكْرَام،. وَفيه أَنَّ الْأَيْمَن فِي الشَّرَاب وَنَحْوه يُقَدَّم، وَإِنْ كَانَ صَغِيرًا أَوْ مَفْضُولًا؛ لِأَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدَّمَ الْأَعْرَابِيّ وَالْغُلَام عَلَى أَبِي بَكْر رَضِيَ اللَّه تَعَالَى عَنْهُ، وَأَمَّا تَقْدِيم الْأَفَاضِل وَالْكِبَار فَهُوَ عِنْد التَّسَاوِي فِي بَاقِي الْأَوْصَاف، وَلِهَذَا يُقَدَّم الْأَعْلَم وَالْأَقْرَأ عَلَى الْأَسَنّ النَّسِيب فِي الْإِمَامَة فِي الصَّلَاة.
3783- وَقَوْله: «شِيبَ» أَيْ خُلِطَ، وَفيه جَوَاز ذَلِكَ وَإِنَّمَا نَهْي عَنْ شَوْبه إِذَا أَرَادَ بَيْعه؛ لِأَنَّهُ غِشّ، قَالَ الْعُلَمَاء: وَالْحِكْمَة فِي شَوْبه أَنْ يَبْرُد أَوْ يَكْثُر أَوْ لِلْمَجْمُوعِ.
3784- قَوْله: «عَنْ أَنَس رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: وَكُنَّ أُمَّهَاتِي تَحْثُثْنَنِي عَلَى خِدْمَته» الْمُرَاد بِأُمَّهَاتِهِ أُمّه أُمّ سُلَيْمٍ وَخَالَته أُمّ حَرَام وَغَيْرهمَا مِنْ مَحَارِمه، فَاسْتَعْمَلَ لَفْظ الْأُمَّهَات فِي حَقِيقَته وَمَجَازه، وَهَذَا عَلَى مَذْهَب الشَّافِعِيّ رَحِمه اللَّه وَالْقَاضِي أَبِي بَكْر البَاقِلَّانِيّ وَغَيْرهمَا مِمَّنْ يَجُوز إِطْلَاق اللَّفْظ الْوَاحِد عَلَى حَقِيقَته وَمَجَازه، وَقَوْله: (كُنَّ أُمَّهَاتِي) عَلَى لُغَة أَكَلُونِي الْبَرَاغِيث، وَهِيَ لُغَة صَحِيحَة، وَإِنْ كَانَتْ قَلِيلَة الِاسْتِعْمَال، وَقَدْ تَقَدَّمَ إِيضَاحهَا عِنْد قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلَائِكَة» وَنَظَائِره. وَاللَّهُ أَعْلَم.
قَوْله: «فَحَلَبْنَا لَهُ مِنْ شَاة دَاجِن» هِيَ بِكَسْرِ الْجِيم، وَهِيَ الَّتِي تُعْلَف فِي الْبُيُوت، يُقَال: دَجَنَتْ تَدْجُن دُجُونًا، وَيُطْلَق الدَّاجِن أَيْضًا عَلَى كُلّ مَا يَأْلَف الْبَيْت مِنْ طَيْر وَغَيْره.
وَقَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْأَيْمَن فَالْأَيْمَن» ضُبِطَ بِالنَّصْبِ وَالرَّفْع، وَهُمَا صَحِيحَانِ النَّصْب عَلَى تَقْدِير: أَعْطِ الْأَيْمَن، وَالرَّفْع عَلَى تَقْدِير الْأَيْمَن أَحَقّ، أَوْ نَحْو ذَلِكَ. وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى، (الْأَيْمَنُونَ) وَهُوَ يُرَجِّح الرَّفْع. وَقَوْل عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: يَا رَسُول اللَّه أَعْطِ أَبَا بَكْر، إِنَّمَا قَالَهُ لِلتَّذْكِيرِ بِأَبِي بَكْر مَخَافَة مِنْ نِسْيَانه، وَإِعْلَامًا لِذَلِكَ الْأَعْرَابِيّ الَّذِي عَلَى الْيَمِين بِجَلَالَةِ أَبِي بَكْر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ.
3785- قَوْله: (عَنْ أَبِي طُوَالَة) هُوَ بِضَمِّ الطَّاء هَذَا هُوَ الصَّحِيح الْمَشْهُور، وَحَكَى صَاحِب الْمَطَالِع ضَمّهَا وَفَتْحهَا، قَالُوا: وَلَا يُعْرَف فِي الْمُحَدِّثِينَ مَنْ يُكَنَّى أَبَا طُوَالَة غَيْره، وَقَدْ ذَكَرَهُ الْحَاكِم أَبُو أَحْمَد فِي الْكُنَى الْمُفْرَدَة.
قَوْله: (وَعُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ وُجَاهَه) هُوَ بِضَمِّ الْوَاو وَكَسْرهَا لُغَتَانِ أَيْ قُدَّامه مُوَاجِهًا لَهُ.
