فصل: (بَاب غَيْرَة اللَّه تَعَالَى وَتَحْرِيم الْفَوَاحِش):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج المشهور بـ «شرح النووي على مسلم»



.باب سُقُوطِ الذُّنُوبِ بِالاِسْتِغْفَارِ تَوْبَةً:

قَوْله: (عَنْ مُحَمَّد بْن قَيْس قَاصّ عُمَر بْن عَبْد الْعَزِيز) هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيع نُسَخ بِلَادنَا (قَاصّ) بِالصَّادِ الْمُهْمَلَة الْمُشَدَّدَة مِنْ الْقَصَص، قَالَ الْقَاضِي عِيَاض: وَرَوَاهُ بَعْضهمْ (قَاضِي) بِالضَّادِ الْمُعْجَمَة وَالْيَاء، وَالْوَجْهَانِ مَذْكُورَانِ فيه مِمَّنْ ذَكَرَهُمَا الْبُخَارِيّ فِي التَّارِيخ، وَرُوِيَ عَنْهُ قَالَ: كُنْت قَاصًّا لِعُمَر بْن عَبْد الْعَزِيز وَهُوَ أَمِير بِالْمَدِينَةِ.
قَوْله: (عَنْ أَبِي أَيُّوب أَنَّهُ قَالَ حِين حَضَرَتْهُ الْوَفَاة: كُنْت كَتَمْت عَنْكُمْ شَيْئًا) إِنَّمَا كَتَمَهُ أَوَّلًا مَخَافَة اِتِّكَالهمْ عَلَى سَعَة رَحْمَة اللَّه تَعَالَى، وَانْهِمَاكهمْ فِي الْمَعَاصِي، وَإِنَّمَا حَدَّثَ بِهِ عِنْد وَفَاته؛ لِئَلَّا يَكُون كَاتِمًا لِلْعِلْمِ، وَرُبَّمَا لَمْ يَكُنْ أَحَد يَحْفَظهُ غَيْره، فَتَعَيَّنَ عَلَيْهِ أَدَاؤُهُ، وَهُوَ نَحْو قَوْله فِي الْحَدِيث الْآخَر، فَأَخْبَرَ بِهَا مُعَاذ عِنْد مَوْته تَأَثُّمًا، أَيْ: خَشْيَة الْإِثْم بِكِتْمَانِ الْعِلْم، وَقَدْ سَبَقَ شَرْحه فِي كِتَاب الْإِيمَان. وَاَللَّه أَعْلَم.

.باب فَضْلِ دَوَامِ الذِّكْرِ وَالْفِكْرِ فِي أُمُورِ الآخِرَةِ وَالْمُرَاقَبَةِ وَجَوَازِ تَرْكِ ذَلِكَ فِي بَعْضِ الأوقات:

4937- قَوْله: (قَطَن بْن نُسَيْر) بِضَمِّ النُّون وَفَتْح السِّين.
قَوْله: (عَنْ حَنْظَلَة الْأُسَيْدِيّ) ضَبَطُوهُ بِوَجْهَيْنِ أَصَحّهمَا وَأَشْهَرهمَا: ضَمُّ الْهَمْزَة وَفَتْح السِّين وَكَسْر الْيَاء الْمُشَدَّدَة.
وَالثَّانِي: كَذَلِكَ، إِلَّا أَنَّهُ بِإِسْكَانِ الْيَاء، وَلَمْ يَذْكُر الْقَاضِي إِلَّا هَذَا الثَّانِي، وَهُوَ مَنْسُوب إِلَى بَنِي أُسَيْدٍ بَطْن مِنْ بَنِي تَمِيم.
قَوْله: (وَكَانَ مِنْ كُتَّاب رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيع نُسَخ بِلَادنَا، وَذَكَرَهُ الْقَاضِي عَنْ بَعْض شُيُوخهمْ كَذَلِكَ، وَعَنْ أَكْثَرهمْ، وَكَانَ مِنْ أَصْحَاب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكِلَاهُمَا صَحِيح، لَكِنَّ الْأَوَّل أَشْهَر فِي الرِّوَايَة، وَأَظْهَر فِي الْمَعْنَى، وَقَدْ قَالَ فِي الرِّوَايَة الَّتِي بَعْد هَذِهِ عَنْ حَنْظَلَة الْكَاتِب.
قَوْله: «يُذَكِّرنَا بِالنَّارِ وَالْجَنَّة كَأَنَّا رَأْي عَيْن» قَالَ الْقَاضِي: ضَبَطْنَاهُ: «رَأْي عَيْن» بِالرَّفْعِ أَيْ: كَأَنَّا بِحَالِ مَنْ يَرَاهَا بِعَيْنٍ، قَالَ: وَيَصِحّ النَّصْب عَلَى الْمَصْدَر، أَيْ نَرَاهَا رَأْي عَيْن.
قَوْله: «عَافَسْنَا الْأَزْوَاج وَالْأَوْلَاد وَالضَّيْعَات» هُوَ بِالْفَاءِ وَالسِّين الْمُهْمَلَة، قَالَ الْهَرَوِيُّ وَغَيْره: مَعْنَاهُ حَاوَلْنَا ذَلِكَ وَمَارَسْنَاهُ وَاشْتَغَلْنَا بِهِ، أَيْ: عَالَجْنَا مَعَايِشنَا وَحُظُوظنَا، وَالضَّيْعَات: جَمْع ضَيْعَة بِالضَّادِ الْمُعْجَمَة، وَهِيَ: مَعَاش الرَّجُل مِنْ مَال أَوْ حِرْفَة أَوْ صِنَاعَة، وَرَوَى الْخَطَّابِيُّ هَذَا الْحَرْف: «عَانَسْنَا» بِالنُّونِ، قَالَ: وَمَعْنَاهُ: لَاعَبْنَا، وَرَوَاهُ اِبْن قُتَيْبَة بِالشِّينِ الْمُعْجَمَة، قَالَ: وَمَعْنَاهُ: عَانَقْنَا، وَالْأَوَّل هُوَ الْمَعْرُوف، وَهُوَ أَعَمُّ.
قَوْله: «نَافَقَ حَنْظَلَة» مَعْنَاهُ: أَنَّهُ خَافَ أَنَّهُ مُنَافِق، حَيْثُ كَانَ يَحْصُل لَهُ الْخَوْف فِي مَجْلِس النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَظْهَر عَلَيْهِ ذَلِكَ مَعَ الْمُرَاقَبَة وَالْفِكْر، وَالْإِقْبَال عَلَى الْآخِرَة، فَإِذَا خَرَجَ اِشْتَغَلَ بِالزَّوْجَةِ وَالْأَوْلَاد وَمَعَاش الدُّنْيَا، وَأَصْل النِّفَاق إِظْهَار مَا يَكْتُم خِلَافه مِنْ الشَّرّ، فَخَافَ أَنْ يَكُون ذَلِكَ نِفَاقًا، فَأَعْلَمَهُمْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَيْسَ بِنِفَاقٍ، وَأَنَّهُمْ لَا يُكَلَّفُونَ الدَّوَام عَلَى ذَلِكَ، «سَاعَة وَسَاعَة» أَيْ: سَاعَة كَذَا وَسَاعَة كَذَا.
قَوْله: «فَقُلْت يَا رَسُول اللَّه نَافَقَ حَنْظَلَة: فَقَالَ: مَهْ؟» قَالَ الْقَاضِي: مَعْنَاهُ الِاسْتِفْهَام، أَيْ: مَا تَقُول، وَالْهَاء هُنَا هِيَ هَاء السَّكْت، قَالَ: وَيَحْتَمِل أَنَّهَا لِلْكَفِّ وَالزَّجْر وَالتَّعْظِيم لِذَلِكَ.

.باب فِي سَعَةِ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَنَّهَا سَبَقَتْ غَضَبَهُ:

