فصل: بَاب اِسْتِحْبَاب لَعْق الْأَصَابِع وَالْقَصْعَة وَأَكْل اللُّقْمَة السَّاقِطَة بَعْد مَسْح مَا يُصِيبهَا مِنْ أَذًى وَكَرَاهَة مَسْح الْيَد قَبْل لَعْقهَا:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج المشهور بـ «شرح النووي على مسلم»



.بَاب اِسْتِحْبَاب لَعْق الْأَصَابِع وَالْقَصْعَة وَأَكْل اللُّقْمَة السَّاقِطَة بَعْد مَسْح مَا يُصِيبهَا مِنْ أَذًى وَكَرَاهَة مَسْح الْيَد قَبْل لَعْقهَا:

فيه: قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا أَكَلَ أَحَدكُمْ طَعَامًا فَلَا يَمْسَح يَده حَتَّى يَلْعَقهَا أَوْ يُلْعِقهَا»، وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: «كَانَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْكُل بِثَلَاثِ أَصَابِع، وَيَلْعَق يَده قَبْل أَنْ يَمْسَحهَا»، وَفِي رِوَايَة: «يَأْكُل بِثَلَاثِ أَصَابِع فَإِذَا فَرَغَ لَعِقَهَا»، وَفِي رِوَايَة: «أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِلَعْقِ الْأَصَابِع وَالصَّحْفَة وَقَالَ: إِنَّكُمْ لَا تَدْرُونَ فِي أَيِّهِ الْبَرَكَة»، وَفِي رِوَايَة: «إِذَا وَقَعَتْ لُقْمَة أَحَدكُمْ فَلِيَأْخُذهَا فَلْيُمِطْ مَا كَانَ بِهَا مِنْ أَذًى، وَلْيَأْكُلهَا وَلَا يَدَعهَا لِلشَّيْطَانِ وَلَا يَمْسَح يَده بِالْمِنْدِيلِ حَتَّى يَلْعَق أَصَابِعه فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي فِي أَيِّ طَعَامه الْبَرَكَة»، وَفِي رِوَايَة: «إِنَّ الشَّيْطَان يَحْضُر أَحَدكُمْ عِنْد كُلّ شَيْء مِنْ شَأْنه حَتَّى يَحْضُرهُ عِنْد طَعَامه فَإِذَا سَقَطَتْ مِنْ أَحَدكُمْ اللُّقْمَة فَلْيُمِطْ.... وَذَكَرَ نَحْو مَا سَبَقَ»، وَفِي رِوَايَة: «وَأَمَرَنَا أَنْ نَسْلُت الْقَصْعَة»، وَفِي رِوَايَة: «وَلْيَسْلُتْ أَحَدكُمْ الصَّفْحَة». فِي هَذِهِ الْأَحَادِيث أَنْوَاع مِنْ سُنَن الْأَكْل، مِنْهَا اِسْتِحْبَاب لَعْق الْيَد مُحَافَظَة عَلَى بَرَكَة الطَّعَام وَتَنْظِيفًا لَهَا، وَاسْتِحْبَاب الْأَكْل بِثَلَاثِ أَصَابِع، وَلَا يَضُمّ إِلَيْهَا الرَّابِعَة وَالْخَامِسَة إِلَّا لِعُذْرٍ بِأَنْ يَكُون مَرَقًا وَغَيْره مِمَّا لَا يُمْكِن بِثَلَاثٍ وَغَيْر ذَلِكَ مِنْ الْأَعْذَار، وَاسْتِحْبَاب لَعْق الْقَصْعَة وَغَيْرهَا، وَاسْتِحْبَاب أَكْل اللُّقْمَة السَّاقِطَة بَعْد مَسْح أَذًى يُصِيبهَا، هَذَا إِذَا لَمْ تَقَع عَلَى مَوْضِع نَجِس، فَإِنْ وَقَعَتْ عَلَى مَوْضِع نَجِس تَنَجَّسَتْ، ولابد مِنْ غَسْلهَا إِنْ أَمْكَنَ، فَإِنْ تَعَذَّرَ أَطْعَمَهَا حَيَوَانًا وَلَا يَتْرُكهَا لِلشَّيْطَانِ، وَمِنْهَا إِثْبَات الشَّيَاطِين، وَأَنَّهُمْ يَأْكُلُونَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ قَرِيبًا إِيضَاح هَذَا، وَمِنْهَا جَوَاز مَسْح الْيَد بِالْمِنْدِيلِ، لَكِنَّ السُّنَّة أَنْ يَكُون بَعْد لَعْقهَا.
3787- وَقَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَلْعَقهَا أَوْ يُلْعِقهَا» مَعْنَاهُ- وَاللَّهُ أَعْلَم- لَا يَمْسَح يَده حَتَّى يَلْعَقهَا، فَإِنْ لَمْ يَفْعَل فَحَتَّى يُلْعِقهَا غَيْره مِمَّنْ لَا يَتَقَذَّر ذَلِكَ كَزَوْجَةٍ وَجَارِيَة وَوَلَد وَخَادِم يُحِبُّونَهُ وَيَلْتَذُّونَ بِذَلِكَ وَلَا يَتَقَذَّرُونَ، وَكَذَا مَنْ كَانَ فِي مَعْنَاهُمْ كَتِلْمِيذٍ يَعْتَقِد بَرَكَته وَيَوَدّ التَّبَرُّك بِلَعْقِهَا، وَكَذَا لَوْ أَلْعَقهَا شَاة وَنَحْوهَا. وَاللَّهُ أَعْلَم.
3788- سبق شرحه بالباب.
3789- سبق شرحه بالباب.
3790- سبق شرحه بالباب.
3791- قَوْله: (إِنَّ عَبْد الرَّحْمَن بْن كَعْب بْن مَالِك أَوْ عَبْد اللَّه بْن كَعْب أَخْبَرَهُ عَنْ أَبِيهِ) هَذَا تَقَدَّمَ مِثْله مَرَّات، وَذَكَرْنَا أَنَّهُ لَا يَضُرّ الشَّكّ فِي الرَّاوِي إِذَا كَانَ الشَّكّ بَيْن ثِقَتَيْنِ؛ لِأَنَّ اِبْنَيْ كَعْب هَذَيْنِ ثِقَتَانِ.
3792- وَقَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَدْرُونَ فِي أَيّه الْبَرَكَة» مَعْنَاهُ وَاللَّهُ أَعْلَم أَنَّ الطَّعَام الَّذِي يَحْضُرهُ الْإِنْسَان فيه بَرَكَة وَلَا يَدْرِي أَنَّ تِلْكَ الْبَرَكَة فِيمَا أَكَلَهُ أَوْ فِيمَا بَقِيَ عَلَى أَصَابِعه أَوْ فِي مَا بَقِيَ فِي أَسْفَل الْقَصْعَة أَوْ فِي اللُّقْمَة السَّاقِطَة، فَيَنْبَغِي أَنْ يُحَافِظ عَلَى هَذَا كُلّه؛ لِتَحْصُل الْبَرَكَة، وَأَصْل الْبَرَكَة الزِّيَادَة وَثُبُوت الْخَيْر وَالْإِمْتَاع بِهِ، وَالْمُرَاد هُنَا- وَاللَّهُ أَعْلَم- مَا يَحْصُل بِهِ التَّغْذِيَة وَتَسْلَم عَاقِبَته مِنْ أَذًى، وَيُقَوِّي عَلَى طَاعَة اللَّه تَعَالَى وَغَيْر ذَلِكَ.
