فصل: الفصل الخامس: الفتنة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: عثمان بن عفان **


 الفصل الخامس‏:‏ الفتنة‏‏

 تسيير أهل الفتنة في العراق إلى معاوية في الشام

‏[‏الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 634، ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 30‏]‏‏:‏

اختار سعيد بن العاص والي الكوفة بعد الوليد بن عقبة وجوه الناس، وأهل القادسية، وقراء أهل البصرة دخلته إذا خلا، فأما إذا جلس الناس فإنه يدخل عليه كل أحد‏.‏ فجلس للناس يومًا فدخلوا عليه فبينا هم جلوس يتحدثون قال خنيس بن فلان الأسدي‏:‏ ما أجود طلحة بن عبيد اللَّه‏!‏ ‏[‏هو طلحة بن عبيد اللَّه بن عثمان التيمي، القرشي المدني، أبو محمد، صحابي، شجاع، من الأجواد، وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة، وأحد الستة أصحاب الشورى، أحد الثمانية السابقين إلى الإسلام، ولد سنة 28 هـ، قال ابن عساكر‏:‏ كان من دهاة قريش ومن علمائهم، وكان يقال له ولأبي بكر‏:‏ القرينان، وذلك لأن نوفل بن حارث وكان أشد قريش رأى طلحة وقد أسلم خارجًا مع أبي بكر من عند النبي ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ فأمسكهما وشدَّهما في حبل‏.‏ ويقال له‏:‏ طلحة الجود، وطلحة الخير، وطلحة الفياض، وكل ذلك لقبه به رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ في مناسبات مختلفة، ودعاه مرة‏:‏ الصبيح المليح الفصيح‏.‏ شهد أُحدًا وثبت مع رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ وبايعه على الموت، وأصيب بأربعة وعشرين جرحًا، وسَلِمَ، شهد الخندق وسائر المشاهد‏.‏ كانت له تجارة وافرة مع العراق، ولم يكن يدع أحدًا من بني تيم عائلًا إلا كفاه مؤونته ومؤونة عياله، ووفى دينه، قتل يوم الجمل وهو بجانب عائشة سنة 36 هـ، ودفن في البصرة‏.‏ للاستزادة راجع‏:‏ ابن سعد ج 3/ص 152، تهذيب التهذيب ج 5/ص 20، البدء والتاريخ ج 5/ص 82، الجمع بين رجال الصحيحين ص 230، غاية النهاية ج 1/ص 342، الرياض النضرة ج 2/ص 249، صفة الصفوة ج 1/ص 130، حلية الأولياء ج 1/ص 87، ذيل المذيل ص 11، تهذيب ابن عساكر ج 7/ص 71، المحبّر ص 355‏.‏

‏]‏‏.‏ فقال سعيد بن العاص‏:‏ ‏:‏إن من له مثل النشاستج ‏[‏نشاستج‏:‏ ضيعة بالكوفة كانت لطلحة بن عبيد اللَّه التميمي‏.‏ أحد العشرة المبشرين بالجنة، وكانت عظيمة الدخل اشتراها من أهل الكوفة المقيمين بالحجاز بمال كان له بخيبر وعمرها فعظم دخلها‏.‏ قال الواقدي‏:‏ أول من أقطع بالعراق عثمان بن عفان ـ رضي اللَّه عنه ـ قطائع مما كان من صوافي آل كسرى ومما جلا عنه أهله فقطع لطلحة بن عبيد اللَّه النشاستج‏.‏ وقيل بل أعطاه إياها عوضًا عن مال كان له بحضرموت‏.‏‏]‏ لحقيق أن يكون جوادًا‏.‏ واللَّه لو أن ليِّ مثله لأعاشكم اللَّه عيشًا رغدًا‏"‏ ‏[‏ص 128‏]‏‏.‏

فقال عبد الرحمن بن خنيس، وهو حدث‏:‏ واللَّه لوددت أن هذا الملطاط ‏[‏قال ابن النجار في كتاب الكوفة‏:‏ وكان يقال لظهر الكوفة‏:‏ اللسان، وما ولى الفرات منه الملطاط‏.‏‏]‏ لك يعني ما كان لكسرى على جانب الفرات الذي يلي الكوفة‏.‏

قالوا‏:‏ فضَّ اللَّه فاك‏.‏ واللَّه لقد هممنا بك‏.‏ فقال خنيس‏:‏ غلام فلا تجاوزوه‏.‏ فقالوا‏:‏ يتمنى له من سوادنا‏.‏ قال‏:‏ ويتمنى لكم أضعافه‏.‏ قالوا‏:‏ لا يتمنى لنا ولا له‏.‏ قال‏:‏ ما هذا بكم‏.‏ قالوا‏:‏ أنت واللَّه أمرته بها‏.‏ فثار إليه الأشتر، وابن ذي الحبكة، وجندب، وصعصعة، وابن الكواء، وكميل، وعمير بن ضابئ فأخذوه‏.‏ فذهب أبوه ليمنع عنه، فضربوهما حتى غشي عليهما، وجعل سعد يناشدهم ويأبون، حتى قضوا منهما وطرًا‏.‏

فسمعت بذلك بنو أسد فجاءوا وفيهم طليحة ‏[‏هو طُلَيْحة بن خويلد الأسدي، من أسد خزيمة، متنبّئ، شجاع، من الفصحاء، متوفى سنة 21 هـ‏.‏ يقال له‏:‏ طُلَيْحة الكذاب، كان من أشجع العرب، يُعَدُّ بألف فارس كما يقول النووي، قدم على النبي ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ في وفد بني أسد سنة 9 هـ، وأسلموا، ولما رجعوا ارتد طُلَيْحة، وادَّعى النبوة في حياة رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ، فوجَّه إليه ضرار بن الأزور، فضربه ضرار بسيف يريد قتله، فنبا السيف، فشاع بين الناس أن السلاح لا يؤثر فيه‏.‏ ومات النبي ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ فكثر أتباع طُلَيْحة من أسد وغطفان وطيئ وكان يقول‏:‏ إن جبريل يأتيه، وتلا على الناس أسجاعًا أمرهم فيها بترك السجود في الصلاة وكانت رايته حمراء‏.‏ طمع بامتلاك المدينة، فهاجر بعض أشياعه، فردهم أهلها، غزاه أبو بكر وسيَّر إليه خالد بن الوليد فانهزم طُلَيْحة وفرَّ إلى الشام، ثم أسلم بعد أن أسلمت أسد وغطفان كافة، وفد على عمر وبايعه في المدينة، وخرج إلى العراق، فَحَسن بلاؤه في الفتوح، واستشهد بنهاوند‏.‏ للاستزادة راجع‏:‏ الكامل في التاريخ ج 2 أحداث سنة 11، معجم البلدان مادة‏:‏ بزاخة، تهذيب ابن عساكر ج 7/ص 300، تاريخ الخميس ج 2/ص 187، الإصابة ترجمة 4283، تهذيب الأسماء واللغات ج 1/ص 201‏.‏‏]‏، فأحاطوا بالقصر، وركبت القبائل، فعادوا بسعيد، فخرج سعيد إلى الناس فقال‏:‏ أيها الناس‏.‏ قوم تنازعوا وتهاووا وقد رزق اللَّه العافية‏.‏ ثم قعدوا وعادوا في حديثهم وتراجعوا‏.‏ وأفاق الرجلان فقال‏:‏ أبكما حياة‏؟‏ قالا‏:‏ قتلتنا غاشيتك ‏[‏غاشيتك‏:‏ أي الذين يترددون عليك‏.‏ ‏[‏القاموس المحيط، مادة‏:‏ غشي‏]‏‏.‏

‏]‏ قال‏:‏ لا يغشوني واللَّه أبدًا فاحفظا عليَّ ألسنتكما ولا تجرَّئا عليَّ الناس، ففعلا ‏[‏ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 31‏]‏‏.‏

