فصل: بَابُ عَقْدِ الذِّمَّةِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: كشاف القناع عن متن الإقناع



.بَابُ الْهُدْنَةُ:

(وَهِيَ) لُغَةً السُّكُونُ وَشَرْعًا (الْعَقْدُ عَلَى تَرْكِ الْقِتَالِ مُدَّةً مَعْلُومَةً) بِقَدْرِ الْحَاجَةِ فَإِنْ زَادَتْ بَطَلَتْ فِي الزِّيَادَةِ فَقَطْ وَالْأَصْلُ فِيهَا قَوْله تَعَالَى {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} وَمِنْ السُّنَّةِ مَا رَوَى مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ وَالْمِسْوَرُ بْنُ مَخْرَمَةَ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَالَحَ قُرَيْشًا عَلَى وَضْعِ الْقِتَالِ عَشْرَ سِنِينَ» وَالْمَعْنَى يَقْتَضِي ذَلِكَ.
؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ بِالْمُسْلِمِينَ ضَعْفٌ، فَيُهَادِنُونَهُمْ حَتَّى يَقْوَوْا بِعِوَضٍ مِنْهُمْ أَوْ مِنًّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ كَمَا يَأْتِي (وَبِغَيْرِ عِوَضٍ) بِحَسَبِ الْمَصْلَحَةِ لِفِعْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَتُسَمَّى مُهَادَنَةً وَمُوَادَعَةً) مِنْ الدَّعَةِ وَهِيَ التَّرْكُ.
(وَمُعَاهَدَةً) مِنْ الْعَهْدِ بِمَعْنَى الْأَمَانِ (وَمُسَالَمَةً) مِنْ السِّلْمِ بِمَعْنَى الصُّلْحِ (وَلَا يَصِحُّ عَقْدُهَا إلَّا مِنْ إمَامٍ أَوْ نَائِبِهِ)؛ لِأَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِنَظَرٍ وَاجْتِهَادٍ وَلَيْسَ غَيْرُهُمَا مَحَلًّا لِذَلِكَ لِعَدَمِ وِلَايَتِهِ.
وَلَوْ جُوِّزَ ذَلِكَ لِلْآحَادِ لَزِمَ تَعْطِيلُ الْجِهَادِ (وَيَكُونُ الْعَقْدُ) أَيْ: عَقْدُ الْهُدْنَةِ (لَازِمًا) لَا يَبْطُلُ بِمَوْتِ الْإِمَامِ أَوْ نَائِبِهِ وَلَا عَزْلِهِ، بَلْ يَلْزَمُ الثَّانِيَ إمْضَاؤُهُ لِئَلَّا يَنْقُضَ الِاجْتِهَادَ بِالِاجْتِهَادِ وَيَسْتَمِرُّ مَا لَمْ يَنْقُضْهُ الْكُفَّارُ بِقِتَالٍ أَوْ غَيْرِهِ.
(وَيَلْزَمُهُ) أَيْ: الْإِمَامَ أَوْ نَائِبَهُ (الْوَفَاءُ بِهَا) أَيْ: بِالْهُدْنَةِ لِلُزُومِهَا (فَإِنْ هَادَنَهُمْ) أَيْ: الْكُفَّارَ (غَيْرُهُمَا) أَيْ: غَيْرُ الْإِمَامِ أَوْ نَائِبِهِ (لَمْ تَصِحَّ) الْهُدْنَةُ لِمَا سَبَقَ.