3793- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَلْيُمِطْ مَا كَانَ بِهَا مِنْ أَذًى وَلَا يَمْسَح يَده بِالْمِنْدِيلِ حَتَّى يَلْعَقهَا» أَمَّا (يُمِطْ) فَبِضَمِّ الْيَاء وَمَعْنَاهُ: يُزِيل وَيُنَحِّي، وَقَالَ الْجَوْهَرِيّ: حَكَى أَبُو عُبَيْد مَاطَهُ وَأَمَاطَهُ نَحَّاهُ، وَقَالَ الْأَصْمَعِيّ: أَمَاطَهُ لَا غَيْر، وَمِنْهُ إِمَاطَة الْأَذَى وَمِطْت أَنَا عَنْهُ أَيْ تَنَحَّيْت، وَالْمُرَاد بِالْأَذَى هُنَا الْمُسْتَقْذَر مِنْ غُبَار وَتُرَاب وَقَذًى وَنَحْو ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَتْ نَجَاسَة فَقَدْ ذَكَرْنَا حُكْمهَا، وَأَمَّا الْمِنْدِيل فَمَعْرُوف، وَهُوَ بِكَسْرِ الْمِيم، قَالَ اِبْن فَارِس فِي الْمُجْمَل: لَعَلَّهُ مَأْخُوذ مِنْ النَّدْل وَهُوَ النَّقْل، وَقَالَ غَيْره: هُوَ مَأْخُوذ مِنْ النَّدْل وَهُوَ الْوَسَخ؛ لِأَنَّهُ يُنْدَل بِهِ، قَالَ أَهْل اللُّغَة: يُقَال: تَنَدَّلْت بِالْمِنْدِيلِ، قَالَ الْجَوْهَرِيّ: وَيُقَال أَيْضًا: تَمَنْدَلْتُ، قَالَ: وَأَنْكَرَ الْكِسَائِيّ: تَمَنْدَلْتُ.
قَوْله: (أَخْبَرَنَا أَبُو دَاوُدَ الْحَفَرِيّ) هُوَ بِحَاءٍ مُهْمَلَة وَفَاء مَفْتُوحَتَيْنِ، وَاسْمه: عُمَر بْن سَعْد مَنْسُوب إِلَى حَفَر مَوْضِع بِالْكُوفَةِ.
3794- وَقَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الشَّيْطَان يَحْضُر أَحَدكُمْ عِنْد كُلّ شَيْء مِنْ شَأْنه» فيه التَّحْذِير مِنْهُ وَالتَّنْبِيه عَلَى مُلَازَمَته لِلْإِنْسَانِ فِي تَصَرُّفَاته، فَيَنْبَغِي أَنْ يَتَأَهَّب وَيَحْتَرِز مِنْهُ، وَلَا يَغْتَرّ مِمَّا يُزَيِّنهُ لَهُ.
قَوْله: (عَنْ الْأَعْمَش عَنْ أَبِي سُفْيَان عَنْ جَابِر) اِسْم أَبِي سُفْيَان: طَلْحَة بْن نَافِع، تَقَدَّمَ مَرَّات.
3795- قَوْله: «وَأَمَرَنَا أَنْ نَسْلُت الْقَصْعَة» هُوَ بِفَتْحِ النُّون وَضَمّ اللَّام، وَمَعْنَاهُ: نَمْسَحهَا. وَنَتَتَبَّع مَا بَقِيَ فيها مِنْ الطَّعَام، وَمِنْهُ سَلَتَ الدَّم عَنْهَا.
3796- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الرِّوَايَة الْأَخِيرَة وَهِيَ رِوَايَة أَبِي هُرَيْرَة: «إِذَا أَكَلَ أَحَدكُمْ طَعَامًا فَلْيَلْعَقْ أَصَابِعه فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي فِي أَيَّتِهِنَّ الْبَرَكَة» هَكَذَا هُوَ فِي مُعْظَم الْأُصُول، وَفِي بَعْضهَا: «لَا يَدْرِي أَيَّتهمَا» وَكِلَاهُمَا صَحِيح، أَمَّا رِوَايَة: «فِي أَيّهنَّ» فَظَاهِرَة، وَأَمَّا رِوَايَة: «لَا يَدْرِي أَيَّتهنَّ الْبَرَكَة» فَمَعْنَاهُ: أَيَّتهنَّ صَاحِبَة الْبَرَكَة فَحَذَفَ الْمُضَاف وَأَقَامَ الْمُضَاف إِلَيْهِ مَقَامه. وَاللَّهُ أَعْلَم.

.بَاب مَا يَفْعَل الضَّيْف إِذَا تَبِعَهُ غَيْر مَنْ دَعَاهُ صَاحِب الطَّعَام وَاسْتِحْبَاب إِذْن صَاحِب الطَّعَام لِلتَّابِعِ:

فيه: «أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَار يُقَال لَهُ: أَبُو شُعَيْب صَنَعَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَعَامًا ثُمَّ دَعَاهُ خَامِس خَمْسَة وَاتَّبَعَهُمْ رَجُل، فَلَمَّا بَلَغَ الْبَاب قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ هَذَا اِتَّبَعَنَا فَإِنْ شِئْت أَنْ تَأْذَن لَهُ وَإِنْ شِئْت رَجَعَ، قَالَ: لَا بَلْ آذَن لَهُ يَا رَسُول اللَّه» وَفيه: «أَنَّ جَارًا لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَارِسِيًّا كَانَ طَيِّب الْمَرَق فَصَنَعَ لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَعَامًا ثُمَّ جَاءَ يَدْعُوهُ فَقَالَ: وَهَذِهِ؟- لِعَائِشَة- فَقَالَ: لَا. فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا. فَعَادَ يَدْعُوهُ، فَقَالَ: رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَهَذِهِ - لِعَائِشَة- فَقَالَ: لَا. قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا. ثُمَّ عَادَ يَدْعُوهُ فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَهَذِهِ، قَالَ: نَعَمْ فِي الثَّالِثَة، فَقَامَا يَتَدَافَعَانِ حَتَّى أَتَيَا مَنْزِله». أَمَّا الْحَدِيث الْأَوَّل فَفيه أَنَّ الْمُدَّعُو إِذَا تَبِعَهُ رَجُل بِغَيْرِ اِسْتِدْعَاء يَنْبَغِي لَهُ أَلَّا يَأْذَن لَهُ وَيَنْهَاهُ، وَإِذَا بَلَغَ بَاب دَار صَاحِب الطَّعَام أَعْلَمَهُ بِهِ لِيَأْذَن لَهُ أَوْ يَمْنَعهُ، وَأَنَّ صَاحِب الطَّعَام يُسْتَحَبّ لَهُ أَنْ يَأْذَن لَهُ إِنْ لَمْ يَتَرَتَّب عَلَى حُضُوره مَفْسَدَة بِأَنْ يُؤْذِي الْحَاضِرِينَ أَوْ يُشِيع عَنْهُمْ مَا يَكْرَهُونَهُ، أَوْ يَكُون جُلُوسه مَعَهُمْ مُزْرِيًا بِهِمْ؛ لِشُهْرَتِهِ بِالْفِسْقِ وَنَحْو ذَلِكَ، فَإِنْ خِيفَ مِنْ حُضُوره شَيْء مِنْ هَذَا لَمْ يَأْذَن لَهُ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَتَلَطَّف فِي رَدّه، وَلَوْ أَعْطَاهُ شَيْئًا مِنْ الطَّعَام إِنْ كَانَ يَلِيق بِهِ لِيَكُونَ رَدًّا جَمِيلًا كَانَ حَسَنًا.