4939- قَوْله تَعَالَى: «إِنَّ رَحْمَتِي تَغْلِب غَضَبِي» وَفِي رِوَايَة: «سَبَقَتْ رَحْمَتِي غَضَبِي» قَالَ الْعُلَمَاء: غَضَب اللَّه تَعَالَى وَرِضَاهُ يَرْجِعَانِ إِلَى مَعْنَى الْإِرَادَة، فَإِرَادَته الْإِثَابَة لِلْمُطِيعِ، وَمَنْفَعَة الْعَبْد تُسَمَّى رِضًا وَرَحْمَة، وَإِرَادَته عِقَاب الْعَاصِي وَخِذْلَانه تُسَمَّى غَضَبًا، وَإِرَادَتُهُ سُبْحَانه وَتَعَالَى صِفَةٌ لَهُ قَدِيمَةٌ يُرِيد بِهَا جَمِيع الْمُرَادَات، قَالُوا: وَالْمُرَاد بِالسَّبْقِ وَالْغَلَبَة هُنَا كَثْرَة الرَّحْمَة وَشُمُولهَا، كَمَا يُقَال: غَلَبَ عَلَى فُلَان الْكَرَم وَالشَّجَاعَة إِذَا كَثُرَا مِنْهُ.
4940- سبق شرحه بالباب.
4941- سبق شرحه بالباب.
4942- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «جَعَلَ اللَّه الرَّحْمَة مِائَة جُزْء... إِلَى آخِره». هَذِهِ الْأَحَادِيث مِنْ أَحَادِيث الرَّجَاء وَالْبِشَارَة لِلْمُسْلِمِينَ، قَالَ الْعُلَمَاء: لِأَنَّهُ إِذَا حَصَلَ لِلْإِنْسَانِ مِنْ رَحْمَة وَاحِدَة فِي هَذِهِ الدَّار- الْمَبْنِيَّة عَلَى الْأَكْدَار- بِالْإِسْلَامِ وَالْقُرْآن وَالصَّلَاة وَالرَّحْمَة فِي قَلْبه وَغَيْر ذَلِكَ مِمَّا أَنْعَمَ اللَّه تَعَالَى بِهِ، فَكَيْف الظَّنّ بِمِائَةِ رَحْمَة فِي الدَّار الْآخِرَة، وَهِيَ دَار الْقَرَار وَدَار الْجَزَاء. وَاَللَّه أَعْلَم. هَكَذَا وَقَعَ فِي نُسَخ بِلَادنَا جَمِيعًا: «جَعَلَ اللَّه الرَّحْمَة مِائَة جُزْء» وَذَكَرَ الْقَاضِي: «جَعَلَ اللَّه الرُّحْم» بِحَذْفِ الْهَاء وَبِضَمِّ الرَّاء، قَالَ: وَرَوَيْنَاهُ بِضَمِّ الرَّاء وَيَجُوز فَتْحهَا وَمَعْنَاهُ الرَّحْمَة.
4943- سبق شرحه بالباب.
4944- سبق شرحه بالباب.
4945- سبق شرحه بالباب.
4946- سبق شرحه بالباب.
4947- قَوْله: «فَإِذَا اِمْرَأَة مِنْ السَّبْي تَبْتَغِي» هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيع نُسَخ صَحِيح مُسْلِم: «تَبْتَغِي» مِنْ الِابْتِغَاء، وَهُوَ: الطَّلَب، قَالَ الْقَاضِي عِيَاض: وَهَذَا وَهْم وَالصَّوَاب مَا فِي رِوَايَة الْبُخَارِيّ: «تَسْعَى» بِالسِّينِ مِنْ السَّعْي، قُلْت: كِلَاهُمَا صَوَاب لَا وَهْم فيه، فَهِيَ سَاعِيَة وَطَالِبَة مُبْتَغِيَة لِابْنِهَا. وَاَللَّه أَعْلَم.
4949- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فِي الرَّجُل الَّذِي لَمْ يَعْمَل حَسَنَة أَوْصَى بَنِيهِ أَنْ يُحَرِّقُوهُ وَيَذْرُوهُ فِي الْبَحْر وَالْبَرّ، وَقَالَ: فَوَاَللَّهِ لَئِنْ قَدَرَ عَلَيَّ رَبِّي لِيُعَذِّبنِي عَذَابًا مَا عَذَّبَهُ أَحَدًا، ثُمَّ قَالَ فِي آخِره: لِمَ فَعَلْت هَذَا؟ قَالَ: مِنْ خَشْيَتك يَا رَبّ وَأَنْتَ أَعْلَم، فَغَفَرَ لَهُ» اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي تَأْوِيل هَذَا الْحَدِيث، فَقَالَتْ طَائِفَة: لَا يَصِحّ حَمْل هَذَا عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ نَفْيَ قُدْرَة اللَّه، فَإِنَّ الشَّاكّ فِي قُدْرَة اللَّه تَعَالَى كَافِر، وَقَدْ قَالَ فِي آخِر الْحَدِيث: إِنَّهُ إِنَّمَا فَعَلَ هَذَا مِنْ خَشْيَة اللَّه تَعَالَى، وَالْكَافِر لَا يَخْشَى اللَّه تَعَالَى، وَلَا يُغْفَر لَهُ، قَالَ هَؤُلَاءِ: فَيَكُون لَهُ تَأْوِيلَانِ أَحَدهمَا أَنَّ مَعْنَاهُ: لَئِنْ قَدَّرَ عَلَيَّ الْعَذَاب، أَيْ: قَضَاهُ، يُقَال مِنْهُ قَدَرَ بِالتَّخْفِيفِ، وَقَدَّرَ بِالتَّشْدِيدِ بِمَعْنًى وَاحِد.
وَالثَّانِي: إِنْ قَدَرَ هُنَا بِمَعْنَى ضَيَّقَ عَلَيَّ قَالَ اللَّه تَعَالَى: {فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقه} وَهُوَ أَحَد الْأَقْوَال فِي قَوْله تَعَالَى: {فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِر عَلَيْهِ} وَقَالَتْ طَائِفَة: اللَّفْظ عَلَى ظَاهِره، وَلَكِنْ قَالَهُ هَذَا الرَّجُل وَهُوَ غَيْر ضَابِط لِكَلَامِهِ، وَلَا قَاصِد لِحَقِيقَةِ مَعْنَاهُ، وَمُعْتَقِد لَهَا، بَلْ قَالَهُ فِي حَالَة غَلَبَ عَلَيْهِ فيها الدَّهْش وَالْخَوْف وَشِدَّة الْجَزَع، بِحَيْثُ ذَهَبَ تَيَقُّظه وَتَدَبُّر مَا يَقُولهُ، فَصَارَ فِي مَعْنَى الْغَافِل وَالنَّاسِي، وَهَذِهِ الْحَالَة لَا يُؤَاخَذ فيها، وَهُوَ نَحْو قَوْل الْقَائِل الْآخَر الَّذِي غَلَبَ عَلَيْهِ الْفَرَح حِين وَجَدَ رَاحِلَته: أَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبّك، فَلَمْ يَكْفُر بِذَلِكَ الدَّهْش وَالْغَلَبَة وَالسَّهْو.
وَقَدْ جَاءَ فِي هَذَا الْحَدِيث فِي غَيْر مُسْلِم: «فَلَعَلِّي أَضِلّ اللَّه» أَيْ: أَغِيب عَنْهُ، وَهَذَا يَدُلّ عَلَى أَنَّ قَوْله: «لَئِنْ قَدَرَ اللَّه» عَلَى ظَاهِره، وَقَالَتْ طَائِفَة: هَذَا مِنْ مَجَاز كَلَام الْعَرَب، وَبَدِيع اِسْتِعْمَالهَا، يُسَمُّونَهُ مَزْج الشَّكّ بِالْيَقِينِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لِعَلَى هُدًى} فَصُورَته صُورَة شَكّ وَالْمُرَاد بِهِ الْيَقِين، وَقَالَتْ طَائِفَة: هَذَا الرَّجُل جَهِلَ صِفَة مِنْ صِفَات اللَّه تَعَالَى، وَقَدْ اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي تَكْفِير جَاهِل الصِّفَة، قَالَ الْقَاضِي: وَمِمَّنْ كَفَّرَهُ بِذَلِكَ اِبْن جَرِير الطَّبَرِيُّ، وَقَالَهُ أَبُو الْحَسَن الْأَشْعَرِيّ، أَوَّلًا، وَقَالَ آخَرُونَ: لَا يَكْفُر بِجَهْلِ الصِّفَة، وَلَا يَخْرُج بِهِ عَنْ اِسْم الْإِيمَان بِخِلَافِ جَحْدهَا، وَإِلَيْهِ رَجَعَ أَبُو الْحَسَن الْأَشْعَرِيّ، وَعَلَيْهِ اِسْتَقَرَّ قَوْله؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْتَقِد ذَلِكَ اِعْتِقَادًا يَقْطَع بِصَوَابِهِ، وَيَرَاهُ دِينًا وَشَرْعًا، وَإِنَّمَا يَكْفُر مَنْ اِعْتَقَدَ أَنَّ مَقَالَته حَقٌّ، قَالَ هَؤُلَاءِ: وَلَوْ سُئِلَ النَّاس عَنْ الصِّفَات لَوُجِدَ الْعَالِم بِهَا قَلِيلًا، وَقَالَتْ طَائِفَة: كَانَ هَذَا الرَّجُل فِي زَمَن فَتْرَة حِين يَنْفَع مُجَرَّد التَّوْحِيد، وَلَا تَكْلِيف قَبْل وُرُود الشَّرْع عَلَى الْمَذْهَب الصَّحِيح لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَث رَسُولًا} وَقَالَتْ طَائِفَة: يَجُوز أَنَّهُ كَانَ فِي زَمَن شَرْعهمْ فيه جَوَاز الْعَفْو عَنْ الْكَافِر، بِخِلَافِ شَرْعنَا، وَذَلِكَ مِنْ مُجَوَّزَات الْعُقُول عِنْد أَهْل السُّنَّة، وَإِنَّمَا مَنَعْنَاهُ فِي شَرْعنَا بِالشَّرْعِ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ اللَّه لَا يَغْفِر أَنْ يُشْرَك بِهِ} وَغَيْر ذَلِكَ مِنْ الْأَدِلَّة، وَاَللَّه أَعْلَم.