ولما انقطع أولئك النفر من ذلك، قعدوا في بيوتهم وأقبلوا على الإذاعة حتى لامه أهل ‏[‏ص 129‏]‏ الكوفة في أمرهم‏.‏ فقال‏:‏ هذا أميركم وقد نهاني أن أحرك شيئًا فمن أراد أن يحرك شيئًا فليحركه، إن هؤلاء النفر لما قعدوا في بيوتهم تكلموا في حق الخليفة عثمان وشتموه‏.‏

وقيل‏:‏ بل كان السبب في ذلك أنه كان يسمر ‏[‏يسمر‏:‏ يتحدَّث ليلًا‏.‏ ‏[‏القاموس المحيط، مادة‏:‏ سمر‏]‏‏.‏‏]‏ عند سعيد بن العاص وجوه أهل الكوفة منهم مالك بن كعب والأسود بن يزيد ‏[‏هو الأسود بن يزيد بن قيس، النخعي، الكوفي، أبو عمرو، المتوفى سنة 75 هـ، تابعي فقيه من الحفاظ، كان عالم الكوفة في عصره، ثقة، مكثر‏.‏ للاستزادة راجع‏:‏ تذكرة الحُفَّاظ ج 1/ص 85، حلية الأولياء ج 2/ص 108، تهذيب الكمال ج 1/ص 301، تهذيب التهذيب ج 1/ص 66، تقريب التهذيب ج 1/ص 178، خلاصة تهذيب الكمال ج 1/ص 188، الكاشف ج 1/ص 200، تاريخ البخاري الكبير ج 1/ص 105، تاريخ البخاري الصغير ج 1/ص 207، الجرح والتعديل ج 2/ص 178، الثقات ج 4/ص 310، الوافي بالوفيات ج 9/ص 222، طبقات الحفاظ ص 125، شذرات الذهب ج 1/ص 180، سير الأعلام ج 4/ص 118، البداية والنهاية ج 9/ص 205، نسيم الرياض ج 2/ص 236، أعيان الشيعة ج 3/ص 287، طبقات ابن سعد ج 9/ص 188‏.‏‏]‏، وعلقمة بن قيس، ومالك الأشتر ‏[‏هو مالك بن الحارث بن عبد يغوث النخعي، المعروف بالأشتر، أمير من كبار الشجعان، كان رئيس قومه، أدرك الإسلام، أول من عرف عنه أنه حضر خطبة عمر في الجابية، سكن الكوفة، وكان له نسل فيها، كان ممن ألَّبَ على عثمان وحضر حصره في المدينة، شهد يوم الجمل، وأيام صفِّين مع علي، وولاَّه على مصر فقصدها، فمات في الطريق سنة 37 هـ، فقال علي‏:‏ رحم اللَّه مالكًا، فلقد كان لي كما كنت لرسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ، وله شعر جيد، يُعد من الشجعان الأجواد، العلماء الفصحاء، الفصحاء‏.‏ للاستزادة راجع‏:‏ الإصابة ترجمة 8343، التهذيب ج 10/ص 11، الولاة والقضاة 23، سمط الآلي 277، المؤتلف والمختلف 28، المرزباني 362، التبريزي ج 1/ص 75، دائرة المعارف الإسلامية ج 2/ص 210، المحبّر 233‏.‏

‏]‏ وغيرهم‏.‏ فقال سعيد‏:‏ إنما هذا السواد بستان قريش فقال الأشتر‏:‏ أتزعم أن السواد الذي أفاءه اللَّه علينا بأسيافنا بستان لك ولقومك، وتكلم القوم معه‏.‏ فقال عبد الرحمن الأسدي وكان على شرطة سعيد ـ‏:‏ أتردون على الأمير مقالته‏؟‏ وأغلظ عليهم‏.‏ فقال الأشتر‏:‏ مَنْ ههنا‏؟‏ لا يفوتنكم الرجل، فوثبوا عليه، فوطأوه وطًا شديدًا حتى غشي عليه‏.‏ ثم جرّوه برجله فنضح بماء فأفاق‏.‏ فقال‏:‏ قتلتني من انتخبت‏.‏ فقال‏:‏ واللَّه لا يسمر عندي أحد أبدًا فجعلوا يجلسون في مجالسهم يشتمون عثمان وسعيدًا‏.‏ واجتمع إليهم الناس حتى كثروا، فكتب سعيد وأشراف أهل الكوفة إلى عثمان في إخراجهم‏.‏

ومن هنا يتضح أن الفتنة قد بلغت عندئذٍ حدًا عظيمًا في الكوفة فضعف مركز الوالي، ولم ‏[‏ص 130‏]‏ يقدر أن يؤدبهم، حتى اجترأوا أن يضربوا من رد عليهم ضربًا مبرحًا من غير أن يستطيع أن يبدي حراكًا ولما منع الاجتماع أخذوا يشتمونه ويشتمون الخليفة‏.‏

كتب أشراف أهل الكوفة إلى عثمان في إخراجهم فكتب‏:‏ إذا اجتمع ملؤكم على ذلك فألحقوهم بمعاوية‏.‏ وكتب عثمان إلى معاوية‏:‏ ‏"‏إن أهل الكوفة قد أخرجوا إليك نفرًا خلقوا للفتنة فرعهم وقم عليهم فإن آنست منهم رشدًا فاقبل منهم، وإن أعيوك فاردد عليهم‏.‏‏"‏

فلما قدموا على معاوية رحب بهم، وأنزلهم كنيسة تسمى ‏"‏مريم‏"‏، وأجرى عليهم بأمر عثمان ما كان يجري عليهم بالعراق، وجعل يتغدى ويتعشى معهم فقال لهم يومًا‏:‏

‏"‏إنكم قوم من العرب، لكم أسنان وألسنة، وقد أدركتم بالإسلام شرفًا، وغلبتم الأمم، وحويتم مراتبهم ومواريثهم‏.‏ وقد بلغني أنكم نقمتم قريشًا، وإن قريشًا لو لم تكن عدتم أذلة كما كنتم، إن أئمتكم لكم إلى اليوم جنة فلا تسدوا عن جنتكم‏.‏ وإن أئمتكم اليوم يصبرون لكم على الجور ويحتملون منكم المؤونة‏.‏ واللَّه لتنتهن أو ليبتلينكم اللَّه بمن يسومكم، ثم لا يحمدكم على الصبر، لم تكونون شركاءهم فيما جررتم على الرعيَّة في حياتكم وبعد موتكم‏"‏‏.‏

فقال رجل من القوم، وهو صعصعة‏:‏

‏"‏أما ما ذكرت من قريش، فإنها لم تكن أكثر العرب ولا أمنعها في الجاهلية فتخوفنا‏.‏ وأما ما ذكرت من الجنة فإن الجنة إذا اختُرقت خُلص إلينا‏"‏‏.‏