وَأَمَّا الْحَدِيث الثَّانِي فِي قِصَّة الْفَارِسِيّ وَهِيَ قَضِيَّة أُخْرَى، فَمَحْمُول عَلَى أَنَّهُ كَانَ هُنَاكَ عُذْر يَمْنَع وُجُوب إِجَابَة الدَّعْوَة، فَكَانَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُخَيَّرًا بَيْن إِجَابَته وَتَرْكهَا، فَاخْتَارَ أَحَد الْجَائِزَيْنِ وَهُوَ تَرْكهَا إِلَّا أَنْ يَأْذَن لِعَائِشَة مَعَهُ لِمَا كَانَ بِهَا مِنْ الْجُوع أَوْ نَحْوه، فَكَرِهَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الِاخْتِصَاص بِالطَّعَامِ دُونهَا، وَهَذَا مِنْ جَمِيل الْمُعَاشَرَة، وَحُقُوق الْمُصَاحَبَة، وَآدَاب الْمُجَالَسَة الْمُؤَكَّدَة، فَلَمَّا أَذِنَ لَهَا اِخْتَارَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْجَائِز الْآخَر لِتَجَدُّدِ الْمَصْلَحَة، وَهُوَ حُصُول مَا كَانَ يُرِيدهُ مِنْ إِكْرَام جَلِيسه، وَإِيفَاء حَقّ مُعَاشَرَته وَمُوَاسَاته فِيمَا يَحْصُل، وَقَدْ سَبَقَ فِي بَاب الْوَلِيمَة بَيَان الْأَعْذَار فِي تَرْك إِجَابَة الدَّعْوَة وَاخْتِلَاف الْعُلَمَاء فِي وُجُوب الْإِجَابَة، وَأَنَّ مِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُوجِبهَا فِي غَيْر وَلِيمَة الْعُرْس كَهَذِهِ الصُّورَة. وَاللَّه أَعْلَم.
3797- وَقَوْله: «كَانَ لِأَبِي شُعَيْب غُلَام لَحَّام» أَيْ يَبِيع اللَّحْم، وَفيه دَلِيل عَلَى جَوَاز الْجِزَارَة، وَحِلّ كَسْبهَا. وَاَللَّه أَعْلَم.
3798- قَوْله: «فَقَامَا يَتَدَافَعَانِ» مَعْنَاهُ: يَمْشِي كُلّ وَاحِد مِنْهُمَا فِي أَثَر صَاحِبه. قَالُوا: وَلَعَلَّ الْفَارِسِيّ إِنَّمَا لَمْ يَدْعُ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا أَوَّلًا لِكَوْنِ الطَّعَام كَانَ قَلِيلًا، فَأَرَادَ تَوْفِيره عَلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَفِي هَذَا الْحَدِيث جَوَاز أَكْل الْمَرَق وَالطَّيِّبَات، قَالَ اللَّه تَعَالَى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَة اللَّه الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَات مِنْ الرِّزْق}.

.باب جَوَازِ اسْتِتْبَاعِهِ غَيْرَهُ إِلَى دَارِ مَنْ يَثِقُ بِرِضَاهُ بِذَلِكَ وَيَتَحَقَّقُهُ تَحَقُّقًا تَامًّا وَاسْتِحْبَابِ الاِجْتِمَاعِ عَلَى الطَّعَامِ:

فيه ثَلَاثَة أَحَادِيث الْأَوَّل: حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة فِي خُرُوج النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَاحِبَيْهِ مِنْ الْجُوع، وَذَهَابهمْ إِلَى بَيْت الْأَنْصَارِيّ وَإِدْخَال اِمْرَأَته إِيَّاهُمْ، وَمَجِيء الْأَنْصَارِيّ وَفَرَحه بِهِمْ وَإِكْرَامه لَهُمْ، وَهَذَا الْأَنْصَارِيّ هُوَ أَبُو الْهَيْثَم بْن التَّيْهَانِ، وَاسْم أَبِي الْهَيْثَم: مَالِك. هَذَا الْحَدِيث مُشْتَمِل عَلَى أَنْوَاع مِنْ الْفَوَائِد: مِنْهَا قَوْله: «خَرَجَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَات يَوْم أَوْ لَيْلَة فَإِذَا هُوَ بِأَبِي بَكْر وَعُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا فَقَالَ: مَا أَخْرَجَكُمَا مِنْ بُيُوتكُمَا؟ قَالَا: الْجُوع يَا رَسُول اللَّه، قَالَ: فَأَنَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَأَخْرَجَنِي الَّذِي أَخْرَجَكُمَا قُومُوا فَقَامُوا مَعَهُ فَأَتَى رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَار... إِلَى آخِره» هَذَا فيه مَا كَانَ عَلَيْهِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكِبَار أَصْحَابه رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ مِنْ التَّقَلُّل مِنْ الدُّنْيَا، وَمَا اُبْتُلُوا بِهِ مِنْ الْجُوع وَضِيق الْعَيْش فِي أَوْقَات، وَقَدْ زَعَمَ بَعْض النَّاس أَنَّ هَذَا كَانَ قَبْل فَتْح الْفُتُوح وَالْقُرَى عَلَيْهِمْ، وَهَذَا زَعْم بَاطِل، فَإِنَّ رَاوِي الْحَدِيث أَبُو هُرَيْرَة، وَمَعْلُوم أَنَّهُ أَسْلَمَ بَعْد فَتْح خَيْبَر فَإِنْ قِيلَ: لَا يَلْزَم مِنْ كَوْنه رَوَاهُ أَنْ يَكُون أَدْرَكَ الْقَضِيَّة، فَلَعَلَّهُ سَمِعَهَا مِنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ غَيْره، فَالْجَوَاب: أَنَّ هَذَا خِلَاف الظَّاهِر وَلَا ضَرُورَة إِلَيْهِ، بَلْ الصَّوَاب خِلَافه، وَأَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَزَلْ يَتَقَلَّب فِي الْيَسَار وَالْقِلَّة حَتَّى تُوُفِّيَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَتَارَة يُوسَر، وَتَارَة يَنْفَد مَا عِنْده، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيح عَنْ أَبِي هُرَيْرَة: «خَرَجَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الدُّنْيَا وَلَمْ يَشْبَع مِنْ خُبْز الشَّعِير» وَعَنْ عَائِشَة: «مَا شَبِعَ آل مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنْذُ قَدِمَ الْمَدِينَة مِنْ طَعَام ثَلَاث لَيَالٍ تِبَاعًا حَتَّى قُبِضَ» «وَتُوُفِّيَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدِرْعه مَرْهُونَة عَلَى شَعِير اِسْتَدَانَهُ لِأَهْلِهِ» وَغَيْر ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مَعْرُوف، فَكَانَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي وَقْت يُوسَر، ثُمَّ بَعْد قَلِيل يَنْفَد مَا عِنْده لِإِخْرَاجِهِ فِي طَاعَة اللَّه مِنْ وُجُوه الْبِرّ، وَإِيثَار الْمُحْتَاجِينَ، وَضِيَافَة الطَّارِقِينَ، وَتَجْهِيز السَّرَايَا، وَغَيْر ذَلِكَ، وَهَكَذَا كَانَ خُلُق صَاحِبَيْهِ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا بَلْ أَكْثَر أَصْحَابه، وَكَانَ أَهْل الْيَسَار مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَار رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ مَعَ بِرّهمْ لَهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِكْرَامهمْ إِيَّاهُ وَإِتْحَافه بِالطُّرَفِ وَغَيْرهَا، رُبَّمَا لَمْ يَعْرِفُوا حَاجَته فِي بَعْض الْأَحْيَان لِكَوْنِهِمْ لَا يَعْرِفُونَ فَرَاغ مَا كَانَ عِنْده مِنْ الْقُوت بِإِيثَارِهِ بِهِ، وَمَنْ عَلِمَ ذَلِكَ مِنْهُمْ رُبَّمَا كَانَ ضِيق الْحَال فِي ذَلِكَ الْوَقْت كَمَا جَرَى لِصَاحِبَيْهِ، وَلَا يَعْلَم أَحَد مِنْ الصَّحَابَة عَلِمَ حَاجَة النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ مُتَمَكِّن مِنْ إِزَالَتهَا إِلَّا بَادَرَ إِلَى إِزَالَتهَا، لَكِنْ كَانَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَكْتُمهَا عَنْهُمْ إِيثَارًا لِتَحَمُّلِ الْمَشَاقّ، وَحَمْلًا عَنْهُمْ، وَقَدْ بَادَرَ أَبُو طَلْحَة حِين قَالَ: سَمِعْت صَوْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْرِف فيه الْجُوع إِلَى إِزَالَة تِلْكَ الْحَاجَة، وَكَذَا حَدِيث جَابِر، وَسَنَذْكُرُهُمَا بَعْد هَذَا إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى، وَكَذَا حَدِيث أَبِي شُعَيْب الْأَنْصَارِيّ الَّذِي سَبَقَ فِي الْبَاب قَبْله أَنَّهُ عَرَفَ فِي وَجْهه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْجُوع، فَبَادَرَ بِصَنِيعِ الطَّعَام، وَأَشْبَاه هَذَا كَثِيرَة فِي الصَّحِيح مَشْهُورَة، وَكَذَلِكَ كَانُوا يُؤْثِر بَعْضهمْ بَعْضًا، وَلَا يَعْلَم أَحَد مِنْهُمْ ضَرُورَة صَاحِبه إِلَّا سَعَى فِي إِزَالَتهَا، وَقَدْ وَصَفَهُمْ اللَّه سُبْحَانه وَتَعَالَى بِذَلِكَ فَقَالَ تَعَالَى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسهمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَة}. وَقَالَ تَعَالَى: {رُحَمَاء بَيْنهمْ}.
