فصل: (باب جواز تقصير المعتمر من شعره وأنه لا يجب حلقه، وأنه يستحب كون حلقه أو تقصيره عند المروة):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج المشهور بـ «شرح النووي على مسلم»



.باب مَا يَلْزَمُ مَنْ طَافَ بِالْبَيْتِ وَسَعَى مِنَ الْبَقَاءِ عَلَى الإِحْرَامِ وَتَرْكِ التَّحَلُّلِ:

2173- قَوْله: (فَتَصَدَّانِي الرَّجُل) أَيْ تَعَرَّضَ لِي هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيع النُّسَخ (تَصَدَّانِي) بِالنُّونِ، وَالْأَشْهَر فِي اللُّغَة (تَصَدَّى لِي).
قَوْله: «أَوَّل شَيْء بَدَأَ بِهِ حِين قَدِمَ مَكَّة أَنَّهُ تَوَضَّأَ ثُمَّ طَافَ بِالْبَيْتِ» فيه دَلِيل لِإِثْبَاتِ الْوُضُوء لِلطَّوَافِ لِأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَهُ، ثُمَّ قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لِتَأْخُذُوا عَنِّي مَنَاسِككُمْ» وَقَدْ أَجْمَعَتْ الْأَئِمَّة عَلَى أَنَّهُ يُشْرَع الْوُضُوء لِلطَّوَافِ، وَلَكِنْ اِخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ وَاجِب وَشَرْط لِصِحَّتِهِ أَمْ لَا؟ فَقَالَ مَالِك وَالشَّافِعِيّ وَأَحْمَد وَالْجُمْهُور: هُوَ شَرْط لِصِحَّةِ الطَّوَاف، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة: مُسْتَحَبّ لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَاحْتَجَّ الْجُمْهُور بِهَذَا الْحَدِيث، وَوَجْه الدَّلَالَة أَنَّ هَذَا الْحَدِيث مَعَ حَدِيث: «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِككُمْ» يَقْتَضِيَانِ أَنَّ الطَّوَاف وَاجِب، لِأَنَّ كُلّ مَا فَعَلَهُ هُوَ دَاخِل فِي الْمَنَاسِك، فَقَدْ أَمَرَنَا بِأَخْذِ الْمَنَاسِك. وَفِي حَدِيث اِبْن عَبَّاس فِي التِّرْمِذِيّ وَغَيْره أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الطَّوَاف بِالْبَيْتِ صَلَاة إِلَّا أَنَّ اللَّه أَبَاحَ فيه الْكَلَام» وَلَكِنْ رَفْعه ضَعِيف. وَالصَّحِيح عِنْد الْحُفَّاظ أَنَّهُ مَوْقُوف عَلَى اِبْن عَبَّاس، وَتَحْصُل بِهِ الدَّلَالَة مَعَ أَنَّهُ مَوْقُوف لِأَنَّهُ قَوْل لِصَحَابِيٍّ اِنْتَشَرَ، وَإِذَا اِنْتَشَرَ قَوْل الصَّحَابِيّ بِلَا مُخَالَفَة كَانَ حُجَّة عَلَى الصَّحِيح.
قَوْله: «ثُمَّ لَمْ يَكُنْ غَيْره» وَكَذَا قَالَ فِيمَا بَعْده: «وَلَمْ يَكُنْ غَيْره» هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيع النُّسَخ (غَيْره) بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَة وَالْيَاء.
قَالَ الْقَاضِي عِيَاض: كَذَا هُوَ فِي جَمِيع النُّسَخ.
قَالَ: وَهُوَ تَصْحِيف وَصَوَابه: (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ عُمْرَة) بِضَمِّ الْعَيْن الْمُهْمَلَة وَبِالْمِيمِ. وَكَانَ السَّائِل لِعُرْوَةَ إِنَّمَا سَأَلَهُ عَنْ نَسْخ الْحَجّ إِلَى الْعُمْرَة عَلَى مَذْهَب مَنْ رَأَى ذَلِكَ، وَاحْتَجَّ بِأَمْرِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُمْ بِذَلِكَ فِي حَجَّة الْوَدَاع، فَأَعْلَمَهُ عُرْوَة أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَفْعَل ذَلِكَ بِنَفْسِهِ، وَلَا مَنْ جَاءَ بَعْده. هَذَا كَلَام الْقَاضِي. قُلْت: هَذَا الَّذِي قَالَهُ مِنْ أَنَّ قَوْل (غَيْره) تَصْحِيف لَيْسَ كَمَا قَالَ، بَلْ هُوَ صَحِيح فِي الرِّوَايَة، وَصَحِيح فِي الْمَعْنَى لِأَنَّ قَوْله (غَيْره) يَتَنَاوَل الْعُمْرَة وَغَيْرهَا، وَيَكُون تَقْدِير الْكَلَام ثُمَّ حَجَّ أَبُو بَكْر فَكَانَ أَوَّل شَيْء بَدَأَ بِهِ الطَّوَاف بِالْبَيْتِ ثُمَّ لَمْ يَكُنْ غَيْره أَيْ لَمْ يُغَيِّر الْحَجّ وَلَمْ يَنْقُلهُ وَيَنْسَخهُ إِلَى غَيْره لَا عَمْرَة وَلَا قِرَان وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله: (ثُمَّ حَجَجْت مَعَ أَبِي الزُّبَيْر بْن الْعَوَّام) أَيْ مَعَ وَالِده الزُّبَيْر قَوْله: (الزُّبَيْر) بَدَل مِنْ أَبِي.
قَوْله: (وَلَا أَحَد مِمَّنْ مَضَى مَا كَانُوا يَبْدَءُونَ شَيْئًا حِين يَضَعُونَ أَقْدَامهمْ أَوَّل مِنْ الطَّوَاف بِالْبَيْتِ ثُمَّ لَا يَحِلُّونَ) فيه أَنَّ الْمُحْرِم بِالْحَجِّ إِذَا قَدِمَ مَكَّة يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَبْدَأ بِطَوَافِ الْقُدُوم، وَلَا يَفْعَل شَيْئًا قَبْله، وَلَا يُصَلِّي تَحِيَّة الْمَسْجِد، بَلْ أَوَّل شَيْء يَصْنَعهُ الطَّوَاف، وَهَذَا كُلّه مُتَّفَق عَلَيْهِ عِنْدنَا. وَقَوْله: (يَضَعُونَ أَقْدَامهمْ) يَعْنِي يَصِلُونَ مَكَّة. وَقَوْله: (ثُمَّ لَا يَحِلُّونَ) فيه التَّصْرِيح بِأَنَّهُ لَا يَجُوز التَّحَلُّل بِمُجَرَّدِ طَوَاف الْقُدُوم كَمَا سَبَقَ.
