فصل: إثبات اتصافه بالرحمة والمغفرة سبحانه وتعالى

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: شرح العقيدة الواسطية **


 صفة الرحمة

وقوله‏:‏ ‏{‏بسم الله الرحمن الرحيم‏}‏‏(‏1‏)‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏

‏(‏1‏)‏ هذه آيات في إثبات صفة الرحمة‏:‏

الآية الأولى‏:‏ قوله‏:‏ ‏{‏بسم الله الرحمن الرحيم‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 30‏]‏‏.‏

هذه آية أتى بها المؤلف ليثبت حكماً، وليست مقدمة لما بعدها، وقد سبق لنا شرح البسملة، فلا حاجة إلى إعادته‏.‏

وفيها من أسماء الله ثلاثة‏:‏ الله، الرحمن، الرحيم‏.‏ ومن صفاته‏:‏ الألوهية، والرحمة‏.‏

{‏ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما‏}‏‏(‏1‏)‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏

‏(‏1‏)‏ الآية الثانية‏:‏ قوله‏:‏ ‏{‏ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 7‏]‏‏.‏ هذا يقوله الملائكة‏:‏ ‏{‏الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 7‏]‏‏.‏

ما أعظم الإيمان وأعظم فائدته

الملائكة حول العرش يحملونه، يدعون الله للمؤمن‏.‏

* وقوله‏:‏ ‏{‏ربنا وسعت كل شيء رحمة‏}‏‏:‏ يدل على أن كل شيء وصله علم الله، وهو واصل لكل شيء، فإن رحمته وصلت إليه، لأن الله قرن بينهما في الحكم ‏{‏ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما‏}‏‏.‏

وهذه هي الرحمة العامة التي تشمل جميع المخلوقات، حتى الكفار، لأن الله قرن الرحمة هذه مع العلم، فكل ما بلغه علم الله، وعلم الله بالغ لكل شيء، فقد بلغته رحمته، فكما يعلم الكافر، يرحم الكافر أيضاً‏.‏

لكن رحمته للكافر رحمة جسدية بدنية دنيوية قاصرة غاية القصور بالنسبة لرحمة المؤمن، فالذي يرزق الكافر هو الله الذي يرزقه بالطعام والشراب واللباس والمسكن والمنكح وغير ذلك‏.‏

أما المؤمنون، فرحمتهم رحمة أخص من هذه وأعظم، لأنهار رحمة إيمانية دينية دنيوية‏.‏

ولهذا تجد المؤمن أحسن حالاً من الكافر، حتى في أمور الدنيا، لأن الله يقول‏:‏ ‏{‏من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 97‏]‏‏:‏ الحياة الطيبة هذه مفقودة بالنسبة للكفار، حياتهم كحياة البهائم، إذا شبع، روث، وإذا لم يشبع، جلس يصرخ هكذا هؤلاء الكفار إن شبعوا، بطروا وإلا جلسوا يصرخون ولا يستفيدون من دنياهم، لكن المؤمن إن أصابته سراء، شكر، فهو في خير في هذا وفي هذا، وقلبه منشرح مطمئن متفق مع القضاء والقدر، لا جزع عند البلاء، ولا بطر عند النعماء، بل هو متوازن مستقيم معتدل‏.‏

فهذا فرق ما بين الرحمة هذه وهذه‏.‏

لكن مع الأسف الشديد أيها الأخوة‏:‏ إن منا أناساً آلافاً يريدون أن يلحقوا بركب الكفار في الدنيا، حتى جعلوا الدنيا هي همهم، إن أعطوا، رضوا، وإن لم يعطوا، إذا هم يسخطون هؤلاء مهما بلغوا في الرفاهية الدنيوية، فهم في جحيم، لم يذوقوا لذة الدنيا أبداً، إنما ذاقها من آمن بالله وعمل صالحاً‏.‏ ولهذا قال بعض السلف‏:‏ والله، لو يعلم الملوك وأبناء لملوك ما نحن فيه، لجالدونا عليه بالسيوف‏.‏ لأنه حال بينهم وبين هذا النعيم ما هم عليه من الفسوق والعصيان والركون إلى الدنيا وأنها أكبر همهم ومبلغ علمهم‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏رحمة وعلما‏}‏‏:‏ ‏{‏رحمة‏}‏‏:‏ تمييز محول عن الفاعل، وكذلك ‏{‏وعلما‏}‏، لأن الأصل‏:‏ ربنا وسعت رحمتك وعلمك كل شيء‏.‏

