فصل: بَابُ كَفَّارةِ اليَمينِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الهداية على مذهب الإمام أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل رضي الله عنه



.فَصلٌ: في آلة الصيد

فأمَّا الآلةُ فعلَى ضَربَينِ: جَوارِحُ، وَغيرُ جَوارِحَ فَالجوارِحُ ضَربَانِ: حَيوانٌ، وَمحدودٌ فَالجوارِحُ مِنَ الحيوانِ يحلُّ مِن صَيدِهَا ما اصطَادَتْهُ بعدَ تَعليمِهَا إلاّ الكَلبَ الأَسوَدَ البَهيمَ فلا يُباحُ صَيدُهُ بحالٍ نَصَّ عَليهِ وهي نَوعانِ: أَحدُهمَا: يصيدُ بنَابهِ كَالكَلْبِ وَالفَهدِ وَالنَّمرِ فَتعْليمُهُ يَحِلُّ بِثَلاثةِ أشياءَ أَنْ يَستَرسِلَ إذا أُرسِلَ، وَينـزَجِرَ إذا زُجِرَ وَإذا أَمسَكَ لَم يأكُلْ وَلا يُعتَبرُ تَكررُ ذلِكَ مِنهُ وَالثاني:- بمِخلابِهِ كَالبازِي والصَّقرِ والعُقابِ وَالشَّاهينِ فَتعليمُهُ بأَنْ يَستَرسِلَ إذا أَرسَلَهُ وإذا دعَاهُ رَجعَ إليهِ وَلا يُعتَبرُ في تَعَلُّمِهِ الأَكلُ وَعدمُهُ، فَإِنْ أَكَلَ ذو النَّابِ مِنْ صَيدٍ بَعدَ تَعلُّمِهِ لَم يَحرمْ ما تَقدمَ مِنْ صُيودِهِ وَهلْ يَحرمُ ما أَكلَ مِنهُ أَمْ لا؟ عَلى رِوايتَينِ وَإذا أَكلَ ذو المخَالبِ مِنْ صَيدهِ لَم يَحرمْ وإذا قَتَلَ الجارِحُ الصَيدَ بصَدمتِهِ أو خَنقِهِ لم يَحلَّ أكلُهُ وَقالَ ابنُ حَامدٍ: يَحلُّ أكلُه على ظاهِرِ كَلامِ أَحمدَ رَحمهُ اللهُ، وَإنْ جَرحَهُ فَماتَ أو بقِيتْ فيهِ حَياةٌ غيرُ مُستَقِرَّةٍ كَحَركَةِ المذبُوحِ فَلم يُذَكِّهِ حتى مَاتَ حَلَّ أكلُهُ وإنْ بقِيتْ فيهِ حَياةٌ يَجوزُ بَقاؤُهُ معَها مُعظمَ اليَومِ لم يَحِلَّ أَكلُه حَتى يُذبَحَ فَإنْ لم يجدْ مَا يَذبحُهُ فَأَشْلا الجارِحَ عَليهِ فقَتلهُ حَلَّ أَكلُهُ في أصَحِّ الرِوايتينِ وإنْ لم يَفعَلْ ذلكَ وتَركَهُ حَتى مَاتَ فقالَ: يُباحُ أَكلُهُ، وَعندِي لا يُبَاحُ أَكلُهُ، وَكَذلِكَ الَموقُوذَةُ والمتردِّيةُ والنَّطِيحَةُ وما أَكلَ السَبعُ إنْ لم يَكنْ فيها حَياةٌ إلاَّ كحَركَةِ المذَبوحِ لم تُبَحْ بِالذَّكَاةِ وإنْ كانَ فيها حَياةٌ يَجوزُ بَقَاؤُهَا مَعَها مُعظَمَ اليَومِ حَلَّتْ بالذَّبحِ، وما أَصَابهُ فَمُ الكَلبِ أو الفَهدِ أو النَّمرِ فَإِنهُ يَنجَسُ وَيجِبُ غَسلُهُ في أَحَدِ الوَجهينِ، وَالثاني لا يَجِبُ غَسلُهُ بل يُعفَى عَنهُ، وَأَمَّا الجَوارِحُ مِنَ المحدَودِ فكلما رَمَى بِهِ الصَيدَ فَجَرحَهُ وأَنهرَ دَمه حل أَكلُهُ إلاَّ السِنَّ وَالظُفرَ فإنه لا يُباحُ الصَيدُ بِهمَا، فَإنْ رَمَى الصَيدَ بِمحدَّدٍ فَقتلَهُ بثقلِهِ ولَم يجرحْهُ لم يحلَّ، وإنْ نَصبَ منَاجِلَ أو سَكاكينَ وسَمَّى فَجرحَتِ الصَّيدَ ومَاتَ أُبيحَ أكلُهُ، وإنْ رمى صَيدَاً أو ضَربَهُ فأَبَانَ منهُ عُضوا فإن بَقيَ فيهِ حَياةٌ مُستقِرةٌ لَم يَبحْ أكلُ ما بانَ مِنهُ وإنْ مَاتَ في الحَالِ حلَ أكلُ الجَميعِ في إحدى الرِّوايتينِ والأخرى لا يباحُ ما بانَ مِنهُ، فإنْ رَماهُ فقَطعَ مِنهُ عُضواً وَبقيَ مُعلَّقاً بجِلدِهِ وَماتَ أُبيحَ أكلُ الجَميعِ روايةٌ واحدةٌ فإنْ أبانَ منَ الحوتِ جُزءاً وأفلَتَ حَيَّاً حلَّ أكلُ ذَلكَ الجزءِ، وكذلكَ إذا رَمَى طَائراً بِسَهمٍ فأصَابهُ وَوقعَ على الأرضِ فَوجدَهُ مَيتاً حلَّ أكلُهُ، وإنْ وَقعَ في مَاءٍ أو وَقعَ على جَبلٍ أو شَجرةٍ ثَّم تردَّى إلى الأرضِ فإنْ كانَتِ الجراحَةُ غَيرَ موحيةٍ لَم يحلَّ أكلُهُ وَإنْ كَانَتْ موحِيَةً قَد وَقَعَتْ في مَقتلٍ فَهَلْ يَحِلُّ أَم لا؟ على رِوَايتَينِ وكذلِكَ الحُكمُ في المُذَكَّاةِ إذا تَحَامَلَتْ فَوقَعتْ في مَاءٍ فإنْ رَمى صَيدَاً فغَابَ عَنهُ ثمَّ وجَدَهُ مقتُولاً وسَهمُهُ فيهِ حَلَّ، وعنه إنْ كانَتِ الجراحَةُ موحيةً حلَّ وإلاّ فَلا يَحلُّ، وَعنهُ إنْ وُجِدَ في يَومِهِ حَلَّ وإنْ بانَ عنهُ لم يَحِلَّ، وَكذلكَ حُكمُ الكَلبِ وإذا رمَى صَيدَاً بسَهمٍ مَسمْومٍ فقَتلهُ لم يبحْ أكلُهُ إذا غَلبَ عَلى ظنِّهِ أنَّ السُمَّ أَعانَ عَلى قَتلِهِ، فأما الضَربُ الثاني وهوَ غَيرُ الجَوارحِ كَالشَبكَةِ والشَّرَكِ والفَخِّ والأُحبولَةِ وما أشبهَ ذَلِكَ إذا وقَعَ فيهِ الصَيدُ ولا يبُاحُ إلا أن يُدرِكهُ الصَّيادُ وَبهِ حَياةٌ فَيذكِّيهِ وكذلكَ إذا رمَى الصَيدَ بالبُندُقِ والحجَارةِ والخذافةِ ونحو ذلكَ لم يبحْ إلا أن يبقَى فيهِ حَياةٌ مستقِرَةٌ فَيذكِّيهِ.

.فَصلٌ: في كَيفيَّةُ الاصطِيادِ:

فأمَّا كَيفيَّةُ الاصطِيادِ فَيُشتَرطُ في ذلِكَ ثَلاثةُ أَشياءَ أنْ يُسمِّيَ وَيقصِدَ الاصطيادَ ويُرسِلَ كَلبَهُ أو سَهمَهُ عَلى صَيدٍ فأَمَّا إنْ تَركَ التَسميةَ لَم يبُحِ الصَيدُ سَواءٌ تركَهَا عَمْداً أو سَهواً وكذلِكَ لو أتى بغَيرِها مِنَ الأذكَارِ وَعنهُ أنه إنْ نَسيَ التَسميَةَ على السَهْمِ أَبيحَ صَيدُهُ فأمَّا علَى الكَلبِ فَلا، وَعنهُ أَنهُ إنْ نَسِيَ التَسميَةَ على جَميعِ الجَوارِحِ أُبيحَ فإنْ أَرسَلَ سَهمَهُ إلى هَدَفٍ فَقتلَ صَيدَاً لم يَحلَّ وَكذلِكَ إنْ رأى حَجَراً فَظنَّهُ صَيدَاً فرمَاهُ فأَخطَأهُ وأَصَابَ صَيدَاً لم يَحِلَّ وَيَحتمِلُ أنهُ يَحلُّ كَمَا لَو رمَى صَيدَاً فأصَابَ غَيرَهُ فإنَّهُ يَحِلُّ نَصَّ عَليهِ فإنْ أرسَلَ كَلبَهُ أو سَهمَهُ يُريدُ الصَّيدَ وَيسَمِّي وَهوَ لا يرَى صَيدَاً فأصَابَ صَيدَاً لَم يَحلَّ، وإذا استَرسَلَ الكَلبُ بنَفسِهِ فَصاحَ بهِ وسَمَّى فَمضَى علَى مَا كَانَ فأَصادَ لم يَحلَّ وإنْ زَجرَهُ فَوقَفَ ثُمَّ أَشلاهُ أو لَم يقِفْ لكن زَادَ في عَدْوِهِ بإشلائهِ حَلَّ صَيدُهُ، فَإنْ أَرسَلَ سَهمَهُ على صَيدٍ فأعانَتِ الريحُ السَهْمَ حتى وَصَلَ إلى الصَّيدِ فَقتَلَهُ ولولا الرِّيحُ ما وصَلَ حَلَّ، وإذا غَصَبَ كَلباً أو فَهْداً أو سَهْمَاً فأصَادَ بهِ فَالصَيدُ لصَاحِبهِ، وإذا مَلَكَ صَيدَاً ثم أرسَلَهُ مِنْ يدِهِ أو قَالَ أَعتَقتُكَ لَم يَزُلْ مُلكُهُ عَنهُ، وإذا رَمى صَيدَاً فَأَثبَتَهُ ثمَّ رَماهُ آخَرُ فَقتَلَهُ لَم يَحلَّ أكلُهُ وعلى الثَّاني ضَمَانُ قِيمَتِهِ مَجروحَاً، وَلَو أَصابَ الأَولُ مَقتَلَهُ ثمَّ جَرحَهُ الثَّاني حَلَّ ولم يَلزَمِ الثَّانيَ إلا غُرمُ مَا خَرقَهُ مِنْ خرقِهِ، فإنْ جَرحَهُ الأَولُ فتَحامَلَ فدخَلَ خَيمةَ الآخَرِ فَهوَ لِمَنْ هوَ في خَيمتهِ، وكذلِكَ لو كَانَ في سَفينَةٍ فَوثَبتْ سَمكَةٌ فوقعَتْ في حِجرِهِ فَهيَ لَه دونَ صَاحِبِ السَّفينَةِ، فإنْ وَقعَ الصَّيدُ في شَبكَةِ صَيَّادٍ فَخَرقَها وَخَرجَ مِنهَا فأَصَادهُ آخرُ فَهوَ للثاني فَإنْ أصَادَ سَمكَةً فوَجدَ في جَوفِهَا سَمكَةً أُخرى أو أَصَادَ طائراً فَوجَدَ في جَوفِهِ جَراداً أو حِنطَةً أو شَعيراً فَهلْ يُباحُ أَكلُ مَا وَجدَ في جَوفِهِ علَى رِوايتَينِ، ويُكرَهُ صَيدُ السَمَكِ بِشَئٍ نَجسٍ وَصَيدُ الطَّيِر بِالشباشبِ لأَجلِ تَعذيبِ الشباشبِ.