قَوْله: (وَقَدْ أَخْبَرَتْنِي أُمِّي أَنَّهَا أَقْبَلَتْ هِيَ وَأُخْتهَا وَالزُّبَيْر وَفُلَان وَفُلَان بِعُمْرَةٍ قَطُّ فَلَمَّا مَسَحُوا الرُّكْن حَلُّوا) فَقَوْلهَا: (مَسَحُوا) الْمُرَاد بِالْمَاسِحِينَ مَنْ سِوَى عَائِشَة، وَإِلَّا فَعَائِشَة لَمْ تَمْسَح الرُّكْن قَبْل الْوُقُوف بِعَرَفَاتٍ فِي حَجَّة الْوَدَاع بَلْ كَانَتْ قَارِنَة، وَمَنَعَهَا الْحَيْض مِنْ الطَّوَاف قَبْل يَوْم النَّحْر، وَهَكَذَا قَوْل أَسْمَاء بَعْد هَذَا (اِعْتَمَرْت أَنَا وَأُخْتِي عَائِشَة وَالزُّبَيْر وَفُلَان وَفُلَان، فَلَمَّا مَسَحْنَا الْبَيْت أَحْلَلْنَا ثُمَّ أَهْلَلْنَا بِالْحَجِّ)، الْمُرَاد بِهِ أَيْضًا مَنْ سِوَى عَائِشَة، وَهَكَذَا تَأَوَّلَهُ الْقَاضِي عِيَاض، وَالْمُرَاد الْإِخْبَار عَنْ حَجَّتهمْ مَعَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَجَّة الْوَدَاع عَلَى الصِّفَة الَّتِي ذُكِرَتْ فِي أَوَّل الْحَدِيث، وَكَانَ الْمَذْكُورُونَ سِوَى عَائِشَة مُحْرِمِينَ بِالْعُمْرَةِ، وَهِيَ عُمْرَة الْفَسْخ الَّتِي فَسَخُوا الْحَجّ إِلَيْهَا، وَإِنَّمَا لَمْ تُسْتَثْنَ عَائِشَة لِشُهْرَةِ قِصَّتهَا.
قَالَ الْقَاضِي عِيَاض: وَقِيلَ: يُحْتَمَل أَنَّ أَسْمَاء أَشَارَتْ إِلَى عُمْرَة عَائِشَة الَّتِي فَعَلَتْهَا بَعْد الْحَجّ مَعَ أَخِيهَا عَبْد الرَّحْمَن مِنْ التَّنْعِيم.
قَالَ الْقَاضِي: وَأَمَّا قَوْل مَنْ قَالَ: يُحْتَمَل أَنَّهَا أَرَادَتْ فِي غَيْر حَجَّة الْوَدَاع فَخَطَأ لِأَنَّ فِي الْحَدِيث التَّصْرِيح بِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي حَجَّة الْوَدَاع. هَذَا كَلَام الْقَاضِي. وَذَكَرَ مُسْلِم بَعْد هَذِهِ الرِّوَايَة رِوَايَة إِسْحَاق بْن إِبْرَاهِيم، وَفيها أَنَّ أَسْمَاء قَالَتْ: «خَرَجْنَا مُحْرِمِينَ فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْي فَلْيَقُمْ عَلَى إِحْرَامه، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْي فَلْيَحْلِلْ فَلَمْ يَكُنْ مَعِي هَدْي فَحَلَلْت، وَكَانَ مَعَ الزُّبَيْر هَدْي فَلَمْ يَحِلّ». فَهَذَا تَصْرِيح بِأَنَّ الزُّبَيْر لَمْ يَتَحَلَّل فِي حَجَّة الْوَدَاع قَبْل يَوْم النَّحْر، فَيَجِب اِسْتِثْنَاؤُهُ مَعَ عَائِشَة، أَوْ يَكُون إِحْرَامه بِالْعُمْرَةِ وَتَحَلُّله مِنْهَا فِي غَيْر حَجَّة الْوَدَاع. وَاَللَّه أَعْلَم.
وَقَوْلهَا: «فَلَمَّا مَسَحُوا الرُّكْن حَلُّوا» هَذَا مُتَأَوَّل عَنْ ظَاهِره لِأَنَّ الرُّكْن هُوَ الْحَجَر الْأَسْوَد، وَمَسْحه يَكُون فِي أَوَّل الطَّوَاف، وَلَا يَحْصُل التَّحَلُّل بِمُجَرَّدِ مَسْحه بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، وَتَقْدِيره فَلَمَّا مَسَحُوا الرُّكْن وَأَتَمُّوا طَوَافهمْ وَسَعْيهمْ وَحَلَقُوا أَوْ قَصَّرُوا أَحَلُّوا. ولابد مِنْ تَقْدِير هَذَا الْمَحْذُوف، وَإِنَّمَا حَذَفْته لِلْعِلْمِ بِهِ، وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَتَحَلَّل قَبْل إِتْمَام الطَّوَاف. وَمَذْهَبنَا وَمَذْهَب الْجُمْهُور أَنَّهُ لابد أَيْضًا مِنْ السَّعْي بَعْده، ثُمَّ الْحَلْق أَوْ التَّقْصِير، وَشَذَّ بَعْض السَّلَف فَقَالَ: السَّعْي لَيْسَ بِوَاجِبٍ. وَلَا حُجَّة لِهَذَا الْقَائِل فِي هَذَا الْحَدِيث لِأَنَّ ظَاهِره غَيْر مُرَاد بِالْإِجْمَاعِ فَيَتَعَيَّن تَأْوِيله كَمَا ذَكَرْنَا لِيَكُونَ مُوَافِقًا لِبَاقِي الْأَحَادِيث. وَاَللَّه أَعْلَم.
2174- قَوْلهَا: (عَنْ الزُّبَيْر فَقَالَ: قُومِي عَنِّي فَقَالَتْ: أَتَخْشَى أَنْ أَثِب عَلَيْك) إِنَّمَا أَمَرَهَا بِالْقِيَامِ مَخَافَة مِنْ عَارِض قَدْ يَبْدُر مِنْهُ كَلَمْسٍ بِشَهْوَةٍ أَوْ نَحْوه فَإِنَّ اللَّمْس بِشَهْوَةٍ حَرَام فِي الْإِحْرَام، فَاحْتَاطَ لِنَفْسِهِ بِمُبَاعَدَتِهَا مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا زَوْجَة مُتَحَلِّلَة تَطْمَع بِهَا النَّفْس.
قَوْله: (اِسْتَرْخِي عَنِّي اِسْتَرْخِي عَنِّي) هَكَذَا هُوَ فِي النُّسَخ مَرَّتَيْنِ أَيْ تَبَاعَدِي.
2175- قَوْله: (مَرَّتْ بِالْحَجُونِ) هُوَ بِفَتْحِ الْحَاء وَضَمّ الْجِيم، وَهُوَ مِنْ حَرَم مَكَّة، وَهُوَ الْجَبَل الْمُشْرِف عَلَى مَسْجِد الْحَرْس بِأَعْلَى مَكَّة عَلَى يَمِينك وَأَنْتَ مُصْعِد عِنْد الْمُحَصَّب.
قَوْلهَا: (خِفَاف الْحَقَائِب) جَمْع حَقِيبَة وَهُوَ كُلّ مَا حُمِلَ فِي مُؤَخَّر الرَّحْل وَالْقَتَب، وَمِنْهُ اُحْتُقِبَ فُلَان كَذَا.