وفي الآية من صفات الله‏:‏ الربوبية وعموم الرحمة، والعلم‏.‏

{‏وكان بالمؤمنين رحيماً‏}‏‏(‏1‏)‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏

‏(‏1‏)‏ الآية الثالثة‏:‏ قوله‏:‏ ‏{‏وكان بالمؤمنين رحيماً‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 43‏]‏‏.‏

* ‏{‏بالمؤمنين‏}‏‏:‏ متعلق بـ‏(‏رحيم‏)‏، وتقديم المعمول يدل على الحصر، فيكون معنى الآية‏:‏ وكان بالمؤمنين لا غيرهم رحيماً‏.‏

ولكن كيف نجمع بين هذه الآية والتي قبلها‏:‏ ‏{‏ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلماً‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 7‏]‏‏؟‏‏!‏

نقول‏:‏ الرحمة التي هنا غير الرحمة التي هناك‏.‏ هذه رحمة خاصة متصلة برحمة الآخرة لا ينالها الكفار، بخلاف الأولى‏.‏ هذا هو الجمع بينهما، وإلا؛ بخلاف الأولى‏.‏ هذا هو الجمع بينهما، وإلا، فكل مرحوم، لكن فرق بين الرحمة الخاصة والرحمة العامة‏.‏

وفي الآية من الصفات‏:‏ الرحمة‏.‏

ومن الناحية المسلكية‏:‏ الترغيب في الإيمان‏.‏

{‏ورحمتي وسعت كل شيء‏}‏‏(‏1‏)‏‏.‏ ‏{‏كتب ربكم على نفسه الرحمة‏}‏‏(‏2‏)‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏

‏(‏1‏)‏ الآية الرابعة‏:‏ قوله‏:‏ ‏{‏ورحمتي وسعت كل شيء‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 156‏]‏ يقول جل جلاله ممتدحاً مثنياً على نفسه ‏{‏ورحمتي وسعت كل شيء‏}‏، فأثنى على نفسه عز وجل بأن رحمته وسعت كل شيء من أهل السماء ومن أهل الأرض‏.‏

ونقول فيها ما قلنا في الآية الثانية، فليرجع إليه‏.‏

‏(‏2‏)‏ الآية الخامسة‏:‏ قوله‏:‏ ‏{‏كتب ربكم على نفسه الرحمة‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 54‏]‏‏.‏

* ‏{‏كتب‏}‏‏:‏ بمعنى‏:‏ أوجب على نفسه الرحمة، فالله عز وجل لكرمه وفضله وجوده أوجب على نفسه الرحمة، فالله عز وجل لكرمه وفضله وجوده أوجب على نفسه الرحمة، وجعل رحمته سابقه لغضبه، ‏{‏ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 45‏]‏، لكن حلمه ورحمته أوجبت أن يبقى الخلق إلى أجل مسمى‏.‏

* ومن رحمته ما ذكره بقوله‏:‏ ‏{‏أنه من عمل منكم سوءاً بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فأنه غفور رحيم‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 54‏]‏ هذه من رحمته‏.‏

* ‏{‏سوءا‏}‏‏:‏ نكرة في سياق الشرط، فتعم كل سوء، حتى الشرك‏.‏

* ‏{‏بجهالة‏}‏‏:‏ يعني‏:‏ بسفه، وليسالمراد بها عدم العلم، والسفه عدم الحكمة، لأن كل من عصى الله، فقد عصاه بجهالة وسفه وعدم حكمة‏.‏