وَقِيلَ: إِنَّمَا وَصَّى بِذَلِكَ تَحْقِيرًا لِنَفْسِهِ، وَعُقُوبَة لَهَا لِعِصْيَانِهَا، وَإِسْرَافهَا، رَجَاء أَنْ يَرْحَمهُ اللَّه تَعَالَى.
4950- سبق شرحه بالباب.
4951- قَوْله: (إِنَّ اِبْن شِهَاب ذَكَرَ هَذَا الْحَدِيث)، ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيث الْمَرْأَة الَّتِي دَخَلَتْ النَّار، وَعُذِّبَتْ بِسَبَبِ هِرَّة حَبَسَتْهَا حَتَّى مَاتَتْ جُوعًا، ثُمَّ قَالَ اِبْن شِهَاب: لِئَلَّا يَتَّكِل رَجُل، وَلَا يَيْأَس رَجُل. مَعْنَاهُ: أَنَّ اِبْن شِهَاب لَمَّا ذَكَرَ الْحَدِيث الْأَوَّل خَافَ أَنَّ سَامِعه يَتَّكِل عَلَى مَا فيه مِنْ سَعَة الرَّحْمَة، وَعِظَم الرَّجَاء، فَضَمَّ إِلَيْهِ حَدِيث الْهِرَّة الَّذِي فيه مِنْ التَّخْوِيف ضِدّ ذَلِكَ، لِيَجْتَمِع الْخَوْف وَالرَّجَاء، وَهَذَا مَعْنَى قَوْله: لِئَلَّا يَتَّكِل وَلَا يَيْأَس، وَهَكَذَا مُعْظَم آيَات الْقُرْآن الْعَزِيز، يَجْتَمِع فيها الْخَوْف وَالرَّجَاء، وَكَذَا قَالَ الْعُلَمَاء: يُسْتَحَبّ لِلْوَاعِظِ أَنْ يَجْمَع فِي مَوْعِظَته بَيْن الْخَوْف وَالرَّجَاء؛ لِئَلَّا يَقْنَط أَحَد، وَلَا يَتَّكِل، قَالُوا: وَلْيَكُنْ التَّخْوِيف أَكْثَر؛ لِأَنَّ النُّفُوس إِلَيْهِ أَحْوَج؛ لِمَيْلِهَا إِلَى الرَّجَاء وَالرَّاحَة وَالِاتِّكَال، وَإِهْمَال بَعْض الْأَعْمَال.
وَأَمَّا حَدِيث الْهِرَّة فَسَبَقَ شَرْحه فِي مَوْضِعه.
4952- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ رَجُلًا فِيمَنْ كَانَ قَبْلكُمْ رَاشَهُ اللَّه مَالًا وَوَلَدًا» هَذِهِ اللَّفْظَة رُوِيَتْ بِوَجْهَيْنِ فِي صَحِيح مُسْلِم، أَحَدهمَا (رَاشَهُ) بِأَلِفٍ سَاكِنَة غَيْر مَهْمُوزَة، وَبِشِينٍ مُعْجَمَة. وَالثَّانِي (رَأَسه) بِهَمْزَةٍ وَسِين مُهْمَلَة، قَالَ الْقَاضِي: وَالْأَوَّل هُوَ الصَّوَاب، وَهُوَ رِوَايَة الْجُمْهُور، وَمَعْنَاهُ: أَعْطَاهُ اللَّه مَالًا وَوَلَدًا، قَالَ: وَلَا وَجْه لِلْمُهْمَلَةِ هُنَا، وَكَذَا قَالَ غَيْره، وَلَا وَجْه لَهُ هُنَا.
قَوْله: «فَإِنِّي لَمْ أَبْتَهِر عِنْد اللَّه خَيْرًا» هَكَذَا هُوَ فِي بَعْض النُّسَخ، وَلِبَعْضِ الرُّوَاة: «أَبْتَئِر» بِهَمْزَةٍ بَعْد التَّاء، وَفِي أَكْثَرهَا: «لَمْ أَبْتَهِر» بِالْهَاءِ، وَكِلَاهُمَا صَحِيح وَالْهَاء مُبْدَلَة مِنْ الْهَمْزَة، وَمَعْنَاهُمَا: لَمْ أُقَدِّم خَيْرًا وَلَمْ أَدَّخِرهُ، وَقَدْ فَسَّرَهَا قَتَادَةُ فِي الْكِتَاب، وَفِي رِوَايَة: «لَمْ يَبْتَئِر» هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيع النُّسَخ، وَفِي رِوَايَة: «مَا أَمْتَئِر» بِالْمِيمِ مَهْمُوز أَيْضًا وَالْمِيم مُبْدَلَة مِنْ الْبَاء الْمُوَحَّدَة.
قَوْله: «وَإِنَّ اللَّه يَقْدِر عَلَى أَنْ يُعَذِّبنِي» هَكَذَا هُوَ فِي مُعْظَم النُّسَخ بِبِلَادِنَا، وَنَقَلَ اِتِّفَاق الرُّوَاة وَالنُّسَخ عَلَيْهِ هَكَذَا بِتَكْرِيرِ (إِنْ) وَسَقَطَتْ لَفْظَة (إِنْ) الثَّانِيَة فِي بَعْض النُّسَخ الْمُعْتَمَدَة فَعَلَى هَذَا تَكُون (إِنْ) الْأُولَى شَرْطِيَّة وَتَقْدِيره: إِنْ قَدَرَ اللَّه عَلَيَّ عَذَّبَنِي، وَهُوَ مُوَافِق لِلرِّوَايَةِ السَّابِقَة، وَأَمَّا عَلَى رِوَايَة الْجُمْهُور وَهِيَ إِثْبَات (إِنَّ) الثَّانِيَة مَعَ الْأُولَى فَاخْتُلِفَ فِي تَقْدِيره، فَقَالَ الْقَاضِي: هَذَا الْكَلَام فيه تَلْفِيق، قَالَ: فَإِنْ أَخَذَ عَلَى ظَاهِره وَنَصَبَ اِسْم اللَّه، وَجَعَلَ تَقْدِير فِي مَوْضِع خَبَر إِنْ اِسْتَقَامَ اللَّفْظ، وَصَحَّ الْمَعْنَى، لَكِنَّهُ يَصِير مُخَالِفًا لِمَا سَبَقَ مِنْ كَلَامه الَّذِي ظَاهِره الشَّكّ فِي الْقُدْرَة، قَالَ: وَقَالَ بَعْضهمْ: صَوَابه حَذْف (إِنَّ) الثَّانِيَة وَتَخْفِيف الْأُولَى، وَرَفْعِ اِسْم اللَّه تَعَالَى، قَالَ: وَكَذَا ضَبَطْنَاهُ عَنْ بَعْضهمْ، هَذَا كَلَام الْقَاضِي، وَقِيلَ: هُوَ عَلَى ظَاهِره بِإِثْبَاتِ (إِنْ) فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَالْأُولَى مُشَدَّدَة وَمَعْنَاهُ: إِنَّ اللَّه قَادِر عَلَى أَنْ يُعَذِّبنِي، وَيَكُون هَذَا عَلَى قَوْل مَنْ تَأَوَّلَ الرِّوَايَة الْأُولَى عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ بِقَدَرَ: ضَيَّقَ، أَوْ غَيْره مِمَّا لَيْسَ فيه نَفْي حَقِيقَة الْقُدْرَة، وَيَجُوز أَنْ يَكُون عَلَى ظَاهِره كَمَا ذَكَرَ هَذَا الْقَائِل، لَكِنْ يَكُون قَوْله هُنَا مَعْنَاهُ: إِنَّ اللَّه قَادِر عَلَى أَنْ يُعَذِّبنِي إِنْ دَفَنْتُمُونِي بِهَيْئَتِي، فَأَمَّا إِنْ سَحَقْتُمُونِي وَذَرَّيْتُمُونِي فِي الْبَرّ وَالْبَحْر فَلَا يَقْدِر عَلَيَّ وَيَكُون جَوَابه كَمَا سَبَقَ، وَبِهَذَا تَجْتَمِع الرِّوَايَات. وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَأَخَذَ مِنْهُمْ مِيثَاقًا فَفَعَلُوا ذَلِكَ بِهِ وَرَبِّي» هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيع نُسَخ مُسْلِم (وَرَبِّي) عَلَى الْقَسَم، وَنَقَلَ الْقَاضِي عِيَاض الِاتِّفَاق عَلَيْهِ أَيْضًا فِي كِتَاب مُسْلِم، قَالَ: وَهُوَ عَلَى الْقَسَم مِنْ الْمُخْبِر بِذَلِكَ عَنْهُمْ لِتَصْحِيحِ خَبَره، وَفِي صَحِيح الْبُخَارِيّ: «فَأَخَذَ مِنْهُمْ مِيثَاقًا وَرَبِّي فَفَعَلُوا ذَلِكَ بِهِ» قَالَ بَعْضهمْ: وَهُوَ الصَّوَاب، قَالَ الْقَاضِي: بَلْ هُمَا مُتَقَارِبَانِ فِي الْمَعْنَى وَالْقَسَم، قَالَ: وَجَدْته فِي بَعْض نُسَخ صَحِيح مُسْلِم مِنْ غَيْر رِوَايَة لِأَحَدٍ مِنْ شُيُوخنَا إِلَّا لِلتَّمِيمِيِّ مِنْ طَرِيق اِبْن الْحَذَّاء: «فَفَعَلُوا ذَلِكَ وَذُرِّيَ» قَالَ: فَإِنْ صَحَّتْ هَذِهِ الرِّوَايَة فَهِيَ وَجْه الْكَلَام لِأَنَّهُ أَمَرَهُمْ أَنْ يَذُرُّوهُ، وَلَعَلَّ الذَّال سَقَطَتْ لِبَعْضِ النُّسَّاخ، وَتَابَعَهُ الْبَاقُونَ، هَذَا كَلَام الْقَاضِي، وَالرِّوَايَات الثَّلَاث الْمَذْكُورَات صَحِيحَات الْمَعْنَى ظَاهِرَات، فَلَا وَجْه لِتَغْلِيطِ شَيْء مِنْهَا. وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله: «فَمَا تَلَافَاهُ غَيْرهَا» أَيْ: مَا تَدَارَكَهُ، وَالتَّاء فيه زَائِدَة.
قَوْله: «إِنَّ رَجُلًا مِنْ النَّاس رَغَسَهُ اللَّه مَالًا وَوَلَدًا» هُوَ بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَة الْمُخَفَّفَة وَالسِّين الْمُهْمَلَة، أَيْ أَعْطَاهُ مَالًا، وَبَارَكَ لَهُ فيه.