.باب فِي مُتْعَةِ الْحَجِّ:

2176- قَوْله: (عَنْ مُسْلِم الْقُرِّيّ) هُوَ بِقَافٍ مَضْمُومَة ثُمَّ رَاء مُشَدَّدَة.
قَالَ السَّمْعَانِيّ: هُوَ مَنْسُوب إِلَى بَنِي قُرَّة حَيّ مِنْ عَبْد الْقَيْس.
قَالَ: وَقَالَ اِبْن مَاكُولَا، هَذَا، ثُمَّ قَالَ: وَقِيلَ: بَلْ لِأَنَّهُ كَانَ يَنْزِل فَنَظَرَهُ قُرَّة.

.باب جَوَازِ الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ:

2178- قَوْله: (كَانُوا يَرَوْنَ الْعُمْرَة فِي أَشْهُر الْحَجّ مِنْ أَفْجَر الْفُجُور فِي الْأَرْض) الضَّمِير فِي (كَانُوا) يَعُود إِلَى الْجَاهِلِيَّة.
قَوْله: (وَيَجْعَلُونَ الْمُحْرِم صَفَر) هَكَذَا هُوَ فِي النُّسَخ (صَفَر) مِنْ غَيْر أَلِف بَعْد الرَّاء، وَهُوَ مَنْصُوب مَصْرُوف بِلَا خِلَاف، وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُكْتَب بِالْأَلِفِ، وَسَوَاء كُتِبَ بِالْأَلِفِ أَمْ بِحَذْفِهَا لابد مِنْ قِرَاءَته هُنَا مَنْصُوبًا لِأَنَّهُ مَصْرُوف.
قَالَ الْعُلَمَاء: الْمُرَاد الْإِخْبَار عَنْ النَّسِيء الَّذِي كَانُوا يَفْعَلُونَهُ، وَكَانُوا يُسَمُّونَ الْمُحْرِم صَفَرًا وَيُحِلُّونَهُ وَيُنْسِئُونَ الْمُحْرِم أَيْ يُؤَخِّرُونَ تَحْرِيمه إِلَى مَا بَعْد صَفَر لِئَلَّا يَتَوَالَى عَلَيْهِمْ ثَلَاثَة أَشْهُر مُحَرَّمَة تُضَيِّق عَلَيْهِمْ أُمُورهمْ مِنْ الْغَارَة وَغَيْرهَا، فَأَضَلَّهُمْ اللَّه تَعَالَى فِي ذَلِكَ فَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا النَّسِيء زِيَادَة فِي الْكُفْر} الْآيَة.
قَوْله: (وَيَقُولُونَ: إِذَا بَرَا الدَّبَر) يَعْنُونَ دَبَر ظُهُور الْإِبِل بَعْد اِنْصِرَافهَا مِنْ الْحَجّ، فَإِنَّهَا كَانَتْ تُدْبَر بِالسَّيْرِ عَلَيْهَا لِلْحَجِّ.
قَوْله: (وَعَفَا الْأَثَر) أَيْ دَرَسَ وَأُمْحِيَ، وَالْمُرَاد أَثَر الْإِبِل وَغَيْرهَا فِي سَيْرهَا عَفَا أَثَرهَا لِطُولِ مُرُور الْأَيَّام. هَذَا هُوَ الْمَشْهُور.
وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: الْمُرَاد أَثَر الدَّبَر وَاَللَّه أَعْلَم.
وَهَذِهِ الْأَلْفَاظ تُقْرَأ كُلّهَا سَاكِنَة الْآخِر، وَيُوقَف عَلَيْهَا لِأَنَّ مُرَادهمْ السَّجْع.
2179- قَوْله: (عَنْ أَبِي الْعَالِيَة الْبَرَّاء) هُوَ بِتَشْدِيدِ الرَّاء لِأَنَّهُ كَانَ يَبْرِي النَّبْل.
قَوْله: (حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ الْمُبَارَكِيّ) هُوَ سُلَيْمَان بْن مُحَمَّد وَيُقَال سُلَيْمَان بْن دَاوُدَ، وَأَبُو مُحَمَّد الْمُبَارَكِيّ بِفَتْحِ الرَّاء مَنْسُوب إِلَى الْمُبَارَك وَهِيَ بُلَيْدَة بِقُرْبِ وَاسِط بَيْنهَا وَبَيْن بَغْدَاد، وَهِيَ عَلَى طَرْف دِجْلَة.
2181- قَوْله: «صَلَّى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصُّبْح بِذِي طَوًى» هُوَ بِفَتْحِ الطَّاء وَضَمّهَا وَكَسْرهَا، ثَلَاث لُغَات حَكَاهُنَّ الْقَاضِي وَغَيْره، الْأَصَحّ الْأَشْهَر الْفَتْح، لَمْ يَذْكُر الْأَصْمَعِيّ وَآخَرُونَ غَيْره، وَهُوَ مَقْصُور مُنَوَّن، وَهُوَ وَادٍ مَعْرُوف بِقُرْبِ مَكَّة.
قَالَ الْقَاضِي: وَوَقَعَ لِبَعْضِ الرُّوَاة فِي الْبُخَارِيّ بِالْمَدِّ، وَكَذَا ذَكَرَهُ ثَابِت. وَفِي هَذَا الْحَدِيث دَلِيل لِمَنْ قَالَ يُسْتَحَبّ لِلْمُحْرِمِ دُخُول مَكَّة نَهَارًا لَا لَيْلًا، وَهُوَ أَصَحّ الْوَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِنَا، وَبِهِ قَالَ اِبْن عُمَر وَعَطَاء وَالنَّخَعِيّ وَإِسْحَاق بْن رَاهْوَيْهِ وَابْن الْمُنْذِر. وَالثَّانِي دُخُولهَا لَيْلًا وَنَهَارًا سَوَاء لَا فَضِيلَة لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَر، وَهُوَ قَوْل الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّب وَالْمَاوَرْدِيّ وَابْن الصَّبَّاغ وَالْعَبْدَرِيّ مِنْ أَصْحَابه، وَبِهِ قَالَ طَاوُسٌ وَالثَّوْرِيُّ، وَقَالَتْ عَائِشَة وَسَعِيد بْن جُبَيْر وَعُمَر بْن عَبْد الْعَزِيز: يُسْتَحَبّ دُخُولهَا لَيْلًا وَهُوَ أَفْضَل مِنْ النَّهَار. وَاَللَّه أَعْلَم.

.باب تَقْلِيدِ الْهَدْيِ وَإِشْعَارِهِ عِنْدَ الإِحْرَامِ:

2184- قَوْله: «صَلَّى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الظُّهْر بِذِي الْحُلَيْفَة، ثُمَّ دَعَا بِنَاقَتِهِ فَأَشْعَرَهَا فِي صَفْحَة سَنَامهَا الْأَيْمَن، وَسَلَتَ الدَّم، وَقَلَّدَهَا نَعْلَيْنِ ثُمَّ رَكِبَ رَاحِلَته فَلَمَّا اِسْتَوَتْ بِهِ عَلَى الْبَيْدَاء أَهَلَّ بِالْحَجِّ» أَمَّا الْإِشْعَار فَهُوَ أَنْ يَجْرَحهَا فِي صَفْحَة سَنَامهَا الْيُمْنَى بِحَرْبَةٍ أَوْ سِكِّين أَوْ حَدِيدَة أَوْ نَحْوهَا، ثُمَّ يَسْلُت الدَّم عَنْهَا. وَأَصْل الْإِشْعَار وَالشُّعُور الْإِعْلَام وَالْعَلَامَة، وَإِشْعَار الْهَدْي لِكَوْنِهِ عَلَامَة لَهُ، وَهُوَ مُسْتَحَبّ لِيُعْلَم أَنَّهُ هَدْي، فَإِنْ ضَلَّ رَدَّهُ وَاجِده، وَإِنْ اِخْتَلَطَ بِغَيْرِهِ تَمَيَّزَ، وَلِأَنَّ فيه إِظْهَار شِعَار، وَفيه تَنْبِيه غَيْر صَاحِبه عَلَى فِعْل مِثْل فِعْله.
وَأَمَّا صَفْحَة السَّنَام فَهِيَ جَانِبه، وَالصَّفْحَة مُؤَنَّثَة، فَقَوْله: «الْأَيْمَن» بِلَفْظِ التَّذْكِير يَتَأَوَّل عَلَى أَنَّهُ وَصْف لِمَعْنَى الصَّفْحَة لَا لِلَفْظِهَا، وَيَكُون الْمُرَاد بِالصَّفْحَةِ الْجَانِب، فَكَأَنَّهُ قَالَ: جَانِب سَنَامهَا الْأَيْمَن. فَفِي هَذَا الْحَدِيث اِسْتِحْبَاب الْإِشْعَار وَالتَّقْلِيد فِي الْهَدَايَا مِنْ الْإِبِل، وَبِهَذَا قَالَ جَمَاهِير الْعُلَمَاء مِنْ السَّلَف وَالْخَلَف.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة: الْإِشْعَار بِدْعَة لِأَنَّهُ مُثْلَة، وَهَذَا يُخَالِف الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة الْمَشْهُورَة فِي الْإِشْعَار.
وَأَمَّا قَوْله: إِنَّهُ مُثْلَة فَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ هَذَا كَالْفَصْدِ وَالْحِجَامَة وَالْخِتَان وَالْكَيّ وَالْوَسْم.
وَأَمَّا مَحَلّ الْإِشْعَار فَمَذْهَبنَا وَمَذْهَب جَمَاهِير الْعُلَمَاء مِنْ السَّلَف وَالْخَلَف أَنَّهُ يُسْتَحَبّ الْإِشْعَار فِي صَفْحَة السَّنَام الْيُمْنَى.
وَقَالَ مَالِك: فِي الْيُسْرَى، وَهَذَا الْحَدِيث يَرُدّ عَلَيْهِ.
وَأَمَّا تَقْلِيد الْغَنَم فَهُوَ مَذْهَبنَا وَمَذْهَب الْعُلَمَاء كَافَّة مِنْ السَّلَف وَالْخَلَف إِلَّا مَالِكًا فَإِنَّهُ لَا يَقُول بِتَقْلِيدِهَا.
قَالَ الْقَاضِي عِيَاض: وَلَعَلَّهُ لَمْ يَبْلُغهُ الْحَدِيث الثَّابِت فِي ذَلِكَ. قُلْت: قَدْ جَاءَتْ أَحَادِيث كَثِيرَة صَحِيحَة بِالتَّقْلِيدِ فَهِيَ حُجَّة صَرِيحَة فِي الرَّدّ عَلَى مَنْ خَالَفَهَا. وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْغَنَم لَا تُشْعَر لِضَعْفِهَا عَنْ الْجَرْح، وَلِأَنَّهُ يَسْتَتِر بِالصُّوفِ.
وَأَمَّا الْبَقَرَة فَيُسْتَحَبّ عِنْد الشَّافِعِيّ وَمُوَافِقِيهِ الْجَمْع فيها بَيْن الْإِشْعَار وَالتَّقْلِيد كَالْإِبِلِ.
وَفِي هَذَا الْحَدِيث اِسْتِحْبَاب تَقْلِيد الْإِبِل بِنَعْلَيْنِ، وَهُوَ مَذْهَبنَا وَمَذْهَب الْعُلَمَاء كَافَّة، فَإِنْ قَلَّدَهَا بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ جُلُود أَوْ خُيُوط مَفْتُولَة وَنَحْوهَا فَلَا بَأْس.
وَأَمَّا قَوْله: «ثُمَّ رَكِبَ رَاحِلَته» فَهِيَ رَاحِلَة غَيْر الَّتِي أَشْعَرَهَا. وَفيه اِسْتِحْبَاب الرُّكُوب فِي الْحَجّ، وَأَنَّهُ أَفْضَل مِنْ الْمَشْي، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانه مَرَّات.
وَأَمَّا قَوْله: «فَلَمَّا اِسْتَوَتْ بِهِ عَلَى الْبَيْدَاء أَهَلَّ بِالْحَجِّ» فيه اِسْتِحْبَاب الْإِحْرَام عِنْد اِسْتِوَاء الرَّاحِلَة لَا قَبْله وَلَا بَعْده، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانه وَاضِحًا.
وَأَمَّا إِحْرَامه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحَجِّ فَهُوَ الْمُخْتَار، وَقَدْ سَبَقَ بَيَان الْخِلَاف فِي ذَلِكَ وَاضِحًا وَاَللَّه أَعْلَم.

.(باب قوله لابن عباس ما هذا الفتيا التي قد تشغفت - أو قد تشغبت- بالناس):