{‏ثم تاب من بعده وأصلح فأنه غفور رحيم‏}‏‏:‏ فيغفر ذنبه ويرحمه‏.‏

ولم يختم الآية بهذا، إلا سينال التائب المغفرة والرحمة، هذا من رحمته التي كتبها على نفسه، وإلا لكان مقتضى العدل أن يؤاخذه على ذنبه، ويجزيه على عمله الصالح‏.‏

فلو أن رجلاً أذنب خمسين يوماً، ثم تاب وأصلح خمسين يوماً، فالعدل أن نعذبه عن خمسين يوماً، ونجازيه بالثواب عن خمسين يوماً، لكن الله عز وجل كتب على نفسه الرحمة، فكل الخمسين يوماً، لكن الله عز وجل كتب على نفسه الرحمة، فكل الخمسين يوماً التي ذهبت من السوء تمحى وتزول بساعة، وزد على ذلك‏:‏ ‏{‏فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 70‏]‏، السيئات الماضية تكون حسنات، لأن كل حسنة عنها توبة، وكل توبة فيها أجر‏.‏

فظهر بهذا أثر قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كتب ربكم على نفسه الرحمة‏}‏‏.‏

وفي الآية من صفات الله‏:‏ الربوبية، والإيجاب، والرحمة‏.‏

‏(‏1‏)‏ الآية السادسة‏:‏ قوله‏:‏ ‏{‏وهو الغفور الرحيم‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 107‏]‏‏.‏

* الله عز وجل هو الغفور الرحيم، جمع عز وجل بين هذين الاسمين، لأن بالمغفرة سقوط عقوبة الذنوب، وبالرحمة حصول المطلوب، والإنسان مفقتر إلى هذا وهذا، ومفتقر إلى مغفرة ينجو بها من آثامه، ومفتقر إلى رحمة يسعد بها بحصول مطلوبة‏.‏

* فـ ‏{‏الغفور‏}‏‏:‏ صيغة مبالغة مأخوذة من الغفر، وهو الستر مع الوقاية، لأنه مأخوذ من المغفر، والمغفر شيء يوضع على الرأس في القتال يقي من السهام، وهذا المغفر تحصل به فائدتان هما‏:‏ ستر الرأس والوقاية‏.‏ فـ ‏{‏الغفور‏}‏‏:‏ الذي يستر ذنوب عباده، ويقيهم آثامها، بالعفو عنها‏.‏

ويدل على هذا ما ثبت في الصحيح‏:‏ ‏(‏أن الله عز وجل يخلو يوم القيامة بعبده، ويقرره بذنوبه، يقول‏:‏ عملت كذا، وعملت كذا‏.‏‏.‏ حتى يقر، فيقول الله عز وجل له‏:‏ قد سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم‏)‏ (1)‏.‏

{‏فالله خير حافظاً وهو أرحم الراحمين‏}‏‏(‏1‏)‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏

‏(‏1‏)‏ الآية السابعة‏:‏ قوله‏:‏ ‏{‏فالله خير حافظاً وهو أرحم الراحمين‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 64‏]‏، قالها عن يعقوب حين أرسل مع أبنائه أخا يوسف الشقيق، لأن يوسف عليه الصلاة والسلام قال‏:‏ لا كيل لكم إذا رجعتم، إلا إذا أتيتم بأخيكم، فبلغوا والدهم هذه الرسالة، ومن أجل الحاجة أرسله معهم، وقال لهم عند وداعه‏:‏ ‏{‏هل آمنكم عليه إلا كما أمنتكم على أخيه من قبل فالله خير حافظاً وهو أرحم الراحمين‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 64‏]‏، يعني‏:‏ لن تحفظوه، لكن الله هو الذي يحفظه‏.‏

* ‏{‏خير حافظاً‏}‏‏:‏ ‏{‏حافظاً‏}‏‏:‏ قال العلماء‏:‏ إنا تمييز، كقول العرب‏:‏ لله دره فارساً‏.‏ وقيل‏:‏ إنها حال من فاعل ‏{‏خير‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏فالله خير‏}‏، أي‏:‏ حال كونه حافظاً‏.‏