(وَلَا تَصِحُّ) الْهُدْنَةُ (إلَّا حَيْثُ جَازَ تَأْخِيرُ الْجِهَادِ) لِمَصْلَحَةٍ (فَمَتَى رَأَى) الْإِمَامُ أَوْ نَائِبُهُ (الْمَصْلَحَةَ فِي عَقْدِهَا لِضَعْفٍ فِي الْمُسْلِمِينَ عَنْ الْقِتَالِ، أَوْ لِمَشَقَّةِ الْغَزْوِ أَوْ لِطَمَعِهِ فِي إسْلَامِهِمْ، أَوْ فِي أَدَائِهِمْ الْجِزْيَةَ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ) مِنْ الْمَصَالِحِ (جَازَ) لَهُ عَقْدُهَا؛ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ ووَسَلَّمَ هَادَنَ قُرَيْشًا لَكِنْ قَوْلُهُ: لِطَمَعِهِ فِي إسْلَامِهِمْ رِوَايَةٌ قَطَعَ بِهَا فِي شَرْحِ الْمُنْتَهَى وَغَيْرِهِ وَالثَّانِيَةُ لَا يَجُوزُ عَقْدُهَا لِذَلِكَ وَيَقْتَضِي كَلَامُهُ فِي الْإِنْصَافِ أَنَّهَا صَحِيحَةٌ؛ لِأَنَّهُ صَحَّحَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ عَقْدُهَا إلَّا حَيْثُ يَجُوزُ تَأْخِيرُ الْجِهَادِ، كَمَا هُوَ صَدْرُ عِبَارَةِ الْمُصَنِّفِ وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَأْخِيرُ الْجِهَادِ لِذَلِكَ عَلَى الصَّحِيحِ.
وَيَجُوزُ عَقْدُ الْهُدْنَةِ عِنْدَ الْمَصْلَحَةِ (وَلَوْ بِمَالٍ مِنَّا ضَرُورَةً) مِثْلَ أَنْ يَخَافَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ الْهَلَاكَ أَوْ الْأَسْرَ،؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ لِلْأَسِيرِ فِدَاءُ نَفْسِهِ بِالْمَالِ فَكَذَا هُنَا وَجَازَ تَحَمُّلُ صَغَارٍ دَفَعَهُ لِدَفْعِ صَغَارٍ أَعْظَمَ مِنْهُ وَهُوَ الْقَتْلُ أَوْ الْأَسْرُ، وَسَبْيُ الذُّرِّيَّةِ الْمُفْضِي إلَى كُفْرِهِمْ وَقَدْ رَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي الْمَغَازِي عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: «أَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى عُيَيْنَةَ بْنِ حِصْنٍ وَهُوَ مَعَ أَبِي سُفْيَانَ يَعْنِي يَوْمَ الْأَحْزَابِ أَرَأَيْت إنْ جَعَلْتُ لَك ثُلُثَ ثَمَرِ الْأَنْصَارِ أَتَرْجِعُ بِمَنْ مَعَك مِنْ غَطَفَانَ أَوْ تُخَذِّلُ بَيْنَ الْأَحْزَابِ؟ فَأَرْسَلَ إلَيْهِ عُيَيْنَةُ إنْ جَعَلْتَ الشِّطْرَ فَعَلْتُ» وَلَوْلَا أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ لَمَا بَذَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مُدَّةً مَعْلُومَةً)؛ لِأَنَّ مَا وَجَبَ تَقْدِيرُهُ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا كَخِيَارِ الشَّرْطِ (وَلَوْ فَوْقَ عَشْرِ سِنِينَ) لِأَنَّهَا تَجُوزُ فِي أَقَلَّ مِنْ عَشْرٍ فَجَازَتْ فِي أَكْثَرَ مِنْهَا كَمُدَّةِ الْإِجَارَةِ، وَلِأَنَّهُ إنَّمَا جَازَ عَقْدُهَا لِلْمَصْلَحَةِ فَحَيْثُ وُجِدَتْ جَازَتْ تَحْصِيلًا لِلْمَصْلَحَةِ.