2185- قَوْله: (مَا هَذَا الْفُتْيَا الَّتِي قَدْ تَشَغَّفَتْ أَوْ تَشَغَّبَتْ بِالنَّاسِ) وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى (إِنَّ هَذَا الْأَمْر قَدْ تَشَفَّعَ بِالنَّاسِ) أَمَّا اللَّفْظَة الْأُولَى فَبِشِينٍ ثُمَّ غَيْن مُعْجَمَتَيْنِ ثُمَّ فَاء، وَالثَّانِيَة كَذَلِكَ لَكِنْ بَدَل الْفَاء بَاء مُوَحَّدَة، وَالثَّالِثَة بِتَقْدِيمِ الْفَاء وَبَعْدهَا شِين ثُمَّ عَيْن. وَمَعْنَى هَذِهِ الثَّالِثَة اِنْتَشَرَتْ وَفَشَتْ بَيْن النَّاس.
وَأَمَّا الْأُولَى فَمَعْنَاهَا عَلِقَتْ بِالْقُلُوبِ وَشَغَفُوا بِهَا.
وَأَمَّا الثَّانِيَة فَرُوِيَتْ أَيْضًا بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَة وَمِمَّنْ ذَكَرَ الرِّوَايَتَيْنِ فيها الْمُعْجَمَة وَالْمُهْمَلَة أَبُو عُبَيْد وَالْقَاضِي عِيَاض. وَمَعْنَى الْمُهْمَلَة أَنَّهَا فَرَّقَتْ مَذَاهِب النَّاس وَأَوْقَعَتْ الْخِلَاف بَيْنهمْ. وَمَعْنَى الْمُعْجَمَة خَلَطَتْ عَلَيْهِمْ أَمْرهمْ.
قَوْله: (مَا هَذَا الْفُتْيَا) هَكَذَا هُوَ فِي مُعْظَم النُّسَخ (هَذَا الْفُتْيَا). وَفِي بَعْضهَا (هَذِهِ)، وَهُوَ الْأَجْوَد، وَوَجْه الْأَوَّل أَنَّهُ أَرَادَ بِالْفُتْيَا الْإِفْتَاء فَوَصَفَهُ مُذَكَّرًا، وَيُقَال فُتْيَا وَفَتْوَى.
قَوْله: عَنْ اِبْن عَبَّاس (أَنَّ مَنْ طَافَ بِالْبَيْتِ فَقَدْ حَلَّ فَقَالَ: سُنَّة نَبِيّكُمْ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْ رَغِمْتُمْ) وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى حَدَّثَنَا اِبْن جُرَيْجٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عَطَاء قَالَ: (كَانَ اِبْن عَبَّاس يَقُول: لَا يَطُوف بِالْبَيْتِ حَاجّ وَلَا غَيْر حَاجّ إِلَّا حَلَّ قُلْت لِعَطَاءٍ: مِنْ أَيْنَ يَقُول ذَلِكَ؟ قَالَ: مِنْ قَوْل اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: {ثُمَّ مَحِلّهَا إِلَى الْبَيْت الْعَتِيق} قُلْت: فَإِنَّ ذَلِكَ بَعْد الْمُعَرَّف، فَقَالَ: كَانَ اِبْن عَبَّاس يَقُول: هُوَ بَعْد الْمُعَرَّف وَقَبْله، كَانَ يَأْخُذ ذَلِكَ مِنْ أَمْر النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِين أَمَرَهُمْ أَنْ يَحِلُّوا فِي حَجَّة الْوَدَاع). هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ اِبْن عَبَّاس هُوَ مَذْهَبه، وَهُوَ خِلَاف مَذْهَب الْجُمْهُور مِنْ السَّلَف وَالْخَلَف، فَإِنَّ الَّذِي عَلَيْهِ الْعُلَمَاء كَافَّة سِوَى اِبْن عَبَّاس أَنَّ الْحَاجّ لَا يَتَحَلَّل بِمُجَرَّدِ طَوَاف الْقُدُوم، بَلْ لَا يَتَحَلَّل حَتَّى يَقِف بِعَرَفَاتٍ وَيَرْمِي وَيَحْلِق وَيَطُوف طَوَاف الزِّيَارَة، فَحِينَئِذٍ يَحْصُل التَّحَلُّلَانِ، وَيَحْصُل الْأَوَّل بِاثْنَيْنِ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَة الَّتِي هِيَ رَمْي جَمْرَة الْعَقَبَة وَالْحَلْق وَالطَّوَاف.
وَأَمَّا اِحْتِجَاج اِبْن عَبَّاس بِالْآيَةِ فَلَا دَلَالَة لَهُ فيها لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى: {مَحِلّهَا إِلَى الْبَيْت الْعَتِيق} مَعْنَاهُ لَا تُنْحَر إِلَّا فِي الْحَرَم، وَلَيْسَ فيه تَعَرُّض لِلتَّحَلُّلِ مِنْ الْإِحْرَام، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُرَاد بِهِ التَّحَلُّل مِنْ الْإِحْرَام لَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَتَحَلَّل بِمُجَرَّدِ وُصُول الْهَدْي إِلَى الْحَرَم قَبْل أَنْ يَطُوف.
وَأَمَّا اِحْتِجَاجه بِأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُمْ فِي حَجَّة الْوَدَاع بِأَنْ يَحِلُّوا فَلَا دَلَالَة فيه لِأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُمْ بِفَسْخِ الْحَجّ إِلَى الْعُمْرَة فِي تِلْكَ السَّنَة، فَلَا يَكُون دَلِيلًا فِي تَحَلُّل مَنْ هُوَ مُلْتَبِس بِإِحْرَامِ الْحَجّ. وَاَللَّه أَعْلَم.
قَالَ الْقَاضِي: قَالَ الْمَازِرِيُّ: وَتَأَوَّلَ بَعْض شُيُوخنَا قَوْل اِبْن عَبَّاس فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَة عَلَى مَنْ فَاتَهُ الْحَجّ أَنَّهُ يَتَحَلَّل بِالطَّوَافِ وَالسَّعْي.
قَالَ: وَهَذَا تَأْوِيل بَعِيد لِأَنَّهُ قَالَ بَعْده، وَكَانَ اِبْن عَبَّاس يَقُول: لَا يَطُوف بِالْبَيْتِ حَاجّ وَلَا غَيْره إِلَّا حَلَّ. وَاَللَّه أَعْلَم.
2186- سبق شرحه بالباب.
2187- سبق شرحه بالباب.

.(باب جواز تقصير المعتمر من شعره وأنه لا يجب حلقه، وأنه يستحب كون حلقه أو تقصيره عند المروة):