* الشاهد من الآية هنا قوله‏:‏ ‏{‏وهو أرحم الراحمين‏}‏، حيث أثبت الله عز وجل الرحمة، بل بين أنه أرحم الراحمين، لو جمعت رحمة الخلق كلهم، بل رحمات الخلق كلهم، لكانت رحمة الله أشد وأعظم‏.‏

أرحم ما يكون من الخلق بالخلق رحمة الأم ولدها، فإن رحمة الأم ولدها لا يساويها شيء من رحمة الناس أبداً، حتى الأب لا يرحم أولاده مثل أمهم في الغالب‏.‏

جاءت امرأة في السبي تطلب ولدها وتبحث عنه، فلما رأته، أخذته بشفقة وضمته إلى صدرها أمام الناس وأمام الرسول عليه الصلاة والسلام، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أترون أن هذه المرأة طارحة ولدها في النار‏؟‏‏)‏‏.‏ قالوا‏:‏ لا والله يا رسول الله‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏لله أرحم بعباده من هذه بولدها‏)‏ (2).‏

جل جلاله، عز ملكه وسلطانه‏.‏

كل الراحمين، إذا جمعت رحماتهم كلهم، فليست بشيء عند رحمة الله‏.‏

ويدلك على هذا أن الله عز وجل خلق مئة رحمة، وضع منها رحمة واحدة يتراحم بها الخلائق في الدنيا ‏(3).‏

كل الخلائق تتراحم، البهائم والعقلاء، ولهذا تجد البعير الجموح الرموح ترفع رجلها عن ولدها مخافة أن تصيبه عندما يرضع حتى يرضع بسهولة ويسر، وكذلك تجد السباع الشرسة تجدها تحن على ولدها وإذا جاءها أحد في جحرها مع أولادها، ترمي نفسها عليه، فتدافع عنهم، حتى ترده عن أولادها‏.‏

وقد دل على ثبوت رحمة الله تعالى‏:‏ الكتاب، والسنة، والإجماع، والعقل‏:‏

فأما الكتاب، فجاء به إثبات الرحمة على وجوه متنوعة، تارة بالاسم، كقوله‏:‏ ‏{‏وهو الغفور الرحيم‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 107‏]‏، وتارة بالصفة، قوله‏:‏ ‏{‏وربك الغفور ذو الرحمة‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 58‏]‏، وتارة بالفعل، كقوله‏:‏ ‏{‏يعذب من يشاء ويرحم من يشاء‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 21‏]‏، وتارة باسم التفضيل، كقوله‏:‏ ‏{‏وهو أرحم الراحمين‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 92‏]‏‏.‏

وبمثل هذه الوجوه‏.‏‏.‏ جاءت السنة‏.‏

وأما الأدلة العقلية على ثبوت الرحمة لله تعالى، فمنها ما نرى من الخيرات الكثيرة التي تحصل بأمر الله عز وجل، ومنها ما نرى من النقم الكثيرة التي تندفع بأمر الله، كله دال على إثبات الرحمة عقلاً‏.‏

فالناس في جدب وفي قحط، الأرض مجدبة، والسماء قاحطة، لا مطر، ولا نبات، فينزل الله المطر، وتنبت الأرض، وتشبع الأنعام، ويسقي الناس‏.‏‏.‏ حتى العامي الذي لم يدرس، لو سألته وقلت‏:‏ هذا من أي شيء‏؟‏ فسيقول‏:‏ هذا من رحمة الله ولا يشك أحد في هذا أبداً‏.‏

فرحمة الله عز وجل ثابتة بالدليل السمعي والدليل العقلي‏.‏

وأنكر الأشاعرة وغيرهم من أهل التعطيل أن يكون الله تعالى متصفاً بالرحمة، قالوا‏:‏ لأن العقل لم يدل عليها‏.‏ وثانياً‏:‏ لأن الرحمة رقة وضعف وتطامن للمرحوم، وهذا لا يليق بالله عز وجل، لأن الله أعظم من أن يرحم بالمعنى الذي هو الرحمة، ولا يمكن أن يكون لله رحمة‏!‏‏!‏ وقالوا‏:‏ المراد بالرحمة‏:‏ إرادة الإحسان، أو‏:‏ الإحسان نفسه، أي‏:‏ إما النعم، أو إرادة النعم‏.‏