وَأَمَّا قَوْلهمَا رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا: «أَخْرَجَنَا الْجُوع»، وَقَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَأَنَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَأَخْرَجَنِي الَّذِي أَخْرَجَكُمَا» فَمَعْنَاهُ: أَنَّهُمَا لَمَّا كَانَا عَلَيْهِ مِنْ مُرَاقَبَة اللَّه تَعَالَى، وَلُزُوم طَاعَته، وَالِاشْتِغَال بِهِ، فَعَرَضَ لَهُمَا هَذَا الْجُوع الَّذِي يُزْعِجهُمَا، وَيُقْلِقهُمَا، وَيَمْنَعهُمَا مِنْ كَمَالِ النَّشَاط لِلْعِبَادَةِ، وَتَمَام التَّلَذُّذ بِهَا سَعَيَا فِي إِزَالَته بِالْخُرُوجِ فِي طَلَب سَبَب مُبَاح يَدْفَعَانِهِ بِهِ، وَهَذَا مِنْ أَكْمَل الطَّاعَات، وَأَبْلَغ أَنْوَاع الْمُرَاقَبَات، وَقَدْ نَهَى عَنْ الصَّلَاة مَعَ مُدَافَعَة الْأَخْبَثَيْنِ، وَبِحَضْرَةِ طَعَام تَتُوق النَّفْس إِلَيْهِ، وَفِي ثَوْب لَهُ أَعْلَام، وَبِحَضْرَةِ الْمُتَحَدِّثِينَ وَغَيْر ذَلِكَ مِمَّا يَشْغَل قَلْبه. وَنَهَى الْقَاضِي عَنْ الْقَضَاء فِي حَال غَضَبه وَجُوعه وَهَمّه وَشِدَّة فَرَحه وَغَيْر ذَلِكَ مِمَّا يَشْغَل قَلْبه وَيَمْنَعهُ كَمَال الْفِكْر. وَاللَّه أَعْلَم.
وَقَوْله: «بُيُوتكُمَا» هُوَ بِضَمِّ الْبَاء وَكَسْرهَا لُغَتَانِ قُرِئَ بِهِمَا فِي السَّبْع، وَقَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَأَنَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَأَخْرَجَنِي الَّذِي أَخْرَجَكُمَا» فيه جَوَاز ذِكْر الْإِنْسَان مَا يَنَالهُ مِنْ أَلَم وَنَحْوه، لَا عَلَى سَبِيل التَّشَكِّي وَعَدَم الرِّضَا، بَلْ لِلتَّسْلِيَةِ وَالتَّصَبُّر، كَفِعْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُنَا، وَلِالْتِمَاسِ دُعَاء أَوْ مُسَاعَدَة عَلَى التَّسَبُّب فِي إِزَالَة ذَلِكَ الْعَارِض، فَهَذَا كُلّه لَيْسَ بِمَذْمُومٍ، إِنَّمَا يُذَمّ مَا كَانَ تَشَكِّيًا وَتَسَخُّطًا وَتَجَزُّعًا.
وَقَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَأَنَا» هَكَذَا هُوَ فِي بَعْض النُّسَخ (فَأَنَا) بِالْفَاءِ وَفِي بَعْضهَا بِالْوَاوِ، وَفيه جَوَاز الْحَلِف مِنْ غَيْر اِسْتِحْلَاف، وَقَدْ تَقَدَّمَ قَرِيبًا بَسْط الْكَلَام فيه، وَتَقَدَّمَ بَيَانه مَرَّات.
وَقَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قُومُوا فَقَامُوا» هَكَذَا هُوَ فِي الْأُصُول بِضَمِيرِ الْجَمْع، وَهُوَ جَائِز بِلَا خِلَاف لَكِنَّ الْجُمْهُور يَقُولُونَ: إِطْلَاقه عَلَى الِاثْنَيْنِ مَجَاز، وَآخَرُونَ يَقُولُونَ: حَقِيقَة. وَقَوْله: «فَأَتَى رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَار» هُوَ أَبُو الْهَيْثَم مَالِك بْن التَّيْهَان بِفَتْحِ الْمُثَنَّاة فَوْق وَتَشْدِيد تَحْت مَعَ كَسْرهَا، وَفيه جَوَاز الْإِدْلَال عَلَى الصَّاحِب الَّذِي يُوثَق بِهِ كَمَا تَرْجَمْنَا لَهُ وَاسْتِتْبَاع جَمَاعَة إِلَى بَيْته، وَفيه مَنْقَبَة لِأَبِي الْهَيْثَم إِذْ جَعَلَهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْلًا لِذَلِكَ وَكَفَى بِهِ شَرَفًا ذَلِكَ.
وَقَوْله: «فَقَالَتْ: مَرْحَبًا وَأَهْلًا» كَلِمَتَانِ مَعْرُوفَتَانِ لِلْعَرَبِ، وَمَعْنَاهُ: صَادَفْت رَحْبًا وَسَعَة وَأَهْلًا تَأْنَس بِهِمْ، وَفيه اِسْتِحْبَاب إِكْرَام الضَّيْف بِهَذَا الْقَوْل وَشَبَهه، وَإِظْهَار السُّرُور بِقُدُومِهِ، وَجَعْله أَهْلًا لِذَلِكَ، كُلّ هَذَا وَشَبَهه إِكْرَام لِلضَّيْفِ، وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ كَانَ يُؤْمِن بِاللَّهِ وَالْيَوْم الْآخِر فَلْيُكْرِمْ ضَيْفه» وَفيه جَوَاز سَمَاع كَلَام الْأَجْنَبِيَّة وَمُرَاجَعَتهَا الْكَلَام لِلْحَاجَةِ، وَجَوَاز إِذْن الْمَرْأَة فِي دُخُول مَنْزِل زَوْجهَا لِمَنْ عَلِمَتْ مُحَقَّقًا أَنَّهُ لَا يَكْرَههُ بِحَيْثُ لَا يَخْلُو بِهَا الْخَلْوَة الْمُحَرَّمَة.
