فصل: آيات صفة المجئ والإتيان

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: شرح العقيدة الواسطية **


 آيات صفة المجئ والإتيان

ذكر المؤلف رحمه الله تعالى لإثبات صفة المجيء والإتيان آيات أربع‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة وقضي الأمر‏}‏‏(‏1‏)‏‏.‏

‏(‏1‏)‏ الآية الأولى‏:‏ قوله‏:‏ ‏{‏هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة وقضي الأمر‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 210‏]‏‏.‏

* قوله‏:‏ ‏{‏هل ينظرون‏}‏‏:‏

‏{‏هل‏}‏‏:‏ استفهام بمعنى النفي، يعني ‏:‏ ما ينظرون، وكلما وجدت ‏(‏إلا‏)‏ بعد الاستفهام، فالاستفهام يكون للنفي‏.‏ هذه قاعدة، قال النبي عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏هل أنت إلا أصبع دميت‏)‏ (1) ، أي‏:‏ ما أنت‏.‏

* ومعنى‏:‏ ‏{‏ينظرون‏}‏ هنا‏:‏ ينتظرون لأنها لم تتعد بـ‏(‏إلى‏)‏، فلو تعدت بـ‏(‏إلى‏)‏ لكان معناها النظر بالعين غالباً، أما إذا تعدت بنفسها، فهي بمعنى‏:‏ ينتظرون‏.‏ أي‏:‏ ما ينتظر هؤلاء المكذبون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام، وذلك يوم القيامة‏.‏

* ‏{‏يأتيهم الله في ظلل‏}‏‏:‏ و‏"‏في‏"‏‏:‏ هنا بمعنى ‏(‏مع‏)‏، فهي للمصاحبة، وليس للظرفية قطعاً، لأنها لو كانت للظرفية، لكانت الظلل محيطة بالله، ومعلوم أن الله تعالى واسع عليم، ولا يحيط به شيء من مخلوقاته‏.‏

* فـ‏{‏في ظلل‏}‏، أي‏:‏ مع الظلل، فإن الله عند نزوله جل وعلا للفصل بين عباده ‏"‏تشقق السماء بالغمام‏"‏‏:‏ غمام أبيض، ظلل عظيمة، لمجيء الله تبارك وتعالى‏.‏

* وقوله‏:‏ ‏{‏في ظلل من الغمام‏}‏ الغمام، قال العلماء‏:‏ إن السحاب الأبيض، كما قال تعالى ممتناً على بني إسرائيل‏:‏ ‏{‏وظللنا عليكم الغمام‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 57‏]‏، والسحاب الأبيض يبقي الجوز مستنيراً، بخلاف الأسود والأحمر، فإنه تحصل به الظلمة، وهو أجمل منظراً‏.‏

* وقوله‏:‏ ‏{‏والملائكة‏}‏‏:‏ الملائكة بالرفع معطوف على لفظ الجلالة الله، يعني‏:‏ أو تأتيهم الملائكة، وسبق بيان اشتقاق هذه الكلمة، ومن هم الملائكة‏.‏

والملائكة تأتي يوم القيامة، لأنها تنزل في الأرض، ينزل أهل السماء الدنيا، ثم الثانية، ثم الثالثة، ثم الرابعة وهكذا‏.‏‏.‏‏.‏ إلى السابعة‏؟‏ يحيطون بالناس‏.‏

وهذا تحذير من هذا اليوم الذي يأتي على هذا الوجه، فهو مشهد عظيم من مشاهد يوم القيامة، يحذر الله به هؤلاء المكذبين‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك‏}‏‏(‏1‏)‏

‏(‏1‏)‏ الآية الثانية‏:‏ قوله‏:‏ ‏{‏هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 158‏]‏‏.‏

* نقول في ‏{‏هل ينظرون‏}‏ ما قلناه في الآية السابقة، أي‏:‏ ما ينتظر هؤلاء إلا واحدة من هذه الأحوال‏:‏

أولاً‏:‏ ‏{‏إلا أن تأتيهم الملائكة‏}‏، أي‏:‏ لقبض أرواحهم، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوهم وأدبارهم وذوقوا عذاب الحريق‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 50‏]‏‏.‏