(وَإِنْ هَادَنَهُمْ مُطْلَقًا) بِأَنْ لَمْ يُقَيِّدْ بِمُدَّةٍ لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّ الْإِطْلَاقَ يَقْتَضِي التَّأْيِيدَ وَذَلِكَ يُفْضِي إلَى تَرْكِ الْجِهَادِ بِالْكُلِّيَّةِ وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ (أَوْ) هَادَنَهُمْ (مُعَلِّقًا بِمَشِيئَةٍ كَمَا شِئْنَا أَوْ شِئْتُمْ أَوْ شَاءَ فُلَانٌ أَوْ مَا أَقَرَّكُمْ اللَّهُ) عَلَيْهِ (لَمْ يَصِحَّ) كَالْإِجَارَةِ وَلِجَهَالَةِ الْمُدَّةِ.
(وَإِنْ نَقَضُوا) أَيْ: الْمُهَادَنُونَ (الْعَهْدَ بِقِتَالٍ أَوْ مُظَاهَرَةٍ) أَيْ: مُعَاوَنَةِ عَدُوِّنَا عَلَيْنَا (أَوْ قَتْلِ مُسْلِمٍ أَوْ أَخْذِ مَالٍ انْتَقَضَ عَهْدُهُمْ وَحَلَّتْ دِمَاؤُهُمْ وَأَمْوَالُهُمْ وَسَبْيُ ذَرَارِيِّهِمْ)؛ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ ووَسَلَّمَ «قَتَلَ رِجَالَ بَنِي قُرَيْظَةَ حِينَ نَقَضُوا عَهْدَهُ وَسَبَى ذَرَارِيَّهُمْ وَأَخَذَ أَمْوَالَهُمْ» وَلَمَّا هَادَنَ قُرَيْشًا فَنَقَضُوا عَهْدَهُ حَلَّ لَهُ مِنْهُمْ مَا كَانَ حَرُمَ عَلَيْهِ مِنْهُمْ.
(وَإِنْ نَقَضَ بَعْضُهُمْ) الْعَهْدَ (دُونَ بَعْضٍ فَسَكَتَ بَاقِيهِمْ عَنْ النَّاقِضِ) لِلْعَهْدِ (وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُمْ إنْكَارٌ) عَلَى النَّاقِضِ (وَلَا مُرَاسِلَةُ الْإِمَامِ) فِي شَأْنِهِ (وَلَا تَبَرُّؤٌ) مِنْهُ (فَالْكُلُّ نَاقِضُونَ) لِلْعَهْدِ لِرِضَاهُمْ بِفِعْلِ أُولَئِكَ، وَإِقْرَارِهِمْ لَهُمْ.
(وَإِنْ أَنْكَرَ مَنْ لَمْ يُنْقِضْ عَلَى الْبَاقِينَ) أَيْ: النَّاقِضِينَ (بِقَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ ظَاهِرٍ أَوْ اعْتِزَالٍ) بِأَنْ اعْتَزَلُوا النَّاقِضِينَ (أَوْ رَاسَلَ الْإِمَامَ بِأَنِّي مُنْكِرٌ مَا فَعَلَهُ النَّاقِضُ مُقِيمٌ عَلَى الْعَهْدِ لَمْ يُنْتَقَضْ فِي حَقِّهِ) أَيْ: حَقِّ مَنْ أَنْكَرَ وَفَعَلَ مَا سَبَقَ، لِعَدَمِ مَا يَقْتَضِي نَقْضَهُ مِنْهُ (وَيَأْمُرُهُ الْإِمَامُ بِالتَّمْيِيزِ لِيَأْخُذَ النَّاقِضُ وَحْدَهُ) لِنَقْضِ عَهْدِهِ (فَإِنْ امْتَنَعَ مِنْ التَّمْيِيزِ لَمْ يُنْتَقَضْ عَهْدُهُ) أَيْ: عَهْدُ الْمُنْكِرِ لِمَا فَعَلَهُ النَّاقِضُ.