وَقَوْلهَا: «ذَهَبَ يَسْتَعْذِب لَنَا الْمَاء» أَيْ يَأْتِينَا بِمَاءٍ عَذْب، وَهُوَ الطَّيِّب، وَفيه: جَوَاز اِسْتِعْذَابه وَتَطْيِيبه.
قَوْله: «الْحَمْد لِلَّهِ مَا أَحَد الْيَوْم أَكْرَم ضَيْفًا مِنِّي» فيه فَوَائِد مِنْهَا: اِسْتِحْبَاب حَمْد اللَّه تَعَالَى عِنْد حُصُول نِعْمَة ظَاهِرَة، وَكَذَا يُسْتَحَبّ عِنْد اِنْدِفَاع نِقْمَة كَانَتْ مُتَوَقَّعَة، وَفِي غَيْر ذَلِكَ مِنْ الْأَحْوَال، وَقَدْ جَمَعْت فِي ذَلِكَ قِطْعَة صَالِحَة فِي كِتَاب الْأَذْكَار. وَمِنْهَا: اِسْتِحْبَاب إِظْهَار الْبِشْر، وَالْفَرَح بِالضَّيْفِ فِي وَجْهه وَحَمْد اللَّه تَعَالَى، وَهُوَ يَسْمَع عَلَى حُصُول هَذِهِ النِّعْمَة، وَالثَّنَاء عَلَى ضَيْفه إِنْ لَمْ يَخَفْ عَلَيْهِ فِتْنَة، فَإِنْ خَافَ لَمْ يُثْنِ عَلَيْهِ فِي وَجْهه، وَهَذَا طَرِيق الْجَمْع بَيْن الْأَحَادِيث الْوَارِدَة بِجَوَازِ ذَلِكَ وَمَنْعه، وَقَدْ جَمَعْتهَا مَعَ بَسْط الْكَلَام فيها فِي كِتَاب الْأَذْكَار. وَفيه: دَلِيل عَلَى فَضِيلَة هَذَا الْأَنْصَارِيّ وَبَلَاغَته وَعَظِيم مَعْرِفَته؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِكَلَامٍ مُخْتَصَر بَدِيع فِي الْحُسْن فِي هَذَا الْمَوْطِن رَضِيَ اللَّه عَنْهُ.
قَوْله: «فَانْطَلَقَ فَجَاءَهُمْ بِعِذْقٍ فيه بُسْر وَتَمْر وَرُطَب فَقَالَ: كُلُوا مِنْ هَذِهِ» الْعِذْق هُنَا بِكَسْرِ الْعَيْن وَهِيَ الْكِبَاسَة، وَهِيَ الْغُصْن مِنْ النَّخْل، وَإِنَّمَا أَتَى بِهَذَا الْعِذْق الْمُلَوَّن لِيَكُونَ أَطْرَف، وَلْيَجْمَعُوا بَيْن أَكْل الْأَنْوَاع فَقَدْ يَطِيب لِبَعْضِهِمْ هَذَا وَلِبَعْضِهِمْ هَذَا. وَفيه: دَلِيل عَلَى اِسْتِحْبَاب تَقْدِيم الْفَاكِهَة عَلَى الْخُبْز وَاللَّحْم وَغَيْرهمَا، وَفيه اِسْتِحْبَاب الْمُبَادَرَة إِلَى الضَّيْف بِمَا تَيَسَّرَ، وَإِكْرَامه بَعْده بِطَعَامٍ يَصْنَعهُ لَهُ لاسيما إِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنّه حَاجَته فِي الْحَال إِلَى الطَّعَام، وَقَدْ يَكُون شَدِيد الْحَاجَة إِلَى التَّعْجِيل وَقَدْ يَشُقّ عَلَيْهِ اِنْتِظَار مَا يَصْنَع لَهُ لِاسْتِعْجَالِهِ لِلِانْصِرَافِ.
وَقَدْ كَرِهَ جَمَاعَة مِنْ السَّلَف التَّكَلُّف لِلضَّيْفِ، وَهُوَ مَحْمُول عَلَى مَا يَشُقّ عَلَى صَاحِب الْبَيْت مَشَقَّة ظَاهِرَة؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَمْنَعهُ مِنْ الْإِخْلَاص وَكَمَال السُّرُور بِالضَّيْفِ، وَرُبَّمَا ظَهَرَ عَلَيْهِ شَيْء مِنْ ذَلِكَ فَيَتَأَذَّى بِهِ الضَّيْف، وَقَدْ يُحْضِر شَيْئًا يَعْرِف الضَّيْف مِنْ حَاله أَنَّهُ يَشُقّ عَلَيْهِ، وَأَنَّهُ يَتَكَلَّفهُ لَهُ فَيَتَأَذَّى لِشَفَقَتِهِ عَلَيْهِ، وَكُلّ هَذَا مُخَالِف لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ كَانَ يُؤْمِن بِاللَّهِ وَالْيَوْم الْآخِر فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ» لِأَنَّ أَكْمَلَ إِكْرَامه، إِرَاحَة خَاطِره، وَإِظْهَار السُّرُور بِهِ، وَأَمَّا فِعْل الْأَنْصَارِيّ، وَذَبْحه الشَّاة فَلَيْسَ مِمَّا يَشُقّ عَلَيْهِ، بَلْ لَوْ ذَبَحَ أَغْنَامًا بَلْ جِمَالًا وَأَنْفَقَ أَمْوَالًا فِي ضِيَافَة رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَاحِبَيْهِ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا كَانَ مَسْرُورًا بِذَلِكَ، مَغْبُوطًا فيه. وَاللَّهُ أَعْلَم.
قَوْله: «وَأَخَذَ الْمُدْيَة فَقَالَ لَهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِيَّاكَ وَالْحَلُوب» الْمُدْيَة: بِضَمِّ الْمِيم وَكَسْرهَا هِيَ السِّكِّين، وَتَقَدَّمَ بَيَانهَا مَرَّات، وَالْحَلُوب: ذَات اللَّبَن، فَعُول بِمَعْنَى مَفْعُول كَرَكُوبٍ وَنَظَائِره.
قَوْله: «فَلَمَّا أَنْ شَبِعُوا وَرُوُوا قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي بَكْر وَعُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتُسْأَلُنَّ عَنْ هَذَا النَّعِيم يَوْم الْقِيَامَة» فيه: دَلِيل عَلَى جَوَاز الشِّبَع، وَمَا جَاءَ فِي كَرَاهَة الشِّبَع فَمَحْمُول عَلَى الْمُدَاوَمَة عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ يُقَسِّي الْقَلْب وَيُنْسِي أَمْر الْمُحْتَاجِينَ، وَأَمَّا السُّؤَال عَنْ هَذَا النَّعِيم فَقَالَ الْقَاضِي عِيَاض: الْمُرَاد السُّؤَال عَنْ الْقِيَام بِحَقِّ شُكْره، وَالَّذِي نَعْتَقِدهُ أَنَّ السُّؤَال هُنَا سُؤَال تَعْدَاد النِّعَم وَإِعْلَام بِالِامْتِنَانِ بِهَا، وَإِظْهَار الْكَرَامَة بِإِسْبَاغِهَا لَا سُؤَال تَوْبِيخ وَتَقْرِيع وَمُحَاسَبَة. وَاللَّهُ أَعْلَم.