ثانياً‏:‏ ‏{‏أو يأتي ربك‏}‏‏:‏ وهذه طلوع الشمس من مغربها، فسرها بذلك النبي صلى الله عليه وسلم (2).‏

وإنما ذكر الله هذه الأحوال الثلاث‏:‏

لأن الملائكة إذا نزلت لقبض أرواحهم، لا تقبل منهم التوبة، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 18‏]‏‏.‏

وكذلك أيضاً إذا طلعت الشمس من مغربها، فإن التوبة لا تقبل، وحينئذ لا يستطيعون خلاصاً مما هم عليه‏.‏

وذكر الحالة الثالثة بين الحالين، لأن وقت الجزاء وثمرة العمل، فلا يستطيعون التخلص في تلك الحال مما عملوه‏.‏

والغرض من هذه الآيات والتي قبلها تحذير هؤلاء المكذبين من أن يفوتهم الأوان ثم لا يستطيعون الخلاص من أعمالهم‏.‏

{‏كلا إذا دكت الأرض دكاً دكا ‏(‏21‏)‏ وجاء ربك والملك صفاً صفا‏}‏‏(‏1‏)‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏

‏(‏1‏)‏ الآية الثالثة‏:‏ قوله‏:‏ ‏{‏كلا إذا دكت الأرض دكاً دكا ‏(‏21‏)‏ وجاء ربك والملك صفاً صفا‏}‏ ‏[‏الفجر‏:‏ 21-22‏]‏‏.‏

* ‏{‏كلا‏}‏ هنا للتنبيه، مثل ‏(‏ألا‏)‏‏.‏

* وقوله‏:‏ ‏{‏إذا دكت الأرض دكاً دكا‏}‏‏:‏ هذا يوم القيامة‏.‏

وأكد هذا الدك لعظمته، لأنها تدك الجبال والشعاب وكل شيء يدك، حتى تكون الأرض كالأديم، والأديم هو الجلد، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فيذرها قاعاً صفصفا ‏(‏106‏)‏ لا ترى فيها عوجا ولا أمتا‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 106-107‏]‏‏.‏ ويحتمل أن يكون تكرار الدك تأسيساً لا تأكيداً، ويكون المعنى‏:‏ دكاً بعد دك‏.‏

* قال ‏{‏وجاء ربك والملك صفاً صفا‏}‏‏:‏ ‏{‏وجاء ربك‏}‏، يعني‏:‏ يوم القيامة، بعد أن تدك الأرض وتسوى ويحشر الناس يأتي الله للقضاء بين عباده‏.‏

* وقوله‏:‏ ‏{‏والملك‏}‏‏:‏ ‏(‏الـ‏)‏ هنا للعموم، يعني‏:‏ وكل ملك، يعني‏:‏ الملائكة ينزلون في الأرض‏.‏

* ‏{‏صفاً صفا‏}‏، أي‏:‏ صفاً من وراء صف، كما جاء في الأثر‏:‏ ‏(‏تنزل ملائكة السماء الدنيا فيصفون، ومن ورائهم ملائكة السماء الثانية، ومن ورائهم ملائكة السماء الثالثة ‏)‏ (3) هكذا‏.‏

{‏ويوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلاً‏}‏ ‏(‏1‏)‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏

‏(‏1‏)‏ الآية الرابعة‏:‏ قوله‏:‏ ‏{‏ويوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلاً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 25‏]‏‏.‏

* يعني‏:‏ اذكر يوم تشقق السماء بالغمام‏.‏

* و ‏{‏تشقق‏}‏‏:‏ أبلغ من تنشق، لأن ظاهرها تشقق شيئاً فشيئاً، ويخرج هذا الغمام، يثور ثوران الدخان، ينبعث شيئاً فشيئاً‏.‏

تشقق السماء بالغمام، مثل ما يقال‏:‏ تشقق الأرض بالنبات، يعني‏:‏ يخرج الغمام من السماء ويثور متتابعاً، وذلك لمجيء الله عز وجل للفضل بين عباه، فهو يوم رهيب عظيم‏.‏