وَفِي الشَّرْحِ: فَإِنْ امْتَنَعَ مِنْ التَّمْيِيزِ أَوْ إسْلَامِ النَّاقِضِ صَارَ نَاقِضًا؛ لِأَنَّهُ مَنَعَ مِنْ أَخْذِ النَّاقِضِ، فَصَارَ بِمَنْزِلَتِهِ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ التَّمْيِيزُ لَمْ يُنْتَقَضْ عَهْدُهُ؛ لِأَنَّهُ كَالْأَسِيرِ.
وَفِي الْإِنْصَافِ فِي آخِرِ أَحْكَامِ الذِّمَّةِ: وَكَذَا أَيْ: فِي نَقْضِ الْعَهْدِ مَنْ لَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ أَوْ لَمْ يَعْتَزِلْهُمْ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ بِهِمْ الْإِمَامُ.
وَفِي الْمُنْتَهَى، وَشَرْحِهِ: فَإِنْ أَبَوْهُمَا أَيْ: التَّسْلِيمَ وَالتَّمْيِيزَ حَالَ كَوْنِهِمْ قَادِرِينَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا انْتَقَضَ عَهْدُ الْكُلِّ بِذَلِكَ (فَإِنْ أَسَرَ الْإِمَامُ مِنْهُمْ) أَيْ: مِمَّنْ وَقَعَ النَّقْضُ مِنْ بَعْضِهِمْ (قَوْمًا فَادَّعَى الْأَسِيرُ أَنَّهُ لَمْ يَنْقُضْ) الْعَهْدَ (وَأُشْكِلَ ذَلِكَ عَلَيْهِ) أَيْ: الْإِمَامِ (قُبِلَ قَوْلُ الْأَسِيرِ)؛ لِأَنَّهُ لَا يُتَوَصَّلُ إلَى ذَلِكَ إلَّا مِنْهُمْ.
(وَإِنْ شَرَطَ) الْعَاقِدُ لِلْهُدْنَةِ (فِيهَا شَرْطًا فَاسِدًا كَنَقْضِهَا مَتَى شَاءَ، أَوْ رَدِّ النِّسَاءَ الْمُسْلِمَاتِ) إلَيْهِمْ بَطَلَ الشَّرْطُ فَقَطْ لِمُنَافَاتِهِ لِمُقْتَضَى الْعَقْدِ وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إلَى الْكُفَّارِ} وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إنَّ اللَّهَ قَدْ مَنَعَ الصُّلْحَ فِي النِّسَاءِ»، وَلِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ أَنْ تُفْتَنَ فِي دِينِهَا وَلَا يُمْكِنُهَا أَنْ تَفِرَّ (أَوْ) رَدَّ (صَدَاقَتِهِنَّ) بَطَلَ الشَّرْطُ لِمُنَافَاتِهِ مُقْتَضَى الْعَقْدِ وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى {وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا} فَقَالَ قَتَادَةَ نُسِخَ.
وَقَالَ عَطَاءُ وَالزُّهْرِيُّ وَالثَّوْرِيُّ لَا يُعْمَلُ بِهَا الْيَوْمَ إنَّمَا نَزَلَتْ فِي قَضِيَّةِ الْحُدَيْبِيَةِ حِينَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَرَطَ رَدَّ مَنْ جَاءَهُ مُسْلِمًا (أَوْ رَدَّ صَبِيٍّ عَاقِلٍ)؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَرْأَةِ فِي ضَعْفِ الْعَقْلِ وَالْعَجْزِ عَنْ التَّخَلُّصِ وَالْهَرَبِ (أَوْ رَدَّ الرِّجَالِ) الْمُسْلِمِينَ (مَعَ عَدَمِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ أَوْ رَدَّ سِلَاحِهِمْ، أَوْ إعْطَائِهِمْ شَيْئًا مِنْ سِلَاحِنَا أَوْ مِنْ آلَاتِ الْحَرْبِ أَوْ شَرَطَ لَهُمْ مَالًا) مِنَّا (فِي مَوْضِعٍ لَا يَجُوزُ بَذْلُهُ أَوْ إدْخَالُهُمْ الْحَرَمَ بَطَلَ الشَّرْطُ) فِي الْكُلِّ لِمُنَافَاتِهِ مُقْتَضَى الْعَقْدِ وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى {إنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} (فَقَطْ) أَيْ: دُونَ الْعَقْدِ فَيَصِحُّ، وَكَذَا عَقْدُ الذِّمَّةِ كَالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ فِي الْبَيْعِ، لَكِنْ فِي الْمُغْنِي وَالشَّرْحِ: إذَا شَرَطَ أَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ نَقْضَهَا مَتَى شَاءَ، فَإِنَّهُ يَنْبُ غِي أَنَّ لَا تَصِحَّ وَجْهًا وَاحِدًا لِأَنَّ طَائِفَةَ الْكُفَّارِ يَبْنُونَ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ فَلَا يَحْصُلُ إلَّا مِنْ الْجِهَتَيْنِ فَيَفُوتُ مَعْنَى الْهُدْنَةِ (فَلَا يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ) أَيْ: بِالشَّرْطِ الْفَاسِدِ.