3786- وَقَوْله: «فَتَلَّهُ فِي يَده» أَيْ وَضَعَهُ فيها، وَقَدْ جَاءَ فِي مُسْنَد أَبِي بَكْر بْن أَبِي شَيْبَة أَنَّ هَذَا الْغُلَام هُوَ عَبْد اللَّه بْن عَبَّاس؛ وَمَنْ الْأَشْيَاخ خَالِد بْن الْوَلِيد رَضِيَ اللَّه تَعَالَى عَنْهُ قِيلَ: إِنَّمَا اِسْتَأْذَنَ الْغُلَام دُون الْأَعْرَابِيّ إِدْلَالًا عَلَى الْغُلَام وَهُوَ اِبْن عَبَّاس، وَثِقَةً بِطِيبِ نَفْسه بِأَصْلِ الِاسْتِئْذَان وَالْأَشْيَاخ أَقَارِبه، قَالَ الْقَاضِي عِيَاض: وَفِي بَعْض الرِّوَايَات: «عَمّك وَابْن عَمّك أَتَأْذَنُ لِي أَنْ أُعْطِيَهُ» وَفَعَلَ ذَلِكَ أَيْضًا تَأَلُّفًا لِقُلُوبِ الْأَشْيَاخ، وَإِعْلَامًا بِوُدِّهِمْ وَإِيثَار كَرَامَتهمْ إِذَا لَمْ تَمْنَع مِنْهَا سُنَّة، وَتَضَمَّنَ ذَلِكَ أَيْضًا بَيَان هَذِهِ السُّنَّة، وَهِيَ أَنَّ الْأَيْمَن أَحَقّ، وَلَا يُدْفَع إِلَى غَيْره إِلَّا بِإِذْنِهِ، وَأَنَّهُ لَا بَأْس بِاسْتِئْذَانِهِ، وَأَنَّهُ لَا يَلْزَمهُ الْإِذْن، وَيَنْبَغِي لَهُ أَيْضًا أَلَّا يَأْذَن إِنْ كَانَ فيه تَفْوِيت فَضِيلَة أُخْرَوِيَّة، وَمَصْلَحَة دِينِيَّة كَهَذِهِ الصُّورَة، وَقَدْ نَصَّ أَصْحَابنَا وَغَيْرهمْ مِنْ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّهُ لَا يُؤْثَر فِي الْقُرَب، وَإِنَّمَا الْإِيثَار الْمَحْمُود مَا كَانَ فِي حُظُوظ النَّفْس دُون الطَّاعَات، قَالُوا: فَيُكْرَه أَنْ يُؤْثِر غَيْره بِمَوْضِعِهِ مِنْ الصَّفّ الْأَوَّل، وَكَذَلِكَ نَظَائِره.
وَأَمَّا الْأَعْرَابِيّ فَلَمْ يَسْتَأْذِنهُ مَخَافَة مِنْ إِيحَاشه فِي اِسْتِئْذَانه فِي صَرْفه إِلَى أَصْحَابه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَرُبَّمَا سَبَقَ إِلَى قَلْب ذَلِكَ الْأَعْرَابِيّ شَيْء يَهْلِك بِهِ لِقُرْبِ عَهْده بِالْجَاهِلِيَّةِ وَأَنَفَتهَا، وَعَدَم تَمَكُّنه فِي مَعْرِفَته خُلُق رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ تَظَاهَرَتْ النُّصُوص عَلَى تَأَلُّفه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَلْب مَنْ يَخَاف عَلَيْهِ.
وَفِي هَذِهِ الْأَحَادِيث أَنْوَاع مِنْ الْعِلْم: مِنْهَا أَنَّ الْبُدَاءَة بِالْيَمِينِ فِي الشَّرَاب وَنَحْوه سُنَّة وَهَذَا مِمَّا لَا خِلَاف فيه، وَنُقِلَ عَنْ مَالِك تَخْصِيص ذَلِكَ بِالشَّرَابِ، قَالَ اِبْن عَبْد الْبَرّ وَغَيْره: لَا يَصِحّ هَذَا عَنْ مَالِك، قَالَ الْقَاضِي عِيَاض: يُشْبِه أَنْ يَكُون قَوْل مَالِك رَحِمه اللَّه تَعَالَى أَنَّ السُّنَّة وَرَدَتْ فِي الشَّرَاب خَاصَّة، وَإِنَّمَا يُقَدَّم الْأَيْمَن فَالْأَيْمَن فِي غَيْره بِالْقِيَاسِ لَا بِسُنَّةٍ مَنْصُوصَة فيه. وَكَيْف كَانَ فَالْعُلَمَاء مُتَّفِقُونَ عَلَى اِسْتِحْبَاب التَّيَامُن فِي الشَّرَاب وَأَشْبَاهه. وَفيه جَوَاز شُرْب اللَّبَن الْمَشُوب. وَفيه أَنَّ مَنْ سَبَقَ إِلَى مَوْضِع مُبَاح أَوْ مَجْلِس الْعَالِم وَالْكَبِير فَهُوَ أَحَقّ بِهِ مِمَّنْ يَجِيء بَعْده. وَاللَّهُ أَعْلَم.
قَوْله: (يَعْقُوب بْن عَبْد الرَّحْمَن الْقَارِيّ) هُوَ بِتَشْدِيدِ الْيَاء مَنْسُوب إِلَى الْقَارَة الْقَبِيلَة الْمَعْرُوفَة، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانه مَرَّات. وَاللَّهُ أَعْلَم.