فقال معاوية‏:‏ ‏"‏عرفتكم الآن‏.‏ علمت أن الذي أغراكم على هذا قلة العقول، وأنت خطيب القوم ولا أرى لك عقلًا، أعظم عليك أمر الإسلام، وأذكرك به وتذكرني الجاهلية، وقد وعظتك، وتزعم لما يجنك أنه يخترق إليك ولا ينسب ما يخترق إلى الجنة‏.‏ أخزى اللَّه أقوامًا أعظموا أمركم ورفعوا إلى خليفتكم افقهوا ولا أظنكم تفقهون‏.‏ إن قريشًا لم تعز في جاهلية ولا إسلام إلا باللَّه عز وجل، لم تكن بأكثر العرب ولا أشدهم، ولكنهم كانوا أكرمهم أحسابًا، ومحضهم أنسابًا وأعظمهم أخطارًا وأكملهم مروءة، ولم يمتنعوا في الجاهلية والناس يأكل بعضهم بعضًا إلا باللَّه الذي لا يُستذل من أعز، ولا يوضع من رفع، فبوَّأهم حَرَمًا آمنًا يُتَخَطف الناس من حولهم‏.‏ هل تعرفون عربًا أو عجمًا أو سودًا أو حمرًا إلا قد أصابهم الدهر في بلدهم وحُرْمتهم بدولة إلا ما كان من قريش فإنه لم يُردهم أحد من الناس بكيد إلا جعل اللَّه خده الأسفل حتى أراد اللَّه أن ينتقذ من أكرم واتبع دينه من هوان الدنيا وسوء مرد الآخرة، فارتضى لذلك خير خلقه، ثم ارتضى له أصحابًا فكان خيارهم قريشًا، ثم بُنيَ هذا الملك عليهم وجعل هذه الخلافة فيهم‏.‏ ولا يصلح ذلك إلا عليهم، فكان اللَّه يحوطهم في الجاهلية وهم على كفرهم باللَّه، أفتراه لا يحوطهم وهم على دينه، وقد حاطهم في الجاهلية من الملوك الذين كانوا يدينونكم‏.‏ أف لك ولأصحابك‏.‏ ولو أن ‏[‏ص 131‏]‏ متكلمًا غيرك تكلم، ولكنك ابتدأت‏.‏ فأما أنت يا صعصعة فإن قريتك شر قرى عربية، وأنتها نبتًا، وأعمقها واديًا، وأعرفها بالشر، وألأمها جيرانًا‏.‏ لم يسكنها شريف قط، ولا وضيع إلا سُبَ بها وكانت عليه هُجْنَة ‏[‏الهُجْنَة من الكلام‏:‏ ما يلزمك منه العيب، تقول‏:‏ ‏"‏لا تفعل كذا فيكون عليك هجنة‏"‏‏.‏‏]‏ ثم كانوا أقبح العرب ألقابًا، وألأمهم أصهارًا، نُزَّاع الأمم، وأنتم جيران الخط وفَعَلة فارس حتى أصابتكم دعوة النبي ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ، ونكبتك دعوته، وأنت نزيع شطير في عمان لم تسكن البحرين، فتشركهم في دعوة النبي ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ‏.‏ فأنت شر قومك حتى إذا أبرزك الإسلام وخلطك بالناس وحملك على الأمم التي كانت عليك، أقبلت تبغي دين اللَّه عِوَجًا وتنزع إلى اللامة والذلة ولا يضع ذلك قريشًا، ولن يضرهم ولن يمنعهم من تأدية ما عليهم‏.‏ إن الشيطان عنكم غير غافل‏.‏ قد عرفكم بالشر من بين أمتكم فأغرى بكم الناس، وهو صارعكم، لقد علم أنه لا يستطيع أن يرد بكم قضاء قضاه اللَّه ولا أمرًا أراده اللَّه، ولا تدركون بالشر أمرًا إلا فتح عليكم شرًا منه وأخزى‏"‏‏.‏

أرسل هؤلاء النفر الذين أحدثوا الشغب واللغط في الكوفة، وعابوا على سعيد بن العاص وعثمان إلى معاوية بالشام‏.‏ وفي نظرنا أن سبب هذه الفتنة كما أورده الطبري وابن الأثير ‏[‏الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 634، ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 30‏.‏‏]‏ تافه لا يدعو إلى كل ما حدث‏.‏ فقد ذكر أن عبد الرحمن بن خنيس وهو شاب قال‏:‏ ‏"‏واللَّه لوددت أن هذا الملطاط لك‏"‏ يعني لسعيد أي ما كان لكسرى على جانب الفرات‏.‏ فهذا الذي أثار ثائرتهم‏.‏ شاب يتمنى أن تكون لسعيد بن العاص هذه الناحية من الفرات حتى يجود بمثل ما كان يجود به طلحة بن عبيد اللَّه‏.‏ وقد كان سعيد كما ذكرنا في ترجمته كريمًا يقيم الولائم، ويتصدق على المصلين‏.‏ غاظ هؤلاء القوم الذين كانوا يحضرون مجلس سعيد، وكان يخصهم بسمره أن يتمنى هذا الشاب ذلك‏.‏ ولو أنه مجرد تمنٍ ومع هذا تعدوا عليه وضربوه وضربوا أباه‏.‏ وقد توسَّل إليهم الوالي بجلالة قدره أن يتركوهما فلم يفد فأشبعوهما ضربًا‏.‏ وكل ما قدر عليه سعيد أنه منع أن يتسامروا عنده بعد ذلك‏.‏

وذُكر سبب غير ذلك وهو قول سعيد‏:‏ ‏(‏إنما هذا السواد بستان قريش‏)‏‏.‏ فأغلظوا عليه القول، فغضب صاحب شرطته ‏[‏هو عبد الرحمن الأسدي‏]‏ ولامهم على ما كان منهم، فأوسعوه ضربًا حتى غشي عليه‏.‏ فلا بد أن هؤلاء الذين قربهم سعيد كانوا يحقدون عليه ويتحيَّنون الفرص للانتقام منه، لكنه حسب حسابهم، ولم يعاقبهم بنفسه على تهوّرهم واعتدائهم ومخالفتهم أمره خشية اتساع الخرق واشتداد الفتنة، فكتب إلى الخليفة في شأنهم وفوَّض إليه الأمر‏.‏ فلما ذهبوا إلى معاوية وهو كما ‏[‏ص 132‏]‏ نعلم قويٌّ في حكومته، ماهر في سياسته، وجدوا أنفسهم بمعزل عن أعوانهم، فأراد أن يكبح جماحهم ويوقفهم عند حدهم ويظهر لهم حقيقة أمرهم وماضيهم وحاضرهم بخطبته البليغة التي نشرناها‏.‏ فوصفهم بقلة العقول وحقر من اتبعهم وعظمهم، لأنهم لا يستحقون التعظيم، وذلك فضل قريش في الجاهلية والإسلام على سائر القبائل العربية وفضل الإسلام عليهم، ثم وجه الخطاب إلى صعصعة، فقال‏:‏ إن قريته شر القرى إلى آخر ما قال حتى أفرغ ما في جعبته، وأروى غُلته من غير خوف ولا وجل، ثم بالغ في الاحتقار بهم فإن قام بعد أن ألقى خطبته وتركهم فتقاصرت إليهم أنفسهم‏.‏ فلما كان بعد ذلك أتاهم فقال‏:‏ ‏"‏إني أذنت لكم فاذهبوا حيث شئتم لا ينفع اللَّه بكم أحدًا أبدًا ولا يضره‏.‏ ولا أنتم برجال منفعة ولا مضرة، فإن أرتم النجاة فالزموا جماعتكم ولا يبطرنكم الإنعام، فإن البطر لا يعتري الخيار اذهبوا حيث شئتم فسأكتب إلى أمير المؤمنين فيكم‏"‏‏.‏

فلما خرجوا دعاهم وقال لهم‏:‏

‏"‏إني معيد عليكم أن رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ كان معصومًا فولاَّني وأدخلني في أمره، ثم استخلف أبو بكر فولاَّني‏.‏ ثم استخلف عمر فولاَّني‏.‏ ثم استخلف عثمان فولاَّني‏.‏ فلم يولني أحد إلا وهو عني راضٍ‏"‏‏.‏

وإنما طلب رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ للأعمال أهل الجزاء من المسلمين والغنى، وأن اللَّه ذو سطوات ونقمات يمكر بمن مكر به، فلا تتعرضوا للأمر وأنتم تعلمون من أنفسكم غير ما تظهرون، فإن اللَّه غير تارككم حتى يختبركم، ويبدي للناس سرائركم، وقد قال عز وجل‏:‏ ‏{‏الم‏.‏ أَحَسِبَ النَّاسُ أنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 1، 2‏]‏‏.‏