قَوْله فِي إِسْنَاد الطَّرِيق الثَّانِي: (وَحَدَّثَنِي إِسْحَاق بْن مَنْصُور أَنْبَأَنَا أَبُو هِشَام يَعْنِي الْمُغِيرَة بْن سَلَمَة أَنْبَأَنَا يَزِيد أَنْبَأَنَا أَبُو حَازِم قَالَ: سَمِعْت أَبَا هُرَيْرَة يَقُول) هَكَذَا وَقَعَ هَذَا الْإِسْنَاد فِي النُّسَخ بِبِلَادِنَا، وَحَكَى الْقَاضِي عِيَاض أَنَّهُ وَقَعَ هَكَذَا فِي رِوَايَة اِبْن مَاهَان، وَفِي رِوَايَة الرَّازِّي مِنْ طَرِيق الْجُلُودِيّ، وَأَنَّهُ وَقَعَ مِنْ رِوَايَة السَّنْجَرِيّ عَنْ الْجُلُودِيّ بِزِيَادَةِ رَجُل بَيْن الْمُغِيرَة بْن سَلَمَة وَيَزِيد بْن كَيْسَانَ، هُوَ عَبْد الْوَاحِد بْن زِيَاد، قَالَ أَبُو عَلِيّ الْجَيَّانِيّ: ولابد مِنْ إِثْبَات عَبْد الْوَاحِد، وَلَا يَتَّصِل الْحَدِيث إِلَّا بِهِ، قَالَ: وَكَذَلِكَ خَرَّجَهُ أَبُو مَسْعُود الدِّمَشْقِيّ فِي الْأَطْرَاف عَنْ مُسْلِم عَنْ إِسْحَاق عَنْ مُغِيرَة عَنْ عَبْد الْوَاحِد عَنْ يَزِيد بْن أَبِي كَيْسَانَ عَنْ أَبِي حَازِم عَنْ أَبِي هُرَيْرَة، قَالَ الْجَيَّانِيّ: وَمَا وَقَعَ فِي رِوَايَة اِبْن مَاهَان وَغَيْره مِنْ إِسْقَاطه خَطَأ بَيِّن. قُلْت: وَنَقَلَهُ خَلَف الْوَاسِطِيُّ فِي الْأَطْرَاف بِإِسْقَاطِ عَبْد الْوَاحِد، وَالظَّاهِر الَّذِي يَقْتَضِيه حَال مُغِيرَة وَيَزِيد أَنَّهُ لابد مِنْ إِثْبَات عَبْد الْوَاحِد، كَمَا قَالَهُ الْجَيَّانِيّ. وَاَللَّه أَعْلَم. هَذَا مَا يَتَعَلَّق بِالْحَدِيثِ الْأَوَّل.
3799- سبق شرحه بالباب.
3800- حَدِيث طَعَام جَابِر فَفيه أَنْوَاع مِنْ فَوَائِد وَجُمَل مِنْ الْقَوَاعِد: مِنْهَا: الدَّلِيل الظَّاهِر وَالْعِلْم الْبَاهِر مِنْ أَعْلَام نُبُوَّة رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ تَظَاهَرَتْ أَحَادِيث آحَاد بِمِثْلِ هَذَا حَتَّى زَادَ مَجْمُوعهَا عَلَى التَّوَاتُر، وَحَصَلَ الْعِلْم الْقَطْعِيّ بِالْمَعْنَى الَّذِي اِشْتَرَكَتْ فيه هَذِهِ الْآحَاد، وَهُوَ اِنْخِرَاق الْعَادَة بِمَا أَتَى بِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ تَكْثِير الطَّعَام الْقَلِيل الْكَثْرَة الظَّاهِرَة، وَنَبْع الْمَاء وَتَكْثِيره، وَتَسْبِيح الطَّعَام وَحَنِين الْجِذْع وَغَيْر ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مَعْرُوف، وَقَدْ جَمَعَ ذَلِكَ الْعُلَمَاء فِي كُتُب دَلَائِل النُّبُوَّة، كَالدَّلَائِلِ لِلْقَفَّالِ الشَّاشِيّ، وَصَاحِبه أَبِي عَبْد اللَّه الْحَلِيمِيّ، وَأَبِي بَكْر الْبَيْهَقِيِّ الْإِمَام الْحَافِظ وَغَيْرهمْ بِمَا هُوَ مَشْهُور، وَأَحْسَنهَا كِتَاب الْبَيْهَقِيِّ، فَلِلَّهِ الْحَمْد عَلَى مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَى نَبِيّنَا مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَلَيْنَا بِإِكْرَامِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيق.
قَوْله: (حَدَّثَنَا سَعِيد بْن مِينَاء) هُوَ بِالْمَدِّ وَالْقَصْر وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانه مَرَّات.
قَوْله: «رَأَيْت النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَمَصًا» هُوَ بِفَتْحِ الْخَاء وَالْمِيم أَيْ رَأَيْته ضَامِر الْبَطْن مِنْ الْجُوع.
قَوْله: «فَانْكَفَأْت إِلَى اِمْرَأَتِي» أَيْ اِنْقَلَبْت وَرَجَعْت، وَوَقَعَ فِي نُسَخ: «فَانْكَفَيْت» وَهُوَ خِلَاف الْمَعْرُوف فِي اللُّغَة، بَلْ الصَّوَاب (اِنْكَفَأْت) بِالْهَمْزِ.
قَوْله: «فَأَخْرَجَتْ لِي جِرَابًا» وَهُوَ وِعَاء مِنْ جِلْد مَعْرُوف بِكَسْرِ الْجِيم وَفَتْحهَا، الْكَسْر أَشْهَر وَقَدْ سَبَقَ بَيَانه.
قَوْله: «وَلَنَا بُهَيْمَة دَاجِن» هِيَ بِضَمِّ الْبَاء تَصْغِير (بَهِيمَة) وَهِيَ الصَّغِيرَة مِنْ أَوْلَاد الضَّأْن، قَالَ الْجَوْهَرِيّ: وَتُطْلَق عَلَى الذَّكَر وَالْأُنْثَى كَالشَّاةِ وَالسَّخْلَة الصَّغِيرَة مِنْ أَوْلَاد الْمَعْز وَقَدْ سَبَقَ قَرِيبًا أَنَّ الدَّاجِن مَا أَلِف الْبُيُوت.
قَوْله: «فَجِئْته فَسَارَرْته فَقُلْت: يَا رَسُول اللَّه» فيه: جَوَاز الْمُسَارَرَة بِالْحَاجَةِ بِحَضْرَةِ الْجَمَاعَة، وَإِنَّمَا نَهَى أَنْ يَتَنَاجَى اِثْنَانِ دُون الثَّالِث كَمَا سَنُوَضِّحُهُ فِي مَوْضِعه إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ جَابِرًا قَدْ صَنَعَ لَكُمْ سُوَرًا فَحَيَّ هَلَا بِكُمْ» أَمَّا (السُّور) فَبِضَمِّ السِّين وَإِسْكَان الْوَاو غَيْر مَهْمُوز، وَهُوَ الطَّعَام الَّذِي يُدْعَى إِلَيْهِ، وَقِيلَ: الطَّعَام مُطْلَقًا، وَهِيَ لَفْظَة فَارِسِيَّة، وَقَدْ تَظَاهَرَتْ أَحَادِيث صَحِيحَة بِأَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَكَلَّمَ بِأَلْفَاظٍ غَيْر الْعَرَبِيَّة، فَيَدُلّ عَلَى جَوَازه.
وَأَمَّا (فَحَيَّ هَلَا) بِتَنْوِينِ (هَلَا) وَقِيلَ: بِلَا تَنْوِين عَلَى وَزْن عَلَا وَيُقَال: (حَيّ هَلْ) فَمَعْنَاهُ: عَلَيْك بِكَذَا أَوْ اُدْعُ بِكَذَا، قَالَهُ أَبُو عُبَيْد وَغَيْره، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: أَعْجِلْ بِهِ، وَقَالَ الْهَرَوِيُّ: مَعْنَاهُ هَاتِ وَعَجِّلْ بِهِ.