.بَابُ الذَبائِحِ:

لا يُبَاحُ شَيءٌ مِنَ الحَيوانِ المأكُولِ بغَيرِ ذَكَاةٍ إلا السَّمَكَ والجَرادَ وَعنهُ في بَقيَّةِ حَيوانِ البَحرِ أنهُ يُباحُ بِغَيرِ ذَكاةٍ كَالسَّمَكِ وَعَنهُ في الجَرادِ لا يؤكَلُ إلا أنْ يَموتَ بِسَببٍ كَتَحرِيقِهِ وَطبخِهِ وَكَبسِ بَعضِهِ عَلى بَعضٍ فَيُخرَّجُ في السَّمَكِ مثلُ ذَلكَ وَأَنه لا يباحُ الطَّافي وَلا تَحِلُّ ذكَاةُ المجوسِيِّ والمرتَدِّ والوثَنيِّ وَمَنْ أَحدُ أَبويهِ مَجوسِيٌّ أو وَثَنيٌّ والمَجنونِ والسَّكرانِ وَغيِر المُميِّزِ مِنَ الصِبيَانِ، وفي النَّصَارى العَربِ رِوايتَانِ وَيَجوزُ الذَّكَاةُ بكُلِّ آلةٍ لَها حَدٌّ يَقطَعُ ويُنهِرُ الدَّمَ إلا السِنَّ والظُّفرَ فَإنْ ذَبحَ بآلةٍ مَغصُوبَةٍ فَهلْ يُباحُ عَلى وَجهينِ وَيُكرَهُ أَنْ توجَّهَ الذَّبِيحَةُ إلى غَيرِ القِبلَةِ وأَنْ تُذبَحَ بسِكِّيٍن كَالٍّ وأَنْ يَحدَّ السِّكينَ وَالحَيوانُ يُبصِرُهُ وَيجِبُ أَنْ يُسَمِّيَ فإنْ تَركَ التَسميَةَ عَمْداً فأَكثرُ الرواياتِ أَنَّهُ لا يحلُّ ونَقلَ عَنهُ المَيمونيُّ أَنهُ يَحِلُّ وَإنْ تركَهَا سَهْواً فأكثرُ الرواياتِ أَنه يُبَاحُ ونَقلَ عَنهُ أبو طَالبٍ: لا تجزي الذَّبيحَةُ إلا باِلتَّسمِيةِ، وَظَاهِرُ هَذا أنها لا تَحلُّ معَ تَركِهَا سَهوَاً، وَذَبيحةُ الأخرَسِ إذا أَومَأَ إلى التَّسمِيةِ وَأَشَارَ إلى السَّمَاءِ ولا تَحصُلُ الذَّكَاةُ في الحَيوانِ المقدُورِ عَليهِ إلا بقَطعِ الحُلقومِ والمريءِ وعنه أنهُ يُشتَرطُ معَ ذلكَ قَطعُ الودجَينِ، فأَمَّا غيرُ المقدُورِ عَليهِ مِنَ الصُّيودِ ومَا يوحِشُ مِنَ النَّعمِ فَذكَاتُهُ بِعَقرِهِ في مَوضِعٍ كَانَ مِنْ يدَيهِ ويُستَحَبُّ نَحرُ الإبِلِ وَذَبحُ بقيَّةِ الحيوانِ ولا يَكسِر عُنقَها ولا يَسلَخهَا حتى تَبردَ وإذا أَخطَأَ فذَبحَ الحَيوانَ مِن قَفاهُ فأَتَتِ السِّكينُ على المقَاتِلِ وهوَ حَيٌّ أُبيحَ وَإنْ تَعمَّدَ ذَلكَ فَهلْ يُباحُ تحمل وَجهَينِ، وَتَحصلُ ذكَاةُ الجَنينِ بذَكَاةِ أُمِّهِ إذا خَرجَ مَيتاً أو متحَرِّكَاً كَحرَكَةِ المذبوحِ ولا فَرقَ بينَ أنْ يكونَ قد كَملَ ونَبتَ عَليهِ الشَعرُ أو لم يُشعِرْ.

.كِتابُ الأَطعِمَةِ:

يُباحُ أَكلُ كُلِّ طَاهِرٍ لا ضَررَ في أَكلِهِ كَالحَيوانِ كلهما والثِّمارِ جَميعِهَا وما عُمِلَ مِنهَا وَكَذلِكَ لُحومُ الحَيوانَاتِ وهيَ على ضَربَينِ إِنسِيٌّ وَوَحشِيٌّ فالإنسِيُّ يَنقَسِمُ إلى مَا يُباحُ ذَبحُهُ وَأكلُ لَحمِهِ وهوَ الإبلُ والبقَرُ والغَنمُ والخَيلُ والدَّجاجُ والدُّيوكُ وإلى ما لا يُبَاحُ ذَبحُهُ وأكلُه فَالآدميُّ وَالحميرُ والبِغَالُ والكِلابُ والخَنازِيرُ والسَّنَانِير، وأَما الـوَحشِيُّ فَيُقسَمُ إلى مُباحٍ وهوَ البقَرُ والحَميرُ وَالظِباءُ وَالضَبعُ والضَبُّ والبَطُّ والأوزُّ والنَّعامُ والحمَامُ والغُرابُ وَغُرابُ الزَّرعِ وَالعصَافيرُ وما أَشبهَهَا، وإلى مَحظورٍ وهوَ كلُّ ذي {نابٍ ?} مِنَ السِّباعِ وَكلُّ ذي مَخلبٍ مِنَ الطَّيرِ كالأَسدِ والنَّمِرِ والذِئبِ والفَهدِ والفيلِ والزَرافةِ وابنِ آوى وابنِ عرسٍ والقُنفذِ والنسرِ والصَّقرِ والعقَابِ والشَّاهينِ والبازي وَالحدأَةِ وَاللقلَقِ وَالغرابِ الأَسودِ الكَبيرِ والرَّخمِ والبُرمِ وكُلِّ ما يَأكلُ الجِيَفَ وَكُلِّ ما يخبثهُ العَربُ مِنَ الحشَراتِ كالحيَّةِ والعَقرَبِ والوَزغِ وسَامَ أبرصَ والخنَافِسَ وَالجُعلانِ وبنَاتِ وردان وَالفَأرِ وَسَائرِ البَعوضِ وَما يولَدُ مِنْ مأكولٍ وَغَيرِ مَأكولٍ كَالسَّمعِ وَاختلَفَتِ الرِوايةُ في الثَعلَبِ والأرنَبِ واليَربوعِ والوَابرِ وَسِنَّورِ البَرِّ فَعنهُ أنَّها مباحةٌ وعنهُ أنها مُحرَّمَةٌ فأمَّا حَيوانُ البحرِ فَيباحُ أكلُ جَميعهِ إلا الضِفدَعَ والتِّمسَاحَ، قَالَ ابنُ حامِدٍ: وَإلاّ الكَوسَجَ أيضاً وَحُكِيَ عَن أبي عَليٍّ النَّجادِ أنَّه لا يؤكَلُ مِنْ حَيوانِ البَحرِ مَا أَشبَهَهُ في البرِّ لا يؤكَلُ مثلَ كلبِ الماءِ وَخِنْزِيرِهِ وَإنسَانِ المَاءِ، وَيحرمُ لحُومُ الجَلالةِ وأَكلُ بَيضِهَا وَلَبنِهَا حَتَّى تُحبَسَ وتُغذَّى بالطَّاهِراتِ وَمقدَارُ الحَبسِ ثَلاثةُ أيامٍ في إحدَى الرِّوايتينِ وفي الأُخرَى يُحبَسُ الطَّائرُ ثلاثاً وما عدَاهُ أَربعِينَ يَوماً، وَيحرُمُ أكْلُ الثِّمارِ وَالبَقْولِ والزُّروعِ التي يَسقِيهَا الماءُ النَّجسُ وَيحرمُ أكلُ النَّجاسَاتِ كُلِّهَا إلاَّ المَيتَةَ في حَقِّ المُضطَرِّ فإنه يَحِلُّ لَهُ مِنهَا ما يَسدُّ رَمقَهُ في إحدَى الرِّوايتَينِ وفي الأُخرَى يَحِلُّ لَهُ الشَّبعُ، فَإنْ وَجَدَ الميتَةَ وطَعاماً لإنسَانٍ غائبٍ أَكلَ الميتَةَ وَكذلِكَ إنْ وَجَدَ المُحرِمُ صَيدَاً وَمَيتةً أَكلَ الميتَةَ، ولا يَحِلُّ لأَحدٍ شُربُ الخَمرِ لا لِلتدَاوي ولا لِلعَطَشِ فإنِ أضطَرَّ إليهَا لِدَفعِ اللقمَةِ مِنْ حَلقِهِ جَازَ وَكذلِكَ إن أُكرِهَ على شُربِهَا ولا يَحِلُّ لهُ أكلُ مَا يَضُرُّهُ كَالسُمِّ ومَا يَجرِي مَجراهُ، وإذا اضطُرَ إلى لحَمِ آدميٍ فَإنْ كانَ مُبَاحَ الدَّمِ كَالمرتَدِّ والحَربيِّ وَالزَّاني المحصَنِ فَهوَ كَالميتَةِ يُقتَلُ وَيأكلُ وإنْ لم يَجِدْ مُبَاحَ الدَّمِ لكِنَّهُ وجدَ مَيتَاً لَم يجزْ لهُ أَكلُهُ ذَكَرهُ شَيخُنا وَعندِي أَنهُ يَجوزُ له أَكلُهُ إذا خَافَ الموتَ. والشُّحومُ المحرَّمَةُ على اليهَودِ وهي الثربُ وشَحمُ الكِليتَينِ باقِي تَحريمُهمَا عليهِم لم يُنسَخْ نصَّ عليهِ، فأمَّا تحَريمُهمَا علَينا فلا يَحرمُ إذا كانَ الذابِحُ مُسلِمَاً وَكذلِكَ إذا كانَ كِتَابيَّاً وَهوَ ظَاهِرُ كَلامِ أحمَدَ في رِوايَةِ مهنا وَاختارَهُ ابنُ حَامدٍ وَحَكاهُ عنِ الخِرَقيوَهوَ الصَّحِيحُ عِندِي. وَقالَ أَبو الحسَنِ التَمِيمِيُّ: إذا ذَبَحَ كِتابِيٌّ كَانتْ مُحرَّمَةً على مُسلِمٍ وَاختَارَ ذلِكَ شَيخُنَا ولَمْ يُنقَلْ عَنْ أَحمدَ في ذَلِكَ إلاَّ الكَرَاهَةُ، وإذا اجتَازَ الإنسَانُ على الثِّمارِ المغَلَّةِ ولا حَائِطَ علَيهَا ولا نَاظِرَ جَازَ لَهُ الأكلُ في إحدَى الرِّوايتَينِ، واختارَهَا عَامَّةُ شُيوخِنَا، وَفي الأُخرى لا يَأكلُ إلاّ مِنْ حَاجَةٍ فَإنْ مَرَّ على مَاشِيَةٍ فَهلْ يُباحُ له شُربُ لَبنِهَا أَمْ لا؟ عَلى رِوايتَينِ، وَكذلِكَ في الزَّرعِ رِوايتَانِ. وَيجِبُ علَى المُسلِمِ ضِيافَةُ المسلِمِ المسَافِرِ المُجتَازِ بهِ لَيلَةً، فَإنْ نزَلَ بهِ الضَّيفُ فَامتَنعَ مِنْ ضِيافَتِهِ كانَ الضَّيفُ مُخيرَاً بَينَ ضِيافتِهِ عِندَ الحاكِمِ بذلِكَ أو إعفَائهِ، وَلا يَجِبُ إنزَالُهُ في بَيتِهِ إلاّ أَنْ لا يَجِدَ مَسجِدَاً أو رِباطَاً يبيتُهُ فِيهِ. وَيُستَحبُّ الضِّيافَةُ ثَلاثاً، وإذا اضطُرَّ إلى طَعَامِ الغَيرِ وَالغَيرُ مَستَغنٍ عَنهُ كَانَ عَليهِ أنْ يَبذلَهُ لهُ بثمنِهِ، فإنْ امتَنعَ كَانَ لِلمُضطَرِّ أخذُهُ قَهراً، فَإنْ قَاتلَهُ جَازَ أنْ يُقاتِلَهُ عَلى أَخْذِ مَا يَسُدُّ رَمقَهُ، أو قَدرِ شبعِهِ على اختِلافِ الرِّوايتَينِ في الميتَةِ.
فَإنْ أدَّى القِتَالُ إلى قَتلِ المضْطَرِّ ضَمِنَهُ القَاتِلُ، وإنْ قُتِلَ صَاحِبُ الطَّعامِ كَانَ دمُهُ هَدْرَاً.
وإذا مَاتَتِ الفَأرَةُ في السَّمِنِ الجَامِدِ أُلقِيَتْ ومَا حَولَها وجَازَ أكلُ الباقِي وَإنْ كَانَ مائعَاً نجسَ الجَمِيعُ كَما لو وقَعتْ في الأدهَانِ كالبَررِ والشَّيرَجِ والزَّيتِ ولا يَجوزُ بَيعُهُ وَعنهُ أنَّهُ يَجوزُ بَيعُهُ للكَافرِ بِشَرطِ أنْ يُعلِمَهُ أَنْهُ نَجسٌ، وَيجوزُ الاستصبَاحُ بهِ. وَقَد تَقدَّمَ ذِكرُ ذلِكَ وهَل يَجوزُ غَسلُ الأدهَانِ قَالَ شَيخُنا: لا يجوزُ ذلِكَ وَلا يَطهُرُ. وَعندِي أنَّ مَا يأتي غسله مِنهَا يَجوزُ غَسلُه وتَطهرُ بذَلِكَ.