(وَلَا يَجُوزُ) الْوَفَاءُ بِهِ لِمَا تَقَدَّمَ (وَأَمَّا الطِّفْلُ الَّذِي لَا يَصِحُّ إسْلَامُهُ) وَهُوَ مَنْ دُونَ التَّمْيِيزِ (فَيَجُوزُ شَرْطُ رَدِّهِ)؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُسْلِمٍ شَرْعًا.
(وَمَتَى وَقَعَ الْعَقْدُ) لِلْهُدْنَةِ (بَاطِلًا، فَدَخَلَ نَاسٌ مِنْ الْكُفَّارِ) الْعَاقِدِينَ لَهُ (دَارَ الْإِسْلَامِ مُعْتَقِدِينَ الْأَمَانَ، كَانُوا آمَنِينَ وَيُرَدُّونَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ وَلَا يُقَرُّونَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ) لِبُطْلَانِ الْأَمَانِ.
(وَإِنْ شَرَطَ رَدَّ مَنْ جَاءَ مِنْ الرِّجَالِ مُسْلِمًا جَازَ لِحَاجَةٍ)؛ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَ ذَلِكَ فِي صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ قَالَ فِي الْمُبْدِعِ: وَظَاهِرُهُ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ عَشِيرَةٌ تَحْمِيهِ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ حَاجَةٌ كَظُهُورِ الْمُسْلِمِينَ وَقُوَّتِهِمْ فَلَا يَصِحُّ اشْتِرَاطُهُ (فَلَا يَمْنَعُهُمْ) أَيْ: الْكُفَّارَ الْإِمَامُ (أَخْذَهُ) أَيْ: أَخْذَ الرَّجُلِ الَّذِي جَاءَ مِنْهُمْ مُسْلِمًا.
(وَلَا يُجْبِرُهُ عَلَى ذَلِكَ) أَيْ: عَلَى الْعَوْدِ مَعَهُمْ «؛ لِأَنَّ أَبَا بَصِيرٍ جَاءَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ فَجَاءُوا فِي طَلَبِهِ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّا لَا يَصْلُحُ فِي دِينِنَا الْغَدْرُ، وَقَدْ عَلِمْتَ مَا عَاهَدْنَاهُمْ عَلَيْهِ وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَ لَك فَرَجًا وَمَخْرَجًا فَرَجَعَ مَعَ الرَّجُلَيْنِ فَقُتِلَ أَحَدُهُمَا وَرَجَعَ فَلَمْ يَلُمْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» (وَلَهُ) أَيْ: الْإِمَامِ (أَنْ يَأْمُرَهُ سِرًّا بِقِتَالِهِمْ وَبِالْهَرَبِ مِنْهُمْ)؛ لِأَنَّهُ رُجُوعٌ إلَى بَاطِلٍ فَكَانَ لَهُ الْأَمْرُ بِعَدَمِهِ كَالْمَرْأَةِ إذَا سَمِعَتْ طَلَاقَهَا.