2188- قَوْله: قَالَ اِبْن عَبَّاس: «قَالَ لِي مُعَاوِيَة: أَعَلِمْت أَنِّي قَصَّرْت عَنْ رَأْس رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْد الْمَرْوَة بِمِشْقَصٍ؟ فَقُلْت: لَا أَعْلَم هَذِهِ إِلَّا حُجَّة عَلَيْك» وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: «قَصَّرْت عَنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِشْقَصٍ، وَهُوَ عَلَى الْمَرْوَة، أَوْ رَأَيْته يُقَصَّر عَنْهُ بِمِشْقَصٍ، وَهُوَ عَلَى الْمَرْوَة». فِي هَذَا الْحَدِيث جَوَاز الِاقْتِصَار عَلَى التَّقْصِير وَإِنْ كَانَ الْحَلْق أَفْضَل، وَسَوَاء فِي ذَلِكَ الْحَاجّ وَالْمُعْتَمِر، إِلَّا أَنَّهُ يُسْتَحَبّ لِلْمُتَمَتِّعِ أَنْ يُقَصِّر فِي الْعُمْرَة وَيَحْلِق فِي الْحَجّ لِيَقَع الْحَلْق فِي أَكْمَل الْعِبَادَتَيْنِ، وَقَدْ سَبَقَتْ الْأَحَادِيث فِي هَذَا. وَفيه أَنَّهُ يُسْتَحَبّ أَنْ يَكُون تَقْصِير الْمُعْتَمِر أَوْ حَلْقه عِنْد الْمَرْوَة لِأَنَّهَا مَوْضِع تَحَلُّله، كَمَا يُسْتَحَبّ لِلْحَاجِّ أَنْ يَكُون حَلْقه أَوْ تَقْصِيره فِي مِنًى لِأَنَّهَا مَوْضِع تَحَلُّله، وَحَيْثُ حَلَقَا أَوْ قَصَّرَا مِنْ الْحَرَم كُلّه جَازَ. وَهَذَا الْحَدِيث مَحْمُول عَلَى أَنَّهُ قَصَّرَ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عُمْرَة الْجِعِرَّانَة لِأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّة الْوَدَاع كَانَ قَارِنًا كَمَا سَبَقَ إِيضَاحه، وَثَبَتَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَلَقَ بِمِنًى وَفَرَّقَ أَبُو طَلْحَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُ شَعْره بَيْن النَّاس، فَلَا يَجُوز حَمْل تَقْصِير مُعَاوِيَة عَلَى حَجَّة الْوَدَاع، وَلَا يَصِحّ حَمْله أَيْضًا عَلَى عُمْرَة الْقَضَاء الْوَاقِعَة سَنَة سَبْع مِنْ الْهِجْرَة، لِأَنَّ مُعَاوِيَة لَمْ يَكُنْ يَوْمَئِذٍ مُسْلِمًا إِنَّمَا أَسْلَمَ يَوْم الْفَتْح سَنَة ثَمَانٍ. هَذَا هُوَ الصَّحِيح الْمَشْهُور، وَلَا يَصِحّ قَوْل مَنْ حَمَلَهُ عَلَى حَجَّة الْوَدَاع وَزَعَمَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مُتَمَتِّعًا لِأَنَّ هَذَا غَلَط فَاحِش، فَقَدْ تَظَاهَرَتْ الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة السَّابِقَة فِي مُسْلِم وَغَيْره أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِيلَ لَهُ: مَا شَأْن النَّاس حَلُّوا وَلَمْ تَحِلّ أَنْتَ؟ فَقَالَ: «إِنِّي لَبَّدْت رَأْسِي، وَقَلَّدْت هَدْيِي فَلَا أَحِلّ حَتَّى أَنْحَر الْهَدْي». وَفِي رِوَايَة: «حَتَّى أَحِلّ مِنْ الْحَجّ» وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله: (بِمِشْقَصٍ) هُوَ بِكَسْرِ الْمِيم وَإِسْكَان الشِّين الْمُعْجَمَة وَفَتْح الْقَاف.
قَالَ أَبُو عُبَيْد وَغَيْره: هُوَ نَصْل السَّهْم إِذَا كَانَ طَوِيلًا لَيْسَ بِعَرِيضٍ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة الدِّينَوَرِيّ: هُوَ كُلّ نَصْل فيه عِتْرَة، وَهُوَ النَّاتِئ وَسَط الْحَرْبَة.
وَقَالَ الْخَلِيل: هُوَ سَهْم فيه نَصْل عَرِيض يُرْمَى بِهِ الْوَحْش. وَاَللَّه أَعْلَم.
2189- سبق شرحه بالباب.
2190- قَوْله: «خَرَجْنَا مَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَصْرُخ بِالْحَجِّ صُرَاخًا فَلَمَّا قَدِمْنَا مَكَّة أَمَرَنَا أَنْ نَجْعَلهَا عُمْرَة إِلَّا مَنْ سَاقَ الْهَدْي، فَلَمَّا كَانَ يَوْم التَّرْوِيَة وَرُحْنَا إِلَى مِنًى أَهْلَلْنَا بِالْحَجِّ» فيه اِسْتِحْبَاب رَفْع الصَّوْت بِالتَّلْبِيَةِ، وَهُوَ مُتَّفَق عَلَيْهِ بِشَرْطِ أَنْ يَكُون رَفْعًا مُقْتَصَدًا بِحَيْثُ لَا يُؤْذِي نَفْسه. وَالْمَرْأَة لَا تَرْفَع بَلْ تُسْمِع نَفْسهَا لِأَنَّ صَوْتهَا مَحَلّ فِتْنَة. وَرَفْع الرَّجُل مَنْدُوب عِنْد الْعُلَمَاء كَافَّة.
وَقَالَ أَهْل الظَّاهِر: هُوَ وَاجِب وَيَرْفَع الرَّجُل صَوْته بِهَا فِي غَيْر الْمَسَاجِد وَفِي مَسْجِد مَكَّة وَمِنًى وَعَرَفَات، وَأَمَّا سَائِر الْمَسَاجِد فَفِي رَفْعه فيها خِلَاف لِلْعُلَمَاءِ، وَهُمَا قَوْلَانِ لِلشَّافِعِيِّ وَمَالِك أَصَحّهمَا اِسْتِحْبَاب الرَّفْع كَالْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَة. وَالثَّانِي لَا يَرْفَع لِئَلَّا يُهَوِّش عَلَى النَّاس بِخِلَافِ الْمَسَاجِد الثَّلَاثَة لِأَنَّهَا مَحَلّ الْمَنَاسِك.
وَفِي هَذَا الْحَدِيث جَوَاز الْعُمْرَة فِي أَشْهُر الْحَجّ، وَهُوَ مُجْمَع عَلَيْهِ، وَفيه حُجَّة لِلشَّافِعِيِّ وَمُوَافِقِيهِ أَنَّ الْمُسْتَحَبّ لِلْمُتَمَتِّعِ أَنْ يَكُون إِحْرَامه بِالْحَجِّ يَوْم التَّرْوِيَة، وَهُوَ الثَّامِن مِنْ ذِي الْحِجَّة عِنْد إِرَادَته التَّوَجُّه إِلَى مِنًى، وَقَدْ سَبَقَتْ الْمَسْأَلَة مَرَّات.
قَوْله: «وَرُحْنَا إِلَى مِنًى» مَعْنَاهُ أَرَدْنَا الرَّوَاح، وَقَدْ سَبَقَ بَيَان الْخِلَاف فِي أَنَّهُ يُسْتَحَبّ الرَّوَاح إِلَى مِنًى يَوْم التَّرْوِيَة مِنْ أَوَّل النَّهَار أَوْ بَعْد الزَّوَال. وَاَللَّه أَعْلَم.

.باب إِهْلاَلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَدْيِهِ:

2193- قَوْله: (حَدَّثَنِي سَلِيم بْن حَيَّان) هُوَ بِفَتْحِ السِّين وَكَسْر اللَّام.
2196- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَيُهِلَّنَّ اِبْن مَرْيَم بِفَجِّ الرَّوْحَاء حَاجًّا أَوْ مُعْتَمِرًا أَوْ لَيَثْنِيَنَّهُمَا» قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَيَثْنِيَنَّهُمَا» هُوَ بِفَتْحِ الْيَاء فِي أَوَّله مَعْنَاهُ يَقْرُن بَيْنهمَا، وَهَذَا يَكُون بَعْد نُزُول عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام مِنْ السَّمَاء فِي آخِر الزَّمَان.
وَأَمَّا (فَجّ الرَّوْحَاء) فَبِفَتْحِ الْفَاء وَتَشْدِيد الْجِيم.
قَالَ الْحَافِظ أَبُو بَكْر الْحَارِثِيّ، هُوَ بَيْن مَكَّة وَالْمَدِينَة قَالَ: وَكَانَ طَرِيق رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى بَدْر وَإِلَى مَكَّة عَام الْفَتْح وَعَام حَجَّة الْوَدَاع.

.باب بَيَانِ عَدَدِ عُمَرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَزَمَانِهِنَّ:

2197- قَوْله: «اِعْتَمَرَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْبَع عُمَر كُلّهنَّ فِي ذِي الْقَعْدَة إِلَّا الَّتِي مَعَ حَجَّته: عُمْرَة مِنْ الْحُدَيْبِيَة، أَوْ زَمَن الْحُدَيْبِيَة، فِي ذِي الْقَعْدَة، وَعُمْرَة مِنْ الْعَام الْمُقْبِل فِي ذِي الْقَعْدَة، وَعُمْرَة مِنْ الْجِعِرَّانَة حَيْثُ قَسَمَ غَنَائِم حُنَيْنٍ فِي ذِي الْقَعْدَة، وَعُمْرَة مَعَ حَجَّته». وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: «حَجَّ حَجَّة وَاحِدَة وَاعْتَمَرَ أَرْبَع عُمَر». هَذِهِ رِوَايَة أَنَس. وَفِي رِوَايَة اِبْن عُمَر: «أَرْبَع عُمَر إِحْدَاهُنَّ فِي رَجَب»، وَأَنْكَرَتْ ذَلِكَ عَائِشَة، وَقَالَتْ: لَمْ يَعْتَمِر النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَطُّ فِي رَجَب. فَالْحَاصِل مِنْ رِوَايَة أَنَس وَابْن عُمَر اِتِّفَاقهمَا عَلَى أَرْبَع عُمَر، وَكَانَتْ إِحْدَاهُنَّ فِي ذِي الْقَعْدَة عَام الْحُدَيْبِيَة سَنَة سِتّ مِنْ الْهِجْرَة وَصُدُّوا فيها فَتَحَلَّلُوا وَحُسِبَتْ لَهُمْ عُمْرَة، وَالثَّانِيَة فِي ذِي الْقَعْدَة وَهِيَ سَنَة سَبْع وَهِيَ عُمْرَة الْقَضَاء، وَالثَّالِثَة فِي ذِي الْقَعْدَة سَنَة ثَمَانٍ، وَهِيَ عَام الْفَتْح. وَالرَّابِعَة مَعَ حَجَّته وَكَانَ إِحْرَامهَا فِي ذِي الْقَعْدَة وَأَعْمَالهَا فِي ذِي الْحِجَّة.
وَأَمَّا قَوْل اِبْن عُمَر: إِنَّ إِحْدَاهُنَّ فِي رَجَب فَقَدْ أَنْكَرَتْهُ عَائِشَة وَسَكَتَ اِبْن عُمَر حِين أَنْكَرَتْهُ.
قَالَ الْعُلَمَاء: هَذَا يَدُلّ عَلَى أَنَّهُ اِشْتَبَهَ عَلَيْهِ أَوْ نَسِيَ أَوْ شَكَّ، وَلِهَذَا سَكَتَ عَنْ الْإِنْكَار عَلَى عَائِشَة وَمُرَاجَعَتهَا بِالْكَلَامِ، فَهَذَا الَّذِي ذَكَرْته هُوَ الصَّوَاب الَّذِي يَتَعَيَّن الْمَصِير إِلَيْهِ.
وَأَمَّا الْقَاضِي عِيَاض فَقَالَ: ذَكَرَ أَنَس أَنَّ الْعُمْرَة الرَّابِعَة كَانَتْ مَعَ حَجَّته فَيَدُلّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ قَارِنًا.
قَالَ: وَقَدْ رَدَّهُ كَثِير مِنْ الصَّحَابَة قَالَ: وَقَدْ قُلْنَا: إِنَّ الصَّحِيح أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مُفْرِدًا، وَهَذَا يَرُدّ قَوْل أَنَس، وَرَدَّتْ عَائِشَة قَوْل اِبْن عُمَر: فَحَصَلَ أَنَّ الصَّحِيح ثَلَاث عُمَر.
قَالَ: وَلَا يُعْلَم لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اِعْتِمَار إِلَّا مَا ذَكَرْنَاهُ.
قَالَ: وَاعْتَمَدَ مَالِك فِي الْمُوَطَّإِ عَلَى أَنَّهُنَّ ثَلَاث عُمَر. هَذَا آخِر كَلَام الْقَاضِي، وَهُوَ قَوْل ضَعِيف بَلْ بَاطِل، وَالصَّوَاب أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اِعْتَمَرَ أَرْبَع عُمَر كَمَا صَرَّحَ بِهِ اِبْن عُمَر وَأَنَس وَجَزَمَا الرِّوَايَة بِهِ، فَلَا يَجُوز رَدّ رِوَايَتهمَا بِغَيْرِ جَازِم.
وَأَمَّا قَوْله: إِنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ فِي حَجَّة الْوَدَاع مُفْرَدًا لَا قَارِنًا فَلَيْسَ كَمَا قَالَ، بَلْ الصَّوَاب أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مُفْرِدًا فِي أَوَّل إِحْرَامه، ثُمَّ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ فَصَارَ قَارِنًا، ولابد مِنْ هَذَا التَّأْوِيل وَاَللَّه أَعْلَم.
قَالَ الْعُلَمَاء: وَإِنَّمَا اِعْتَمَرَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الْعُمْرَة فِي ذِي الْقَعْدَة لِفَضِيلَةِ هَذَا الشَّهْر، وَلِمُخَالَفَةِ الْجَاهِلِيَّة فِي ذَلِكَ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَرَوْنَهُ مِنْ أَفْجَر الْفُجُور كَمَا سَبَقَ، فَفَعَلَهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّات فِي هَذِهِ الْأَشْهُر لِيَكُونَ أَبْلَغ فِي بَيَان جَوَازه فيها، وَأَبْلَغ فِي إِبْطَال مَا كَانَتْ الْجَاهِلِيَّة عَلَيْهِ. وَاَللَّه أَعْلَم.
وَأَمَّا قَوْله: «إِنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَجَّ حَجَّة وَاحِدَة» فَمَعْنَاهُ بَعْد الْهِجْرَة لَمْ يَحُجّ إِلَّا حَجَّة وَاحِدَة وَهِيَ حَجَّة الْوَدَاع سَنَة عَشْر مِنْ الْهِجْرَة. وَقَوْله: (قَالَ أَبُو إِسْحَاق وَبِمَكَّة أُخْرَى) يَعْنِي قَبْل الْهِجْرَة، وَقَدْ رُوِيَ فِي غَيْر مُسْلِم: «قَبْل الْهِجْرَة حَجَّتَانِ».
2198- قَوْله: عَنْ زَيْد بْن أَرْقَم: «أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَزَا تِسْع عَشْرَة غَزْوَة» مَعْنَاهُ أَنَّهُ غَزَا تِسْع عَشْرَة وَأَنَا مَعَهُ أَوْ أَعْلَم لَهُ تِسْع عَشْرَة غَزْوَة، وَكَانَتْ غَزَوَاته صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَمْسًا وَعِشْرِينَ، وَقِيلَ: سَبْعًا وَعِشْرِينَ، وَقِيلَ غَيْر ذَلِكَ، وَهُوَ مَشْهُور فِي كُتُب الْمَغَازِي وَغَيْرهَا.
2199- قَوْله: «عَنْ عَائِشَة قَالَتْ: لَعَمْرِي مَا اِعْتَمَرَ فِي رَجَب» هَذَا دَلِيل عَلَى جَوَاز قَوْل الْإِنْسَان لَعَمْرِي، وَكَرِهَهُ مَالِك لِأَنَّهُ مِنْ تَعْظِيم غَيْر اللَّه تَعَالَى وَمُضَاهَاته بِالْحَلِفِ بِغَيْرِهِ.
2200- قَوْله: (إِنَّهُمْ سَأَلُوا اِبْن عُمَر عَنْ صَلَاة الَّذِينَ كَانُوا يُصَلُّونَ الضُّحَى فِي الْمَسْجِد فَقَالَ: بِدْعَة) هَذَا قَدْ حَمَلَهُ الْقَاضِي وَغَيْره عَلَى أَنَّ مُرَاده أَنَّ إِظْهَارهَا فِي الْمَسْجِد وَالِاجْتِمَاع لَهَا هُوَ الْبِدْعَة، لَا أَنَّ أَصْل صَلَاة الضُّحَى بِدْعَة، وَقَدْ سَبَقَتْ الْمَسْأَلَة فِي كِتَاب الصَّلَاة. وَاَللَّه أَعْلَم.