.كِتابُ الأَيمانِ:

اليَمينُ على ضَربَينِ:- مُنعقِدةٌ وغَيرُ مُنعقدَةٍ، فَالمنعقِدَةُ: ما أَمكنَ الحَالِفُ أنْ يَبرَّ فيهَا أو يَحنَثَ ولا يَكونُ إلا على مستَقبَلٍ كَالحِلْفِ على فِعلِ شَيءٍ أو تَركِهِ، فَإنْ وفَّى بما حَلَفَ عليهِ برَّ ولا شَيءَ علَيهِ لأجلِ اليَمينِ، وإنْ لم يَفِ بذلِكَ عَمْداً حَنَثَ، وإنْ كانَ سَهوَاً وكانَ يَمينُهُ بالطَّلاقِ، وَالعِتاقِ حَنَثَ وإنْ كانَ باللهِ أو بِالظِّهارِلم يحَنَثْ، وَهِيَ اختِيارُ أكثَرِ شُيوخِنَا وَعَنهُ لا يَحنَثُ في الجَميعِ وَعنهُ أَنهُ يحنَثُ في الجَمِيعِ، فأمَّا غَيرُ المنعَقِدةِ فَلا يُمكِنُ فيها البَرُّ ولا تَكونُ إلاّ عَلى مَاضٍ وَهوَ على ضَربَينِ: غَموسٍ وَلَغوٍ، فَالغَموسُ: الحِلفُ على ما يُعلمُ كذبُهُ فيهِ فإنْ كانَتْ بِطَلاقٍ أو عتَاقٍ وقعَ في الحَالِ وإنْ كانَ باللهِ تعَالى، فَهوَ حَانِثٌ آثمٌ ولا كَفَّارةَ لها في إحدَى الرِّوايتَينِ وفي الأُخرَى عَليهِ كَفَّارةٌ وَأَمَّا اللَّغوُ: فَهوَ أَنْ يَحلِفَ على شَيءٍ يَظنُّهُ كَما حَلفَ عَلَيهِ فَيبِينُ بِخلافِ ذَلكَ هَذا المقبِلُ خَالدٌ فإذا هوَ زيدٌ، ومَا فَعلتُ كَذا وقد فَعَلَهُ في إحدى الرِّوايتينِ والأُخرَى اللغو أَنْ يَسبِقَ عَلى لِسَانِهِ لا وَاللهِ وَبلى وَاللهِ، وَهوَ لا يُرِيدُ اليَمِين، فَلا إثمَ عَليهِ في ذَلِكَ وَلا كفَّارَةَ. واليَمِينُ الموجِبَةُ للكفَّارةِ بِشَرطِ الحنْثِ أنْ يَحلِفَ بالله تَعالى أو باسْمٍ مِنْ أسمَائهِ أو بِصفَةٍ منْ صِفَاتِ ذَاتِهِ أو يَحلِفَ بِغَيرِ ذَلكَ مما نُبيّنُهُ فِيمَا بَعدُ.
فأمَّا الحِلفُ بأسمَاءِ اللهِ وصِفَاتِهِ فَينقَسِمُ ثَلاثةَ أَقسَامٍ:- أحدها: أنْ يَحلفَ بِاسْمٍ أو صِفَةٍ لا يشَارِكُ البارِي تَعالى فِيهَا غَيرُهُ مِثلَ قولِهِ: وَاللهِ وَالقَديمِ وَالأَزليِّ وَالأَولِ الذي لَيسَ قَبلَهُ، وَالآخِرِ الذِي لَيسَ بَعدَهُ شَيءٌ، وَالقادِرِ عَلى كلِّ شَيءٍ، وخَالِقِ الخَلقِ ورَازِقِ العَالَمينَ وما أشبهَ ذَلِكَ فَهذَا يَمينٌ بِكُلِّ حَالٍ. وَالثَّاني: أنْ يَحلِفَ بما يُشارِكُهُ فيه غَيرُهُ إلاّ أنَّ إطلاقَهُ ينصَرِفُ إليهِ تعَالى كَالرَّحمنِ والرَّحيمِ والرَّبِّ وَالمولَى والقادِرِ والعَالِمِ والرَّازقِ وَمَا أشبهَ ذلِكَ فَهذَا إنْ نَوَى بهِ اليَمينَ أو أطلقَ فَهوَ يَمينٌ وإنْ نوى بهِ غَيرَ اللهِ تَعَالى مِثلَ: رَحمنِ اليمَامَةِ ورَجلٍ رَحيمٍ ورَبِّ الدَّارِ والمولَى المعتِقِ والقَادِرِ باكتسَابِهِ والعَالمِ في البلَدِ ورزَّاقِ الجنةِ فَقَد عَصَى بذلِكَ وَلا يَكونُ يَميناً. وَالثالِثُ: ما يشَارِكُهُ فيهِ غَيرُهُ وإطلاقهُ لا يَنصَرِفُ إلَيهِ كَالشَيءِ وَالموَجودِ والحَيِّ والنَّاطِقِ والواحِدِ، وَما أشبهُ ذلِكَ فَهذا إنْ نَوى به اليَمينَ بصفَةِ اللهِ تعَالى كَانَ يَمينَاً. وَإنْ لَم يَنوِ لَم يكُنْ يَميناً. وقال شَيخُنا لا يَكونُ يَميناً وإنْ قَصدَ بهِ اليَمينَ، وَلا فَرقَ في اسْمِ اللهِ سُبحَانهُ في قَولِنَا وَاللهِ وبين اللهِ وَتاللهِ وَلا بَينَ إسقَاطِ حَرفِ القَسمِ نَحُو قَولِهِ لأفعلَنَّ فَإنْ قَالَ: أَحلِفُ بِاللهِ أو أُقسِمُ بِاللهِ أو أشهَدُ بِاللهِ لا فَعلتُ كَذا فَهوَ يَمينٌ نَواهُ أو أَطلَقَ فَإنْ قَالَ: أُقسِم أو أَحلِفُ أو أَشهَدُ وَلم يَكُنِ اسمُ اللهِ سُبحَانهُ فإنْ نوَى اليَمينَ كَانَ يمينَاً وإنْ أطلَقَ فَعلَى روايتَينِ: إحداهما: هوَ يَمينٌ أيضَاً وَهيَ اختِيارُ الخِرَقيِّ وأبي بَكرٍ. وَالثَّانيةُ: لَيسَ يَمينٌ فَإنْ قالَ يَنوِي بهِ، وَلَعَمرُ اللهِ لأَفعلَنَّ فَهوَ يَمينٌ، وَعنهُ لا يَكونُ يَمينَاً حَتَّى يَنويَ بهِ اليَمِينَ، فَإنْ قَالَ: وَحَقِّ اللهِ وعَهدِ اللهِ وَأمَانةِ اللهِ وَميثاقِهِ وَقُدرَتِهِ وَعَظَمتِهِ وَجَلالِهِ وَكبرِيائهِ وَجَبَروتِهِ وسَائرِ صِفَاتِهِ لأَفعلَنَّ، فَهوَ يَمينٌ إذا قَرنَ بهِ اسْمَ اللهِ تعَالَى. وَإنْ لَم يُقرِنْ بهِ الاسْمَ وَإنَّما قَالَ: وَالعَهدِ وَالميثَاقِ والأَمانَةِ والجَبَروتِ وَالعظمَةِ وَالجَلالِ فإنْ نَوى يَمينَاً كانَ يَمينَاً وَإلاَّ فَلا فإنْ قَالَ: وَكَلامِ اللهِ أو أحلِفُ بِالمصحَفِ، فَهوَ يَمينٌ وإذا حَنَثَ فَعلَيهِ كفَّارَةٌ. وَرُوِيَ عَنهُ أنَّهُ يَجبُ لِكلِّ آيةٍ كَفَّارةٌ وإنْ حَلَفَ بِصفَاتِ الفعلِ مِثلُ قَولِهِ: وَخَلقِ اللهِ ورِّزقِ اللهِ ومَعلومِ اللهِ لا فَعلتُ فَليسَ بِيَمينٍ، فَإنْ قَالَ: وَحَقِّ رَسولِ اللهِ لا فَعلتُ وَحَنثَ فَقالَ في رِّوايةِ أبي طَالبٍ عَلَيهِ كفَّارةٌ.
فَإنْ قَالَ هوَ يَهودِيٌّ أو نَصرَانِيٌّ أو بَريءٌ مِنَ الإسْلامِ أو مِنَ النَّبيِّ أو مِنَ القُرآنِ إنْ فَعلَ كَذَا فَحنثَ فَعلَيهِ كفَّارةٌ، وعَنهُ لاَ كَفَّارةَ عَلَيهِ وَكذلِكَ إذا قَالَ أنا أَستَحِلُّ الزِّنَا وشُربَ الخَمرِ وأكلَ لحمِ الخِنـزِيرِ إنْ فَعلتُ كَذَا، وَفعَلَ فَهلْ تَلزمُهُ كَفَّارَةٌ؟ علَى وَجهَينِ.
فَإنْ قَالَ: عَصَيتُ اللهَ أو أنا أعصِي اللهَ في كُلِّ ما أَمَرَني أو مَحوتُ المصحَفَ إنْ فَعلتُ لَم يكنْ يَميناً فَإنْ قَالَ عَليَّ نَذرٌ أو يَمينٌ إنْ فَعلتُ كَذَا فَفَعلَ مَا قَالَ فَعلَيهَ كَفَّارةُ يَمينٍ فإنْ حَرَّمَ أَمَتهُ أو مَالَهُ فَهوَ يَمينٌ وَعلَيهِ الكفَّارَةُ وإذا حَلَفَ علَى مُبَاحٍ أنْ لا يفعَلَهُ لَم يصر فعالُه عَلَيهِ مُحرَّماً؛ بَلْ فِعلُهُ مباحٌ كَمَا كَانَ قَبْلَ اليَمينِ إلا أنَّهُ يلزمُهُ كَفَّارةٌ إذا فَعَلَ وَيَحتَملُ أَنْ يَصيرَ مُحرَّمَاً لكنَّ الكَفَّارةَ تُزِيلُ التَحرِيمَ؟ عَلَى مَا قَالَهُ في تَحريمِ طَعامِهِ يَلزمُهُ كَفَّارةٌ ومَعلومٌ أنه لَمْ يَهتِكْ حُرمَةَ قَسمٍ؛ فَثبتَ أنَّها وَجبَتْ لارتكَابِهِ المحظُورَ وإنْ قَالَ: إنَّما البَيعةُ تَلزمُني لافعَلتُ وفَعلَ فَهذِهِ رَتَّبها الحَجَّاجُ، وَهِيَ تَشمَلُ عَلَى اليَمينِ باللهِ سبحَانهُ والإطلاق وَالعتَاقِ وصَدَقةِ المالِ، فَإنْ نوى تِلْكَ اليَمينَ انعقَدَتْ يَمينُهُ بجَميعِ مَا فِيْهَا، وإنْ لَمْ يَنوِهَا فَلاَ شَيءَ عَلَيْهِ أَومأَ إِليهِ الخِرَقيُّ، فِيْمَا حُكِيَ عَنْهُ وَذكَرهُ شَيْخُنَا. وَيُكرَهُ للإنسَانِ أَنْ يحَلِفَ بغَيرِ اللهِ تَعَالَى، وَلاَ يُستَحَبُّ لَهُ تَكرارُ اليَمينِ باللهِ سبُحَانَهُ وَإذا دَعتهُ الحَاجةُ إلى اليَمِينِ عِنْدَ الحَاكِم فَالأَولَى لَهُ أَنْ لا يَحلِفَ، وَيفتَدِيَ يَمينَهُ فإنْ لَمْ يقبَلْ مِنْهُ إلا اليَمِينِ حَلَفَ عَلَى مَا يَراهُ الحَاكِمُ. وسَنذكرُ هذِهِ اليَمينَ في بَابِ الدَّعاوِي إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالى. وَإِنْ أرادَ اليَمينَ غَيْرُ الحَاكِمِ فَالمشروعُ أنْ يَقُولَ والذي نَفسِي بِيَدِهِ والذي فَلقَ الحبَّةَ، وَبرىء النَّسمَةَ وتردَّى بالعِصمَةِ، والذِي أطمَعُ أنْ يغفِرَ لي خَطيئَتي يَومَ الدِّينِ لا وَمُقَلِّبِ القُلوبِ لا والذي رَفعَ السَّمَاءَ بغيرِ عَمدٍ وَما أَشبهَ ذَلِكَ، وإذا أُكرِهَ عَلَى اليَمينِ فَحلَفَ لَمْ تنعَقِدْ يَمينُهُ وإنْ حَلَفَ وأُكرِهَ عَلَى الحنثِ لَمْ تَلزمُهُ كفَّارةٌ وإذَا حَلَفَ عَلَى شَيءٍ ونَوى غَيرَهُ فإنْ كَانَ مظلومَاً صَحَّتْ نِيتُهُ وَلَمْ تَنعقِدِ اليَمينِ وإنْ لَمْ يَكُنْ مَظلومَاً لَمْ تَصِحَّ نيتُهُ وانعقَدَتِ اليَمينِ. وَإنْ حَلَفَ باللهِ عَلَى فعلِ قسمْ إنْ شَاءَ اللهُ لَمْ يحنَثْ إذَا حَلَفَ.
ويَنعْقِدُ يَمينُ الكَاْفِرِ إذَا حَنَثَ لزمَهُ أنْ يُكَفّرَ بالْعِتْقِ والإطعَامِ وَقَدِ استَوفينَا مسَائلَ الأيمان في كتَاْبِ الَّطلاَقِ في بَابِ جَاْمِع الأيماَنِ مِمَّا يشترِكُ فِيهِ حُكمُ اليَمينِ باللهِ سُبحَانَهُ وبالطَّلاقِ وَالعتَاقِ.