وكتب معاوية إلى عثمان‏:‏

‏"‏إنه قدم عليَّ أقوام ليست لهم عقول ولا أديان، أضجرهم العدل، لا يريدون اللَّه بشيء ولا يتكلمون بحجة‏.‏ إنما همهم الفتنة وأموال أهل الذمة، واللَّه مبتليهم ومختبرهم‏.‏ ثم فاضحهم وليسوا بالذين ينكون أحدًا إلا مع غيرهم، فإنه سعيد ومن قبله عنهم فإنهم ليسوا الأكثر من شغب أو تكبر‏"‏‏.‏

وخرج القوم من دمشق فقالوا‏:‏ لا ترجعوا إلى الكوفة فإنهم يشتمون بكم وميلوا بنا إلى الجزيرة ودعوا العراق والشام فأووا إلى الجزيرة وسمع بهم عبد الرحمن بن خالد بن الوليد وكان معاوية قد ولاَّه حمص وولَّى عامل الجزيرة حَرّان والرقَّة فدعا بهم فقال‏:‏ ‏"‏يا آلة الشيطان لا مرحبًا بكم ولا أهلًا، قد رجع الشيطان محسورًا وأنتم بعدُ نٍشَاط، خسَّر اللَّه عبد الرحمن إن لم يؤدبكم حتى يحسركم، يا معشر من لا أدري أعرب أم عجم لكي لا تقولوا لي ما يبلغني أنكم تقولون ‏[‏ص 133‏]‏ لمعاوية‏:‏ أنا ابن خالد بن الوليد‏.‏ أنا ابن مَنْ عجمته العاجمات‏.‏ أنا ابن فاقئ الردة‏.‏ واللَّه لئن بلغني يا صعصعة بن ذُل أن أحدًا ممن دق أنفك، ثم أمصّك لأطيرن بك طَيْرة بعيدة المهوى‏"‏‏.‏

فأقامهم أشهرًا كلما ركب أمشاهم، فإذا مرَّ به صعصعة قال‏:‏ ‏"‏يا ابن الحطيئة ‏[‏ورد في ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 34‏:‏ ‏"‏بابن الخطيئة‏"‏‏.‏

‏]‏ أعلمت أن من لم يُصلحه الخير أصلحه الشر‏.‏ ما لك لا تقول كما كان يبلغني أنك تقول لسعيد ومعاوية‏.‏‏"‏

فيقولون‏:‏ نتوب إلى اللَّه أقلنا أقالك اللَّه‏.‏ فما زالوا به حتى قال‏:‏ تاب اللَّه عليكم وسرح الأشتر إلى عثمان وقال لهم‏:‏ ما شئتم، إن شئتم فاخرجوا، وإن شئتم فأقيموا‏.‏

وخرج الأشتر فأتى عثمان بالتوبة والندم والنزوع عنه، وعن أصحابه فقال‏:‏ سلمكم اللَّه‏.‏ وقدم سعيد بن العاص فقال عثمان للأشتر‏:‏ احلل حيث شئت‏.‏ فقال مع عبد الرحمن بن خالد، وذكر من فضله فقال‏:‏ ذلك إليكم، فرجع إلى عبد الرحمن‏.‏

قد كان عبد الرحمن بن خالد أشد عليهم من معاوية، وقد تابوا على يديه‏.‏

وفي الطبري رواية أخرى، وهي أن معاوية بعد أن ألقى عليهم الخطبة السابقة عاد وقال لهم ‏[‏الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 636‏]‏‏:‏

‏"‏إني واللَّه ما آمركم بشيء إلا قد بدأت فيه بنفسي وأهل بيتي وخاصتي، وقد عرفت قريش أن أبا سفيان كان أكرمها وابن أكرمها، إلا ما جعل اللَّه لنبيه نبي الرحمة ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ‏.‏ فإن اللَّه انتخبه وأكرمه، فلم يخلق في أحد من الأخلاق الصالحة شيئًا إلا أصفاه اللَّه بأكرمها وأحسنها‏.‏ ولم يخلق من الأخلاق السيئة شيئًا في أحد إلا أكرمه اللَّه عنها ونزهه‏.‏ وإني لا أطن أن أبا سفيان لو ولد الناس لم يلد إلا حازمًا‏"‏‏.‏

وهنا نرى أن معاوية أطرى نفسه فقال صعصعة‏:‏

‏"‏كذبت وقد ولدهم خير من أبي سفيان، من خلقه اللَّه بيده ونفخ فيه من روحه، وأمر الملائكة فسجدوا له فكان فيهم البرَّ والفاجر والأحمق والكيَّس‏"‏‏.‏

فخرج معاوية تلك الليلة من عندهم، ثم أتاهم القابلة فتحدث عندهم طويلًا ثم قال‏:‏

‏"‏أيها القوم ردوا عليَّ خيرًا، أو اسكتوا، وتفكَّروا وانظروا فيما ينفعكم وينفع أهليكم، وينفع عشائركم، وينفع جماعة المؤمنين فاطلبوه تعيشوا ونعش بكم‏"‏ ‏[‏ص 134‏]‏‏.‏

فقال صعصعة‏:‏ ‏"‏لست بأهل ذلك ولا كرامة لك أن تطاع في معصية اللَّه‏"‏‏.‏

فقال معاوية‏:‏ ‏"‏أوَليس ما ابتدأتكم به أن أمرتكم بتقوى اللَّه وطاعته وطاعة نبيه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ أن تعتصموا بحبله جميعًا ولا تفرقوا‏"‏‏.‏

قالوا‏:‏ ‏"‏بل أمرت بالفرقة وخلاف ما جاء به النبي ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ‏"‏‏.‏

قال‏:‏ ‏"‏فإني آمركم الآن إن كنتُ فعلتُ فأتوب إلى اللَّه وآمركم بتقواه وطاعته وطاعة نبيه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ، ولزوم الجماعة، وكراهة الفرقة، وأن توقروا أئمتكم وتدلوهم على كل حسن ما قدرتم، وتعظوهم في لين ولطف في شيء إن كان منهم‏"‏‏.‏

فقال صعصعة‏:‏ ‏"‏فإنا نأمرك أن تعتزل عملك، فإن في المسلمين مَن هو أحق به منك‏"‏‏.‏

فقال‏:‏ ‏"‏مَن هو‏؟‏‏"‏‏.‏

قال‏:‏ ‏"‏مَن كان أبوه أحسن قدمًا من أبيك، وهو بنفسه أحسن قدمًا منك في الإسلام‏"‏‏.‏

فقال معاوية‏:‏ ‏"‏واللَّه إن لي في الإسلام قدمًا ولغيري كان أحسن قدمًا مني، ولكنه ليس في زماني أحد أقوى على ما أنا فيه مني‏.‏ ولقد رأى ذلك عمر بن الخطاب‏.‏ فلو كان غيري أقوى مني لم يكن لي عند عمر هوادة ولا لغيري‏.‏ ولم أحدث من الحدث ما ينبغي لي أن أعتزل عملي‏.‏ ولو رأى ذلك أمير المؤمنين وجماعة المسلمين لكتب إليَّ بخط يده فاعتزلت عمله، ولو قضى اللَّه أن يفعل ذلك لرجوتُ أن لا يعزم له على ذلك إلا وهو خير‏.‏ فمهلًا فإن في ذلك وأشباهه ما يتمنى الشيطان ويأمر‏.‏ ولعمري لو كانت الأمور تقضي على رأيكم وأمانيكم ما استقامت الأمور لأهل الإسلام يومًا ولا ليلة‏.‏ ولكن اللَّه يقضيها ويدبرها وهو بالغ أمره‏.‏ فعاودوا الخير وقولوه‏"‏‏.‏