* قوله‏:‏ ‏{‏ونزل الملائكة تنزيلاً‏}‏‏:‏ ينزلون من السماوات شيئاً فشيئاً، تنزل ملائكة السماء الدنيا، ثم الثانية، ثم الثالثة‏.‏‏.‏‏.‏ وهكذا‏.‏

وهذه الآية في سياقها ليس فيها ذكر مجيء الله، لكن فيها الإشارة إلى ذلك، لأن تشقق السماء بالغمام إنما يكون لمجيء الله تعالى، بدليل الآيات السابقة‏.‏

هذه أربع آيات ساقها المؤلف لإثبات صفة من صفات الله، وهي‏:‏ المجيء والإتيان‏.‏

وأهل السنة والجماعة يثبتون أن الله يأتي بنفسه هو، لأن الله تعالى ذكر ذلك عن نفسه، وهو سبحانه أعلم بنفسه وبغيره وأصدق قيلاً من غيره وأحسن حديثاً، فكلامه مشتمل على أكمل العلم والصدق والبيان والإرادة، فالله عز وجل يريد أن يبين لنا الحق وهو أعلم وأصدق وأحسن حديثاً‏.‏

لكن يبقى السؤال‏:‏ هل نعلم كيفية هذا المجيء‏؟‏

الجواب‏:‏ لا نعلمه، لأن الله سبحانه وتعالى أخبرنا أنه يجيء، ولم يخبرنا كيف يجيء، ولأن الكيفية لا تعلم إلا بالمشاهدة أو مشاهدة النظير أو الخبر الصادق عنها، وكل هذا لا يوجد في صفات الله تعالى، ولأنه إذا جهلت الذات، جهلت الصفات، أي‏:‏ كيفيتها، فالذات موجودة وحقيقية ونعرفها ونعرف ما معنى الذات وما معنى الذات وما معنى النفس، وكذلك نعرف ما معنى المجيء، لكن كيفية الذات أو النفس وكيفية المجيء غير معلوم لنا‏.‏

فنؤمن بأن الله يأتي حقيقة وعلى كيفية تليق به مجهولة لنا‏.‏

مخالفو أهل السنة والجماعة والرد عليهم‏:‏

وخالف أهل السنة والجماعة في هذه الصفة أهل التحريف والتعطيل، فقالوا‏:‏ إن الله لا يأتي، لأنك إذا أثبت أن الله يأتي، ثبت أنه جسم، والأجسام متماثلة‍‍‍

فنقول‏:‏ هذه دعوى وقياس باطل، لأنه في مقابلة النص، وكل شيء يعود إلى النص بالإبطال، فهو باطل، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 24‏]‏‏.‏

فإذا قالت‏:‏ إن هذا الذي عاد النص بالإبطال هو الحق، صار النص باطلاً ولا بد، وبطلان النص مستحيل‏.‏ وإن قلت‏:‏ إن النص هو الحق، صار هذا باطلاً ولابد‍‏.‏

ثم نقول‏:‏ ما المانع من أن يأتي الله تعالى بنفسه على الكيفية التي يريدها‏؟‏ يقولون‏:‏ المانع أنك إذا اثبت ذلك، فأنت ممثل‏.‏

نقول‏:‏ هذا خطأ، فإننا نعلم أن المجيء والإتيان يختلف حتى بالنسبة للمخلوق، فالإنسان النشيط الذي يأتي كأنما ينحدر من مرتفع من نشاطه، لكنه لا يمشي مرحاً وإن شئت فقل‏:‏ إنه يمش مرحاً‏:‏ هل هذا كالإنسان الذي يمشي على عصا ولا ينقل رجلاً من مكانها إلا بعد تعب‏.‏

والإتيان يختلف من وجه آخر، فإتيان إنسان مثلاً من كبراء البلد أو من ولاة الأمور ليس كإتيان شخص لا يحتفى به‏.‏

ماذا يقول المعطل في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وجاء ربك‏}‏ ونحوها‏؟‏

الجواب‏:‏ يقول‏:‏ المعنى‏:‏ جاء أمر ربك، وأتى أمر ربك‏؟‏ لأن الله تعالى قال‏:‏ ‏{‏أتى أمر الله فلا تستعجلوه‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 1‏]‏، فيجب أن نفسر كل إتيان أضافة الله إلى نفسه بهذه الآية، ونقول‏:‏ المراد‏:‏ أتى أمر الله‏.‏