.بَابُ كَفَّارةِ اليَمينِ:

لا يَجوزُ إخراجُ كَفَّارةِ اليَمينِ قَبْلَ عَقدِ اليَمينِ، وَيجوزُ إخراجُها قَبْلَ حِنثِ اليَمينِ. وَلاَ فَرقَ بَيْنَ التَكفيرِ بِالمالِ وَالصِّيامِ. وَيجِبُ إخراجُهَا بَعْدَ الحِنثِ وَإِذَا كرّرَ اليَمينَ فَكفّارَةٌ وَاحِدةٌ إذَا لَمْ يكفرْ عَنِ الأولِ سَواءٌ كَانَتْ يَميُنهُ عَلَى فِعلٍ وَاْحِدٍ مِثْل أنْ يَقُولَ: وَاللهِ لا أَكلتُ وَاللهِ لاَ أكَلْتُ أوْ عَلى أفعَالٍ نَحْو قَوْلهِ واللهِ لا شَربْتُ واللهِ لا أكَلتُ واللهِ لاَ لبِستُ، وعَنْهُ يَجِبُ بكلِّ يَمينٍ كَفَّارةٌ، وَظاهِرُ كَلامِ الخِرَقيِّ إنْ كَرَّرَ عَلَى شيءٍ واحدٍ فكفَّارةٌ وَاْحِدَةٌ، وَإنْ كَرَّرَ عَلَى أَشياءَ فَبِكُلِّ يَمينٍ كفّارةٌ، فإنْ حَلَفَ باللهِ وبالظَّهارِ وَبنَحرِ وَلَدِهِ عَلَى شَيءٍ وَحَنَثَ لِزمَهُ كفَّارةُ يَمينٍ وَكَفَّارةُ ظِهارٍ وَذَبحُ كَبشٍ لأَجلِ الوَلَدِ، وَإِذَا حَلَفَ وَحَنِثَ مَنْ نِصفُهُ حُرٌّ في كُمّهِ، وإذَا حَلَفَ العَبدُ وَحَنثَ فَعَليهِ التَّكفِيرُ بالصِّيامِ، وَلَيْسَ لِسيَّدِهِ مَنعُهُ مِنَ الصِّيامِ فإنْ أذنَ لَهُ في التَّكفِيرِ بالإطعَامِ صَحَّ، وإنْ أذِنَ لَهُ أنْ يُكفِّرَ بالعِتقِ فَهلْ يَصِحُّ عَلَى رِوَايَتَيْنِ:
إحداهما: لا يَجزي، وَالثَّانيةُ: يَجزي وَهِيَ اختيارُ أبي بَكرٍ وَفرَّعَ عَلَيْهَا إنْ أُذِنَ لَهُ في العِتقِ فَأعتَقَ نَفْسهُ فهَلْ يَصِحُّ عَلَى وَجهَينِ:
أحدُهُما: يَصِحُّ وإنْ عَتقَ وَيَجزِي والآخرُ: لا يَجزي، وَقَدْ ذكرنَا صِفَاتِ الكَفَّارةِ ومَا يَجزي مِنَ العِتقِ والإطعَامِ والكِسوَةِ. واَلصِّيامِ في بَابِ كَفَّاراتِ الظِّهارِ مِمَّا يُغني عَن ذكرِهَا هَاهُنَا.

.بابُ النُّذورِ:

لا يَصِحُّ النَّذرُ إلاّ مِنْ بَالِغٍ عاقِلٍ سَوَاءٌ كَانَ مُسلِماً أو كَافِراً. ولا يَنعقِدُ إلاّ بِالقَولِ، فَإنْ نَواهُ مِنْ غَيْرِ قَوْلٍ لَمْ يَلزمْ.
وَالنُّذورُ تَنقَسِمُ سِتَّةَ أَقسَامٍ:
أحدُها: نَذرُ لَجاجٍ وَغَضَبٍ نَحْوُ أنْ يَقُولَ: إنْ كَلَّمتُ فُلاناً فَما لِي صَدقَةٌ، إنْ دَخلتُ الدَّارَ فَعلَيَّ الحجُّ، إنْ لَمْ أَضرِبْ فُلاناً فَعلَيَّ صَومُ سَنَةٍ، فَهذَا صورَتُه صورَةُ اليَمينِ إنْ وفّى بِما قَالَ فَلاَ شَيءَ عَلَيْهِ، وَإنْ لَمْ يَفِ بِذَلِكَ فَهُوَ مُخَيّرٌ بينَ أنْ يفعَلَ نَذرَهُ أو يُكفِّرَ كَفَّارةَ يَمينٍ، فإنْ قَالَ: إنْ كَلَّمتُ زَيداً فَعبدِي حُرٌ فكَلَّمهُ عتقَ العَبدُ لِوجودِ الصِّفَةِ لا لِلوفَاءِ بالنَّذرِ. والثَّانِي: نَذر طَاعَةٍ وَبرٍّ مِثْلُ أنْ يَقُولَ: للهِ عَلَيِّ أنْ أَتصَدَّقَ بِمالِي أو أنْ أَحجَّ حَجَّتَينِ أو أنْ أصُومَ سَنةً عَينَها فَهذَا يَلزمُهُ الوفَاءُ بما نَذَرَ إلاّ أَنَّهُ في جَمِيْعِ مالِهِ يَلزمُهُ الثُلثُ وَفِي صَدَقةِ ألفِ درهَمٍ منْ مَالِهِ يَلزمُهُ الْجَمِيْعُ، وَعَنْهُ يَجزيه ثُلثُ ألفٍ أَيضَاً.
وأمّا صَومُ السُّنَّةِ فَلاَ يَدخُلُ في نَذرِهِ رَمضَانُ ويومَا العِيدَينِ، وَهَل يدخُلُ أَيامُ التَّشرِيقِ؟ فإنْ أفطَرهَا قَضَاهَا. وَالثَّانيةُ: لا يَقضِيهَا كَمَا لا يقضِي العِيدَينِ وَرمضَانَ، وَنقَلَ أبُو طَالبٍ فِيمَنْ نذَرَ صَومَ شَوَّالٍ يَقضِي يَومَ الفِطرِ وَيُكَفِّرُ فَعلَى هَذَا يَقضِي العِيدَينِ وَأيامَ التَّشرِيقِ فَإنْ أَفطَرَ لِمرَضٍ أو أَفطَرتِ المَرأَةُ لِلحَيضِ قَضَيا ذَلِكَ، وَإنْ أفطَرَ لِغَيرِ عُذرٍ انقَطَعَ التتَابعُ وَوَجبَ استِئنافُ الصَّومِ سَنَةً، وَكفَّارةُ يَمينٍ. والثَّالِثُ: نَذْرُ طَاعَةٍ في مُقَابَلةِ تَجددِ نِعمَةٍ أو دَفعِ نِقمَةٍ مِثْل أنْ يَقُولَ: إنْ شَفَى اللهُ مَريِضي تَصدَّقتُ بجَميعِ مَالي أو حَجَجتُ في عَامِي، وإنْ رُزِقتُ ابنَاً صمتُ شَهراً فَحكمُهُ حُكمُ القِسْمِ الَّذِي قبله إلا أَنَّهُ مَعلومٌ بِوجودِ الشَّرطِ فَإنْ وَجَدَ لَزِمَهُ ذَلِكَ وإنْ لَمْ يوجَدْ مَا شَرطَهُ لَمْ يلزمْهُ شَيءٌ. الرَّابعُ: نَذرُ المَبَاحِ مِثْلُ أنْ يَقُولَ: للهِ عَلِيَّ أنْ أَسكنَ دَارِي أو أَلبسَ ثَوبي فَهذَا يَنعَقِدُ ويُخيرُ فِيهِ بَيْنَ فِعلِ مَا قَدرَ أو تَركِهِ ويُكفِّرُ كَفَّارةَ يَمينٍ.
وَالخَامِسُ: نَذرُ المعصِيَةِ مِثْل أنْ يَقُولَ: للهِ عَلِيَّ أنْ أَشرَبَ الخَمرَ أو أقتُلَ النَّفسَ فَهذَا نَذرٌ لا يَجوزُ لَهُ فِعلُهُ وَيلزمُهُ أنْ يُكفِّرَ كَفَّارةَ يَمينٍ، فإنْ نَذرَ نَحْرَ وَلَدهِ فَكَذلِكَ في إحدَى الرِّوَايَتَيْنِ وَفِي الأخرى: يلزمُهُ نَحرُ كَبشٍ. السَّادِسُ: إذَا قَالَ للهِ عَلِيَّ نذرٌ لزِمَهُ كَفَّارةُ يمينٍ، وَإِذَا نَذَرَ الصَّلاَة في المسجِدِ الحرَامِ لَزِمَهُ ذَلِكَ فإنْ نَذرَ الصَّلاَة في مَسجِدِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أو المسجدِ الأقصَى لزمَهُ فِعلُ ذَلِكَ فإنْ جَعَلَ بَدلَ ذَلِكَ الصَّلاَةَ في المسجِدِ الحرَامِ أجزاهُ، ولا تَجزِي الصَّلاَةُ في هَذينِ عَنْ نَذرِهِ الصَّلاَةَ في المسجِدِ الحرَامِ، فإنْ نَذَرَ الصَّلاَةَ في المسَاجِدِ الثَّلاثَةِ لَمْ يَلزمْهُ الوفَاءُ وَكَانَ مخيراً بَيْنَ فِعلِ ذَلِكَ وبينَ تَركِهِ ويُكفِّرُ كَفَّارةَ يَمينٍ، فَإنْ نَذرَ أنْ يَأتيَ الحَرمَ أو يَزورَ البَيتَ مَاشِيَاً لَزمَهُ فِعلُ ذَلِكَ وَلاَ يدخُلُ الحَرمَ إلاّ مُحرِمَاً بحجٍّ أو عُمرَةٍ فإنْ تَركَ المشيَ ورَكِبَ فَعلَيهِ كَفَّارةُ يَمينٍ وَعَنهُ يَلزمُهُ دَمٌ ويَكونُ مَشياً، فإنْ تَركَ المشيَ لِغَيرِ عُذرٍ فَإنْ نَذَرَ أنْ يَأتيَ البَيتَ رَاكِباً لَزِمَهُ ذَلِكَ ومَشَى فَعلَيهِ كَفَّارةٌ وَعَنْهُ يلزمُهُ دَمٌ، فإنْ نَذَرَ أنْ يَهدِيَ بهدياً لَزِمَهُ أنْ يَهدِيَ إلى الحَرَمِ لِينَحَرَ هنَاكَ وَيفَرَّقَ، فَإنْ عَينَ الهَدْيَ بمَا يَنقلُ وَيَحولُ لَزِمَهُ انفَاذُهُ يباع وَينفذُ ثَمنهُ يفرق هُناكَ، فإنْ نَذَرَ أنْ يَنحَرُ هَدياً بِغيرِ مَكةَ مِثْل المِدينَةِ وَبغْدادَ والكوفَةِ أو يُضَحِّي أضحِيَةً في مَوضِعٍ عَيَّنَهُ لزمَهُ نَحرُ ذَلِكَ وَيفرِّقُهُ لَحمَاً في المَوضِعِ الذِي عَيَّنهُ، وَإِذَا نَذَرَ صَومَاً أجزاهُ صَومُ يومٍ فَإنْ نَذرَ صَلاةً لَمْ يُجزِئهُ أقلُّ مِنْ رَكعَتينِ وَعَنْهُ تجزي رَكعَةٌ، فإنْ نَذَرَ عِتقَاً لَزِمَهُ مَا يجَزِي في الكفَّارَةِ وَمَنْ نَذَرَ أنْ يَصومَ الدَّهرَ فَعجزَ لِكِبَرٍ أَو مَرَضٍ أَفطَرَ وَكفَّرَ كَفَّارةُ يمينٍوَأَطعَمَ عَنْ كُلِّ يَومٍ مِسكينَاً فَإنْ نَذَرَ أنْ يَطوفَ عَلَى أَربَعٍ طَافَ طَوافَينِ نَصَّ عَلَيْهِ فإنْ قَالَ: عَبْدُ فُلاَنٍ حرٌّ لأفعَلنَّ كَذَا اليومَ وَلَمْ يَفعَلْ فَعلَيهِ كَفَّارةٌ في إحدَى الرِّوَايَتَيْنِ والأُخرى لا شَيءَ عَلَيْهِ.