فقالوا‏:‏ ‏"‏لست لذلك أهلًا‏.‏‏.‏‏.‏‏"‏

فقال‏:‏ ‏"‏أما واللَّه إن للَّه لسطوات ونقمات، وإني لخائف عليكم أن تتابعوا في مطاوعة الشيطان حتى تحلكم مطاوعة الشيطان ومعصية الرحمن دار الهوان من نقم اللَّه في عاجل الأمر والخزي الدائم في الآجل‏"‏‏.‏

فوثبوا عليه فأخذوا برأسه ولحيته فقال‏:‏

‏"‏مهَ، إن هذه ليست بأرض الكوفة‏.‏ واللَّه لو رأى أهل الشام ما صنعتم بي وأنا إمامهم ما ملكت أن أنهاهم عنكم حتى يقتلوكم‏.‏ فلعمري إن صنيعكم ليشبه بعضه بعضًا، ثم قام من عندهم فقال‏:‏ ‏"‏واللَّه لا أدخل عليكم ما بقيت‏"‏ ‏[‏الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 638، ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 35، إن هذا الأمر يستدعي الوقوف عنده وقفة شك، فكيف لهؤلاء الرهط أن يتطاولوا على عامل الخليفة وهو موكل بتأديبهم، لا سيما أن المعني بالأمر هو معاوية بن أبي سفيان‏]‏ ‏[‏ص 135‏]‏‏.‏ ثم كتب إلى عثمان‏:‏

‏"‏بسم اللَّه الرحمن الرحيم‏.‏ لعبد اللَّه عثمان أمير المؤمنين، من معاوية بن أبي سفيان‏.‏ أما بعد يا أمير المؤمنين، فإنك بعثت إليَّ أقوامًا يتكلمون بألسنة الشياطين وما يملون عليهم، ويأتون الناس، زعموا من قبل القرآن فيشبهون على الناس وليس كل الناس يعلم ما يريدون، وإنما يريدون فرقة، ويقربون فتنة‏.‏

قد أثقلهم الإسلام وأضجرهم، وتمكنت رقي الشيطان من قلوبهم‏.‏ فقد أفسدوا كثيرًا من الناس ممن كانوا بين ظهرانيهم من أهل الكوفة ولست آمن إن أقاموا وسط أهل الشام أن يغروهم بسحرهم وفجورهم فارددهم إلى مصرهم فلتكن دارهم في مصرهم الذي جمَّ فيه نفاقهم والسلام‏"‏‏.‏

فكتب إليه عثمان يأمره أن يردهم إلى سعيد بن العاص بالكوفة فردهم إليه‏.‏ فلم يكونوا إلا أطلق ألسنة منهم حين رجعوا‏.‏ وكتب سعيد إلى عثمان يضجّ منهم‏.‏ فكتب عثمان إلى سعيد أن سيرهم إلى عبد الرحمن بن خالد بن الوليد‏.‏، وكان أميرًا على حمص‏.‏ وكتب إلى الأشتر وأصحابه‏:‏

‏"‏أما بعد، فإني قد سيرتكم إلى حمص، فإذا أتاكم كتابي هذا فاخرجوا إليها فإنكم لستم تألون الإسلام وأهله شرًا والسلام‏"‏‏.‏ فلما قرأ الأشتر الكتاب قال‏:‏ ‏"‏اللَّهم أسوأنا نظرًا للرعية وأعملنا فيهم بالمعصية، فعجل له النقمة‏"‏‏.‏ فكتب بذلك سعيد إلى عثمان‏.‏

وسار الأشتر وأصحابه إلى حمص فأنزلهم عبد الرحمن بن خالد الساحل وأجرى لهم رزقًا‏.‏

لقد تطاول هؤلاء على معاوية وأمروه أن يتخلى عن مركزه لأن من المسلمين من هو أصلح منه، كما تطاولوا على سعيد من قبل وطعنوا على عثمان‏.‏ وهم وإن كانوا من أشراف أهل العراق إلا أنهم أهل فتنة‏.‏ وقد تسامح معهم معاوية كما تسامح معهم سعيد‏.‏ ومن هذا يتبين مقدار الحرية التي كانت ممنوحة للرعية في ذلك الوقت فلم يؤخذوا ويحاكموا على أقوالهم ومطاعنهم إنما اكتفى بتسييرهم من بلد إلى آخر وأجرى عليهم عبد الرحمن بن خالد رزقًا‏.‏

 خلو الكوفة من الرؤساء

‏[‏الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 634 639‏]‏‏:‏ ‏[‏ص 136‏]‏‏.‏ أذن معاوية لأهل الفتنة الذين أمر عثمان بتسييرهم إلى الشام أن يذهبوا أنى شاءوا، فتحدثوا فيما بينهم فقالوا‏:‏ إن العراق والشام ليسَا لنا بدار فعليكم بالجزيرة فأتوها اختيارًا، فغدا عليهم عبد الرحمن بن خالد فسامهم الشدة كما ذكرناه وتابعوه وتابوا، وسرح الأشتر إلى عثمان فدعا به وقال‏:‏ اذهب حيث شئت‏.‏ فقال‏:‏ أرجع إلى عبد الرحمن، فرجع‏.‏

ووفد سعيد بن العاص إلى عثمان سنة إحدى عشرة من خلافة عثمان‏.‏ وكان سعيد قد ولي قبل مخرجه إلى عثمان بسنة وبعض أخرى‏:‏

ـ1ـ الأشعث بن قيس ‏[‏الأشعث بن قيس بن معدي كرب الكندي، أبو محمد، ولد سنة 23 ق‏.‏ هـ‏.‏ أمير كندة في الجاهلية والإسلام، كانت إقامته في حضرموت، وفد على النبي ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ بعد ظهور الإسلام، في جمع من قومه، أسلم وشهد اليرموك، فأصيبت عينه، ولما ولي أبو بكر الخلافة امتنع الأشعث وبعض بطون كندة عن تأدية الزكاة، فتنحى والي حضرموت بمن بقي على الطاعة من كندة، وجاءته النجدة فحاصر حضرموت فاستسلم الأشعث وفتحت حضرموت عنوة، وأرسل الأشعث موثوقًا إلى أبي بكر المدينة ليرى فيه رأيه، فأطلقه أبو بكر وزوَّجه أخته أم فروة، فأقام في المدينة وشهد الوقائع وأبلى البلاء الحسن، ثم كان مع سعد بن أبي وقاص في حروب العراق، ولما آل الأمر إلى علي كان الأشعث معه يوم صفِّين، على راية كندة، وحضر معه وقعة النهروان، وورد المدائن، ثم عاد إلى الكوفة فتوفي فيها سنة 40 هـ على أثر اتفاق الحسن ومعاوية، كان من ذوي الرأي والإقدام، موصوفًا بالهيبة، هو أول راكب في الإسلام مشت معه الرجال يحملون الأعمدة بين يديه ومن خلفه‏.‏ للاستزادة راجع‏:‏ ابن عساكر ج 3/ص 64، الآمدي 45، تاريخ الخميس ج 2/ص 289، ثمار القلوب 69، ذيل المذيل 34، خزانة الأدب للبغدادي ج 2/ص 465، تاريخ بغداد ج 1/ص 196‏.‏

‏:‏أذربيجان‏]‏‏.‏

ـ2ـ سعيد بن قيس ‏[‏هو سعيد بن قيس بن زيد، من بني زيد بن مريب، من همدان، فارس من الأجواد الدهاة، من سلالة ملوك همدان، كان خاصًا بالإمام علي، قاتل معه يوم صفِّين، كان إليه أمر همدان بالعراق، وإليه ينسب السعيدين في بيت زُود باليمن‏.‏ للاستزادة راجع‏:‏ الإكليل ج 10/ص 46 50‏.‏‏]‏ ‏:‏ الري‏.‏