فيقال‏:‏ إن هذا الدليل الذي استدللت به هو دليل عليك وليس لك لو كان الله تعالى يريد إتيان أمره في الآيات الأخرى، فما الذي يمنعه أن يقول‏:‏ أمره‏؟‏‍ فلما أراد الأمر، عبر بالأمر، ولما لم يرده، لم يعبر به‏.‏

وهذا في الواقع دليل عليك، لأن الآيات الأخرى ليس فيها إجمال حتى نقول‏:‏ إنها بينت بهذه الآية‏.‏ فالآيات الأخرى واضحة، وفي بعضها تقسيم يمنع إرادة مجيء الأمر‏:‏ ‏{‏هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي‏}‏ يقول‏:‏ ‏"‏يأتي ربك‏"‏ أي‏:‏ أمره في مثل هذا التقسيم‏؟‏‍

فإذا قال قائل‏:‏ ما تقولون في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 52‏]‏‏.‏

فالجواب‏:‏ أن المراد بذلك إتيان الفتح أو الأمر، لكن أضاف الله الإتيان به إلا نفسه، لأنه من عنده، وهذا أسلوب معروف في اللغة العربية، فالإتيان إذا قيد بحرف جر مثلاً، فالمراد به ذلك المجرور، وإذا أطلق وأضيف إلى الله بدون قيد، فالمراد به إتيان الله حقيقة‏.‏

الآداب المسلكية المستفادة من الإيمان بصفة المجيء والإتيان لله تعالى‏:‏

التمرة هي الخوف من هذا المقام وهذا المشهد العظيم الذي يأتي فيه الرب عز وجل للفصل بين عباده وتنزل الملائكة، ولا يبقى أمامك إلا الرب عز وجل والمخلوقات كلها، فإن عملت خيراً، جوزيت به، وإن عملت سوى ذلك، فإنك ستجزى به، كما قال النبي عليها لصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏إن الإنسان يخلو به الله عز وجل، فينظر أيمن منه، فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أشأم منه، فلا يرى إلا ما قدم، وينظر تلقاء وجهه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار، ولو بشق تمرة‏)‏ (4) ‏.‏

فالإيمان يمثل هذه الأشياء العظيمة لا شك أنه يولد للإنسان رهبة وخوفاً من الله سبحانه وتعالى واستقامة على دينه‏.‏

 صفة الوجه لله سبحانه وقوله‏:‏ ‏{‏ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام‏}‏، ‏{‏كل شيء هالك إلا وجهه‏}‏‏(‏1‏)‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏

‏(‏1‏)‏ ذكر المؤلف رحمه الله لإثبات صفة الوجه لله تعالى آيتين‏:‏

الآية الأولى‏:‏ قوله‏:‏ ‏{‏ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 27‏]‏‏.‏

وهذه معطوفة على قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كل من عليها فان ‏(‏26‏)‏ ويبقى وجه ربك‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 26-27‏]‏، ولهذا قال بعض السلف‏:‏ ينبغي إذا قرأت‏:‏ ‏{‏كل من عليها فان‏}‏، أن تصلها بقوله‏:‏ ‏{‏ويبقى وجه ربك‏}‏، حتى يتبين نقص المخلوق وكمال الخالق، وذلك للتقابل، هذا فناء وهذا بقاء، ‏{‏كل من عليها فان ‏(‏26‏)‏ ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 26-27‏]‏‏.‏

* قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويبقى وجه ربك‏}‏، أي‏:‏ لا يفنى‏.‏

والوجه‏:‏ معناه معلوم، لكن كيفيته مجهولة، لا نعلم كيف وجه الله عز وجل، كسائر صفاته، لكننا نؤمن بأن له وجهاً موصوفاً بالجلال والإكرام، وموصوفاً بالبهاء والعظمة والنور العظيم، حتى قال النبي عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏حجابه النور، لو كشفه، لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه‏)‏ (5).‏

‏(‏سبحان وجهه‏)‏، يعني‏:‏ بهاءه وعظمته وجلاله ونوره‏.‏

‏(‏ما انتهى إليه بصره من خلقه‏)‏‏:‏ وبصره ينتهي إلى كل شيء، وعليه، فلو كشف هذا الحجاب ـ حجاب النور عن وجهه ـ، لاحترق كل شيء‏.‏