.كِتَابُ الأَقضِيَةِ:

.بابُ ولايةِ القَضَاءِ وصِفَةِ مَنْ يَجوزُ أنْ يَكُونَ قاضياً:

اختَلفَتِ الرِّوَايَةُ عَنْ إمامِنَا -رَحِمَهُ اللهُ - في ولايةِ القَضَاءِ فَروى عَنْهُ المروذيُّ أنَّهُ قَالَ: لا بُدَّ لِلمُسلِمينَ مِنْ حَاكِمٍ أتذهَبُ حقُوقُ النَّاسِ؟ وهَذا يَدُلُ عَلَى أنَّ وِلايةَ القَضَاءِ فَرضٌ عَلَى الكِفَايةِ وأَنّهُ يَتعَينُ عَلَى الإنسَانِ إذَا لَمْ يوجَدْ غَيرهُ الدُّخولُ فِيهِ وروى عنهُ إِسْمَاعِيْلُ بنُ سَعيدٍ وَقَدْ سُئلَ هَلْ يَأثمُ الْقَاضِي إذَا لَمْ يوجَدْ غَيرُهُ مِمّنْ يوثَقُ بِهِ قَالَ: لا يَأثمُ بِذَلِكَ وهَذا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لا تجَبُ وَلاَ يختَلِفُ أَصحَابُنا أنّهُ يُكرهُ لَهُ طَلبُهُ إذَا كَانَ هُناكَ غَيرُهُ فإنْ دُعِيَ لِلقضَاءِ فَقَالَ شَيْخُنَا: الأفضَلُ أنْ لا يَدخُلَ فِيهِ وَهُوَ ظَاهِرُ كَلامِ أَحمدَ - رَحِمَهُ اللهُ - في رِوَايَةِ عَبْدِ اللهِ.
وَقَالَ ابنُ حَامِدٍ: الأفضَلُ أنْ يَدخُلَ فيهِ، وَلاَ تَصِحُّ ولايةُ القضَاءِ إلاّ أنْ يُولِّيَهُ الإمامُ أو مَنْ فَوضَ إليهِ الإِمَامُ ذَلِكَ فَإنَّه لَهُ ذَلِكَ فَإنْ وَلاَّهُ مَنْ لَيْسَ بِعَدلٍ فَهل تَصِحُّ ولايتُهُ؟ يحَتَمِلُ وَجْهَيْنِ، وإنْ تَحاكَمَ اثنَانِ إلى رَجُلٍ يَصلُحُ لِلقضَاءِ فَحكَّمَاهُ في مَالٍ فَمَا قَضَى بِهِ في حَقِّهمَا لَزِمَهُمَا، فأمَّا تَحكُّمُهُ في الحدُودِ والقصَاصِ والنِّكاحِ واللعانِ فَظَاهِرُ كَلامِ أَحمَدَ –رَحِمَهُ اللهُ-: أنّهُ ينفُذُ حُكمُهُ فِيهِ، وَقَالَ شَيْخُنَا: لا يَنفُذُ حُكمُهُ في ذَلِكَ، وَيلزَمُ الإِمَامَ أنْ يختَارَ لِلقضَاءِ بَيْنَ المسلِمينَ أفضَلَ مَنْ يَقدِرُ عَلَيْهِ وأورَعَهُم ويأمره بتَقوى اللهِ تَعَالَى وَإيثَارِ طَاعَتِهِ في سِرِّ أَمرهِ وجَهرِهِ وَيُجري الحقَّ والاجتهَادَ في إقامَةِ الحقِّ وأنْ يَستَخلِفَ في كُلِّ صَقْعٍ أصلَحَ مَنْ يَقدِرُ عَلَيْهِ لَهُمْ.
وَمِنْ شَرطِ صِحَّة الولايةِ مَعْرِفَةُ الموَلِّي للموَلَّى، وأنهُ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي تَصلُحُ لِلقضَاءِ وَيعينُ مَا يولِّيهِ الحكم فِيهِ مِنَ البلدَانِ وَمشَافَهتِهِ بالتَوليةِ إنْ كَانَ حَاضِراً أو مُكَاتَبتِهِ إنْ كَانَ غَائباً وَيُشهِدُ عَلَى توليتِهِ شَاهدَينِ وَقِيلَ تَثبُتُ ولايتُهُ بالاستفَاضَةِ إذَا كَانَ البلَدُ قَريباً فَيستفِيضُ فِيهِ أَخبارُ الأَيامِ كَالكُوفَةِ ووَاسِطٍ والمَوصلِ ونَحوِهَا، والأَلفَاظُ الَّتِي تَنعَقِدُ بِهَا الولايةُ صَريحةٌ وَكِنَايَةٌ فَالصَّرِيحَةُ سَبعَةُ ألفَاظٍ: قَدْ وَلَّيتُكَ الحُكمَ وَقَلدتُكَ واستَنبتُكَ واستَخلَفتُكَ وردَدتُ إِلَيْكَ الحُكمَ وَفَوَّضْتُ إِلَيْكَ وجَعَلتُ إِلَيْكَ فإذا وُجِدَ أَحَدُ هذِهِ الأَلفاظِ مِنَ الموَلِّي وَجَوابُها مِنَ المُوَلَّى بِالقَبولِ انعقَدَتِ الوَلايةُ، وأمّا الكِنايةُ فَهِيَ أَربَعةُ ألفَاظٍ: قَدْ اِعقَدْتُ عَلَيْكَ وَعَوّلتُ عَلَيْكَ ووَكَّلْتُ إِلَيْكَ و أَسنَدتُ إِلَيْكَ، فَلاَ تَنعقِدُ الولايةُ بهذِهِ حَتَّى يَقرِنَ بِهَا قَرينةً نَحْوُ قَولِهِ: فَاحكُمْ فِيْمَا وَكَّلتُ إِلَيْكَ وَانظُرْ فِيْمَا أسنَدتُ إِلَيْكَ وَتَولَ عَلَى مَا عَوَّلْتُ فِيهِ عَلَيْكَ، وَيَجوزُ أنْ يوَلّيَهُ عُمومَ النَّظَرِ في خَاصِّ العَمَلِ فَيقَلِدَهُ النَّظرَ في جَمِيْعِ الأَحكَامِ في بَلَدٍ بِعَينهِ أو مَحِلِّةِ مِنَ البلَدِ فَينفُذُ حُكمُهُ فِيمَنْ سَكَنَ في ذَلِكَ الموضِعِ وَمَنْ يَطرأُ إليهِ مِنْ غَيْرِ سُكَّانِهِ وَيجوزُ أن يُقَلِّدَهُ خُصوصَ النَّظرِ في عُمومِ العَمَلِ فَيقُولُ: جَعَلتُ إِلَيْكَ الحُكمَ في المُدَاينَاتِ خَاصَّةً في جَمِيْعِ ولايتِي، وَيجوزُ أنْ يَجعلَ حُكمَهُ في قَدرٍ مِنَ المالِ وَيَجوزُ أنْ يُولِّيَ في بَلَدٍ قَاضِيَيَنِ وَثَلاثةً فيَجعَلَ إلى أَحَدِهِم عُقودَ الأنِكحَةِ وإلى الآخَرِ النَّظرَ في المُدَاينَاتِ وإلى الآخَرِ في العَقَارِ، فَإنْ قَلَّدَ قاضِيَيَنِ عَمَلاً وَاحِداً فَالأَقَوَى عِندِي أنَّه لا يَجوزُ وَقَدْ قِيلَ: يجَوزُ، فَإنْ قَالَ: مَنْ نَظَرَ في الحُكمِ في البَلَدِ الفُلانِيِّ مِنْ فُلاَنٍ وَفُلانٍ فَهُوَ خَليفَتي لَمْ تَنعَقِدِ الولايةُ لِمَنْ نَظرَ وإنْ قَالَ: قَدْ وَلَّيْتُ فُلاناً وَفُلاناً فأيُّهمْ نَظرَ فَهُوَ خَليفَتي انعَقَدَتِ الولايةُ لِمَنْ نَظَرَ مِنْهُمْ، وَإِذَا صَحَّتِ الولايَةُ وَكَانَتْ عَامَّةً استفاد بِهَا النَظَرُ في عَشْرَةِ أَشياءَ: فَصلُ الخصُومَاتِ بَيْنَ المتنازِعِينَ وَاستيفَاءُ الحقِّ مِمَّنْ ثَبتَ عَلَيْهِ وَدفعُهُ إلى مُستَحِقِّهِ والنَّظَرُ في أَموَالِ اليتَامَى مِنَ الصِّبيَانِ وَالمجانِينِ والْحَجْرُ عَلَى مَنْ يَرى الْحَجْرَ عَلَيْهِ لِسَفَهٍ أو فَلَس والنَظَرُ في الوقُوفِ في عَملَهِ في حِفظِ أَموالِها وإجراءُ فروعِهَا عَلَى مَا شَرطَهُ الوَاقِفُ، وتنفِيذُ الوصَايا عَلَى شَرائطِ الموصِي وَتَزوِيجُ الأَيامَى وَإقاَمةُ الحدُودِ والنَّظَرُ في مصَالحِ عَملِهِ بِكَفِّ التعدِّي عَنْ طرقَاتِ المسلِمينَ وَأفنيتِهِمْ وَيتصَفحُ حَالَ شهودِهِ وَأُمنَائهِ والاستبدالُ بمنْ ثَبتَ جَرحُهُ عِندَهُ والإمَامَةُ في صَلاةِ الجمعَةِ والعِيدِ في عَملِهِ فأمَّا جِبايةُ الخَراجِ وأَخذُ الصَدقَةِ فَهل تَدخُلُ في ولايتِهِ إذَا لَمْ يَحضَ بِنَاظِرٍ فِيْهَا يَحتَمِلُ وَجْهَيْنِ:
أَحدُهُما: لا تَدخُلُ، والأخرَى: تَدخُلُ، وَيَجوزُ لَهُ طَلَبُ الرِّزقِ لنَفسِهِ وَلحلفَائهِ وأمنَائهِ مَعَ الحَاجَةِ فأمَّا مَعَ عَدَمِ الحاجَةِ فهل يجَوزُ لَهُ أخْذُ الرِّزقِ؟ يحتملُ وَجْهَيْنِ.

.فَصْلٌ: في صِفَةُ مَنْ يَصلحُ لِلقضَاءِ:

فأمَّا صِفَةُ مَنْ يَصلحُ لِلقضَاءِ فَيشترطُ فِيْهَا عَشْرَةُ أَشياءٌ:
أنْ يَكُونَ بَالِغاً عَاقِلاً ذَكَراً حُرَّاً مُسلِمَاً عَدْلاً سَميعَاً بَصِيراً مُتكَلِّمَاً مِنْ أَهلِ الاجتِهادِ وَكُلُّ هذِهِ الشَرائطِ مَعلومَةٌ إلاَّ العدَالةَ وسَنذكُرهَا في بَابِ الشَهادَاتِ إنْ شَاءَ اللهُ وأمَّا الاجتِهادُ فَنذكرُ شَرائطَهُ فَنقولُ: يَفتقِرُ الاجتِهادُ إلى مَعْرِفَةِ سِتةِ أَشياءَ:
الكِتَابُ والسُّنَّةُ والإجمَاعُ والقِياسُ واختِلافُ العُلَمَاءِ ولسَانُ العَربِ، فأمَّا الكِتَابُ فيحتَاجُ إلى أنْ يَعرِفَ مِنْهُ الحقِيقَةَ وَالمَجازَ والأَمرَ والنَّهيَ والمجمَلَ والمبِّينَ والمحكَمَ والمتشَابهَ والخَاصَّ والعَامَّ والمطلَقَ والمقيّدَ والمستثنَى والمستثنَى مِنْهُ والنَّاسِخَ والمنسوخَ. وأمَّا السُّنَّة فيحتاجُ أنْ يَعرِفَ مِنْها جَمِيْعَ مَا ذكرنَا مِن عِلمِ الكِتَابِ بَعْدَ أنْ يَعرِفَ صَحيحَهَا مِنْ سَقيمِهَا، وَتواترَها مِنْ آحادِهَا، ومرسَلَها مِنْ متَصلِهَا، وَمسندَهَا مِنْ مُنقطِعِها مِمَّا لهُ تَعلُّقٌ بأحكَامِ الشَّرعِ، ولا يُشتَرطُ عَلَيْهِ الإحَاطَةُ بجَميعِ مَا في الكِتَابِ والسُّنَّةِ مِنْ هَذِهِ الأَبوابِ. وأمّا الإجمَاعُ: فَيعرِفُ مِنْهُ مَا اتفَقَ عَلَيْهِ العُلَمَاءُ مِنَ الصَّحَابَةِ ومَنْ بَعدَهُمْ في كُلِّ عَصرٍ ومَا اختَلَفوا فِيهِ مِنَ المسَائلِ.
وَأمَّا القِياسُ: فَيعرِفُ حُدودَهُ وشروطَهُ وكيفِيَّةَ استنبَاطِهِ. وأمّا لسَانُ العَربِ: فَهُوَ المَعْرِفَةُ باللغةِ العَربيةِ المتدَاوَلةِ بَيْنَ أَهلِ الحجَازِ واليمَنِ والشَّامِ والعِراقِ، ومَنْ في بوادِيهِم مِنَ العَربِ جَمِيْع ذَلِكَ مذكورٌ في أصولِ الفِقهِ وفُروعِهِ مستَوفىً بأَدلتِهِ، ومَا قَالَ الناسُ فِيهِ فَمنْ تَشاغَل بحفظِ الفِقهِ وأصولِهِ وَرَزقهَ اللهُ فهمَهُ فَهُوَ مِنْ أَهلِ الاجتهَادِ وَيصلُحُ مَعَ وُجودِ بقيةِ الشَرائطِ فِيهِ أنْ يُفتِيَ وَيقضِيَ وهَلْ يُشتَرطُ في حَقِّ الْقَاضِي أنْ يَكُونَ كَاتِباً أمْ لا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ.