.بَاب (قَبُول التَّوْبَة مِنْ الذُّنُوب وَإِنْ تَكَرَّرَتْ الذُّنُوب وَالتَّوْبَة):

هَذِهِ الْمَسْأَلَة تَقَدَّمَتْ فِي أَوَّل كِتَاب التَّوْبَة، وَهَذِهِ الْأَحَادِيث ظَاهِرَة فِي الدَّلَالَة لَهَا، وَأَنَّهُ لَوْ تَكَرَّرَ الذَّنْب مِائَة مَرَّة أَوْ أَلْف مَرَّة أَوْ أَكْثَر، وَتَابَ فِي كُلّ مَرَّة، قُبِلَتْ تَوْبَته، وَسَقَطَتْ ذُنُوبه، وَلَوْ تَابَ عَنْ الْجَمِيع تَوْبَة وَاحِدَة بَعْد جَمِيعهَا صَحَّتْ تَوْبَته.
4953- قَوْله عَزَّ وَجَلَّ لِلَّذِي تَكَرَّرَ ذَنْبه: «اِعْمَلْ مَا شِئْت فَقَدْ غَفَرْت لَك» مَعْنَاهُ: مَا دُمْت تُذْنِب ثُمَّ تَتُوب غَفَرْت لَك، وَهَذَا جَارٍ عَلَى الْقَاعِدَة الَّتِي ذَكَرْنَاهَا.
4954- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ يَبْسُط يَده بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيء النَّهَار، وَيَبْسُط يَده بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيء اللَّيْل حَتَّى تَطْلُع الشَّمْس مِنْ مَغْرِبهَا» وَلَا يَخْتَصّ قَبُولهَا بِوَقْتٍ، وَقَدْ سَبَقَتْ الْمَسْأَلَة فَبَسْط الْيَد اِسْتِعَارَة فِي قَبُول التَّوْبَة، قَالَ الْمَازِرِيُّ: الْمُرَاد بِهِ قَبُول التَّوْبَة، وَإِنَّمَا وَرَدَ لَفْظ (بَسْط الْيَد) لِأَنَّ الْعَرَب إِذَا رَضِيَ أَحَدهمْ الشَّيْء بَسَطَ يَده لِقَبُولِهِ، وَإِذَا كَرِهَهُ قَبَضَهَا عَنْهُ، فَخُوطِبُوا بِأَمْرٍ حِسِّيّ يَفْهَمُونَهُ، وَهُوَ مَجَاز، فَإِنَّ يَد الْجَارِحَة مُسْتَحِيلَة فِي حَقِّ اللَّه تَعَالَى.

.(بَاب غَيْرَة اللَّه تَعَالَى وَتَحْرِيم الْفَوَاحِش):

قَدْ سَبَقَ تَفْسِير غَيْرَة اللَّه تَعَالَى فِي حَدِيث سَعْد بْن عُبَادَةَ، وَفِي غَيْره، وَسَبَقَ بَيَان: «لَا شَيْء أَغْيَر مِنْ اللَّه» وَالْغَيْرَة بِفَتْحِ الْغَيْن، وَهِيَ فِي حَقّنَا: الْأَنَفَة، وَأَمَّا فِي حَقِّ اللَّه تَعَالَى فَقَدْ فَسَّرَهَا هُنَا فِي حَدِيث عَمْرو النَّاقِد بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَغَيْرَة اللَّه أَنْ يَأْتِي الْمُؤْمِن مَا حُرِّمَ عَلَيْهِ» أَيْ: غَيْرَته مَنْعه وَتَحْرِيمه.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَلَا أَحَد أَحَبَّ إِلَيْهِ الْمَدْح مِنْ اللَّه تَعَالَى» حَقِيقَة هَذَا مَصْلَحَة لِلْعِبَادِ، لِأَنَّهُمْ يُثْنُونَ عَلَيْهِ سُبْحَانه وَتَعَالَى فَيُثِيبهُمْ فَيَنْتَفِعُونَ، وَهُوَ سُبْحَانه غَنِيّ عَنْ الْعَالَمِينَ، لَا يَنْفَعهُ مَدْحهمْ، وَلَا يَضُرّهُ تَرْكهمْ ذَلِكَ. وَفيه: تَنْبِيه عَلَى فَضْل الثَّنَاء عَلَيْهِ سُبْحَانه وَتَعَالَى، وَتَسْبِيحه وَتَهْلِيله وَتَحْمِيده وَتَكْبِيره، وَسَائِر الْأَذْكَار.
4955- سبق شرحه بالباب.
4956- سبق شرحه بالباب.
4957- سبق شرحه بالباب.
4958- سبق شرحه بالباب.
4959- سبق شرحه بالباب.
4960- سبق شرحه بالباب.
4961- سبق شرحه بالباب.
4962- سبق شرحه بالباب.

.باب قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ}:

قَوْله فِي الَّذِي أَصَابَ مِنْ اِمْرَأَة قُبْلَة فَأَنْزَلَ اللَّه فيه: {إِنَّ الْحَسَنَات يُذْهِبْنَ السَّيِّئَات} إِلَى آخِر الْحَدِيث، هَذَا تَصْرِيح بِأَنَّ الْحَسَنَات تُكَفِّر السَّيِّئَات. وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُرَاد بِالْحَسَنَاتِ هُنَا، فَنَقَلَ الثَّعْلَبِيّ أَنَّ أَكْثَر الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّهَا الصَّلَوَات الْخَمْس، وَاخْتَارَهُ اِبْن جَرِير وَغَيْره مِنْ الْأَئِمَّة، وَقَالَ مُجَاهِد هِيَ قَوْل الْعَبْد: سُبْحَان اللَّه وَالْحَمْد لِلَّهِ وَلَا إِلَه إِلَّا اللَّه وَاَللَّه أَكْبَر، وَيُحْتَمَل أَنَّ الْمُرَاد الْحَسَنَات مُطْلَقًا، وَقَدْ سَبَقَ فِي كِتَاب الطَّهَارَة وَالصَّلَاة مَا يُكَفِّر مِنْ الْمَعَاصِي بِالصَّلَاةِ، وَسَبَقَ فِي مَوَاضِع، قَوْله تَعَالَى: {وَزُلَفًا مِنْ اللَّيْل} هِيَ سَاعَته، وَيَدْخُل فِي صَلَاة طَرَفَيْ النَّهَار الصُّبْح وَالظُّهْر وَالْعَصْر، وَفِي: {زُلَفًا مِنْ اللَّيْل} الْمَغْرِب وَالْعِشَاء.
قَوْله: «أَصَابَ مِنْهَا دُون الْفَاحِشَة» أَيْ: دُون الزِّنَا فِي الْفَرْج.
4964- قَوْله: «عَالَجْت اِمْرَأَة وَإِنِّي أَصَبْت مِنْهَا مَا دُون أَنْ أَمَسّهَا» مَعْنَى عَالَجَهَا: أَيْ تَنَاوَلَهَا وَاسْتَمْتَعَ بِهَا، وَالْمُرَاد بِالْمَسِّ الْجِمَاع، وَمَعْنَاهُ: اِسْتَمْتَعْت بِهَا بِالْقُبْلَةِ وَالْمُعَانَقَة وَغَيْرهمَا مِنْ جَمِيع أَنْوَاع الِاسْتِمْتَاع إِلَّا الْجِمَاع.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بَلْ لِلنَّاسِ كَافَّة» هَكَذَا تُسْتَعْمَل (كَافَّة) حَال أَيْ: كُلّهمْ، وَلَا يُضَاف، فَيُقَال: كَافَّة النَّاس، وَلَا الْكَافَّة بِالْأَلِفِ وَاللَّام، وَهُوَ مَعْدُود فِي تَصْحِيف الْعَوَامّ وَمَنْ أَشْبَهَهُمْ.
4966- قَوْله: «أَصَبْت حَدًّا فَأَقِمْهُ عَلَيَّ وَحَضَرَتْ الصَّلَاة فَصَلَّى مَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ: هَلْ حَضَرْت الصَّلَاة مَعَنَا؟ قَالَ: نَعَمْ قَالَ: قَدْ غُفِرَ لَك» هَذَا الْحَدُّ مَعْنَاهُ مَعْصِيَة مِنْ الْمعاصِي الْمُوجِبَة لِلتَّعْزِيزِ، وَهِيَ هُنَا مِنْ الصَّغَائِر؛ لِأَنَّهَا كَفَّرَتْهَا الصَّلَاة، وَلَوْ كَانَتْ كَبِيرَة مُوجِبَة لِحَدٍّ، أَوْ غَيْر مُوجِبَة لَهُ لَمْ تَسْقُط بِالصَّلَاةِ، فَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّ الْمَعَاصِي الْمُوجِبَة لِلْحُدُودِ لَا تَسْقُط حُدُودهَا بِالصَّلَاةِ. هَذَا هُوَ الصَّحِيح فِي تَفْسِير هَذَا الْحَدِيث، وَحَكَى الْقَاضِي عَنْ بَعْضهم: أَنَّ الْمُرَاد بِالْحَدِّ الْمَعْرُوف، قَالَ: وَإِنَّمَا لَمْ يَحُدّهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُفَسِّر مُوجِب الْحَدّ، وَلَمْ يَسْتَفْسِرهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُ إِيثَارًا لِلسَّتْرِ، بَلْ اُسْتُحِبَّ تَلْقِين الرُّجُوع عَنْ الْإِقْرَار بِمُوجِبِ الْحَدّ صَرِيحًا.