وَفِي التَّرْغِيبِ يَعْرِضُ لَهُ أَنْ لَا يَرْجِعَ (وَلَهُ) أَيْ: لِمَنْ جَاءَنَا مِنْهُمْ مُسْلِمًا (وَلِمَنْ أَسْلَمَ مَعَهُ أَنْ يَتَحَيَّزُوا نَاحِيَةً، وَيَقْتُلُوا مَنْ قَدَرُوا عَلَيْهِ مِنْ الْكُفَّارِ وَيَأْخُذُوا أَمْوَالَهُمْ وَلَا يَدْخُلُونَ فِي الصُّلْحِ فَإِنْ ضَمَّهُمْ الْإِمَامُ إلَيْهِ بِإِذْنِ الْكُفَّارِ دَخَلُوا فِي الصُّلْحِ) وَحَرُمَ عَلَيْهِمْ قِتَالُ الْكُفَّارِ وَأَخْذُ أَمْوَالِهِمْ «؛ لِأَنَّ أَبَا بَصِيرٍ لَمَّا رَجَعَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ أَوْفَى اللَّهُ ذِمَّتَكَ، قَدْ رَدَدْتَنِي إلَيْهِمْ وَأَنْجَانِي اللَّهُ مِنْهُمْ فَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَلُمْهُ، بَلْ قَالَ: وَيْلُ أُمِّهِ مِسْعَرَ حَرْبٍ لَوْ كَانَ مَعَهُ رِجَالٌ» فَلَمَّا سَمِعَ بِذَلِكَ أَبُو بَصِيرٍ لَحِقَ بِسَاحِلِ الْبَحْر وَانْحَازَ إلَيْهِ أَبُو جَنْدَلِ بْنِ سُهَيْلٍ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ الْمُسْتَضْعَفِينَ بِمَكَّةَ فَجَعَلُوا لَا يَمُرُّ عَلَيْهِمْ عِيرٌ لِقُرَيْشٍ إلَّا عَرَضُوا لَهَا وَأَخَذُوهَا وَقَتَلُوا مَنْ مَعَهَا فَأَرْسَلَتْ قُرَيْشٌ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُنَاشِدُهُ اللَّهَ وَالرَّحِمَ أَنْ يَضُمَّهُمْ إلَيْهِ وَلَا يَرُدَّ إلَيْهِمْ أَحَدًا جَاءَهُ فَفَعَلَ رَوَاهُ الْبُخَارِيّ مُخْتَصَرًا.
(وَإِذَا عَقَدَهَا) أَيْ: عَقَدَ الْإِمَامُ الْهُدْنَةَ (مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ لَمْ يَجُزْ لَنَا رَدُّ مَنْ جَاءَنَا مُسْلِمًا أَوْ بِأَمَانٍ حُرًّا كَانَ أَوْ عَبْدًا رَجُلًا أَوْ امْرَأَةً)؛ لِأَنَّهُ رَدٌّ لَهُمْ إلَى بَاطِلٍ.
(وَلَا يَجِبُ رَدُّ مَهْرِ الْمَرْأَةِ) إلَيْهِمْ لِأَنَّهَا اسْتَحَقَّتْهُ بِمَا نِيلَ مِنْهَا فَلَا يُرَدُّ لِغَيْرِهَا.
(وَإِذَا طَلَبَتْ امْرَأَةٌ) مُسْلِمَةٌ (أَوْ صَبِيَّةٌ مُسْلِمَةٌ الْخُرُوجَ مِنْ عِنْدِ الْكُفَّارِ جَازَ لِكُلِّ مُسْلِمٍ إخْرَاجُهَا) لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ وَقَفَتْ ابْنَةُ حَمْزَةَ عَلَى الطَّرِيقِ فَلَمَّا مَرَّ بِهَا عَلِيٌّ قَالَتْ: يَا ابْنَ عَمِّ لِمَنْ تَدَعُنِي؟ فَتَنَاوَلَهَا فَدَفَعَهَا إلَى فَاطِمَةَ حَتَّى قَدِمَ بِهَا الْمَدِينَةَ».