.كِتَابُ أدَبِ الْقَاضِي:

فأمَّا أدَبُ الْقَاضِي إذَا وَليَ الحَكمَ فَينبَغي لَهُ أنْ يَكُونَ قويَّاً في ولايتِهِ مِنْ غَيْرِ عُنفٍ لَيِّناً مِنْ غَيْرِ ضَعفٍ، ويسأَلُ عَن حَالِ البَلَدِ الَّذِي قُلِّدَ الحُكَمَ فِيهِ وعَنْ حالِ مَنْ فِيهِ مِنَ الفُقَهَاءِ والعُدولِ والفضَلاءِ إذَا لَمْ يَكُنْ مِن أهلِهِ وَيَسيرُ وَينفِذُ عِنْدَ مَسيرِهِ مَنْ يُعلِمُ أَهلَ البلَدِ بيَومِ دُخولِهِ وَيأمُرهُم بِاجتمَاعِهِم لِتَلقيَهُ فإذا قَربَ مِنَ البَلَدِ لَبسَ أَجمَلَ ثيابِهِ وَتَهيأَ لِلدُّخُولِ فإذا شَارَفَ البلَدَ يُستَحبُّ لَهُ أنْ يَدعوَ بما رُويَ عَنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كَانَ مِنْ دعائهِ: (اللهمَّ ربَّ السَّمواتِ السَّبعِ وما أَظلَّتْ وربَّ الأرَضِينَ السَّبعِ وما أقلَّتْ وربَّ الرِّياحِ ومَا ذَرتْ أسألكَ خَيرَ هذِهِ البَلدةِ وخَيرَ أَهلِهَا وَخَيرَ مَا فِيهَا) فإذا دَخلَ البلد قَالَ:
(اللهُمَّ اجعلْهُ لَنَا قرَارَاً واجعلْ لَنَا فِيهِ رِزقَاً طَيَّباً اللهُمَّ إني أعوذُ بكَ مِنَ الأَسَدِ والأُسْوَدِ والحيَّةِ والعقرَبِ ومِنْ شَرِّ سَاكِني البلَدِ ومِنْ شَرِّ والدٍ وَمَا ولدَ ومِنْ شَرِّ كُلّ أَحَدٍ).
وَيستَحبُّ لَهُ الدُّخولُ في يَومِ الاثنينِ فإنْ لَمْ يَقدِرْ فَالسَّبتُ أو الخَميسُ وَيقصِدُ مَسجِدَ الجامِعِ فَيدخُلُهُ ويصَلِّي فِيهِ رَكعتَينِ وَيجلِسُ مُستَقبِلاً لِلقِبلَةِ فَإذا اجتَمعَ النَّاسُ أَمرَ بعَبدِهِ فَقرَى عَلَيْهِمْ ثُمَّ يأمُرُ منَاديَهُ فَينادِي في البلَدِ: مَنْ كَانَ لَهُ حَاجَةٌ إلى الْقَاضِي فَليحضَرْ في يَومِ كَذَا ثُمَّ يَنهَضُ إلى مَنـزلِهِ الَّذِي أعدَّهُ للنُّـزولِ، وينفذ فَيتسلمُ ديوانَ الحكمِ مِنَ الَّذِي كَانَ قَبلَهُ. فَإذا كَانَ اليَومُ الَّذِي وَعَدَ النَّاسَ الجلوسَ فِيهِ أنقد بسَاطاً أو لبداً أو حَصِيرَاً لِيفرَشَ لَهُ، ثُمَّ يَخرجُ عَلَى أَعدَلِ أَحوالِهِ لا جَائعَ ولا شَبعَانَ وَلاَ عَطشَانَ وَلاَ مَهموماً بأمرٍ يَشغِلُهُ عَنِ الاجتهَادِ والفَهمِ وَيسلِّمُ عَلَى مَنْ يَمرُّ بِهِ في طَريقِهِ مِنَ المُسلِمينَ وإنْ كَانَ صَبيّاً فإذا وصَلَ إلى مَجلِسِه سَلَّمَ عَلَى مَنْ فِيهِ، فإنْ كَانَ مَسجِداً صَلَّى رَكعتَينِ وجَلَسَ، وإنْ كَانَ غَيرُهُ فَهُوَ مُخيرٌّ. ويستَحَبُّ أنْ يَستَعِينَ باللهِ ويتَوكَلَ عَلَى اللهِ وَيدعوَ اللهَ سِراً أنْ يَعصِمَه مِنَ الخطَأ وَالزَلَلِ، وأنْ يُوفِقَهُ لما يُرضِيهِ مِنَ القَوْلِ والعَمَلِ ويُستَحَبُّ أنْ يَجعَلَ مَجلِسَهُ وَسطَ البلَدِ وَيكونَ فَسحَاً كَالجامِعِ أو الدَّارِ الكَبيرَةِ والفَضَاءِ الواسِعِ بحَيثُ لا يَزدَحِمُ الخصُومُ ويَصِلُ إليهِ كُلُّ أحَدٍ، وَلاَ يَتَخِذُ حَاجِباً وَلاَ بَوابَّاً إلا في غَيْرِ مَجلسِ الحكمِ إنْ شَاءَ ويَعتَرِضُ القَصَصَ وَيبَدأُ بالأَولَ فَالأَولَ، فَإنْ حَضَروا في حَالٍ وَاحِدَةٍ وتَشَاحّوا أقرعَ بينَهم فَمنْ خَرَجَ اسمُهُ قَدَّمهُ، وَلاَ يقَدِّمُ مَنْ سَبقَ في أَكثرَ مِنْ حُكومَةٍ وَاحِدَةٍ. وَإنِ احتَاجَ أنْ يتَّخِذَ كَاتِباً فَيكونُ مُسلِماً مُكَلَّفاً عَدلاً عَالِماً حَافِظاً يُجلسُهُ بِحَيثُ يشَاهِدُ مَا يَكتُبهُ، وَيجعَلُ القمطرَ مَختوماً بَيْنَ يَدَيهِ، وينبَغي أنْ يُحضِرَ مَجلسَهُ الفُقَهَاءَ مِنْ أَهلِ كُلِّ مَذْهَبٍ إنْ أَمكَنَ، وإذَا أشكَلَ عَلَيْهِ أَمرٌ شَاورَهُم فإذا أتضَحَ لَهُ حَكَمَ فِيهِ، وإنْ لَمْ يَتَّضِحْ لَهُ أَخَّرَهُ حَتَّى يَتضِحَ وَلاَ يُقَلِدْ غَيرَهُ في الحُكمِ سَوَاءٌ كَانَ مِثْلَهُ أو أعلَمَ مِنْهُ، وَيسَوي بَيْنَ الخَصمَينِ في لَحظِهِ وَلَفظِهِ وَمَجلسِهِ والدُّخُولِ عَلَيْهِ، فإنْ كَانَ أحَدُ الخَصمَينِ كَافِراً قُدّمَ عَلَيْهِ المُسْلِمُ في الدُّخولِ وَرُفِعَ عَلَيْهِ، فإنْ كَانَ في الجُلوسِ، وَلاَ يُسَارَّ أحدَهُما وَلاَ يُلقِّنهُ حُجَّتَهُ وَلاَ يعَلِمْهَ كَيْفَ يدَّعي، وله أنْ يَشفَعَ إلى خَصمِهِ أنْ يُنظرَهُ، وَلهُ أنْ يزن عَنْهُ، وَلاَ يَحكُمْ بَيْنَ الخَصمَينِ وَهُوَ غَضبَانُ، وَلاَ يَقضِي في حَالِ شِدَّةِ الجوعِ والعطَشِ والهمِّ والوجَعِ والنُّعاسِ والبَردِ المؤلِمِ والحَرِّ المزعِجِ ومُدافَعةِ الأخبثَينِ، فإن خَالفَ وحَكَمَ فوافقَ حُكمُه الحقَّ نَفذَ.
وَقَالَ شَيْخُنَا لا ينفُذُ حُكمُهُ، وَلاَ يحلُّ لَهُ أنْ يرتَشِيَ وَلاَ يقبلُ الهدِيةَ إلاّ مِمّن كَانَ يلاطفُهُ ويهَادِيهِ قَبْلَ الولايةِ بِشَرطِ أنْ لا يَكُونَ لَهُ حُكومَةٌ، وَيكرهُ لَهُ أنْ يتولَى البيعَ والشِراءَ لِنفسِهِ، ويُستَحبُّ أنْ يوكِّل في ذَلِكَ مَنْ لا يُعرَفُ أَنَّهُ وَكيلُهُ. وَيجَوزُ لَهُ حُضورُ الوَلائمِ فَإنْ كَثرَتْ عَلَيْهِ تَركَها وَلاَ يُجيبُ بَعضَهم وَيمتَنِعَ عَنْ بَعْضٍ وَيُستَحَبُّ لَهُ عِيادَةُ المرِيضِ وَشُهودُ الجنازَةِ وتَشمِيتُ العَاطِسِ. وَلاَ يَجوزُ لَهُ أنْ يَحكُمَ لِنفسِهِ وَلاَ لوالدَيهِ وَلاَ لِوَلدِهِ، وَلاَ لِعَبدِهِ وأَمَتِهِ، فَإنِ اتفَقَ لأَحِدهمْ خُصومَةٌ حَكَمَ فِيْهَا بَعْضُ خُلفَائِهِ، وَقَالَ: أَبو بَكْرٍ: يجوزُ لَهُ الحكمُ لَهمْ. وَيوصِي الوكَلاءَ والأَعوانَ عَلَى بابِهِ بِتقوَى اللهِ تَعَالَى والرِّفقِ بالخصُومِ وقلَّةِ الطَّمَعِ، ويجتَهِدُ أنْ لا يَكُونُوا إلاّ شيوخَاً أو كُهولاً مِنْ أَهلِ الدِّينِ والصِّيانَةِ والعِفَّةِ، وَينبغِي أنْ لا يَحكُمَ إلاّ بِمَحضَرٍ مِنَ الشُّهودِ. وَأولُ مَا ينظر فِيهِ عِنْدَ جلوسِهِ في ولايتِهِ: أَمرَ المحبسينَ فيَنفذُ ثقتَهُ إلى الحَبسِ، فَيكتُبُ اسمَ كُلِّ وَاحِدٍ مِمَّنْ فِيهِ في رقعةٍ مُنفَرِدَةٍ، وَيكتبُ اسمَ مَنْ حَبَسهُ وفيما حَبسَهُ، ثُمَّ ينادي في البلَدِ: أنَّ الْقَاضِي يَنظرُ في أَمرِ المحبسينَ، فَمنْ كَانَ لَهُ عَلَى مَحبوسٍ حَقٌّ فَليَحضرْ في غَدٍ فإذا كَانَ في غَدٍ وَحضَرَ الْقَاضِي، أَخرَجَ الْقَاضِي رُقعةً فنادَى هَذِهِ رُقعَةُ فُلاَنِ بنِ فُلاَنٍ فَمنْ خَصمُهُ؟ فإذا حَضَرَ خَصمُهُ بَعَثَ فَأخرَجَهُ، وَنَظَرَ فِيْمَا بينَهُ وبينَ خَصمِهِ فإنْ كَانَ حَبسُهُ بحَقٍّ: مِثْلَ دَينٍ أو أرَشٍ جِنَايةٍ أو إتلافِ مَالٍ قِيلَ لَهُ: أَخرجْ ممّا عَلَيْكَ فإنْ قَالَ: أنا مُعسِرٌ نَظَرنا، فإنْ عُرِفَ لَهُ أَصْلُ مالٍ لَمْ تُقبلْ دَعواهُ إلاّ بِبيَنةٍ تَشهَدُ أَنَّهُ ذَهَبَ مَالُهُ، فإنْ لَمْ تَقُمْ بَينَةٌ وعرِفَ لَهُ عَينُ مَالٍ كُلِّفَ قضاة مِنْهُ، فإنْ أبا قَضَى الحَاكِمُ الدَّينَ مِنْهُ إنْ كَانَ مِنْ حَبسِ الدَّينِ وإلاَّ باعَهُ وقَضَى الدَّينَ مِنْ ثَمنهِ، وَإنْ لَمْ يُعرَفْ لَهُ عَينُ مَالٍ أعُيدَ إلى الحَبسِ، وإنْ بانَ أَنَّهُ حَبَسَهُ بغَيرِ حَقٍّ ثَبَتَ مِثْل، أنْ يَكُونَ حُبِسَ في تُهمةٍ أوِ افتِياتٍ عَلَى الْقَاضِي خَلَّى سَبيلَهُ، فإنْ لَمْ يَحضَرْ لَهُ خَصْمٌ، قِيلَ لَهُ فِيْمَا حُبِستَ، فَإنْ قَالَ: حَبسَني القاضِي وَلا خَصمَ لِي ولا حَقَّ عَلَيَّ لأَحَدٍ نَادى الْقَاضِي بِذَلِكَ، فَإنْ ظَهرَ لَهُ خَصمٌ والاَّ حَلَّفهُ أَنَّهُ لا خَصْمَ لَهُ وأُطلِقَ. ثُمَّ يَنظرُ في أَمرِ الأيتَامِ والمجَانِينِ وَفِي الوصَايا والوُقوفِ وَتحرِي الأَمرِ فِيْهَا عَلَى مَا يَقتَضِيهِ الشَّرعُ، ثُمَّ يَنظُرُ في حَالِ الْقَاضِي قَبلَهُ.
فإنْ كَانَ مِمّنْ لا يَصلُحُ للقضَاءِ نَقَضَ أَحكَامَهُ. وإنْ كَانَتْ قَدْ وَافقَتِ الصَّحِيحَ وإنْ كَانَ يَصلُحُ للقضَاءِ لَمْ يَنقُضْ مِنْ أَحكَامِهِ إلاّ مَا خَالَفَ نَصَّ كِتَابِ اللهِ تَعَالَى أو سُنَّةَ نَبيهِصلى الله عليه وسلم أو إجمَاعَ العُلَمَاءِ. وإنِ استعدَاهُ خَصمٌ عَلَى الْقَاضِي الَّذِي قَبلَهُ سَألَهُ عمّا يَدَّعيهِ عَلَيْهِ، فَإنْ قَالَ: لي عندَهُ حَقٌّ مِنْ دَينٍ ومعَامَلةٍ وَغَصبٍ وَرشوةٍ ونحو ذَلِكَ أَرسَلَ إليهِ وعَرَّفَهُ، فَإنِ اعتَرَفَ بما ادَّعاهُ أمرَهُ بإيفَائهِ أَو الحضُورِ، وَإنْ جَحَدَ وَقَالَ: إنما يُرِيدُ هَذَا الَخصمُ تَبذُّلي والتَّشَفِي مِنِّي لَمْ يُحضِرَهُ حَتَّى يَبينَ لَهُ أنَّ لما ادَّعَاهُ أصلاً في إحدَى الرِّوَايَتَيْنِ. وَكَذَلِكَ الحكمُ في كُلِّ مُدَّعى عَلَيْهِ لا يَحضرُهُ الحَاكِمُ حَتَّى يَعلَمَ، أَنَّهُ كَانَ بَينَهُ وبينَ المدَّعِي مُعامَلةٌ فِيْمَا ادَّعَاهُ وَفِي الرِّوَايَة الأخرَى: يُحضِرُ كُلّ مدعىً عَلَيْهِ ويَحكُمُ بَينَهُ وبَيْنَ خَصمِهِ وَهِيَ اختِيارُ عَامَّةِ شُيوخِنَا، وإنْ قَالَ:جَارَ عَلَيَّ في الحكمِ، فإنْ كَانَ مِمَّا لا يَسوغُ فِيهِ الاجتِهَادُ نَقضَهُ، وإنْ كَانَ مِمَّا يَسُوغُ لَمْ يَنقُضْهُ سَوَاءٌ وافقَ رأيَ الْقَاضِي أو خَالفَهُ فإنْ قَالَ: حَكَمَ عَلِيَّ بشهادَةِ فاسِقَينِ فَقَالَ: بَلْ حَكَمتُ بِشَهادَةِ عَدلَينِ فَالقَولُ قولُهُ بِلا يَمينٍ، فإنِ ادَّعَى إنسَانٌ أنَّ الحَاكِمُ المعزُولَ حَكَمَ لَهُ عَلَى خَصْمٍ عَيَّنهُ بكَذا، فأَنكَرَ الخَصْمُ ذَلِكَ وَلا بينةَ لَهُ سُئِلَ الحَاكِمُ فإنْ قَالَ: كُنتُ حكَمتُ لَهُ في حَالِ ولاِيَتي في ذَلِكَ قُبِلَ مِنْهُ إذَا لَمْ يَكُنْ مُتَهمَاً في خَبرهِ ذَكَرهُ الخِرَقيّ، وَيحتمِلُ أنْ لا يُقبَلَ قَولُه لأَنَّهُ في حَالِ ولايتِهِ لا يَجوزُ لَهُ الحُكمُ بِعلمِهِ فَبعدَ عَزلِهِ أَولى.
وإذا مَاتَ المولِّي لَمْ تَبطُلِ ولايةُ المولّى في أَحَدِ الوَجهيَنِ، وتبطُلُ في الأخرَى، فَإنْ عَزَلهُ الإِمَامُ مَعَ صَلاحِهِ لِلقضَاءِ فَهلْ ينعَزِلُ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ، فَإنْ قلنا ينعَزِلُ قَبْلَ أنْ يعلمَ بالعَزلِ عَلَى وَجْهَيْنِ أصلُهُما الوَكيلُ هَلْ يَنعزِلُ قَبْلَ العِلْمِ.