.باب قَبُولِ تَوْبَةِ الْقَاتِلِ وَإِنْ كَثُرَ قَتْلُهُ:

4967- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ رَجُلًا قَتَلَ تِسْعًا وَتِسْعِينَ نَفْسًا، ثُمَّ قَتَلَ تَمَام الْمِائَة، ثُمَّ أَفْتَاهُ الْعَالِم بِأَنَّ لَهُ تَوْبَة» هَذَا مَذْهَب أَهْل الْعِلْم، وَإِجْمَاعهمْ عَلَى صِحَّة تَوْبَة الْقَاتِل عَمْدًا، وَلَمْ يُخَالِف أَحَد مِنْهُمْ إِلَّا اِبْن عَبَّاس.
وَأَمَّا مَا نُقِلَ عَنْ بَعْض السَّلَف مِنْ خِلَاف هَذَا، فَمُرَاد قَائِله الزَّجْر عَنْ سَبَب التَّوْبَة، لَا أَنَّهُ يَعْتَقِد بُطْلَان تَوْبَته. وَهَذَا الْحَدِيث ظَاهِر فيه، وَهُوَ إِنْ كَانَ شَرْعًا لِمَنْ قَبْلنَا، وَفِي الِاحْتِجَاج بِهِ خِلَاف فَلَيْسَ مَوْضِع الْخِلَاف، وَإِنَّمَا مَوْضِعه إِذَا لَمْ يَرِدْ شَرْعنَا بِمُوَافَقَتِهِ وَتَقْرِيره، فَإِنْ وَرَدَ كَانَ شَرْعًا لَنَا بِلَا شَكٍّ، وَهَذَا قَدْ وَرَدَ شَرْعنَا بِهِ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {وَاَلَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّه إِلَهًا آخَر وَلَا يَقْتُلُونَ} إِلَى قَوْله: {إِلَّا مَنْ تَابَ} الْآيَة وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ يَقْتُل مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّم خَالِدًا فيها} فَالصَّوَاب فِي مَعْنَاهَا: أَنَّ جَزَاءَهُ جَهَنَّم، وَقَدْ يُجَازَى بِهِ، وَقَدْ يُجَازَى بِغَيْرِهِ وَقَدْ لَا يُجَازَى بَلْ يُعْفَى عَنْهُ، فَإِنْ قَتَلَ عَمْدًا مُسْتَحِلًّا لَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ وَلَا تَأْوِيل، فَهُوَ كَافِر مُرْتَدّ، يَخْلُد بِهِ فِي جَهَنَّم بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنْ كَانَ غَيْر مُسْتَحِلّ بَلْ مُعْتَقِدًا تَحْرِيمه فَهُوَ فَاسِق عَاصٍ مُرْتَكِب كَبِيرَة، جَزَاؤُهُ جَهَنَّم خَالِدًا فيها، لَكِنْ بِفَضْلِ اللَّه تَعَالَى ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يُخَلَّد مَنْ مَاتَ مُوَحِّدًا فيها، فَلَا يَخْلُد هَذَا، وَلَكِنْ قَدْ يُعْفَى عَنْهُ، فَلَا يَدْخُل النَّار أَصْلًا، وَقَدْ لَا يُعْفَى عَنْهُ، بَلْ يُعَذَّب كَسَائِرِ الْعُصَاة الْمُوَحِّدِينَ، ثُمَّ يَخْرُج مَعَهُمْ إِلَى الْجَنَّة، وَلَا يُخَلَّد فِي النَّار، فَهَذَا هُوَ الصَّوَاب فِي مَعْنَى الْآيَة، وَلَا يَلْزَم مِنْ كَوْنه يَسْتَحِقّ أَنْ يُجَازَى بِعُقُوبَةٍ مَخْصُوصَة أَنْ يَتَحَتَّم ذَلِكَ الْجَزَاء، وَلَيْسَ فِي الْآيَة إِخْبَار بِأَنَّهُ يُخَلَّد فِي جَهَنَّم، وَإِنَّمَا فيها أَنَّهَا جَزَاؤُهُ أَيْ: يَسْتَحِقّ أَنْ يُجَازَى بِذَلِكَ، وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَاد مَنْ قَتَلَ مُسْتَحِلًّا، قِيلَ: وَرَدَتْ الْآيَة فِي رَجُل بِعَيْنِهِ، وَقِيلَ: الْمُرَاد بِالْخُلُودِ طُول الْمُدَّة لَا الدَّوَام، وَقِيلَ: مَعْنَاهَا هَذَا جَزَاؤُهُ إِنْ جَازَاهُ، وَهَذِهِ الْأَقْوَال كُلّهَا ضَعِيفَة أَوْ فَاسِدَة لِمُخَالَفَتِهَا حَقِيقَة لَفْظ الْآيَة، وَأَمَّا هَذَا الْقَوْل فَهُوَ شَائِع عَلَى أَلْسِنَة كَثِير مِنْ النَّاس، وَهُوَ فَاسِد لِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنَّهُ إِذَا عُفِيَ عَنْهُ خَرَجَ عَنْ كَوْنهَا كَانَتْ جَزَاء، وَهِيَ جَزَاء لَهُ، لَكِنْ تَرَكَ اللَّه مُجَازَاته عَفْوًا عَنْهُ وَكَرَمًا، فَالصَّوَاب مَا قَدَّمْنَاهُ. وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله: «اِنْطَلِقْ إِلَى أَرْض كَذَا وَكَذَا فَإِنَّ فيها أُنَاسًا يَعْبُدُونَ اللَّه فَاعْبُدْ اللَّه مَعَهُمْ، وَلَا تَرْجِع إِلَى أَرْضك فَإِنَّهَا أَرْض سُوء» قَالَ الْعُلَمَاء: فِي هَذَا اِسْتِحْبَاب مُفَارَقَة التَّائِب الْمَوَاضِع الَّتِي أَصَابَ بِهَا الذُّنُوب، وَالْأَخْدَان الْمُسَاعِدِينَ لَهُ عَلَى ذَلِكَ وَمُقَاطَعَتهمْ مَا دَامُوا عَلَى حَالهمْ، وَأَنْ يَسْتَبْدِل بِهِمْ صُحْبَة أَهْل الْخَيْر وَالصَّلَاح وَالْعُلَمَاء وَالْمُتَعَبِّدِينَ الْوَرِعِينَ وَمَنْ يَقْتَدِي بِهِمْ، وَيَنْتَفِع بِصُحْبَتِهِمْ، وَتَتَأَكَّد بِذَلِكَ تَوْبَته.
قَوْله: «فَانْطَلَقَ حَتَّى إِذَا نَصَفَ الطَّرِيق أَتَاهُ الْمَوْت» هُوَ بِتَخْفِيفِ الصَّاد أَيْ: بَلَغَ نِصْفهَا.
قَوْله: «نَأَى بِصَدْرِهِ» أَيْ نَهَضَ، وَيَجُوز تَقْدِيم الْأَلِف عَلَى الْهَمْزَة وَعَكْسه، وَسَبَقَ فِي حَدِيث أَصْحَاب الْغَار.
وَأَمَّا قِيَاس الْمَلَائِكَة مَا بَيْن الْقَرْيَتَيْنِ، وَحُكْم الْمَلَك الَّذِي جَعَلُوهُ بَيْنهمْ بِذَلِكَ، فَهَذَا مَحْمُول عَلَى أَنَّ اللَّه تَعَالَى أَمَرَهُمْ عِنْد اِشْتِبَاه أَمْره عَلَيْهِمْ، وَاخْتِلَافهمْ فيه أَنْ يُحَكِّمُوا رَجُلًا مِمَّنْ يَمُرّ بِهِمْ، فَمَرَّ الْمَلَك فِي صُورَة رَجُل، فَحَكَمَ بِذَلِكَ.
4968- سبق شرحه بالباب.
4969- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا كَانَ يَوْم الْقِيَامَة دَفَعَ اللَّه تَعَالَى إِلَى كُلّ مُسْلِم يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا فَيَقُول هَذَا فَكَاكُكَ مِنْ النَّار» وَفِي رِوَايَة: «لَا يَمُوت رَجُل مُسْلِم إِلَّا أَدْخَلَ اللَّه مَكَانه النَّار يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا» وَفِي رِوَايَة: «يَجِيء يَوْم الْقِيَامَة نَاس مِنْ الْمُسْلِمِينَ بِذُنُوبٍ أَمْثَال الْجِبَال فَيَغْفِرهَا اللَّه لَهُمْ وَيَضَعهَا عَلَى الْيَهُود وَالنَّصَارَى». (الْفَكَاك) بِفَتْحِ الْفَاء وَكَسْرهَا الْفَتْح أَفْصَح وَأَشْهَر، وَهُوَ: الْخَلَاص وَالْفِدَاء. وَمَعْنَى هَذَا الْحَدِيث مَا جَاءَ فِي حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة لِكُلِّ أَحَد مَنْزِل فِي الْجَنَّة وَمَنْزِل فِي النَّار. فَالْمُؤْمِن إِذَا دَخَلَ الْجَنَّة خَلَفَه الْكَافِر فِي النَّار لِاسْتِحْقَاقِهِ ذَلِكَ بِكُفْرِهِ. مَعْنَى (فَكَاكك مِنْ النَّار) أَنَّك كُنْت مُعَرَّضًا لِدُخُولِ النَّار، وَهَذَا فَكَاكك؛ لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى قَدَّرَ لَهَا عَدَدًا يَمْلَؤُهَا، فَإِذَا دَخَلَهَا الْكُفَّار بِكُفْرِهِمْ وَذُنُوبهمْ صَارُوا فِي مَعْنَى الْفَكَاك لِلْمُسْلِمِينَ.
4970- قَوْله: (فَاسْتَحْلَفَهُ عُمَر بْن عَبْد الْعَزِيز أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ) إِنَّمَا اِسْتَحْلَفَهُ لِزِيَادَةِ الِاسْتِيثَاق وَالطُّمَأْنِينَة، وَلِمَا حَصَلَ لَهُ مِنْ السُّرُور بِهَذِهِ الْبِشَارَة الْعَظِيمَة لِلْمُسْلِمِينَ أَجْمَعِينَ، وَلِأَنَّهُ إِنْ كَانَ عِنْده فيه شَكٌّ وَخَوْف غَلَط أَوْ نِسْيَان أَوْ اِشْتِبَاه أَوْ نَحْو ذَلِكَ أَمْسَكَ عَنْ الْيَمِين، فَإِذَا حَلَفَ تَحَقَّقَ اِنْتِفَاء هَذِهِ الْأُمُور، وَعَرَفَ صِحَّة الْحَدِيث، وَقَدْ جَاءَ عَنْ عُمَر بْن عَبْد الْعَزِيز وَالشَّافِعِيّ- رَحِمَهُمَا اللَّه- أَنَّهُمَا قَالَا: هَذَا الْحَدِيث أَرْجَى حَدِيث لِلْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ كَمَا قَالَا لِمَا فيه مِنْ التَّصْرِيح بِفِدَاءِ كُلّ مُسْلِم، وَتَعْمِيم الْفِدَاء وَلِلَّهِ الْحَمْد.
4971- قَوْله: «يَجِيء يَوْم الْقِيَامَة نَاس مِنْ الْمُسْلِمِينَ بِذُنُوبٍ» فَمَعْنَاهُ: أَنَّ اللَّه تَعَالَى يَغْفِر تِلْكَ الذُّنُوب لِلْمُسْلِمِينَ، وَيُسْقِطهَا عَنْهُمْ، وَيَضَع عَلَى الْيَهُود وَالنَّصَارَى مِثْلهَا بِكُفْرِهِمْ وَذُنُوبهمْ، فَيُدْخِلهُ النَّار بِأَعْمَالِهِمْ لَا بِذُنُوبِ الْمُسْلِمِينَ، ولابد مِنْ هَذَا التَّأْوِيل لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَزِر وَازِرَة وِزْر أُخْرَى} وَقَوْله: (وَيَضَعهَا) مَجَاز وَالْمُرَاد: يَضَع عَلَيْهِمْ مِثْلهَا بِذُنُوبِهِمْ كَمَا ذَكَرْنَاهُ لَكِنْ لَمَّا أَسْقَطَ سُبْحَانه وَتَعَالَى عَنْ الْمُسْلِمِينَ سَيِّئَاتهمْ، وَأَبْقَى عَلَى الْكُفَّار سَيِّئَاتهمْ، صَارُوا فِي مَعْنَى مَنْ حَمَلَ إِثْم الْفَرِيقَيْنِ لِكَوْنِهِمْ حَمَلُوا الْإِثْم الْبَاقِي، وَهُوَ إِثْمهمْ، وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون الْمُرَاد آثَامًا كَانَ لِلْكُفَّارِ سَبَب فيها، بِأَنْ سَنُّوهَا فَتَسْقُط عَنْ الْمُسْلِمِينَ بِعَفْوِ اللَّه تَعَالَى، وَيُوضَع عَلَى الْكُفَّار مِثْلهَا، لِكَوْنِهِمْ سَنُّوهَا، وَمَنْ سَنَّ سُنَّة سَيِّئَة كَانَ عَلَيْهِ مِثْل وِزْر كُلّ مَنْ يَعْمَل بِهَا. وَاَللَّه أَعْلَم.
4972- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يُدْنَى الْمُؤْمِن يَوْم الْقِيَامَة مِنْ رَبّه حَتَّى يَضَع عَلَيْهِ كَنَفه فَيُقَرِّرهُ بِذُنُوبِهِ» إِلَى آخِره. أَمَّا (كَنَفه) فَبِنُونٍ مَفْتُوحَة، وَهُوَ: سَتْره وَعَفْوه، وَالْمُرَاد بِالدُّنُوِّ هُنَا: دُنُوّ كَرَامَة وَإِحْسَان، لَا دُنُوّ مَسَافَة، وَاَللَّه تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْ الْمَسَافَة وَقُرْبهَا.