ـ3ـ النُّسيَر العجلي ‏[‏هو النُّسَيْر بن ديسم بن ثور بن عريجة بن ملحم بن هلال بن ربيعة، العجلي، من بني عجل بن لجيم، قائد، فاتح، أدرك النبي ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ، شهد في عهد عمر الفتوح كلها والقادسية، وهو من تُنسب إليه قلعة النُسير قرب نهاوند، كانت من قلاع الفرس فاعتصم بها قوم منهم، أيام زحف العرب، حاصرها وفتحها فعرفت باسمه سنة 21 هـ، توفي سنة 35 هـ‏.‏ للاستزادة راجع‏:‏ التاج ج 3/ص 564، جَمْهرة الأنساب ص 295، الكامل في التاريخ لابن الأثير ج 3/7، ياقوت في معجم البلدان ج 8/ص 287 288، الإصابة ترجمة 8810، الآمدي، المؤتلف والمختلف ص 61‏.‏‏]‏ ‏:‏ همذان‏.‏ ‏[‏ص 137‏]‏‏.‏

ـ4ـ السائب بن الأقرع ‏:‏ أصبهان‏.‏

ـ5ـ مالك بن حبيب ‏:‏ ماه‏.‏

ـ6ـ حكيم بن سلام الخزامي ‏:‏ الموصل‏.‏

ـ7ـ جرير بن عبد اللَّه ‏:‏ قرقيسيا‏.‏

ـ8ـ سلمان بن ربيعة ‏:‏ الباب‏.‏

ـ9ـ عتيبة بن النهاس ‏:‏ حُلوان‏.‏

ـ10ـ القعقاع بن عمرو ‏[‏هو القعقاع بن عمرو التميمي، أحد فرسان العرب وأبطالهم في الجاهلية والإسلام، له صحبة، شهد اليرموك وفتح دمشق وأكثر وقائع أهل العراق مع الفرس، سكن الكوفة، وأدرك وقعة صفِّين مع علي بن أبي طالب، وكان يتقلَّد في أوقات الزينة سيف هرقل ‏(‏ملك الروم‏)‏ ويلبس درع بهرام ‏(‏ملك الفرس‏)‏ وهما مما أصابه من الغنائم في حروب فارس، وكان شاعرًا فحلًا، قال أبو بكر‏:‏ ‏"‏صوت القعقاع في الجيش خير من ألف رجل‏"‏، توفي سنة 58 هـ‏.‏ للاستزادة راجع‏:‏ الكامل في التاريخ حوادث سنة 16 هـ، الإصابة ترجمة 7129‏.‏‏]‏ ‏:‏ جعله على الحرب‏.‏

هؤلاء عشرة من الكبار أُرسلوا إلى جهات متعددة‏.‏ ولو أنهم بقوا بالكوفة لكان لهم تأثير في منع ما عساه أن يحدث من الشغب والفتنة، ولكن سعيد بن العاص لم يكن يتوقع انتشار الفتنة فأرسلهم إلى هذه المراكز لأغراض حربية‏.‏ وبذلك خلت الكوفة من الرؤساء‏.‏

 عزل سعيد بن العاص

‏[‏المسعودي مروج الذهب ج 2/ص 346‏]‏ وتولية أبي موسى الأشعري‏:‏

خرج يزيد بن قيس وهو يريد خلع عثمان، ومعه الذين كان يكاتبهم ابن السوداء ‏[‏هو عبد اللَّه بن سبأ، وكان يهوديًا من جنوب بلاد العرب فأسلم واستفسد الناس على عثمان وبثَّ دعايته في الآفاق وتنقل في الحجاز والبصرة والكوفة والشام ومصر يدعو الناس للثورة‏.‏‏]‏ فقال القعقاع بن عمرو‏:‏ إنما نستعفي من سعيد‏:‏ فقال يزيد‏:‏ أما هذا فنعم، وكاتب المسيرين ‏[‏وهم الذين سيَّرهم عثمان إلى معاوية ومنهم الأشتر وصعصعة‏.‏‏]‏ ‏[‏ص 138‏]‏ ليقدموا عليه‏.‏ فسار الأشتر والذين عند عبد الرحمن بن خالد فسبقهم الأشتر فلم يفجأ الناس إلا والأشتر على باب المسجد مسجد الكوفة يقول‏:‏ جئتكم من عند أمير المؤمنين عثمان وتركت سعيدًا يريد علي نقصان نسائكم على مائة درهم ورد أولي البلاء منكم إلى ألفين ويزعم أن فيئكم بستان قريش فاستخف الناس‏.‏ وجعل أهل الرأي ينهونهم فلا يسمع منهم‏.‏

فخرج يزيد وأمر مناديًا ينادي‏:‏ من شاء أن يلحق بيزيد لرد سعيد فليفعل، فبقي أشرافهم وحلماؤهم في المسجد، وعمرو بن حُرَيث ‏[‏عمرو بن حريث بن عمرو بن عثمان بن عبد اللَّه بن عمرو بن مخزوم القرشي، يكنى أبا سعيد، رأى النبي ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ، وقيل‏:‏ إنه أول قرشي اتخذ بالكوفة دارًا وكان من أغنى أهل الكوفة وولي لبني أمية بالكوفة‏.‏‏]‏ يومئذٍ خليفة سعيد، فصعد المنبر، فحمد اللَّه وأثنى عليه وأمرهم بالاستماع والطاعة‏.‏ فقال له القعقاع‏:‏ ‏"‏أترد السيل عن أدراجه‏؟‏ هيهات، لا واللَّه لا يسكن الغوغاء إلا المشرفية، ويوشك أن تنتضي ويعجون هجيج العيدان، ويتمنون ما هم فيه اليوم فلا يرده اللَّه عليهم أبدًا فاصبر‏"‏‏.‏ قال‏:‏ أصبر، وتحوَّل إلى منزله‏.‏

وخرج يزيد بن قيس، فنزل الجرَعة وهي قريب من القادسية ومعه الأشتر فوصل إليهم سعيد بن العاص‏.‏ فقالوا‏:‏ لا حاجة لنا بك‏.‏ قال‏:‏ إنما يكفيكم أن تبعثوا إلى أمير المؤمنين رجلًا وإليَّ رجلًا‏.‏ وهل يخرج الألف لهم عقول إلى رجل واحد‏.‏ وجاء في الطبري نص الخطبة التي ألقاها عليهم عمرو بن حُرَيث نائب سعيد وهي كما يلي ‏[‏الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 642‏]‏‏:‏

{‏اذكروا نعمة اللَّه عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانًا‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 103‏]‏، بعد أن كنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها‏.‏ فلا تعودوا في شر قد استنقذكم منه اللَّه عز وجل‏.‏ أبعد الإسلام وهديه وسنته لا تعرفون حقًا وتصيبون بابه‏!‏‏"‏‏.‏

ولما انصرف عنهم سعيد أحسوا بمولى لهم على بعير قد حسر‏.‏ فقال‏:‏ واللَّه ما كان ينبغي لسعيد أن يرجع فقتله الأشتر، ومضى سعيد حتى قدم على عثمان فأخبره بما فعلوا وأنهم يريدون البدل‏.‏ وأنهم يختارون أبا موسى‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏أثبتنا أبا موسى عليهم وواللَّه لا نجعل لأحد عذرًا ولا نترك لهم حجة، ولنصبرن كما أمرنا حتى نبلغ ما يريدون‏"‏‏.‏

وقد أراد عثمان بخلع سعيد وتنصيب أبي موسى أن تهدأ الفتنة ولا يكون لأحد بعد ذلك عذر أو شكوى‏.‏ وكتب إليهم‏:‏ ‏[‏ص 139‏]‏‏.‏

‏"‏أما بعد، فقد أمّرت عليكم من اخترتم وأعفيتكم من سعيد، وواللَّه لأقرضنكم عرضي ولأبذلن لكم صبري ولأستصلحنكم بجهدي فلا تدعوا شيئًا أحببتموه لا يُعصى اللَّه فيه إلا سألتموه، ولا شيئًا كرهتموه لا يعصى اللَّه فيه إلا استعفيتم منه‏.‏ أنزل فيه عندما أحببتم حتى لا يكون لكم على اللَّه حجة كما أمرنا حتى تبلغوا ما تريدون‏"‏‏.‏