قَوْله: «وَجَاءَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْدُم النَّاس» إِنَّمَا فَعَلَ هَذَا لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَاهُمْ فَجَاءُوا تَبَعًا لَهُ كَصَاحِبِ الطَّعَام إِذَا دَعَا طَائِفَة يَمْشِي قُدَّامهمْ، وَكَانَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَيْر هَذَا الْحَال لَا يَتَقَدَّمهُمْ، وَلَا يُمَكِّنهُمْ مِنْ وَطْء عَقِبَيْهِ، وَفَعَلَهُ هُنَا لِهَذِهِ الْمَصْلَحَة.
قَوْله: «حَتَّى جِئْت اِمْرَأَتِي فَقَالَتْ: بِك وَبِك» أَيْ ذَمَّتْهُ وَدَعَتْ عَلَيْهِ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: بِك تَلْحَق الْفَضِيحَة، وَبِك يَتَعَلَّق الذَّمّ.
وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: جَرَى هَذَا بِرَأْيِك وَسُوء نَظَرَك وَتَسَبُّبك.
قَوْله: «قَدْ فَعَلْت الَّذِي قُلْت لِي» مَعْنَاهُ: أَنَّى أَخْبَرْت النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا عِنْدنَا فَهُوَ أَعْلَم بِالْمَصْلَحَةِ.
قَوْله: «ثُمَّ عَمَدَ إِلَى بُرْمَتِنَا فَبَصَقَ فيها، وَبَارَكَ، ثُمَّ قَالَ: اُدْعِي خَابِزَة فَلْتَخْبِزْ مَعَك» هَذِهِ اللَّفْظَة وَهِيَ (اُدْعِي) وَقَعَتْ فِي بَعْض الْأُصُول، هَكَذَا (اُدْعِي) بِعَيْنِ ثُمَّ يَاء وَهُوَ الصَّحِيح الظَّاهِر؛ لِأَنَّهُ خِطَاب لِلْمَرْأَةِ، وَلِهَذَا قَالَ: «فَلْتَخْبِزْ مَعَك» وَفِي بَعْضهَا: «اُدْعُونِي» بِوَاوٍ وَنُون، وَفِي بَعْضهَا (اُدْعُنِي) وَهُمَا أَيْضًا صَحِيحَانِ، وَتَقْدِيره: اُطْلُبُوا وَاطْلُبْ لِي خَابِزَة، وَقَوْله: (عَمَدَ) بِفَتْحِ الْمِيم. قَوْله: (بَصَقَ) هَكَذَا هُوَ فِي أَكْثَر الْأُصُول، وَفِي بَعْضهَا (بَسَقَ) وَهِيَ لُغَة قَلِيلَة، وَالْمَشْهُور: بَصَقَ وَبَزَقَ، وَحَكَى جَمَاعَة مِنْ أَهْل اللُّغَة: بَسَقَ، لَكِنَّهَا قَلِيلَة كَمَا ذَكَرْنَا.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَاقْدَحِي مِنْ بُرْمَتكُمْ» أَيْ اِغْرِفِي، وَالْقَدَح: الْمِغْرَفَة، يُقَال: قَدَحْت الْمَرَق أَقْدَحهُ بِفَتْحِ الدَّال غَرَفْته.
قَوْله: «وَهُمْ أَلْف فَأَقْسَمَ بِاَللَّهِ لَأَكَلُوا حَتَّى تَرَكُوهُ وَانْحَرَفُوا وَإِنَّ بُرْمَتنَا لَتَغِطّ كَمَا هِيَ وَإِنَّ عَجِينَتنَا لَتُخْبَز كَمَا هُوَ» قَوْله: «تَرْكُوه وَانْحَرَفُوا» أَيْ شَبِعُوا وَانْصَرَفُوا، وَقَوْله: (تَغِطّ) بِكَسْرِ الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَتَشْدِيد الطَّاء، أَيْ تَغْلِي، وَيُسْمَع غَلَيَانهَا، وَقَوْله: (كَمَا هُوَ) يَعُود إِلَى الْعَجِين.
وَقَدْ تَضَمَّنَ هَذَا الْحَدِيث عَلَمَيْنِ مِنْ أَعْلَام النُّبُوَّة: أَحَدهمَا: تَكْثِير الطَّعَام الْقَلِيل، وَالثَّانِي: عِلْمه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ هَذَا الطَّعَام الْقَلِيل الَّذِي يَكْفِي فِي الْعَادَة خَمْسَة أَنْفُس أَوْ نَحْوهمْ سَيَكْثُرُ فَيَكْفِي أَلْفًا وَزِيَادَة، فَدَعَا لَهُ أَلْفًا قَبْل أَنْ يَصِل إِلَيْهِ، وَقَدْ عَلِمَ أَنَّهُ صَاع شَعِير وَبُهَيْمَة. وَاللَّهُ أَعْلَم.
3801- حَدِيث أَنَس فِي طَعَام أَبِي طَلْحَة قِفيه أَيْضًا هَذَانِ الْعَلَمَانِ مِنْ أَعْلَام النُّبُوَّة، وَهُمَا تَكْثِير الْقَلِيل، وَعِلْمه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ هَذَا الْقَلِيل سَيُكَثِّرُهُ اللَّه تَعَالَى فَيَكْفِي هَؤُلَاءِ الْخَلْق الْكَثِير، فَدَعَاهُمْ لَهُ. وَاعْلَمْ أَنَّ أَنَسًا رَضِيَ اللَّه عَنْهُ رَوَى هُنَا حَدِيثَيْنِ الْأَوَّل مِنْ طَرِيق، وَالثَّانِي مِنْ طَرِيق، وَهُمَا قَضِيَّتَانِ جَرَتْ فيهمَا هَاتَانِ الْمُعْجِزَتَانِ وَغَيْرهمَا مِنْ الْمُعْجِزَات. فَفِي الْحَدِيث الْأَوَّل: «أَنَّ أَبَا طَلْحَة وَأُمّ سُلَيْمٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا أَرْسَلَا أَنَسًا رَضِيَ اللَّه عَنْهُ إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَقْرَاصِ شَعِير، قَالَ أَنَس: فَذَهَبْت فَوَجَدْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسًا فِي الْمَسْجِد وَمَعَهُ أَصْحَابه فَقُمْت عَلَيْهِمْ، فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَرْسَلَك أَبُو طَلْحَة؟ فَقُلْت: نَعَمْ: فَقَالَ، الطَّعَام؟ فَقُلْت: نَعَمْ، فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَنْ مَعَهُ: قُومُوا. فَانْطَلَقَ وَانْطَلَقْت بَيْن أَيْدِيهمْ حَتَّى جِئْت أَبَا طَلْحَة فَأَخْبَرْته، فَقَالَ أَبُو طَلْحَة: يَا أُمّ سُلَيْمٍ قَدْ جَاءَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنَّاسِ، وَلَيْسَ عِنْدنَا مَا نُطْعِمهُمْ فَقَالَتْ: اللَّه وَرَسُوله أَعْلَم، قَالَ: فَانْطَلَقَ أَبُو طَلْحَة حَتَّى لَقِيَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَقْبَلَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَهُ حَتَّى دَخَلَا، فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَلُمِّي مَا عِنْدك يَا أُمّ سُلَيْمٍ؟ فَأَتَتْ بِذَلِكَ الْخُبْز فَأَمَرَ بِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَفُتّ وَعَصَرَتْ عَلَيْهِ عُكَّة لَهَا فَأَدَمَتْهُ، ثُمَّ قَالَ فيه رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا شَاءَ اللَّه أَنْ يَقُول، ثُمَّ قَالَ: اِئْذَنْ لِعَشَرَةٍ فَأَذِنَ لَهُمْ، فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا، ثُمَّ خَرَجُوا، ثُمَّ قَالَ: اِئْذَنْ لِعَشَرَةٍ حَتَّى أَكَلَ الْقَوْم كُلّهمْ وَشَبِعُوا، وَالْقَوْم سَبْعُونَ رَجُلًا أَوْ ثَمَانُونَ».