.باب حَدِيثِ تَوْبَةِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ وَصَاحِبَيْهِ:

4973- قَوْله: «وَلَقَدْ شَهِدْت مَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَة الْعَقَبَة حِين تَوَاثَقْنَا عَلَى الْإِسْلَام» أَيْ: تَبَايَعْنَا عَلَيْهِ وَتَعَاهَدْنَا، وَلَيْلَة الْعَقَبَة هِيَ اللَّيْلَة الَّتِي بَايَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأَنْصَار فيها عَلَى الْإِسْلَام، وَأَنْ يُؤْوُوهُ وَيَنْصُرُوهُ، وَهِيَ الْعَقَبَة الَّتِي فِي طَرَف مِنًى، وَاَلَّتِي يُضَاف إِلَيْهَا جَمْرَة الْعَقَبَة، وَكَانَتْ بَيْعَة الْعَقَبَة مَرَّتَيْنِ فِي سَنَتَيْنِ فِي السَّنَة الْأُولَى كَانُوا اِثْنَيْ عَشَرَ وَفِي الثَّانِيَة سَبْعِينَ كُلّهمْ مِنْ الْأَنْصَار رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ.
قَوْله: «وَإِنْ كَانَتْ بَدْر أَذْكَر» أَيْ أَشْهَر عِنْد النَّاس بِالْفَضِيلَةِ.
قَوْله: «وَاسْتَقْبَلَ سَفَرًا بَعِيدًا وَمَفَازًا» أَيْ: بَرِّيَّة طَوِيلَة قَلِيلَة الْمَاء يُخَاف فيها الْهَلَاك، وَسَبَقَ قَرِيبًا بَيَان الْخِلَاف فِي تَسْمِيَتهَا مَفَازَة وَمَفَازًا.
قَوْله: «فَجَلَا لِلْمُسْلِمِينَ أَمْرهمْ» هُوَ بِتَخْفِيفِ اللَّام، أَيْ: كَشَفَهُ وَبَيَّنَهُ وَأَوْضَحَهُ، وَعَرَّفَهُمْ ذَلِكَ عَلَى وَجْهه مِنْ غَيْر تَوْرِيَة، يُقَال: جَلَوْت الشَّيْء كَشَفْته.
قَوْله: «لِيَتَأَهَّبُوا أُهْبَة غَزْوهمْ» (الْأُهْبَة) بِضَمِّ الْهَمْزَة وَإِسْكَان الْهَاء، أَيْ: لِيَسْتَعِدُّوا بِمَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ فِي سَفَرهمْ ذَلِكَ.
قَوْله: «فَأَخْبَرَهُمْ بِوَجْهِهِمْ» أَيْ: بِمَقْصِدِهِمْ.
قَوْله: (يُرِيد بِذَلِكَ الدِّيوَان) هُوَ بِكَسْرِ الدَّال عَلَى الْمَشْهُور، وَحُكِيَ فَتْحهَا، وَهُوَ فَارِسِيّ مُعْرَب، وَقِيلَ: عَرَبِيّ.
قَوْله: «فَقَلَّ رَجُل يُرِيد أَنْ يَتَغَيَّب يَظُنّ أَنَّ ذَلِكَ سَيَخْفَى لَهُ مَا لَمْ يَنْزِل فيه وَحْي مِنْ اللَّه تَعَالَى» قَالَ الْقَاضِي: هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيع نُسَخ مُسْلِم، وَصَوَابه أَلَّا يَظُنّ أَنَّ ذَلِكَ سَيَخْفَى لَهُ بِزِيَادَةِ (أَلَّا) وَكَذَا رَوَاهُ الْبُخَارِيّ.
(فَأَنَا إِلَيْهَا أَصْعَر) أَيْ: أَمِيل.
قَوْله: (حَتَّى اِسْتَمَرَّ بِالنَّاسِ الْجِدّ) بِكَسْرِ الْجِيم.
قَوْله: (وَلَمْ أَقْضِ مِنْ جِهَازِي شَيْئًا) بِفَتْحِ الْجِيم وَكَسْرهَا، أَيْ: أُهْبَة سَفَرِي.
قَوْله: (تَفَارَطَ الْغَزْو) أَيْ: تَقَدَّمَ الْغُزَاة وَسَبَقُوا وَفَاتُوا.
قَوْله: (رَجُلًا مَغْمُوصًا عَلَيْهِ فِي النِّفَاق) أَيْ: مُتَّهَمًا بِهِ، وَهُوَ بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَة وَالصَّاد الْمُهْمَلَة.
قَوْله: (وَلَمْ يَذْكُرنِي حَتَّى بَلَغَ تَبُوكًا) هَكَذَا هُوَ فِي أَكْثَر النُّسَخ (تَبُوكَا) بِالنَّصْبِ، وَكَذَا هُوَ فِي نُسَخ الْبُخَارِيّ، وَكَأَنَّهُ صَرَفَهَا لِإِرَادَةِ الْمَوْضِع دُون الْبُقْعَة.
قَوْله: (وَالنَّظَر فِي عِطْفيه) أَيْ: جَانِبَيْهِ، وَهُوَ إِشَارَة إِلَى إِعْجَابه بِنَفْسِهِ وَلِبَاسه.
قَوْله: (فَقَالَ لَهُ مَعَاذ بْن جَبَل: بِئْسَ مَا قُلْت) هَذَا دَلِيل لِرَدِّ غِيبَة الْمُسْلِم الَّذِي لَيْسَ بِمُتَهَتِّكٍ فِي الْبَاطِل، وَهُوَ مِنْ مُهِمَّات الْآدَاب وَحُقُوق الْإِسْلَام.
قَوْله: (رَأَى رَجُلًا مُبَيِّضًا يَزُول بِهِ السَّرَاب) الْمُبَيِّض بِكَسْرِ الْيَاء هُوَ لَابِس الْبَيَاض، وَيُقَال: هُمْ الْمُبَيِّضَة وَالْمُسَوِّدَة بِالْكَسْرِ فيهمَا، أَيْ: لَابِسُو الْبَيَاض وَالسَّوَاد، وَيَزُول بِهِ السَّرَاب، أَيْ يَتَحَرَّك وَيَنْهَض، وَالسَّرَاب هُوَ مَا يَظْهَر لِلْإِنْسَانِ فِي الْهَوَاجِر فِي الْبَرَارِيّ كَأَنَّهُ مَاء.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُنَّ أَبَا خَيْثَمَة» قِيلَ مَعْنَاهُ أَنْتَ أَبُو خَيْثَمَة قَالَ ثَعْلَب: الْعَرَب تَقُول: كُنْ زَيْدًا، أَيْ: أَنْتَ زَيْد، قَالَ الْقَاضِي عِيَاض: وَالْأَشْبَه عِنْدِي أَنَّ (كُنْ) هُنَا لِلتَّحَقُّقِ وَالْوُجُود، أَيْ: لِتُوجَد يَا هَذَا الشَّخْص أَبَا خَيْثَمَة حَقِيقَة، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الْقَاضِي هُوَ الصَّوَاب، وَهُوَ مَعْنَى قَوْل صَاحِب التَّحْرِير تَقْدِيره: اللَّهُمَّ اِجْعَلْهُ أَبَا خَيْثَمَة، وَأَبُو خَيْثَمَة هَذَا اِسْمه (عَبْد اللَّه بْن خَيْثَمَة) وَقِيلَ (مَالِك بْن قَيْس) قَالَ بَعْض الْحُفَّاظ: وَلَيْسَ فِي الصَّحَابَة مَنْ يُكْنَى أَبَا خَيْثَمَة إِلَّا اِثْنَانِ أَحَدهمَا: هَذَا، وَالثَّانِي: عَبْد الرَّحْمَن بْن أَبِي سَبْرَة الْجُعْفِيّ.
قَوْله: (لَمَزَهُ الْمُنَافِقُونَ) أَيْ: عَابُوهُ وَاحْتَقَرُوهُ.
قَوْله: (تَوَجَّهَ قَافِلًا) أَيْ: رَاجِعًا.
قَوْله: (حَضَرَنِي بَثِّي) أَيْ: أَشَدُّ الْحُزْن.
قَوْله: (قَدْ أَظَلَّ قَادِمًا زَاحَ عَنِّي الْبَاطِل) فَقَوْله (أَظَلَّ) بِالظَّاءِ الْمُعْجَمَة، أَيْ: أَقْبَلَ وَدَنَا قُدُومه كَأَنَّهُ أَلْقَى عَلَيَّ ظِلُّهُ، وَزَاحَ: أَيْ زَالَ.
قَوْله: (فَأَجْمَعْت صِدْقه) أَيْ: عَزَمْت عَلَيْهِ، يُقَال: أَجْمَعَ أَمْره وَعَلَى أَمْره وَعَزَمَ عَلَيْهِ بِمَعْنًى.
قَوْله: (لَقَدْ أُعْطِيت جَدَلًا) أَيْ: فَصَاحَة وَقُوَّة فِي الْكَلَام وَبَرَاعَة، بِحَيْثُ أَخْرُج عَنْ عُهْدَة مَا يُنْسَب إِلَيَّ إِذَا أَرَدْت.
قَوْله: (تَبَسَّمَ تَبَسُّم الْمُغْضَب) هُوَ بِفَتْحِ الضَّاد، أَيْ الْغَضْبَان.
قَوْله: (لَيُوشِكَنَّ) هُوَ بِكَسْرِ الشِّين، أَيْ: لَيُسْرِعَنَّ.
قَوْله: (تَجِد عَلَيَّ فيه) هُوَ بِكَسْرِ الْجِيم وَتَخْفِيف الدَّال، أَيْ: تَغْضَب.
قَوْله: (إِنِّي لَأَرْجُوَ فيه عُقْبَى اللَّه) أَيْ: أَنْ يُعْقِبَنِي خَيْرًا وَأَنْ يُثَبِّتنِي عَلَيْهِ.
قَوْله: (فَوَاَللَّهِ مَا زَالُوا يُؤَنِّبُونَنِي) هُوَ بِهَمْزٍ بَعْد الْيَاء ثُمَّ نُون ثُمَّ مُوَحَّدَة، أَيْ: يَلُومُونَنِي أَشَدّ اللَّوْم.
قَوْله: (فِي الرَّجُلَيْنِ صَاحِبَيْ كَعْب هُمَا مُرَارَة بْن رَبِيعَة الْعَامِرِيّ) هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيع نُسَخ مُسْلِم. (الْعَامِرِيّ) وَأَنْكَرَهُ الْعُلَمَاء وَقَالُوا: هُوَ غَلَط إِنَّمَا صَوَابه (الْعُمْرِيّ) بِفَتْحِ الْعَيْن وَإِسْكَان الْمِيم مِنْ بَنِي عَمْرو بْن عَوْف، وَكَذَا ذَكَرَهُ الْبُخَارِيّ، وَكَذَا نَسَبَهُ مُحَمَّد بْن إِسْحَاق وَابْن عَبْد الْبَرّ وَغَيْرهمَا مِنْ الْأَئِمَّة، قَالَ الْقَاضِي: هُوَ الصَّوَاب، وَإِنْ كَانَ الْقَابِسِيّ قَدْ قَالَ: لَا أَعْرِفهُ إِلَّا الْعَامِرِيّ، فَاَلَّذِي غَيَّرَهُ الْجُمْهُور أَصَحُّ، وَأَمَّا قَوْله (مُرَارَة بْن رَبِيعَة). فَكَذَا وَقَعَ فِي نُسَخ مُسْلِم، وَكَذَا نَقَلَهُ الْقَاضِي عَنْ نُسَخ مُسْلِم، وَوَقَعَ فِي الْبُخَارِيّ (اِبْن الرَّبِيع) قَالَ اِبْن عَبْد الْبَرّ: يُقَال بِالْوَجْهَيْنِ، وَمُرَارَة بِضَمِّ الْمِيم وَتَخْفِيف الرَّاء الْمُكَرَّرَة.
قَوْله: (وَهِلَال بْن أُمَيَّة الْوَاقِفِيّ) هُوَ بِقَافٍ ثُمَّ فَاء مَنْسُوب إِلَى وَاقِف بَطْن مِنْ الْأَنْصَار، وَهُوَ هِلَال بْن أُمَيَّة بْن عَامِر بْن قَيْس بْن عَبْد الْأَعْلَى بْن عَامِر بْن كَعْب بْن وَاقِف، وَاسْم وَاقِف: مَالِك بْن اِمْرِئِ الْقَيْس بْن مَالِك بْن الْأَوْس الْأَنْصَارِيّ.
قَوْله: (وَنَهَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ كَلَامنَا أَيّهَا الثَّلَاثَة) قَالَ الْقَاضِي: هُوَ بِالرَّفْعِ وَمَوْضِعه نَصْب عَلَى الِاخْتِصَاص، قَالَ سِيبَوَيْهِ نَقْلًا عَنْ الْعَرَب: اللَّهُمَّ اِغْفِرْ لَنَا أَيَّتهَا الْعِصَابَة، وَهَذَا مِثْله وَفِي هَذَا هِجْرَان أَهْل الْبِدَع وَالْمَعَاصِي.
قَوْله: (حَتَّى تَنَكَّرَتْ لِي فِي نَفْسِي الْأَرْض، فَمَا هِيَ بِالْأَرْضِ الَّتِي أَعْرِف) مَعْنَاهُ: تَغَيَّرَ عَلَيَّ كُلّ شَيْء حَتَّى الْأَرْض، فَإِنَّهَا تَوَحَّشَتْ عَلَيَّ وَصَارَتْ كَأَنَّهَا أَرْض لَمْ أَعْرِفهَا لِتَوَحُّشِهَا عَلَيَّ.
قَوْله: (فَأَمَّا صَاحِبَايَ فَاسْتَكَانَا) أَيْ: خَضَعَا.
قَوْله: (أَشَبّ الْقَوْم وَأَجْلَدهمْ) أَيْ: أَصْغَرهمْ سِنًّا وَأَقْوَاهُمْ.
قَوْله: (تَسَوَّرْت جِدَار حَائِط أَبِي قَتَادَةَ) مَعْنَى (تَسَوَّرْته): عَلَوْته وَصَعِدْت سُورَهُ، وَهُوَ أَعْلَاهُ. وَفيه: دَلِيل لِجَوَازِ دُخُول الْإِنْسَان بُسْتَان صَدِيقه وَقَرِيبه الَّذِي يَدُلّ عَلَيْهِ، وَيَعْرِف أَنَّهُ لَا يَكْرَه لَهُ ذَلِكَ بِغَيْرِ إِذْنه، بِشَرْطِ أَنْ يَعْلَم أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ هُنَاكَ زَوْجَة مَكْشُوفَة وَنَحْو ذَلِكَ.
قَوْله: (فَسَلَّمْت عَلَيْهِ فَوَاَللَّهِ مَا رَدَّ عَلَيَّ السَّلَام) لِعُمُومِ النَّهْي عَنْ كَلَامِهِمْ. وَفيه: أَنَّهُ لَا يُسَلَّمُ عَلَى الْمُبْتَدِعَة وَنَحْوهمْ. وَفيه: أَنَّ السَّلَام كَلَام، وَأَنَّ مَنْ حَلَفَ لَا يُكَلِّم إِنْسَانًا فَسَلَّمَ عَلَيْهِ أَوْ رَدَّ عَلَيْهِ السَّلَام حَنِثَ.