لهذا نقول‏:‏ هذا الوجه وجه عظيم، لا يمكن أبداً أن يماثل أوجه المخلوقات‏.‏

وبناء على هذا نقول‏:‏ من عقيدتنا أننا نثبت أن لله وجهاً حقيقة، ونأخذه من قوله‏:‏ ‏{‏ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام‏}‏، ونقول بأن هذا الوجه لا يماثل أوجه المخلوقين، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ليس كمثله شيء‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 11‏]‏، ونجهل كيفية هذا الوجه، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا يحيطون به علماً‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 110‏]‏‏.‏

فإن حاول أحد أن يتصور هذه الكيفية بقلبه أو أن يتحدث عنها بلسانه، قلنا‏:‏ إنك مبتدع ضال، قائل على الله مالا تعلم، وقد حرم الله علينا أن نقول عليه مالا نعلم، قال تعالى‏:‏ ‏{‏قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً وأن تقولوا على الله مالا تعلمون‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 33‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولاً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 36‏]‏‏.‏

وهنا قال‏:‏ ‏{‏ويبقى وجه ربك‏}‏، أضاف الربوبية إلى محمد صلى الله عليه وسلم ، وهذه الربوبية أخص ما يكون من أنواع الربوبية، لأن الربوبية عامة وخاصة، والخاصة خاصة أخص، وخاص فوق ذلك، كربوبية الله تعالى لرسله، فالربوبية الأخص أفضل بلا شك‏.‏

* وقوله‏:‏ ‏{‏ذو‏}‏‏:‏ صفة لوجه، والدليل الرفع، ولو كانت صفة للرب، لقال ذي الجلال كما قال في نفس السورة‏:‏ ‏{‏تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 78‏]‏، فلما قال‏:‏ ‏{‏ذو الجلال‏}‏، علمنا أنه وصف للوجه‏.‏

* ‏{‏والإكرام‏}‏‏:‏ هي مصدر من أكرم، صالحة للمكرم والمكرم، فالله سبحانه وتعالى مكرم، وإكرامه تعالى القيام بطاعته، ومكرم لمن يستحق الإكرام من خلقه بما أعد لهم من الثواب‏.‏

فهو لجلاله وكمال سلطانه وعظمته أهل لأن يكرم ويثنى عليه سبحانه وتعالى وإكرام كل أحد بحسبه، فإكرام الله عز وجل أن تقدره حق قدره، وأن تعظمه حق تعظيمه، لا لاحتياجه إلى إكرامك، ولكن ليمن عليك بالجزاء‏.‏

الآية الثانية‏:‏ قوله‏:‏ ‏{‏كل شيء هالك إلا وجهه‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 88‏]‏‏.‏

* قوله‏:‏ ‏{‏كل شيء هالك‏}‏، أي‏:‏ فان، كقوله‏:‏ ‏{‏كل من عليها فان‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 26‏]‏‏.‏

* وقوله‏:‏ ‏{‏إلا وجهه‏}‏‏:‏ توازي قوله‏:‏ ‏{‏ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام‏}‏‏.‏

فالمعنى‏:‏ كل شيء فان وزائل، إلا وجه الله عز وجل، فإنه باق، ولهذا قل‏:‏ ‏{‏له الحكم وإليه ترجعون‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 88‏]‏ فهو الحكم الباقي الذي يرجع إليه الناس ليحكم بينهم‏.‏

وقيل في معنى الآية‏:‏ ‏{‏كل شيء هالك إلا وجهه‏}‏، أي‏:‏ إلا ما أريد به وجهه‏.‏ قالوا‏:‏ لأن سياق الآية يدل على ذلك‏:‏ ‏{‏ولا تدع مع الله إلهاً آخر لا إله إلا هو كل شيء هالك إلا وجهه‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 88‏]‏، كأنه يقول‏:‏ لا تدع مع الله إلهاً آخر فتشرك به، لأن عملك وإشراكك هالك، أي‏:‏ ضائع سدى، إلا ما أخلصته لوجه الله، فإنه يبقى، لأن العمل الصالح له ثواب باقى لا يفنى في جنات النعيم‏.‏