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَرْسَلَك أَبُو طَلْحَة؟ فَقُلْت: نَعَمْ» وَقَوْله: «أَلِطَعَامٍ؟ فَقُلْت: نَعَمْ» هَذَانِ عَلَمَانِ مِنْ أَعْلَام النُّبُوَّة، وَذَهَابه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِمْ عَلَم ثَالِث كَمَا سَبَقَ، وَتَكْثِير الطَّعَام عَلَم رَابِع، وَفيه مَا تَقَدَّمَ فِي حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة وَحَدِيث جَابِر مِنْ اِبْتِلَاء الْأَنْبِيَاء- صَلَوَات اللَّه عَلَيْهِمْ وَسَلَامه- وَالِاخْتِبَار بِالْجُوعِ وَغَيْره مِنْ الْمَشَاقّ؛ لِيَصْبِرُوا، فَيَعْظُم أَجْرهمْ وَمَنَازِلهمْ. وَفيه: مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ كِتْمَان مَا بِهِمْ. وَفيه: مَا كَانَتْ الصَّحَابَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ عَلَيْهِ مِنْ الِاعْتِنَاء بِأَحْوَالِ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَفيه: اِسْتِحْبَاب بَعْث الْهَدِيَّة وَإِنْ كَانَتْ قَلِيلَة بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَرْتَبَة الْمَبْعُوث إِلَيْهِ؛ لِأَنَّهَا وَإِنْ قَلَّتْ فَهِيَ خَيْر مِنْ الْعَدَم. وَفيه جُلُوس الْعَالِم لِأَصْحَابِهِ يُفِيدهُمْ وَيُؤَدِّبهُمْ. وَاسْتِحْبَاب ذَلِكَ فِي الْمَسَاجِد، وَفيه: اِنْطِلَاق صَاحِب الطَّعَام بَيْن يَدَيْ الضَّيْفَانِ وَخُرُوجه لِيَتَلَقَّاهُمْ، وَفيه مَنْقَبَة لِأُمّ سُلَيْمٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهَا وَدَلَالَة عَلَى عَظِيم فِقْههَا وَرُجْحَان عَقْلهَا لِقَوْلِهَا: اللَّه وَرَسُوله أَعْلَم، وَمَعْنَاهُ: أَنَّهُ قَدْ عَرَفَ الطَّعَام فَهُوَ أَعْلَم بِالْمَصْلَحَةِ، فَلَوْ لَمْ يَعْلَمهَا فِي مَجِيء الْجَمْع الْعَظِيم لَمْ يَفْعَلهَا فَلَا تَحْزَن مِنْ ذَلِكَ. وَفيه: اِسْتِحْبَاب فَتّ الطَّعَام وَاخْتِيَار الثَّرِيد عَلَى الْغَمْس بِاللُّقَمِ.
وَقَوْله: «عَصَرَتْ عَلَيْهِ عُكَّة» هِيَ بِضَمِّ الْعَيْن وَتَشْدِيد الْكَاف وَهِيَ وِعَاء صَغِير مِنْ جِلْد لِلسَّمْنِ خَاصَّة.
وَقَوْله: «فَآدَمَتْهُ» هُوَ بِالْمَدِّ وَالْقَصْر لُغَتَانِ: «آدَمَتْهُ وَأَدَمَتْهُ» أَيْ جَعَلَتْ فيه إِدَامًا، وَإِنَّمَا أَذِنَ لِعَشَرَةٍ عَشَرَة لِيَكُونَ أَرْفَق بِهِمْ، فَإِنَّ الْقَصْعَة الَّتِي فُتّ فيها تِلْكَ الْأَقْرَاص لَا يَتَحَلَّق عَلَيْهَا أَكْثَر مِنْ عَشَرَة إِلَّا بِضَرَرٍ يَلْحَقهُمْ، لِبُعْدِهَا عَنْهُمْ. وَاَللَّه أَعْلَم.
3802- وَأَمَّا الْحَدِيث الْآخَر فَفيه: «أَنَّ أَنَسًا قَالَ: بَعَثَنِي أَبُو طَلْحَة إِلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَأَدْعُوهُ، وَقَدْ جَعَلَ طَعَامًا، فَأَقْبَلْت وَرَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ النَّاس، فَنَظَرَ إِلَيَّ فَاسْتَحْيَيْت، فَقُلْت: أَجِبْ أَبَا طَلْحَة فَقَالَ لِلنَّاسِ: قُومُوا....» وَذَكَرَ الْحَدِيث، وَأَخْرَجَ لَهُمْ شَيْئًا مِنْ بَيْن أَصَابِعه. وَهَذَا الْحَدِيث قَضِيَّة أُخْرَى بِلَا شَكّ، وَفيها مَا سَبَقَ فِي الْحَدِيث الْأَوَّل، وَزِيَادَة هَذَا الْعَلَم الْآخَر مِنْ أَعْلَام النُّبُوَّة وَهُوَ إِخْرَاج ذَلِكَ الشَّيْء مِنْ بَيْن أَصَابِعه الْكَرِيمَات صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَوْله: «وَتَرَكُوا سُؤْرًا» هُوَ بِالْهَمْزِ، أَيْ: بَقِيَّة.
قَوْله: «فَقَامَ أَبُو طَلْحَة عَلَى الْبَاب حَتَّى أَتَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ: يَا رَسُول اللَّه إِنَّمَا كَانَ شَيْء يَسِير قَالَ: هَلُمَّه فَإِنَّ اللَّه سَيَجْعَلُ فيه الْبَرَكَة» أَمَّا قِيَام أَبِي طَلْحَة فَلِانْتِظَارِ إِقْبَال النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا أَقْبَلَ تَلَقَّاهُ، وَقَوْله: «إِنَّمَا كَانَ شَيْء يَسِير» هَكَذَا هُوَ فِي الْأُصُول وَهُوَ صَحِيح، (وَكَانَ) هُنَا تَامَّة لَا تَحْتَاج خَبَرًا.
وَقَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَإِنَّ اللَّه سَيَجْعَلُ فيه الْبَرَكَة» فيه عَلَم ظَاهِر مِنْ أَعْلَام النُّبُوَّة.
وَقَوْله: «ثُمَّ أَكَلَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَكَلَ أَهْل الْبَيْت» فيه أَنْ يُسْتَحَبّ لِصَاحِبِ الطَّعَام وَأَهْله أَنْ يَكُون أَكْلهمْ بَعْد فَرَاغ الضِّيفَان. وَاللَّه أَعْلَم.
قَوْله: «يَتَقَلَّب ظَهْرًا لِبَطْنٍ» وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: «وَقَدْ عَصَبَ بَطْنه بِعِصَابَةٍ» لَا مُخَالَفَة بَيْنهمَا، وَأَحَدهمَا يُبَيِّن الْآخَر، وَيُقَال: عَصَّبَ وَعَصَبَ بِالتَّخْفِيفِ وَالتَّشْدِيد.
قَوْله: «فَذَهَبْت إِلَى أَبِي طَلْحَة وَهُوَ زَوْج أُمِّ سُلَيْمٍ بِنْت مِلْحَانِ فَقُلْت: يَا أَبَتَاهُ» فيه: اِسْتِعْمَال الْمَجَاز لِقَوْله: (يَا أَبَتَاهُ) وَإِنَّمَا هُوَ زَوْج أُمّه.
وَقَوْله: (بِنْت مِلْحَان) هُوَ بِكَسْرِ الْمِيم. وَاللَّه أَعْلَم.