قَوْله: (أَنْشُدك بِاَللَّهِ) هُوَ بِفَتْحِ الْهَمْزَة وَضَمِّ الشِّين، أَيْ: أَسْأَلك اللَّه، وَأَصْله مِنْ النَّشِيد وَهُوَ الصَّوْت.
قَوْله: (اللَّه وَرَسُوله أَعْلَم) قَالَ الْقَاضِي: لَعَلَّ أَبَا قَتَادَةَ لَمْ يَقْصِد بِهَذَا تَكْلِيمه لِأَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْ كَلَامه، وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لِنَفْسِهِ لَمَّا نَاشَدَهُ اللَّه، فَقَالَ أَبُو قَتَادَةَ مُظْهِرًا لِاعْتِقَادِهِ لَا لِيَسْمَعهُ، وَلَوْ حَلَفَ رَجُل لَا يُكَلِّم رَجُلًا فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْء فَقَالَ: اللَّه أَعْلَم يُرِيد إِسْمَاعه وَجَوَابه حَنِثَ.
قَوْله: (نَبَطِيّ مِنْ نَبَط أَهْل الشَّام) يُقَال: النَّبَط وَالْأَنْبَاط وَالنَّبِيط وَهُمْ فَلَّاحُو الْعَجَم.
قَوْله: (وَلَمْ يَجْعَلك اللَّه بِدَارِ هَوَان وَلَا مَضْيَعَة، فَالْحَقْ بِنَا نُوَاسِك) الْمَضْيَعَة فيها لُغَتَانِ إِحْدَاهُمَا: كَسْر الضَّاد وَإِسْكَان الْيَاء، وَالثَّانِيَة: بِإِسْكَانِ الضَّاد وَفَتْح الْيَاء أَيْ: فِي مَوْضِع رِحَال يُضَاع فيه حَقّك، وَقَوْله (نُوَاسِك) وَفِي بَعْض النُّسَخ (نُوَاسِيك) بِزِيَادَةِ يَاء وَهُوَ صَحِيح، أَيْ: وَنَحْنُ نُوَاسِيك، وَقَطَعَهُ عَنْ جَوَاب الْأَمْر وَمَعْنَاهُ نُشَارِكك فِيمَا عِنْدَنَا.
قَوْله: (فَتَيَامَمْت بِهَا التَّنُّور فَسَجَرْتهَا) هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيع النُّسَخ بِبِلَادِنَا، وَهِيَ لُغَة فِي تَيَمَّمْت، وَمَعْنَاهُمَا قَصَدْت، وَمَعْنَى: «سَجَرْتهَا» أَيْ: أَحْرَقْتهَا، وَأَنَّثَ الضَّمِير لِأَنَّهُ أَرَادَ مَعْنَى الْكِتَاب وَهُوَ الصَّحِيفَة.
قَوْله: (وَاسْتَلْبَثَ الْوَحْي) أَيْ: أَبْطَأَ.
قَوْله: (فَقُلْت لِامْرَأَتِي: اِلْحَقِي بِأَهْلِك فَكُونِي عِنْدهمْ حَتَّى يَقْضِي اللَّه فِي هَذَا الْأَمْر) هَذَا دَلِيل عَلَى أَنَّ هَذَا اللَّفْظ لَيْسَ صَرِيحًا فِي الطَّلَاق، وَإِنَّمَا هُوَ كِنَايَة، وَلَمْ يَنْوِ بِهِ الطَّلَاق فَلَمْ يَقَع.
قَوْله: (وَأَنَا رَجُل شَابّ) يَعْنِي أَنِّي قَادِر عَلَى خِدْمَة نَفْسِي، وَأَخَاف أَيْضًا عَلَى نَفْسِي مِنْ حِدَة الشَّبَاب إِنْ أَصَبْت اِمْرَأَتِي، وَقَدْ نُهِيت عَنْهَا.
قَوْله: (فَكَمُلَ لَنَا خَمْسُونَ) هُوَ بِفَتْحِ الْمِيم وَضَمّهَا وَكَسْرهَا.
قَوْله: (وَضَاقَتْ عَلَيَّ الْأَرْض بِمَا رَحُبَتْ) أَيْ: بِمَا اِتَّسَعَتْ، وَمَعْنَاهُ: ضَاقَتْ عَلَيَّ الْأَرْض مَعَ أَنَّهَا مُتَّسِعَة، وَالرَّحْب: السَّعَة.
قَوْله: (سَمِعْت صَارِخًا أَوْفَى عَلَى سَلْع) أَيْ: صَعَده، وَارْتَفَعَ عَلَيْهِ، و(سَلْع) بِفَتْحِ السِّين الْمُهْمَلَة وَإِسْكَان اللَّام، وَهُوَ: جَبَل بِالْمَدِينَةِ مَعْرُوف.
قَوْله: (يَا كَعْب بْن مَالِك أَبْشِرْ) وَقَوْله: (فَذَهَبَ النَّاس يُبَشِّرُونَنَا) فيه: دَلِيل لِاسْتِحْبَابِ التَّبْشِير وَالتَّهْنِئَة لِمَنْ تَجَدَّدَتْ لَهُ نِعْمَة ظَاهِرَة، أَوْ اِنْدَفَعَتْ عَنْهُ كُرْبَة شَدِيدَة، وَنَحْو ذَلِكَ، وَهَذَا الِاسْتِحْبَاب عَامّ فِي كُلّ نِعْمَة حَصَلَتْ، وَكُرْبَة اِنْكَشَفَتْ، سَوَاء كَانَتْ مِنْ أُمُور الدِّين أَوْ الدُّنْيَا.
قَوْله: (فَخَرَرْت سَاجِدًا) دَلِيل لِلشَّافِعِيِّ وَمُوَافِقِيهِ فِي اِسْتِحْبَاب سُجُود الشُّكْر بِكُلِّ نِعْمَة ظَاهِرَة حَصَلَتْ، أَوْ نِقْمَة ظَاهِرَة اِنْدَفَعَتْ.
قَوْله: (فَآذَنَ النَّاس) أَيْ: أَعْلَمَهُمْ.
قَوْله: (فَنَزَعْت لَهُ ثَوْبَيَّ فَكَسَوْتهمَا إِيَّاهُ بِبِشَارَتِهِ) فيه: اِسْتِحْبَاب إِجَازَة الْبَشِير بِخُلْعَةٍ، وَإِلَّا فَبِغَيْرِهَا، وَالْخُلْعَة أَحْسَن، وَهِيَ الْمُعْتَادَة.
قَوْله: (وَاسْتَعَرْت ثَوْبَيْنِ فَلَبِسْتُهُمَا) فيه: جَوَاز الْعَارِيَّة، وَجَوَاز إِعَارَة الثَّوْب لِلُّبْسِ.
قَوْله: (فَانْطَلَقْت أَتَأَمَّم رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَلَقَّانِي النَّاس فَوْجًا فَوْجًا) أَتَأَمَّم: أَقْصِد، وَالْفَوْج: الْجَمَاعَة.
قَوْله: (فَقَامَ طَلْحَة بْن عُبَيْد اللَّه يُهَرْوِل حَتَّى صَافَحَنِي وَهَنَّأَنِي) فيه اِسْتِحْبَاب مُصَافَحَة الْقَادِم، وَالْقِيَام لَهُ إِكْرَامًا، وَالْهَرْوَلَة إِلَى لِقَائِهِ بَشَاشَة وَفَرَحًا.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَبْشِرْ بِخَيْرِ يَوْم مَرَّ عَلَيْك مُنْذُ وَلَدَتْك أُمّك» مَعْنَاهُ: سِوَى يَوْم إِسْلَامك إِنَّمَا لَمْ يَسْتَثْنِهِ؛ لِأَنَّهُ مَعْلُوم لابد مِنْهُ.
قَوْله: «إِنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَنْ أَنْخَلِع مِنْ مَالِي صَدَقَة إِلَى اللَّه وَإِلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَمْسِكْ بَعْض مَالِك فَهُوَ خَيْر لَك» مَعْنَى (أَنْخَلِع مِنْهُ) أَخْرُج مِنْهُ وَأَتَصَدَّق بِهِ. وَفيه: اِسْتِحْبَاب الصَّدَقَة شُكْرًا لِلنِّعَمِ الْمُتَجَدِّدَة لاسيما مَا عَظُمَ مِنْهَا، وَإِنَّمَا أَمَرَهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالِاقْتِصَارِ عَلَى الصَّدَقَة بِبَعْضِهِ خَوْفًا مِنْ تَضَرُّره بِالْفَقْرِ، وَخَوْفًا أَلَّا يَصْبِر عَلَى الْإِضَاقَة، وَلَا يُخَالِف هَذَا صَدَقَة أَبِي بَكْر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ بِجَمِيعِ مَاله، فَإِنَّهُ كَانَ صَابِرًا رَاضِيًا، فَإِنْ قِيلَ: كَيْف قَالَ أَنْخَلِع مِنْ مَالِي فَأَثْبَتَ لَهُ مَالًا، مَعَ قَوْله أَوَّلًا نَزَعْت ثَوْبَيَّ وَاَللَّه مَا أَمْلِك غَيْرهمَا؟ فَالْجَوَاب أَنَّ الْمُرَاد بِقَوْلِهِ أَنْ أَنْخَلِع مِنْ مَالِي الْأَرْض وَالْعَقَار، وَلِهَذَا قَالَ: فَإِنِّي أَمْسِك سَهْمِي الَّذِي بِخَيْبَر، وَأَمَّا قَوْله: مَا أَمْلِك غَيْرهمَا فَالْمُرَاد بِهِ مِنْ الثِّيَاب وَنَحْوهَا مِمَّا يُخْلَع وَيَلِيق بِالْبَشِيرِ. وَفيه: دَلِيل عَلَى تَخْصِيص الْيَمِين بِالنِّيَّةِ، وَهُوَ مَذْهَبنَا، فَإِذَا حَلَفَ لَا مَال لَهُ وَنَوَى نَوْعًا لَمْ يَحْنَث بِنَوْعٍ آخَر مِنْ الْمَال، أَوْ لَا يَأْكُل وَنَوَى تَمْرًا لَمْ يَحْنَث بِالْخُبْزِ.
قَوْله: (فَوَاَللَّهِ مَا عَلِمْت أَحَدًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَبْلَاهُ اللَّه تَعَالَى فِي صِدْق الْحَدِيث أَحْسَن مِمَّا أَبْلَانِي) أَيْ: أَنْعَمَ عَلَيْهِ، وَالْبَلَاء وَالْإِبْلَاء يَكُون فِي الْخَيْر وَالشَّرّ، لَكِنْ إِذَا أَطْلَقَ كَانَ لِلشَّرِّ غَالِبًا، فَإِذَا أُرِيدَ الْخَيْر قُيِّدَ، كَمَا قَيَّدَهُ هُنَا، فَقَالَ: أَحْسَنَ مِمَّا أَبْلَانِي.
قَوْله: (وَاَللَّه مَا تَعَمَّدْت كَذْبَة) هِيَ بِإِسْكَانِ الذَّال وَكَسْرهَا.
قَوْله: (مَا أَنْعَمَ اللَّه عَلَيَّ مِنْ نِعْمَة قَطُّ بَعْد إِذْ هَدَانِي لِلْإِسْلَامِ أَعْظَم فِي نَفْسِي مِنْ صِدْقِي رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلَّا أَكُون كَذَبْته فَأَهْلِك) هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيع نُسَخ مُسْلِم وَكَثِير مِنْ رِوَايَات الْبُخَارِيّ قَالَ الْعُلَمَاء: لَفْظه (لَا) فِي قَوْله (أَلَّا أَكُون) زَائِدَة، وَمَعْنَاهُ: أَنْ أَكُون كَذَبْته، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا مَنَعَك أَلَّا تَسْجُد إِذْ أَمَرْتُك} وَقَوْله: (فَأَهْلِك) بِكَسْرِ اللَّام عَلَى الْفَصِيح الْمَشْهُور، وَحُكِيَ فَتْحهَا وَهُوَ شَاذّ ضَعِيف.
قَوْله: (وَإِرْجَاؤُهُ أَمْرنَا) أَيْ: تَأْخِيره.
قَوْله: (فِي رِوَايَة اِبْن أَخِي الزُّهْرِيّ عَنْ عَمّه عَنْ عَبْد الرَّحْمَن بْن عَبْد اللَّه بْن كَعْب عَنْ عُبَيْد اللَّه بْن كَعْب) كَذَا قَالَهُ فِي هَذِهِ الرِّوَايَة (عُبَيْد اللَّه) بِضَمِّ الْعَيْن مُصَغَّر وَكَذَا قَالَهُ فِي الرِّوَايَة الَّتِي بَعْدهَا رِوَايَة مَعْقِل بْن عُبَيْد اللَّه عَنْ الزُّهْرِيّ عَنْ عَبْد الرَّحْمَن عَنْ عُبَيْد اللَّه بْن كَعْب مُصَغَّر، وَقَالَ قَبْلهمَا فِي رِوَايَة يُونُس الْمَذْكُور أَوَّل الْحَدِيث عَنْ الزُّهْرِيّ عَنْ عَبْد اللَّه بْن كَعْب بِفَتْحِ الْعَيْن مُكَبَّر، وَكَذَا قَالَ فِي رِوَايَة عُقَيْل عَنْ الزُّهْرِيّ عَنْ عَبْد اللَّه بْن كَعْب مُكَبَّر، قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: الصَّوَاب رِوَايَة مَنْ قَالَ: عَبْد اللَّه بِفَتْحِ الْعَيْن مُكَبَّر، وَلَمْ يَذْكُر الْبُخَارِيّ فِي الصَّحِيح إِلَّا رِوَايَة عَبْد اللَّه مُكَبَّر مَعَ تَكْرَاره الْحَدِيث.
قَوْله: (قَلَّمَا يُرِيد غَزْوَة إِلَّا وَرَّى بِغَيْرِهَا) أَيْ أَوْهَمَ غَيْرهَا، وَأَصْله مِنْ وَرَاء كَأَنَّهُ جَعَلَ الْبَيَان وَرَاء ظَهْره.
قَوْله: (وَكَانَ أَوْعَاهُمْ لِأَحَادِيث أَصْحَاب رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَيْ: أَحْفَظهُمْ.