.بابُ طَريقِ الحُكمِ وصِفَتِهِ:

لا تَخْتَلِفُ المذاهِبُ أَنَّهُ يَجوزُ للحَاكِمِ أنْ يَحكُمَ بِالبينَةِ وبِالإقرَارِ في مَجلِسِهِ إِذَا سَمعَهُ مَعَهُ أحَد أو سَمعَهُ مَعَهُ شَاهِدٌ واحِدٌ فَنصَّ أَحمدُ في رِوَايَةِ حَربٍ أَنَّهُ يَحكمُ بهِ، وَقَالَ شَيْخُنَا: لا يَحكُمُ حَتَّى يَشهَدَ بِهِ شَاهِدَانِ، فأمّا مَا يَعلَمُهُ في غَيْرِ مَجلِسهِ برُؤيةٍ أو سَمَاعٍ أو غَيْرِ ذَلِكَ فهلْ يجوزُ أنْ يَحكُمَ فِيهِ بِعلمِهِ أمْ لا؟ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ.
إحداهُما: لا يَحكُمُ بِهِ سَوَاءٌ كَانَ في حَدٍّ أو قِصَاصٍ أو غَيرِهِمَا مِنَ الحقُوقِ وَهُوَ اختِيارُ عامَّةِ شيوخِنَا.
وَالثَّانيةُ: يَحكُمُ بِهِ، قَالَ في رِوَايَةِ أَبي طَالِبٍ في الأَمَةِ إذَا زَنَتْ يُقيمُ مولاهَا الحَدَّ إذَا تَبينَ لَهُ الزِّنَا حَملَتْ أو رَآها جَلَدَهَا، فَإذا جَازَ لِلسَّيدِ ذَلِكَ بِرؤيتِهِ في الحُدودِ فَالحاكِمُ أَولَى، وَقَالَ في رِوَايَةِ حَربٍ إذَا أَقرَّ في مَجلسِهِ حُدَّ أو حَقٌّ لَزِمَهُ ذَلِكَ، وَأخذَهُ بهِ، وهذا حُكمٌ بِعلمِهِ، وَيجوزُ لَهُ الحُكمُ بِشَاهِدٍ وَيَمينِ المدَّعِي، وَيَجوزُ لَهُ القَضَاءُ بِالنُّكولِ، وَلاَ يَحكُمُ بِرَدِّ اليَمينِ نَصَّ عَلَيْهِ في رِوَايَة الأثرَمِ وَحَربٍ والميمُونِيِّ، وَيقوى عِندي جَوازُ الحُكمِ بِرَدِّ اليَمينِ، وَهُوَ مَذْهَبُ عُمَرَ وعُثْمَانَ وعَليٍّ، وَقَدْ قَالَ أَحمَدُ في رِوَايَةِ أبي طَالِبٍ مَا هوَ بِبَعيدٍ أنْ يَحلِفَ وَيأخُذَ، فَقَالَ لَهُ: وخذ وَهَابهُ فَقَدْ صَوَبَهُ وَقياسُ قَولِهِ يَقضِيهِ فإنَّه قَدْ حَكَمَ باليَمينِ والشَّاهِدِ ابتدَاءً مِنْ غَيْرِ رِضَى المنكِرِ، وَكَذَلِكَ في القَسَامَةِ فإذا رَضِيَ المنكرِ بِيَمينِهِ كَانَ أولى بجَوازِ الحُكمِ وَقَولُهُ أهابهُ لا تجرحُه أنْ يَكُونَ مَذهَباً لَهُ، فَقَدْ قَالَ في المفقُودِ: كُنْتُ أَقولُ إذَا تَربَّصَتْ زَوجَتُهُ أَربعَ سِنينَ ثُمَّ اعتَدَّتْ أربَعةَ أشهُرٍ وَعشر تَزوَّجَ وقَدِ ارتَبتُ اليومَ وَهِبتُ الجَوابَ فَقَدْ صَرَّحَ بأنَّهُ هَابَ ذَلِكَ، وأشبها جَمِيْع أصحابنا مذهباً.
وَاختَارَهُ شَيْخُنَا.
وإذا جَلَسَ بَيْنَ يدَيهِ الخصمَانِ فَلَهُ أنْ يَقُولَ لَهُمَا مَنِ المدَّعي منكُما ولَهُ أنْ يَسكُتَ حَتَّى يَبتَدِيا، فإنْ سَبقَ أَحدُهُما بالدَّعَوى قُدمَ، وَإنِ ادَّعَيا مَعاً أَقرَعَ بَيْنَهُمَا فَقدّمَ مَنْ خَرجَتْ لَهُ القُرعَةُ، فَإذا انقَضَتْ حُكومَتُهُ سَمِعَ دَعوى الآخَرِ. وَلاَ يَسْمَعُ الدعوَى إلا صَحِيْحَةً مُحررَةً، ثُمَّ يَقُولُ لِلخَصمِ: مَا تَقُوْلُ فِيْمَا ادَّعَاهُ عَلَيْكَ فَإنْ أَقرَّ لَمْ يَحكُمْ حَتَّى يُطالِبَهُ المدَّعِي بالحُكمِ، وإنْ أنكَرَ سَألَ المدَّعِي ألكَ بَينَةٌ فإنْ قَالَ مَالي بيّنةٌ فَالقَولُ قَوْلُ المنكِرِ مَعَ يَمينِهِ إنْ سَألَ المدَّعي إحلافَهُ، فَإنْ نَكَلَ المنكِرُ عَنِ اليَمينِ فَعلَى المَنصوصِ يَحكُمُ عَلَيْهِ بالنكُولِ، بَعْدَ أنْ يَقُولَ لَهُ إنْ لَمْ تَحلِفْ وَنكلتَ قَضَيتُ عَلَيْكَ بِالنُّكولِ ثَلاثاً وَهِيَ اختيارُ عَامَّةِ شيوخِنَا، وَعلَى مَا يقوى عِندِي يُقَالُ: لَكَ رَدُّ اليَمينِ عَلَى المدَّعِي، فَإنْ رَدَّهَا وحَلَفَ المدَّعِي حَكَمَ لَهُ بِما ادَّعَى، وإنْ نَكَلَ أيضَاً صَرَفَهمَا، فَإنْ عَادَ أحدُهُمَا قَبْلَ اليَمينِ بَعْدَ نكُولِهِ لَمْ يقبلْ مِنْهُ في ذَلِكَ المَجلِسِ حَتَّى يتحَاكَمَا في مَجلِسٍ آخَرَ، وَإنْ عَادَ المدَّعِي بَعْدَ قَولِهِ لا بَينَةَ لي فَقَالَ: لي بَينَةٌ لَمْ تُسمَعْ ذَكَرهُ الخِرَقيُّ، فَإنْ قَالَ: مَا أَعلَمُ لي بَينَةً فَقَالَ شَاهِدَانِ: نحَنُ نَشهدُ بحقِّكَ فَقَالَ: هَذانِ بَينَتي سُمِعَتْ بَينتُهُ، فَإنْ لَمْ يُرِدْ أنْ يَشهَدا لَهُ لَمْ يُطالَبْ بإقامةِ البَينَةِ، فَإنْ قَالَ المدَّعِي: لي بَينَةٌ وأريدُ أنْ أحلّفَهُ فَهَلْ يحلِفُ؟ يحتَمِـلُ وَجْهَيْنِ، فَإنْ شَـهِدَ للمدِّعي شَاهِدانِ وكَانا فَاسِقَينِ قَالَ للمدِّعِي: زِدْ في الشُّهودِ، وإنْ كَانا عَدلَينِ يَعرفُ الْقَاضِي عَدالتَهمَا ظَاهِرَاً وبَاطِنَاً، مِثْل أنْ يَكونَا قَدْ عدلا عِندَهُ قَبْلَ ذَلِكَ أو ممّا في حِوارِهِ حَكَمَ بِشَهادَتِهمَا، إلاّ أنْ يرتَابَ بِهما فيفرقهمَا ثُمَّ يَسألُ أَحدُهمَا كَيْفَ تَحمَّلتَ الشَّهَادةَ ومتى تَحمَّلْتَها وَفِي أيِّ مَوْضِعٍ كَانَ التَّحمُلُ وهَل تَحمَّلتَهَا وَحدَكَ؟ أو أنتَ والشَّاهِدُ الآخرُ، فَإنْ اختَلَفا تَوقَّفَ عَنْ قَبولِ الشَّهادَةِ، وَإنِ اتَّفقَا وَعظَهُمَا وخَوَّفَهمَا فَإنْ ثَبتا عَلَى شَهادَتِهمَا استُحبَّ أنْ يَقُولَ للمنكِرِ قَدْ شَهِدَ عَلَيْكَ فُلاَنٌ وفلانٌ وَقَدْ قُبِلَتْ شَهادتُهمَا، إلاّ أنْ يثَبتَ أمرٌ يَقْدَحُ فِيْهِمَا، فَإنْ جَرحَهمَا كُلِّفَ إقامَةَ البينَةِ عَلَى الجَرحِ، فَإنْ طَلبَ إمهالَهُ لِيُقِيمَ البينَةَ أُمهِلَ اليومَ واليومَينِ والثَّلاثَ، وَلِلمدَّعِي مُلازَمتُه إلى أنْ يَثبُتَ الجَرحُ، فَإنْ أقامَ البينَةَ بِالجَرحِ وإلاّ حَكَمَ عَلَيْهِ إذَا طالَبَهُ المدَّعِي بِالحُكمِ وَلاَ يَقبَلُ الجَرحُ إلاّ مُفسَّراً بما يَقْدَحُ في العَدالةِ نَحْوَ أنْ يشهَدَا عَلَيْهِ بشُربِ الخَمرِ أو أَكلِ الرِّبا أوِ القَتلِ عَمْداً أو الغَصبِ وَلاَ فَرقَ بَيْنَ أنْ يَراهُ عَلَى ذَلِكَ أو يَستَفيضَ في النَّاسِ ذَلِكَ عَنْهُ، وَعَنْهُ أَنَّهُ يَكفِي أنْ يشهَدا عَلَيْهِ بأَنهُ فَاسِقٌ أو بأنَّه لَيْسَ بعَدلٍ وإنْ شَهِدَ عندَهُ المجاهِيلُ الحالِ، فَإنْ جُهِلَ إسلامُهُم عِندَنا، إلاّ في الحُدودِ عَلَى خِلاَفٍ نَذكُرهُ في بَابِ الشَّهادَاتِ إنْ شَاءَ اللهُ وإنْ جَهلَ عَدَالتَهم فَفيهِ رِوَايَتَانِ:
إحداهما: تُقبلُ شَهادَةُ كُلِّ مُسْلِمٍ مَا ظَهرَ مِنْهُ ريبة وَهِيَ اختِيارُ أَبي بَكرٍ.
والثَّانية: لا تُقبلُ إلاّ شَهادةُ مَن تَثبتُ عَدالتُهُ باطِناً وظَاهِراً وَهِيَ اختِيارُ الخِرَقيِّ وشَيْخِنَا، فَعلَى هَذَا يَسألُ الحَاكِمُ عَنِ اسمِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ وكنيتِهِ ونَسَبهِ وصنعتِهِ وَسوقِهِ ومَسجدِهِ ومَوضِعِ نزولِهِ ويَكتبُ ذَلِكَ في رِقاعٍ وَيدفعُ الدفَائعَ إلى أَصحَابِ مسَائلِهِ، وَلاَ يُعلِمُ بَعضَهم بِبَعضٍ يأمُرهُم أنْ يسأَلوا ويستَكشِفوا مِنْ جِيرَانِهِ ومعَامِليهِ وأَهْلِ مَسجِدِهِ وسوقِهِ سِرَّاً، فَإنْ رجعُوا إليهِ بالتَّعديلِ وَلاَ يُقبلُ في ذَلِكَ أقلُّ منِ اثنينِ أمرَهُم أنْ يُظهرُوا تَزكيِتَهُ بأنْ يَشهَدوا بأنَّهُ عَدلٌ رضَا، وَإنْ رجَعُوا بالجَرحِ لَمْ تُقبَلْ شَهادَتُهم، وَإنْ عَادَ بَعضُهُم بالجَرحِ وَبَعضُهُم بالتَّعدِيلِ، فَإنْ عدَّلَهُ اثنَانِ وجَرحَهُ واحِدٌ قدَّمَنا العدَالةَ، وإنْ عَدَّلهُ اثنانِ وَجَرحَهُ اثنَانِ قُدِّمَ الجَرحُ، وَلاَ تُقبَلُ التَّزكِيَةُ إلاّ مِنْ ثقَةٍ أَمِينٍ متظاهرٍ غَيْرِ مُتظَاهِرٍ بِالمعصِيَةِ مِنْ أَهلِ الخِبرَةِ الباطِنَةِ وَإِذَا سَألَ المدَّعِي أنْ يُحبَسَ المَشهُودُ عَلَيْهِ حَتَّى تَثبُتَ عَدَالَةُ شُهودِهِ احتَمَلَ أَنْ يَحبِسَهُ وَإنْ أقامَ شَاهِدَاً وَسَألَ حَبسَهُ حَتَّى يُقِيمَ الآخَرَ، فَإنْ كَانَ ذَلِكَ في المَالِ حَبِسَهُ، وَإنْ كَانَ في غَيْرِ المَالِ فَعلَى وَجهَينِ: فَإنْ سَكَتَ المدَّعَى عَلَيْهِ فَلمْ يَقِرَّ وَلَمْ يُنكِرْ قَالَ لَهُ الْقَاضِي: إنْ أجَبتَ وإلا جَعلتُكَ نَاكِلاً.
فَإنْ قَالَ: لي حِسَابٌ أُرِيدُ أنْ انظُرَ فِيهِ، لَمْ يَلزَمِ المَّدعِيَ إنظَارُهُ، فَإنْ قَالَ: كَانَ لَهُ عِندِي وَقَضَيتُهُ أو بَرِئتُ إليهِ مِنْهُ فَقَالَ الخِرَقيُّ القَوْلُ قَولُهُ مَعَ يَمينِهِ، وَعندِي: أنّه قَدْ أَقرَّ بالحدِّ فَلاَ يُقبَلُ قولُهُ في القَضَاءِ إلاّ بِبينَةٍ، فَإنْ قَالَ: لي بَيِّنَةٌ أقَمتُها بِالقَضَاءِ أوِ الإبرَاءِ أُمهِلَ ثَلاثةَ أَيامٍ وَلِلمدَّعِي مُلازَمتُهُ حَتَّى يُقِيمَ البَينَةَ، فَإنْ عَجزَ عَن إقَامتِهَا حَلَفَ المدَّعِي أَنَّهُ لَمْ يَقضِ وَلَمْ يَبرَّ واستَحقَّ مَا ادَّعاهُ فَإنْ ادَّعَى عَلَى غَائبٍ أو مُستَترٍ في البَلَدِ أو مَيِّتٍ أو صَبِيٍّ أو مَجنُونٍ ولَهُ بَينةٌ سَمِعَهَا الْقَاضِي وحَكَمَ بِهَا وَهل يُحلَّفُ المدَّعِي أَنَّهُ لَمْ يبر إليه مِنْهُ وَلاَ مِنْ شَيءٍ مِنْهُ أم لا؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ:
فَإنْ حَلَّفَهُ الحَاكِمُ وقدِمَ الغَائِبُ وبَلَغَ الصَبيُّ وأفاقَ المجنونُ فَهُوَ عَلَى حُجَّتِهِ، فَإنْ ادَّعَى عَلَى ظاهرٍ في البَلَدِ غَائبٍ عَنْ مَجلسِ الحُكمِ فَهلْ يَسْمَعُ عَلَيْهِ البينةَ؟ يَحتَمِلُ وَجْهَيْنِ:
أَحدُهُما: يَسْمَعُ، والثَّاني: لا يَسمَعُ. وَيُنفِذُ الحَاكِمُ مَنْ يُحضِرُهُ فَإنْ امتَنَعَ عَنِ الحضُورِ أَشهَدَ عَلَيْهِ شَاهِدَينِ أَنَّهُ امتَنعَ ثُمَّ يَتقدَّمُ إلى صَاحِبِ الشُّرطَةِ لِيُحضِرُه، فَإنْ اختَبأَ مِنَ المحضَرِ تَقدَّمَ إلى مَنزلِهِ وَقَالَ: إنَّ الْقَاضِيَ يَستَدعِي فُلاناً إلى مَجلِسِ الحُكمِ فَاخبروهُ لِيحضَرُ فَإنْ تَكَررَ مِنْهُ أقعدَ عَلَى بَابِهِ مَنْ يضَيِّقُ عَلَيْهِ الدُّخولَ والخُروجَ حَتَّى يُحضِرَهُ، فَإنْ استَعدَى عَلَى غَائبٍ عَنِ البَلَدِ في مَوْضِع لا حَاكِمَ فِيهِ كَتبَ إلى ثِقَاتٍ مِنْ أَهلِ ذَلِكَ المَوضِعِ لِيستَوسِطوا بينَهمَا، فَإنْ لَمْ يَقبَلا الوسَاطَةَ قِيلَ للخَصمِ حَقِّقْ مَا تَدَّعِيهِ فإذا فَعَلَ ذَلِكَ أحضَرهُ سَوَاءٌ قَربَتِ المسَافةُ أو بَعدَتْ، وَإِذَا ادَّعى عَلَى امرَأةٍ غَيْرِ برزة لَمْ يُحضِرْهَا الحَاكِمُ وتَقدَّمَ إليهَا أنْ تُوكِّلَ فَإنْ وَجَبَ عَلَيْهَا اليَمِينُ أَرسَلَ إليهَا مَنْ يُحلِّفُهَا، وَإِذَا لَمْ يَعرِفِ الحَاكِمُ لسَانَ الخَصمَينِ أو أحَدِهمَا رجَعَ إلى مَنْ يَعرِفُ ولا يُقبلُ في التَّرجمَةِ والجرحِ والتَّعديلِ والتَّعرِيفِ والرِّسَالةِ إلاّ قَوْلُ عَدلَينِ وَهِيَ اختيارُ أبي بكرٍ وَإِذَا اختلَفَ الخَصمَانِ فَقَالَ أَحدُهُما: قَدْ حَكَم لي بكَذا فأنكَرَ الآخَرُ، فَقَالَ الحَاكِمُ: حَكَمتُ لَهُ قَبلَ قَولَهُ وحدَهُ فَإنْ عُزِلَ الحَاكِمُ واختلَفَا فَقَالَ: كُنتُ حَكَمتُ عَلَيْهِ حَالَ ولايَتي قُبِلَ قَولُهُ نَصَّ علَيهِ، فَإنْ ادَّعى أَنَّهُ حَكَمَ لَهُ فلَمْ يَذكُرَ الْقَاضِي حَكمَهُ فَشهِدَ عَدلانِ أَنَّهُ حَكَمَ لَهُ قَبِلَ شَهادتَهمَا وَنفَذَ القَضَاءُ.
وَكَذَلِكَ إنْ شهد عِندَهُ عَدلانِ بِحقٍّ فَنَسِيَ شَهادَتَهمَا فَشَهِدَ اثنانِ أنَّهمَا شَهِدَا عِندَهُ بِذَلِكَ قَبْلَ شهادتهما، وحَكَمَ فَإنْ وَجَدَ في قَمطرِهِ صَحِيفَةً وتَحتَ خَتمِهِ بخَطِّهِ فِيْهَا مَكتُوبٌ حُكمُهُ لَمْ ينفذْ ذَلِكَ في إحدَى الرِّوَايَتَيْنِ وَفِي الأخرى: يَنفُذُ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ الشَّاهِدُ إذَا رأى خَطَّهُ في كِتَابٍ وَلَمْ يَذكُرِ الشَّهَادةَ فَهل يَجوزُ لَهُ أنْ يَشهدَ بِهَا أم لا؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ وحُكمُ الحَاكِمِ لا يحُيلُ الشَيءَ عَن صِفَتهِ في البَاطنِ، وَعَنْهُ أَنَّهُ يحل في العقُودِ والفُسوخِ ذَكَرَها شَيْخُنَا عَن أبي مُوسَى، وينقضُ حُكمُ الحَاكِمِ إذَا حَكَمَ بما خَالفَ نَصَّ كِتَابٍ أو سُنَّةٍ أو إجمَاعٍ، فَإنْ حَكَمَ في قَضِيَّةٍ باجتِهَادِهِ لَمْ يُنقَضِ اجتِهَادُهُ باجتِهَادِهِ.