ورجع من الأمراء من قرب عمله من الكوفة فرجع جرير من قرقيسياء‏.‏ وعتيبة من حُلوان‏.‏

وقام أبو موسى الأشعري فتكلم بالكوفة فقال‏:‏

‏"‏أيها الناس لا تنفروا في مثل هذا ولا تعودوا لمثله‏.‏ ألزموا جماعتكم الطاعة وإياكم والعجلة‏.‏ فأجابوه إلى ذلك‏.‏ وقالوا‏:‏ فصلِّ بنا، قال لا‏.‏ إلا على السمع والطاعة لعثمان بن عفان‏.‏ قالوا‏:‏ السمع والطاعة لعثمان‏.‏

 رسول أهل الكوفة إلى عثمان

‏[‏الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 643 645، ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 39 42‏:‏‏]‏‏.‏

اجتمع ناس من المسلمين فتذاكروا أعمال عثمان وما صنع فاجتمع رأيهم على أن يبعثوا إليه رجلًا يكلمه ويخبره بأحداثه فأرسلوا إليه عامر بن عبد اللَّه التميمي، وهو الذي يدعى عامر بن عبد قيس فدخل عليه فقال‏:‏ إن ناسًا من المسلمين اجتمعوا فنظروا في أعمالك فوجدوك قد ركبت أمورًا عظامًا، فاتق اللَّه عز وجل، وتب إليه، وانزع عنها‏.‏

فقال عثمان‏:‏ انظروا إلى هذا، فإن الناس يزعمون أنه قارئ، ثم هو يجيء فيكلمني في المحقَّرات، فواللَّه ما يدري أين اللَّه‏.‏ قال عامر‏:‏ أنا لا أدري أين اللَّه‏؟‏ قال‏:‏ نعم، واللَّه ما تدري أين اللَّه‏.‏ قال عامر‏:‏ بلى واللَّه إني لأدري أن اللَّه بالمرصاد لك‏.‏

 عثمان يجمع أهل الرأي ليشاورهم في الأمر

‏[‏الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 643 645، ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 39ـ 42‏.‏‏]‏‏:‏

أرسل عثمان إلى معاوية بن أبي سفيان، وإلى عبد اللَّه بن سعد بن أبي سُرح، وإلى سعيد بن العاص، وإلى عمرو بن العاص، وإلى عبد اللَّه بن عامر فجمعهم ليشاورهم في أمره وما طلب إليه وما بلغه عنهم، فلما اجتمعوا عنده قال لهم‏:‏ ‏[‏ص 140‏]‏‏.‏

‏"‏إن لكل امرئ وزراء ونصحاء، وإنكم وزرائي ونصحائي، وأهل ثقتي، ولقد صنع الناس ما قد رأيتم وطلبوا إليَّ أن أعزل عمالي وأن أرجع عن جميع ما يكرهون إلى ما يحبون فاجتهدوا رأيكم وأشيروا عليَّ‏"‏‏.‏ فقال له عبد اللَّه بن عامر‏:‏ ‏"‏رأيي لك يا أمير المؤمنين أن تأمرهم بجهاد يشغلهم عنك وأن تجمهرهم في المغازي حتى يذلوا لك فلا يكون همة أحدهم إلا نفسه، وما هو فيه من دَبَرة دابته وقمل فروه‏"‏‏.‏

فقال عثمان‏:‏ ‏(‏إن هذا الرأي لولا ما فيه‏)‏ خشي عثمان أن ينفذ رأي ابن عامر الذي يقضي بقطع دابر قادة الفتنة للخلاص من شرهم ودسائسهم‏.‏

ثم أقبل عثمان على معاوية فقال‏:‏ ما رأيك‏؟‏

قال‏:‏ ‏"‏أرى لك يا أمير المؤمنين أن ترد عُمالك على الكفاية لما قِبَلهم وأنا ضامن لك قِبَلي‏"‏‏.‏

ثم أقبل على عبد اللَّه بن سعد فقال‏:‏ ما رأيك‏؟‏

قال‏:‏ ‏"‏أرى يا أمير المؤمنين أن الناس أهل طمع، فأعطهم من هذا المال تعطف عليهم قلوبهم‏"‏‏.‏

ثم أقبل على عمرو بن العاص فقال له‏:‏ ما رأيك‏؟‏‏.‏

قال‏:‏ ‏"‏أرى أنك قد ركبت الناس بما يكرهون فاعتزم أن تعدل، فإن أبيت فاعتزم أن تعتزل، فإن أبيت فاعتزم عزمًا وامض قُدمًا‏"‏‏.‏ فرأى عمرو أن عثمان لا يعدل فطلب إليه أن يعتزل أو يعدل ولا يتردد فقال عثمان‏:‏ ‏"‏ما لك قِملَ فروك‏.‏ أهذا الجد منك‏؟‏‏"‏‏.‏

فسكت عمرو حتى إذا تفرَّقوا قال‏:‏ ‏"‏لا واللَّه يا أمير المؤمنين لأنت أعز عليَّ من ذلك‏.‏ ولكني قد علمت أن سيبلغ الناس قول كل رجل منا، فأردت أن يبلغهم قولي فيثقوا بي، فأقود إليك خيرًا أو أدفع عنك شرًا‏"‏‏.‏

لكن كلام عمرو هذا من شأنه أن يزيد نار الفتنة والنقمة على عثمان اشتعالًا، لأنه قال بصريح العبارة ـ‏:‏ ‏"‏فاعتزم أن تعدل‏"‏‏.‏ ومعنى هذا أنه لا يعدل، فكيف يستطيع عمرو بعد ذلك أن يقود إلى عثمان خيرًا أو يدفع عنه شرًا‏؟‏‏!‏‏.‏ ومعلوم أن عمرًا كان ساخطًا على الخليفة، لأنه عزله عن ولاية مصر بعد أن فتحها‏.‏ ولما أحس عمرو بأنه كدَّر عثمان بقوله أمام هؤلاء النفر أراد أن يسترضيه على حدة فقال ما قال ‏[‏ص 141‏]‏‏.‏

رد عثمان بعد ذلك عماله على أعمالهم وأمرهم بالتضييق على من قبلهم وأمرهما بتجمير الناس في البعوث، وعزم على تحريم أعطياتهم ليطيعوه ويحتاجوا إليه‏.‏