ولكن المعنى الأول أسد وأقوى‏.‏

وعلى طريقة من يقو بجواز استعمال المشترك في معنييه، نقول‏:‏

يمكن أن نحمل الآية على المعنيين، إذ لا منافاة بينهما، فتحمل على هذا وهذا، فيقال‏:‏ كل شيء يفنى إلا وجه الله عز وجل، وكل شيء من الأعمال يذهب هباء، إلا ما أريد به وجه الله‏.‏

وعلى أي التقديرين، ففي الآية دليل على ثبوت الوجه لله عز وجل‏.‏

وهو من الصفات الذاتية الخبرية التي مسماها بالنسبة إلينا أبعاض وأجزاء، ولا نقول‏:‏ من الصفات الذاتية المعنوية، ولو قلنا بذلك، لكنا نوافق من تأوله تحريفاً، ولا نقول‏:‏ إنها بعض من الله، أو‏:‏ جزء من الله، لأن ذلك يوهم نقصاً لله سبحانه وتعالى‏.‏

هذا وقد فسر أهل التحريف وجه الله بثوابه، فقالوا‏:‏ المراد بالوجه في الآية الثواب، كل شيء يفنى، إلا ثواب الله‏!‏

ففسروا الوجه الذي هو صفة كمال، فسروه بشيء مخلوق بائن عن الله قابل للعدم والوجود، فالثواب حادث بعد أن لم يكن، وجائز أن يرتفع، لولا وعدالله ببقائه، لكان من حيث العقل جائزاً أن يرتفع، أعني‏:‏ الثواب‏!‏‏.‏

فهل تقولون الآن‏:‏ إن وجه الله الذي وصف الله به نفسه من باب الممكن أو من باب الواجب‏؟‏

إذا فسروه بالثواب، صار من باب الممكن الذي يجوز وجوده وعدمه‏.‏

وقولهم مردود بما يلي‏:‏

أولاً‏:‏ أنه مخالف لظاهر اللفظ، فإن ظاهر اللفظ أن هذا وجه خاص، وليس هو الثواب‏.‏

ثانياً‏:‏ أنه مخالف لإجماع السلف، فما من السلف أحد قال‏:‏ إن المراد بالوجه الثواب‏!‏ وهذه كتبهم بين أيدينا مزبورة محفوظة، أخرجوا لنا نصاً عن الصحابة أو عن أئمة التابعين ومن تبعهم بإحسان أنهم فسروا هذا التفسير، لن تجدوا إلى ذلك سبيلاً أبداً‏.‏

ثالثاً‏:‏ هل يمكن أن يوصف الثواب بهذه الصفات العظيمة‏:‏ ‏{‏ذو الجلال والإكرام‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 27‏]‏‏؟‏‏!‏ لا يمكن‏.‏ لو قلنا مثلاً جزاء المتقين ذو جلال وإكرام‏!‏ فهذا لا يجوز أبداً، والله تعالى وصف هذا الوجه بأنه ذو الجلال والإكرام‏.‏

رابعاً‏:‏ نقول‏:‏ ما تقولون في قول الرسول صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏حجابه النور، لو كشفه، لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بضره من خلقه‏)‏ (6).‏ فهل الثواب له هذا النور الذي يحرق ما انتهى إليه بصر الله من الخلق‏؟‏‏!‏ أبداً، ولا يمكن‏.‏

وبهذا عرفنا بطلان قولهم، وأن الواجب علينا أن نفسر هذا الوجه بما أراده الله به، وهو وجه قائم به تبارك وتعالى موصوف بالجلال والإكرام‏.‏

فإن قلت‏:‏ هل كل ما جاء من كلمة ‏(‏الوجه‏)‏ مضافاً إلى الله يراد به وجه الله الذي هو صفاته‏؟‏

فالجواب‏:‏ هذا هو الأصلى، كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 52‏]‏، ‏{‏وما لأحد عنده من نعمة تجزى ‏(‏19‏)‏ إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ‏(‏20‏)‏ ولسوف يرضى‏}‏ ‏[‏الليل‏:‏ 19-21‏]‏‏.‏‏.‏‏.‏ وما أشبهها من الآيات‏.‏