فتأمل الآن كيف سلبوا هذه الصفة العظيمة، التي كل مؤمن يرجوها ويؤملها، كل إنسان لو سألته‏:‏ ماذا تريد‏؟‏ قال‏:‏ أريد رحمة الله ‏{‏إن رجعت الله قريب من المحسنين‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 56‏]‏‏.‏ أنكروا هذا، قالوا‏:‏ لا يمكن أن يوصف الله بالرحمة‏!‏‏!‏

ونحن نرد عليهم قولهم من وجهين‏:‏ بالتسليم، والمنع‏:‏

التسليم أن نقول‏:‏ هب أن العقل لا يدل عليها، ولكن السمع دل عليها، فثبتت بدليل آخر، والقاعدة العامة عند جميع العقلاء‏:‏ أن انتفاء الدليل المعين لا يستلزم انتفاء المدلول، لأنه قد يثبت بدليل آخر‏.‏ فهب أن الرحمة لم تثبت بالعقل، لكن ثبتت بالسمع، وكم من أشياء ثبتت بأدلة كثيرة‏.‏

أما المنع، فنقول‏:‏ إن قولكم‏:‏ إن العقل لا يدل على الرحمة‏:‏ قول باطل، بل العقل يدل على الرحمة، فهذه النعم المشهودة والمسموعة، وهذه النقم المدفوعة، ما سببها‏؟‏ إن سببها الرحمة بلا شك، ولو كان الله لا يرحم العباد، ما أعطاهم النعم، ولا دفع عنهم النقم‏!‏

وهذا أمر مشهود، يشهد به الخاص والعام، العامي في دكانه أو سوقه يعرف أن هذه النعم من آثار الرحمة‏.‏

والعجيب أن هؤلاء القوم أثبتوا صفة الإرادة عن طريق التخصيص، قالوا‏:‏ الإرادة ثابتة لله تعالى بالسمع والعقل‏:‏ بالسمع‏:‏ واضح‏.‏ وبالعقل‏:‏ لأن التخصيص، يدل على الإرادة ومعنى التخصيص يعني تخصيص المخلوقات بما هي عليه يدل على الإرادة، كون هذه السماء سماء، وهذه الأرض أرضاً، وهذه النجوم وهذه الشمس‏.‏‏.‏‏.‏ هذه مختلفة بسبب الإرادة، أراد الله أن تكون السماء سماء، فكانت، وأن تكون الأرض أرضاً، فكانت، والنجم نجماً، فكان‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ وهكذا‏.‏

قالوا‏:‏ فالتخصيص يدل على الإرادة، لأنه لولا الإرادة، لكان الكل شيئاً واحداً‏!‏

نقول لهم‏:‏ يا سبحان الله العظيم‏!‏ هذا الدليل على الإرادة بالنسبة لدلالة النعم على الرحمة أضعف وأخفى من دلالة النعم على الرحمة، لأن دلالة النعم على الرحمة يستوي في علمها العام والخاص، ودلالة التخصيص على الإرادة لا يعرفها إلا الخاص من طلبة العلم، فكيف تنكرون ما هو أجلى وتثبتون ما هو أخفى‏؟‏‏!‏ وهل هذا إلا تناقض منكم‏؟‏‏!‏