.باب فَضْلِ الْعُمْرَةِ فِي رَمَضَانَ:

2201- قَوْلهَا: «لَمْ يَكُنْ لَنَا إِلَّا نَاضِحَانِ»: أَيْ بَعِيرَانِ نَسْتَقِي بِهِمَا.
قَوْلهَا: «نَنْضِح عَلَيْهِ» بِكَسْرِ الضَّاد.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَإِنَّ عُمْرَة فيه» أَيْ فِي رَمَضَان: «تَعْدِل حَجَّة»، وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: «تَقْضِي حَجَّة» أَيْ تَقُوم مَقَامهَا فِي الثَّوَاب، لَا أَنَّهَا تَعْدِلهَا فِي كُلّ شَيْء، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ عَلَيْهِ حَجَّة فَاعْتَمَرَ فِي رَمَضَان لَا تُجْزِئهُ عَنْ الْحَجَّة.
2202- قَوْله: «نَاضِحَانِ كَانَا لِأَبِي فُلَان- زَوْجهَا- حَجَّ هُوَ وَابْنه عَلَى أَحَدهمَا وَكَانَ الْآخَر يَسْقِي غُلَامنَا» هَكَذَا هُوَ فِي نُسَخ بِلَادنَا، وَكَذَا نَقَلَهُ الْقَاضِي عِيَاض عَنْ رِوَايَة عَبْد الْغَافِر الْفَارِسِيّ وَغَيْره، قَالَ: وَفِي رِوَايَة اِبْن مَاهَان: «يَسْقِي عَلَيْهِ غُلَامنَا» قَالَ الْقَاضِي عِيَاض: وَأَرَى هَذَا كُلّه تَغْيِيرًا، وَصَوَابه: «نَسْقِي عَلَيْهِ نَخْلًا لَنَا» فَتَصَحَّفَ مِنْهُ: «غُلَامنَا» وَكَذَا جَاءَ فِي الْبُخَارِيّ عَلَى الصَّوَاب، وَيَدُلّ عَلَى صِحَّته قَوْله فِي الرِّوَايَة الْأُولَى: «نَنْضِح عَلَيْهِ» وَهُوَ بِمَعْنَى نَسْقِي عَلَيْهِ، هَذَا كَلَام الْقَاضِي، وَالْمُخْتَار أَنَّ الرِّوَايَة صَحِيحَة، وَتَكُون الزِّيَادَة الَّتِي ذَكَرَهَا الْقَاضِي مَحْذُوفَة مُقَدَّرَة، وَهَذَا كَثِير فِي الْكَلَام. وَاَللَّه أَعْلَم.

.باب اسْتِحْبَابِ دُخُولِ مَكَّةَ مِنَ الثَّنِيَّةِ الْعُلْيَا وَالْخُرُوجِ مِنْهَا مِنَ الثَّنِيَّةِ السُّفْلَى وَدُخُولِ بَلْدَةٍ مِنْ طَرِيقٍ غَيْرِ الَّتِي خَرَجَ مِنْهَا:

2203- قَوْله: «عَنْ اِبْن عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَخْرُج مِنْ طَرِيق الشَّجَرَة وَيَدْخُل مِنْ طَرِيق الْمُعَرَّس، وَإِذَا دَخَلَ مَكَّة دَخَلَ مِنْ الثَّنِيَّة الْعُلْيَا، وَيَخْرُج مِنْ الثَّنِيَّة السُّفْلَى». قِيلَ: إِنَّمَا فَعَلَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الْمُخَالَفَة فِي طَرِيقه دَاخِلًا وَخَارِجًا تَفَاؤُلًا بِتَغَيُّرِ الْحَال إِلَى أَكْمَل مِنْهُ، كَمَا فَعَلَ فِي الْعِيد، وَلِيَشْهَد لَهُ الطَّرِيقَانِ، وَلِيَتَبَرَّك بِهِ أَهْلهمَا، وَمَذْهَبنَا: أَنَّهُ يُسْتَحَبّ دُخُول مَكَّة مِنْ الثَّنِيَّة الْعُلْيَا، وَالْخُرُوج مِنْهَا مِنْ السُّفْلَى لِهَذَا الْحَدِيث، وَلَا فَرْق بَيْن أَنْ تَكُون هَذِهِ الثَّنِيَّة عَلَى طَرِيقه كَالْمَدَنِيِّ وَالشَّامِيّ أَوْ لَا تَكُون كَالْيَمَنِيِّ، فَيُسْتَحَبّ لِلْيَمَنِيِّ وَغَيْره أَنْ يَسْتَدِير وَيَدْخُل مَكَّة مِنْ الثَّنِيَّة الْعُلْيَا، وَقَالَ بَعْض أَصْحَابنَا: إِنَّمَا فَعَلَهَا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهَا كَانَتْ عَلَى طَرِيقه، وَلَا يُسْتَحَبّ لِمَنْ لَيْسَتْ عَلَى طَرِيقه كَالْيَمَنِيِّ، وَهَذَا ضَعِيف وَالصَّوَاب الْأَوَّل، وَهَكَذَا يُسْتَحَبّ لَهُ أَنْ يَخْرُج مِنْ بَلَده مِنْ طَرِيق، وَيَرْجِع مِنْ أُخْرَى لِهَذَا الْحَدِيث.
وَقَوْله: (الْمُعَرَّس) هُوَ بِضَمِّ الْمِيم وَفَتْح الْعَيْن الْمُهْمَلَة وَالرَّاء الْمُشَدَّدَة، وَهُوَ مَوْضِع مَعْرُوف بِقُرْبِ الْمَدِينَة عَلَى سِتَّة أَمْيَال مِنْهَا.
قَوْله: (الْعُلْيَا الَّتِي بِالْبَطْحَاءِ) هِيَ بِالْمَدِّ، وَيُقَال لَهَا الْبَطْحَاء وَالْأَبْطَح، وَهِيَ بِجَنْبِ الْمُحَصَّب، وَهَذِهِ الثَّنِيَّة يَنْحَدِر مِنْهَا إِلَى مَقَابِر مَكَّة.
2205- قَوْله: «فِي حَدِيث عَائِشَة أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَام الْفَتْح مِنْ كَدَاء مِنْ أَعْلَى مَكَّة» هَكَذَا ضَبَطْنَاهُ بِفَتْحِ الْكَاف وَبِالْمَدِّ، وَهَكَذَا هُوَ فِي نُسَخ بِلَادنَا، وَكَذَا نَقَلَهُ الْقَاضِي عِيَاض عَنْ رِوَايَة الْجُمْهُور، قَالَ: وَضَبَطَهُ السَّمَرْقَنْدِيّ بِفَتْحِ الْكَاف وَالْقَصْر.
قَوْله: (قَالَ هِشَام- يَعْنِي اِبْن عُرْوَة- فَكَانَ أَبِي يَدْخُل مِنْهُمَا كِلَيْهِمَا) (وَكَانَ أَبِي أَكْثَر مَا يَدْخُل مِنْ كَدَاء) اِخْتَلَفُوا فِي ضَبْط (كَدَاء) هَذِهِ، قَالَ جُمْهُور الْعُلَمَاء بِهَذَا الْفَنّ: كَدَاء بِفَتْحِ الْكَاف وَبِالْمَدِّ- هِيَ الثَّنِيَّة الَّتِي بِأَعْلَى مَكَّة (وَكُدًى) بِضَمِّ الْكَاف وَبِالْقَصْرِ هِيَ الَّتِي بِأَسْفَل مَكَّة، وَكَانَ عُرْوَة يَدْخُل مِنْ كِلَيْهِمَا، وَأَكْثَر دُخُوله مِنْ كَدَاء بِفَتْحِ الْكَاف فَهَذَا أَشْهَر، وَقِيلَ: بِالضَّمِّ، وَلَمْ يَذْكُر الْقَاضِي عِيَاض غَيْره، وَأَمَّا (كُدَيّ) بِضَمِّ الْكَاف وَتَشْدِيد الْيَاء فَهُوَ فِي طَرِيق الْخَارِج إِلَى الْيَمَن، وَلَيْسَ مِنْ هَذَيْنِ الطَّرِيقَيْنِ فِي شَيْء هَذَا قَوْل الْجُمْهُور، وَاَللَّه أَعْلَم.