قَوْله: (لَمْ يَتَخَلَّف عَنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَة غَزَاهَا قَطُّ غَيْر غَزْوَتَيْنِ) الْمُرَاد بِهِمَا: غَزْوَة بَدْر، وَغَزْوَة تَبُوك، كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الرِّوَايَة الْأُولَى.
قَوْله: (وَغَزَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَاسٍ كَثِير يَزِيدُونَ عَلَى عَشْرَة آلَاف) هَكَذَا وَقَعَ هُنَا زِيَادَة عَلَى عَشْرَة آلَاف، وَلَمْ يُبَيِّن قَدْرهَا وَقَدْ قَالَ أَبُو زُرْعَة الرَّازِيُّ: كَانُوا سَبْعِينَ أَلْفًا، وَقَالَ اِبْن إِسْحَاق: كَانُوا ثَلَاثِينَ أَلْفًا، وَهَذَا أَشْهَر، وَجَمَعَ بَيْنهمَا بَعْض الْأَئِمَّة بِأَنَّ أَبَا زُرْعَة عَدَّ التَّابِع وَالْمَتْبُوع وَابْن إِسْحَاق عَدَّ الْمَتْبُوع فَقَطْ. وَاَللَّه أَعْلَم.
وَاعْلَمْ أَنَّ فِي حَدِيث كَعْب هَذَا رَضِيَ اللَّه عَنْهُ فَوَائِد كَثِيرَة.
إِحْدَاهَا: إِبَاحَة الْغَنِيمَة لِهَذِهِ الْأُمَّة؛ لِقَوْلِهِ: خَرَجُوا يُرِيدُونَ عِير قُرَيْش.
الثَّانِيَة: فَضِيلَة أَهْل بَدْر وَأَهْل الْعَقَبَة.
الثَّالِثَة: جَوَاز الْحَلِف مِنْ غَيْر اِسْتِحْلَاف فِي غَيْر الدَّعْوَى عِنْد الْقَاضِي.
الرَّابِعَة: أَنَّهُ يَنْبَغِي لِأَمِيرِ الْجَيْش إِذَا أَرَادَ غَزْوَة أَنْ يُوَرِّي بِغَيْرِهَا، لِئَلَّا يَسْبِقهُ الْجَوَاسِيس وَنَحْوهمْ بِالتَّحْذِيرِ، إِلَّا إِذَا كَانَتْ سُفْرَة بَعِيدَة، فَيُسْتَحَبّ أَنْ يُعَرِّفهُمْ الْبُعْد لِيَتَأَهَّبُوا.
الْخَامِسَة: التَّأَسُّف عَلَى مَا فَاتَ مِنْ الْخَيْر، وَتَمَنِّي الْمُتَأَسِّف أَنَّهُ كَانَ فَعَلَهُ، لِقَوْلِهِ: فَيَا لَيْتَنِي فَعَلْت.
السَّادِسَة: رَدُّ غِيبَة الْمُسْلِم لِقَوْلِ مُعَاذ: بِئْسَ مَا قُلْت.
السَّابِعَة: فَضِيلَة الصِّدْق وَمُلَازَمَته، وَإِنْ كَانَ فيه مَشَقَّة، فَإِنَّ عَاقِبَته خَيْر، وَإِنَّ الصِّدْق يَهْدِي إِلَى الْبِرّ، وَالْبِرّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّة، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيح.
الثَّامِنَة: اِسْتِحْبَاب صَلَاة الْقَادِم مِنْ سَفَر رَكْعَتَيْنِ فِي مَسْجِد مَحَلَّته أَوَّل قُدُومه قَبْل كُلّ شَيْء.
التَّاسِعَة: أَنَّهُ يُسْتَحَبّ لِلْقَادِمِ مِنْ سَفَر إِذَا كَانَ مَشْهُورًا يَقْصِدهُ النَّاس لِسَلَامٍ عَلَيْهِ، أَنْ يَقْعُد لَهُمْ فِي مَجْلِس بَارِز، هَيِّن الْوُصُول إِلَيْهِ.
الْعَاشِرَة: الْحُكْم بِالظَّاهِرِ، وَاَللَّه يَتَوَلَّى السَّرَائِر، وَقَبُول مَعَاذِير الْمُنَافِقِينَ وَنَحْوهمْ، مَا لَمْ يَتَرَتَّب عَلَى ذَلِكَ مَفْسَدَة.
الْحَادِيَة عَشَرَ: اِسْتِحْبَاب هِجْرَان أَهْل الْبِدَع وَالْمَعَاصِي الظَّاهِرَة، وَتَرْك السَّلَام عَلَيْهِمْ، وَمُقَاطَعَتهمْ تَحْقِيرًا لَهُمْ وَزَجْرًا.
الثَّانِيَة عَشَرَ: اِسْتِحْبَاب بُكَائِهِ عَلَى نَفْسه إِذَا وَقَعَتْ مِنْهُ مَعْصِيَة.
الثَّالِثَة عَشَرَ: أَنَّ مُسَارَقَة النَّظَر فِي الصَّلَاة وَالِالْتِفَات لَا يُبْطِلهَا.
الرَّابِعَة عَشَرَ: أَنَّ السَّلَام يُسَمَّى كَلَامًا، وَكَذَلِكَ رَدُّ السَّلَام، وَأَنَّ مَنْ حَلَفَ لَا يُكَلِّم إِنْسَانًا فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، أَوْ رَدَّ عَلَيْهِ السَّلَام، يَحْنَث.
الْخَامِسَة عَشَرَ: وُجُوب إِيثَار طَاعَة اللَّه وَرَسُوله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَوَدَّة الصَّدِيق وَالْقَرِيب وَغَيْرهمَا، كَمَا فَعَلَ أَبُو قَتَادَةَ حِين سَلَّمَ عَلَيْهِ كَعْب، فَلَمْ يَرُدّ عَلَيْهِ حِين نَهَى عَنْ كَلَامه.
السَّادِسَة عَشَرَ: أَنَّهُ إِذَا حَلَفَ لَا يُكَلِّم إِنْسَانًا فَتَكَلَّمَ، وَلَمْ يَقْصِد كَلَامه بَلْ قَصَدَ غَيْره، فَسَمِعَ الْمَحْلُوف عَلَيْهِ لَمْ يَحْنَث الْحَالِف؛ لِقَوْلِهِ: اللَّه أَعْلَم: فَإِنَّهُ مَحْمُول عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَقْصِد كَلَامه كَمَا سَبَقَ.
السَّابِعَة عَشَرَ: جَوَاز إِحْرَاق وَرَقَة فيها ذِكْر اللَّه تَعَالَى لِمَصْلَحَةٍ، كَمَا فَعَلَ عُثْمَان وَالصَّحَابَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ بِالْمَصَاحِفِ الَّتِي هِيَ غَيْر مُصْحَفِهِ الَّذِي أَجْمَعَتْ الصَّحَابَة عَلَيْهِ، وَكَانَ ذَلِكَ صِيَانَة، فَهِيَ حَاجَة وَمَوْضِع الدَّلَالَة مِنْ حَدِيث كَعْب، أَنَّهُ أَحْرَقَ الْوَرَقَة، وَفيها: لَمْ يَجْعَلك اللَّه بِدَارِ هَوَان.
الثَّامِنَة عَشَرَ: إِخْفَاء مَا يُخَاف مِنْ إِظْهَاره مَفْسَدَة وَإِتْلَاف.
التَّاسِعَة عَشَرَ، أَنَّ قَوْله لِامْرَأَتِهِ: اِلْحَقِي بِأَهْلِك لَيْسَ بِصَرِيحِ طَلَاق، وَلَا يَقَع بِهِ شَيْء إِذَا لَمْ يَنْوِ.
الْعِشْرُونَ: جَوَاز خِدْمَة الْمَرْأَة زَوْجهَا بِرِضَاهَا، وَذَلِكَ جَائِز لَهُ بِالْإِجْمَاعِ، فَأَمَّا إِلْزَامهَا بِذَلِكَ فَلَا.
الْحَادِيَة وَالْعِشْرُونَ: اِسْتِحْبَاب الْكِنَايَات فِي أَلْفَاظ الِاسْتِمْتَاع بِالنِّسَاءِ وَنَحْوهَا.
الثَّانِيَة وَالْعِشْرُونَ: الْوَرَع وَالِاحْتِيَاط بِمُجَانَبَةِ مَا يُخَاف مِنْهُ الْوُقُوع فِي مَنْهِيّ عَنْهُ، لِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَأْذِن فِي خِدْمَة اِمْرَأَته لَهُ، وَعَلَّلَ بِأَنَّهُ شَابّ، أَيْ لَا يَأْمَن مُوَاقَعَتهَا، وَقَدْ نُهِيَ عَنْهَا.
الثَّالِثَة وَالْعِشْرُونَ: اِسْتِحْبَاب سُجُود الشُّكْر عِنْد تَجَدُّد نِعْمَة ظَاهِرَة، أَوْ اِنْدِفَاع بَلِيَّة ظَاهِرَة، وَهُوَ مَذْهَب الشَّافِعِيّ وَطَائِفَة، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة وَطَائِفَة: لَا يُشْرَع.
الرَّابِعَة وَالْعِشْرُونَ: اِسْتِحْبَاب التَّبْشِير بِالْخَيْرِ.
الْخَامِسَة وَالْعِشْرُونَ: اِسْتِحْبَاب تَهْنِئَة مَنْ رَزَقَهُ اللَّه خَيْرًا ظَاهِرًا، أَوْ صَرَفَ عَنْهُ شَرًّا ظَاهِرًا.
السَّادِسَة وَالْعِشْرُونَ: اِسْتِحْبَاب إِكْرَام الْمُبَشِّر بِخُلْعَةٍ أَوْ نَحْوهَا.
السَّابِعَة وَالْعِشْرُونَ: أَنَّهُ يَجُوز تَخْصِيص الْيَمِين بِالنِّيَّةِ، فَإِذَا حَلَفَ لَا مَال لَهُ وَنَوَى نَوْعًا لَمْ يَحْنَث بِنَوْعٍ مِنْ الْمَال غَيْره، وَإِذَا حَلَفَ لَا يَأْكُل، وَنَوَى خُبْزًا، لَمْ يَحْنَث بِاللَّحْمِ وَالتَّمْر وَسَائِر الْمَأْكُول، وَلَا يَحْنَث إِلَّا بِذَلِكَ النَّوْع، وَكَذَلِكَ لَوْ حَلَفَ لَا يُكَلِّم زَيْدًا، وَنَوَى كَلَامًا مَخْصُوصًا لَمْ يَحْنَث بِتَكْلِيمِهِ إِيَّاهُ غَيْر ذَلِكَ الْكَلَام الْمَخْصُوص، وَهَذَا كُلّه مُتَّفَق عَلَيْهِ عِنْد أَصْحَابنَا، وَدَلِيله مِنْ هَذَا الْحَدِيث قَوْله فِي الثَّوْبَيْنِ: وَاَللَّه مَا أَمْلِك غَيْرهمَا، ثُمَّ قَالَ بَعْده فِي سَاعَة: إِنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَنْ أَنْخَلِع مِنْ مَالِي صَدَقَة، ثُمَّ قَالَ: فَإِنِّي أَمْسِك سَهْمِي الَّذِي بِخَيْبَر.
الثَّامِنَة وَالْعِشْرُونَ: جَوَاز الْعَارِيَة.
التَّاسِعَة وَالْعِشْرُونَ: جَوَاز اِسْتِعَارَة الثِّيَاب لِلُّبْسِ.
الثَّلَاثُونَ: اِسْتِحْبَاب اِجْتِمَاع النَّاس عِنْد إِمَامهمْ وَكَبِيرهمْ فِي الْأُمُور الْمُهِمَّة مِنْ بِشَارَة وَمَشُورَة وَغَيْرهمَا.
الْحَادِيَة وَالثَّلَاثُونَ: اِسْتِحْبَاب الْقِيَام لِلْوَارِدِ إِكْرَامًا لَهُ إِذَا كَانَ مِنْ أَهْل الْفَضْل بِأَيِّ نَوْع كَانَ، وَقَدْ جَاءَتْ بِهِ أَحَادِيث جَمَعْتهَا فِي جُزْء مُسْتَقِلّ بِالتَّرْخِيصِ فيه، وَالْجَوَاب عَمَّا يُظَنّ بِهِ مُخَالِفًا لِذَلِكَ.
الثَّانِيَة وَالثَّلَاثُونَ: اِسْتِحْبَاب الْمُصَافَحَة عِنْد التَّلَاقِي وَهِيَ سُنَّة بِلَا خِلَاف.
الثَّالِثَة وَالثَّلَاثُونَ: اِسْتِحْبَاب سُرُور الْإِمَام وَكَبِير الْقَوْم بِمَا يَسُرّ أَصْحَابه وَأَتْبَاعه.
الرَّابِعَة وَالثَّلَاثُونَ: أَنَّهُ يُسْتَحَبّ لِمَنْ حَصَلَتْ لَهُ نِعْمَة ظَاهِرَة، أَوْ اِنْدَفَعَتْ عَنْهُ كُرْبَة ظَاهِرَة أَنْ يَتَصَدَّق بِشَيْءٍ صَالِح مِنْ مَاله شُكْرًا لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى إِحْسَانه، وَقَدْ ذَكَرَ أَصْحَابنَا أَنَّهُ يُسْتَحَبّ لَهُ سُجُود الشُّكْر وَالصَّدَقَة جَمِيعًا، وَقَدْ اِجْتَمَعَا فِي هَذَا الْحَدِيث.
الْخَامِسَة وَالثَّلَاثُونَ: أَنَّهُ يُسْتَحَبّ لِمَنْ خَافَ أَلَّا يَصْبِر عَلَى الْإِضَاقَة أَلَّا يَتَصَدَّق بِجَمِيعِ مَاله، بَلْ ذَلِكَ مَكْرُوه لَهُ.
السَّادِسَة وَالثَّلَاثُونَ: أَنَّهُ يُسْتَحَبّ لِمَنْ رَأَى مَنْ يُرِيد أَنْ يَتَصَدَّق بِكُلِّ مَاله وَيَخَاف عَلَيْهِ أَلَّا يَصْبِر عَلَى الْإِضَاقَة أَنْ يَنْهَاهُ عَنْ ذَلِكَ، وَيُشِير عَلَيْهِ بِبَعْضِهِ.
السَّابِعَة وَالثَّلَاثُونَ: أَنَّهُ يُسْتَحَبّ لِمَنْ تَابَ بِسَبَبٍ مِنْ الْخَيْر أَنْ يُحَافِظ عَلَى ذَلِكَ السَّبَب، فَهُوَ أَبْلَغ فِي تَعْظِيم حُرُمَات اللَّه، كَمَا فَعَلَ كَعْب فِي الصِّدْق، وَاَللَّه أَعْلَم.