فالأصل أن المراد بالوجه المضاف إلى الله وجه الله عز وجل الذي هو صفة من صفاته، لكن هناك كلمة اختلف المفسرون فيها، وهي قوله‏:‏ تعالى‏:‏ ‏{‏ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 115‏]‏‏:‏ ‏{‏فأينما تولوا‏}‏، يعني‏:‏ إلى أي مكان تولوا وجوهكم عندا لصلاة‏.‏‏{‏ ثم‏}‏ أي‏:‏ فهناك وجه الله‏.‏

فمنهم من قال‏:‏ إن الوجه بمعنى الجهة، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولكل وجهة هو موليها‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 148‏]‏، فالمراد بالوجه الجهة، أي‏:‏ فثم جهة الله، أي‏:‏ فثم الجهة التي يقبل الله صلاتكم إليها‏.‏

قالوا‏:‏ لأنها نزلت في حال السفر، إذا صلى الإنسان النافلة، فإنه يصلي حيث كان وجهه، أو إذا اشتبهت القبلة، فإنه يتحرى ويصلي حيث كان وجهه‏.‏

ولكن الصحيح أن المراد بالوجه هنا وجه الله الحقيقي، أي‏:‏ إلى أي جهة تتوجهون، فثم وجه الله سبحانه وتعالى، لأن الله محيط بكل شيء، ولأنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أن المصلي إذا قام يصلي، فإن الله قبل وجهه (7)، ولهذا نهى أن يبصق أما وجهه، لأن الله قبل وجهه‏.‏

فإذا صليت في مكان لا تدري أن القبلة، واجتهدت وتحريت، وصليت، وصارت القبلة في الواقع خلفك، فالله يكون قبل وجهك، حتى في هذه الحال‏.‏

وهذا معنى صحيح موافق لظاهر الآية‏.‏

والمعنى الأول لا يخالفه في الواقع‏.‏

إذا قلنا‏:‏ فثم جهة الله، وكان هناك دليل، سواء كان هذا الدليل تفسير الآية الثانية في الوجه الثاني، أو كان الدليل ما جاءت به السنة، فإنك إذا توجهت إلى الله في صلاتك، فهي جهة الله التي يقبل الله صلاتك إليها، فثم أيضاً وجه الله حقاً‏.‏ وحينئذ يكون المعنيان لا يتنافيان‏.‏

واعلم أن هذا الوجه العظيم الموصوف بالجلال والإكرام وجه لا يمكن الإحاطة به وصفاً، ولا يمكن الإحاطة به تصوراً، بل كل شيء تقدره، فإن الله تعالى فوق ذلك وأعظم، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولا يحيطون به علما‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 110‏]‏‏.‏

فإن قيل‏:‏ ما المراد بالوجه في قوله‏:‏ ‏{‏كل شيء هالك إلا وجهه‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 88‏]‏‏؟‏ إن قلت‏:‏ المراد بالوجه الذات، فيخشى أن تكون حرفت وإن أردت بالوجه نفس الصفة أيضاً، وقعت في محظور ـ وهو ما ذهب إليه بعض من لا يقدرون الله حق قدره، حيث قالوا‏:‏ إن الله يفنى إلا وجهه ـ فماذا تصنع‏؟‏‏!‏

فالجواب‏:‏ إن أردت بقولك‏:‏ إلا ذاته، يعني‏:‏ أن الله تعالى يبقى هو نفسه مع إثبات الوجه لله، فهذا صحيح، ويكون هنا عبر بالوجه عن الذات لمن له وجه‏.‏

وإن أردت بقولك‏:‏ الذات‏:‏ أن الوجه عبارة عن الذات بدون إثبات الوجه، فهذا تحريف وغير مقبول‏.‏

وعليه فنقول‏:‏ ‏{‏إلا وجهه‏}‏، أي‏:‏ إلا ذاته المتصفة بالوجه، وهذا ليس فيه شيء، لأن الفرق بين هذا وبين قول أهل التحريف أن هؤلاء يقولون‏:‏ إن المراد بالوجه الذات، لأن له وجهاً، فعبر به عن الذات‏.‏