 علي بن أبي طالب يحادث عثمان في أمر الفتنة

‏[‏الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 644، ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 43‏]‏‏.‏ لما كانت سنة 34 هـ كتب أصحاب رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ بعضهم إلى بعض أن أقدموا، فإن كنتم تريدون الجهاد فعندنا الجهاد، وكثر الناس على عثمان، ونالوا منه أقبح ما نيل من أحد، وأصحاب رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ يرون ويسمعون ليس فيهم أحد ينهى، ولا يذبُّ إلا زيد بن ثابت، وأبو أسيد الساعدي، وكعب بن مالك، وحسان بن ثابت، فاجتمع الناس وكلموا عليّ بن أبي طالب، فدخل على عثمان فقال‏:‏ ‏"‏الناس ورائي وقد كلَّموني فيك‏.‏ واللَّه ما أدري ما أقول لك‏.‏ وما أعرف شيئًا تجهله ولا أدلك على أمر لا تعرفه‏.‏ إنك لتعلم ما نعلم‏.‏ ما سبقناك إلى شيء فنخبرك عنه ولا خلونا بشيء فنبلغكه وما خُصصنا بأمر دونك وقد رأيت وسمعت وصحبت رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ ونلت صهره، وما ابن أبي قحافة بأولى بعمل الخير منك ولا ابن الخطاب بأولى بشيء من الخير منك‏.‏ وإنك أقرب إلى رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ رَحِمًا‏.‏ ولقد نلت من صهر رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ ما لم ينالا‏.‏ ولا سبقناك إلى شيء‏.‏ فاللَّه اللَّه في نفسك فإنك واللَّه ما تُبصَّر من عمَى ولا تُعَلَّم من جهل، وإن الطريق لواضح بيَّن، وإن أعلام الدين لقائمة‏.‏ تَعلَّم يا عثمان أن أفضل عباد اللَّه عند اللَّه إمام عادل هُدِي وهَدَى فأقام سنة معلومة وأمات بدعة متروكة‏.‏ فواللَّه إن كُلاَّ لبيَّن، وإن السنن لقائمة لها أعلام، وإن البدع لقائمة لها أعلام، وإن شرَّ الناس عند اللَّه إمام جائر ضَلَّ وضُلَّ به فأمات سُنة معلومة وأحيا بدعة متروكة‏.‏ وإني سمعت رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ يقول‏:‏ ‏(‏يؤتى يوم القيامة بالإمام الجائر وليس معه نصير ولا عاذر فيلقى في جهنم، فيدور فيها كما تدور الرحى، ثم يرتطم في غمرة جهنم‏)‏ ‏[‏رواه ابن كثير في البداية والنهاية ‏(‏7‏:‏ 168‏)‏‏.‏

‏[‏وإني أحذرك اللَّه وأحذرك سطوته ونقماته فإن عذابه شديد أليم، وأحذرك أن تكون إمام هذه الأمة المقتول، فإن يقال يقتل في هذه الأمة إمام فيفتح عليها القتل والقتال إلى يوم القيامة وتُلْبَس أمورها عليها، ويتركهم شِيَعًا فلا يبصرون لحق لعلو الباطل، يموجون فيها موجًا ويمرحون مَرَحًا‏.‏‏"‏

فقال عثمان‏:‏ ‏[‏الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 645، ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 44‏.‏‏]‏ ‏"‏قد واللَّه علمت ليقولُنّ الذي قلتَ‏.‏ أما واللَّه لو كنت مكاني ما عنفتك ولا ‏[‏ص 142‏]‏ أسلمتك ولا عبتُ عليك، ولا جئتُ منكرًا إن وصلتُ رَحمًا، وسددتُ خَلة، وآويت ضائعًا، ووليت شبيهًا بمن كان عمر يولي‏.‏ أنشدك اللَّه يا عليُّ هل تعلم أن المغيرة بن شُعبة ليس هناك‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏ قال‏:‏ فتعلم أن عمر ولاه‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏ قال‏:‏ فَلِمَ تلومني أن وليت ابن عامر في رَحمه وقرابته‏.‏ قال عليُّ‏:‏ سأخبرك، إن عمر بن الخطاب كان كل من ولى فإنما يطأ على صماخه إن بلغه عنه حرف جلبه ثم بلغ به أقصى الغاية وأنت لا تفعل‏.‏ ضعفت ورفقت على أقربائك‏.‏ قال عثمان‏:‏ هم أقرباؤك أيضًا‏.‏ فقال علي‏:‏ لعمري إن رحمهم مني لقريبة، ولكن الفضل في غيرها‏.‏ قال عثمان‏:‏ هل تعلم أن عمر ولى معاوية خلافته كلها‏؟‏ فقد وليته‏.‏ فقال عليُّ‏:‏ أنشدك اللَّه هل تعلم أن معاوية كان أخوف من عمر من يَرفْأ غلام عمر منه‏.‏ قال‏:‏ نعم‏.‏ قال عليّ‏:‏ فإن معاوية يقطع الأمور دونك وأنت تعلمها‏.‏ فيقول للناس هذا أمر عثمان فيبلغك ولا تُغير على معاوية‏.‏

ثم خرج عليُّ من عند عثمان، وخرج عثمان على أثره، فجلس على المنبر فقال‏:‏

 خطبة عثمان في المسجد

‏[‏الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 645، ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 44‏]‏‏.‏

‏"‏أما بعد، فإن لكل شيء آفة، ولكل أمر عاهة، وإن آفة هذه الأمة وعاهة هذه النعمة‏:‏ عيَّابون، طعَّانون، يرونكم ما تحبون ويُسرون ما تكرهون يقولون لكم ويقولون، أمثال النعام يتبعون أول ناعق‏.‏ أحب مواردها إليها البعيد لا يشربون إلا نَغصًا ولا يَرِدون إلا عكرًا، لا ‏[‏لا‏"‏ مثبتة في الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 645، وزيدت اعتمادًا على نص الطبري في ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 44‏.‏‏]‏ يقوم لهم رائد وقد أعيتهم الأمور، وتعذرت عليهم المكاسب‏.‏ ألا فقد واللَّه عبتم عليَّ بما أقررتم لابن الخطاب بمثله ولكنه وطئكم برجله‏؟‏ وضربكم بيده وقمعكم بلسانه فدِنْتم له على ما أحببتم أو كرهتم، ولِنْتُ لكم وأوطأت لكم كففي ‏[‏‏؟‏‏؟‏‏]‏، وكففت يدي ولساني عنكم، فاجترأتم عليّ‏.‏ أما واللَّه لأنا أعز نفرًا وأقرب ناصرًا وأكثرًا عددًا وأقمن إن قلت هَلُم‏.‏ أُتِيَ إليّ‏.‏ ولقد أعددت لكم أقرانكم، وأفضلت عليكم فضولًا، وكشرت لكم عن نابي‏.‏ وأخرجتم مني خُلُقًا لم أكن أحسنه، ومنطقًا لم أنطق به، فكفوا عليكم ألسنتكم، وطعنكم، وعيبكم على ولاتكم، فإني قد كففت عنكم مَن لو كان هو الذي يكلمكم لرضيتم منه بدون منطقي هذا، ألا فما تفقدون من حقكم‏.‏ واللَّه ما قصرت في بلوغ ما كان يبلغ مَن قبلي‏.‏ ومَن لم تكونوا تختلفون عليه فضلَ فضْلٍ من مال‏.‏ فما لي لا أصنع في الفضل ما أريد‏.‏ فَلِمَ كنت إمامًا‏"‏ ‏[‏الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 645، ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 44‏.‏‏]‏ ‏[‏ص 143‏]‏‏.‏

فقام مروان بن الحكم فقال‏:‏ إن شئتم حكَّمنا واللَّه بيننا وبينكم السيف‏.‏ نحن واللَّه وأنتم كما قال الشاعر‏:‏

فرشنا لكم أعراضنا فنبت بكم *** معارسكم تبنون في دِمن الثرى

فقال عثمان‏:‏ اسكت لا سُكِّتّ‏.‏ دعني وأصحابي‏.‏ ما منطقك في هذا‏؟‏ ألم أتقدم إليك ألا تنطق‏؟‏ فسكت مروان ونزل عثمان‏.‏ قال عثمان لعليٍّ‏:‏ إنه عيَّن من عينَّهم عمر بن الخطاب، ومع ذلك لم يؤاخذه أحد‏.‏ فعيَّن المغيرة ومعاوية، فكان ردُّ عليٍّ أن عمر كان لا يتسامح مع من ولاَّه إذا ارتكب شيئًا، وأن عثمان يعامل أقاربه بالرفق ولا يعاقبهم‏.‏ هذا ملخص ما دار بينهما ـ‏.‏ أما الخطبة التي ألقاها عثمان فلم يكن لها تأثير في تهدئة الفتنة، بل اشتد قوله على الناس وعظم وزاد تألبهم عليه‏.‏ ويلاحظ أن مروان يتداخل ويهدد الناس بالحرب بالرغم من أن عثمان كان قد أمره بلزوم الصمت‏.‏