ما نستفيده من الناحية المسلكية في هذه الآيات‏:‏

الأمر المسلكي‏:‏ هو أن الإنسان ما دام يعرف أن الله تعالى رحيم، فسوف يتعلق برحمة الله، ويكون منتظراً لها، فيحمله هذا الاعتقاد على فعل كل سبب يوصل إلى الرحمة، مثل‏:‏ الإحسان، قال الله تعالى فيه‏:‏ ‏{‏إن رحمت الله قريب من المحسنين‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 56‏]‏، والتقوى، قال تعالى‏:‏ ‏{‏فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 156‏]‏، والإيمان، فإنه من أسباب رحمة الله، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وكان بالمؤمنين رحيماً‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 43‏]‏، ولكما كان الإيمان أقوى، كانت الرحمة إلى صاحبه أقرب بإذن الله عز وجل‏.‏

 

صفة الرضى

وقوله‏:‏ ‏{‏رضي الله عنهم ورضوا عنه‏}‏‏(‏1‏)‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏

‏(‏1‏)‏ هذه من آيات الرضى، فالله سبحانه وتعالى موصوف بالرضى، وهو يرضى عن العمل، ويرضى عن العامل‏.‏

يعني‏:‏ أن رضى الله متعلق بالعمل وبالعامل‏.‏‏.‏

أما بالعمل، فمثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن تشكروا يرضه لكم‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 7‏]‏، أي‏:‏ يرض الشكر لكم‏.‏

وكما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ورضيت لكم الإسلام ديناً‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 3‏]‏‏.‏ وكما في الحديث الصحيح‏:‏ ‏(‏إن الله يرضى لكم ثلاثاً، ويكره لكم ثلاثاً‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ (4).‏

فهذا الرضى متعلق بالعمل‏.‏

ويتعلق الرضى أيضاً بالعامل، مثل هذه الآية التي ساقها المؤلف‏:‏ ‏{‏رضي الله عنهم ورضوا عنه‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 119‏]‏‏.‏

فرضى الله صفة ثابتة لله عز وجل، وهي في نفسه، وليست شيئاً منفصلاً عنه‏:‏ كما يدعيه أهل التعطيل‏.‏

ولو قال لك قائل‏:‏ فسر لي الرضى‏.‏ لم تتمكن من تفسيره، لأن الرضى صفة في الإنسان غريزية، والغرائز لا يمكن لإنسان أن يفسرها بأجلى وأوضح من لفظها‏.‏

فنقول‏:‏ الرضى صفة في الله عز وجل، وهي صفة حقيقية، متعلقة بمشيئته، فهي من الصفات الفعلية، يرضى عن المؤمنين وعن المتقين وعن المقسطين وعن الشاكرينن ولا يرضى عن القوم الكافرين، ولا يرضى عن القوم الفاسقين، ولا يرضى عن المنافقين، فهو سبحانه وتعالى يرضى عن أناس ولا يرضى عن أناس، ويرضى أعمالاً ويكره أعمالاً‏.‏

ووصف الله تعالى بالرضى ثابت بالدليل السمعي، كما سبق، وبالدليل العقلي، فإن كونه عز وجل يثيب الطائعين ويجزيهم على أعمالهم وطاعاتهم يدل على الرضى‏.‏

فإن قلت‏:‏ استدلالك بالمثوبة على رضى الله عز وجل قد ينازع فيه، لأن الله سبحانه قد يعطي الفاسق من النعم أكثر مما يعطي الشاكل‏.‏ وهذا إيراد قوي‏.‏

ولكن الجواب عنه أن يقال‏:‏ إعطاؤه الفاسق المقيم على معصيته استدراج، وليس عن رضى‏:‏

كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏والذين كذبوا بآياتنا سنستدرجهم من حيث لا يعلمون ‏(‏182‏)‏ وأملي لهم إن كيدي متين‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 182-183‏]‏‏.‏

وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن الله ليملي للظالم، حتى إذا أخذه، لم يفلته‏)‏، وتلا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 102‏]‏‏.‏ ‏[‏رواه البخاري/ كتاب التفسير، ومسلم/ كتاب البر/ باب تحريم الظلم‏.‏ ‏]‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون ‏(‏44‏)‏ فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 44-45‏]‏‏.‏

أما إذا جاءت المثوبة والإنسان مقيم على طاعة الله، فإننا نعرف أن ذلك صادر عن رضى الله عنه‏.‏