(وَإِنْ هَرَبَ مِنْهُمْ) أَيْ الْمُهَاجِرِينَ (عَبْدٌ أَسْلَمَ لَمْ يُرَدَّ إلَيْهِمْ وَهُوَ حُرٌّ)؛ لِأَنَّهُ مَلَكَ نَفْسَهُ بِإِسْلَامِهِ، {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا}.
(وَيَضْمَنُونَ) أَيْ: أَهْلُ الْهُدْنَةِ (لِمَا أَتْلَفُوهُ لِمُسْلِمٍ) مِنْ مَالٍ (وَيُحَدُّونَ لِقَذْفِهِ، وَيُقَادُونَ لِقَتْلِهِ، وَيُقْطَعُونَ بِسَرِقَةِ مَالِهِ)؛ لِأَنَّ الْهُدْنَةَ تَقْتَضِي أَمَانَ الْمُسْلِمِينَ مِنْهُمْ وَأَمَانَهُمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فِي النَّفْسِ وَالْمَالِ وَالْعِرْضِ فَلَزِمَهُمْ مَا يَجِبُ فِي ذَلِكَ.
(وَلَا يُحَدُّونَ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى) لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا بِمُلْزَمِينَ بِأَحْكَامِنَا.

.(فَصْلٌ): وَاجِبَاتُ الْإِمَامِ مُدَّةَ الْهُدْنَةِ:

(وَيَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ حِمَايَةُ مَنْ هَادَنَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ الذِّمَّةِ)؛ لِأَنَّهُ أَمَّنَهُمْ مِمَّنْ هُوَ فِي يَدهِ وَتَحْتَ قَبْضَتِهِ فَلَوْ أَتْلَفَ أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَوْ أَهْلُ الذِّمَّةِ عَلَيْهِمْ شَيْئًا، فَعَلَيْهِ الضَّمَانُ (دُونَ غَيْرِهِمْ، كَأَهْلِ حَرْبٍ) فَلَا يَلْزَمُ الْإِمَامَ حِمَايَتُهُمْ، وَلَا حِمَايَةُ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ؛ لِأَنَّ الْهُدْنَةَ الْتِزَامُ الْكَفِّ عَنْهُمْ فَقَطْ (فَلَوْ أَخَذَهُمْ) أَيْ: الْمُهَادَنِينَ غَيْرُ الْمُسْلِمِينَ، وَأَهْلُ الذِّمَّةِ (أَوْ) أَخَذَ (مَالَهُمْ غَيْرُهُمَا حَرُمَ أَخْذُنَا ذَلِكَ) بِشِرَاءٍ وَغَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُمْ فِي عَهْدِنَا (وَإِنْ سَبَاهُمْ كُفَّارٌ آخَرُونَ أَوْ سَبَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا، لَمْ يَجُزْ لَنَا شِرَاؤُهُمْ)؛ لِأَنَّ الْأَمَانَ يَقْتَضِي رَفْعَ الْأَذَى عَنْهُمْ وَفِي اسْتِرْقَاقِهِمْ أَذًى لَهُمْ بِالْإِذْلَالِ بِالرِّقِّ فَلَمْ يَجُزْ كَسَبْيِهِمْ وَالْوَاحِدُ كَالْكُلِّ وَلَا يَلْزَمُ الْإِمَامَ اسْتِنْقَاذُهُمْ.
(وَإِنْ سَبَى بَعْضُهُمْ وَلَدَ بَعْضٍ ثُمَّ بَاعَهُ صَحَّ) كَبَيْعِ عَرَبِيٍّ وَلَدَهُ (وَلَنَا شِرَاءُ أَوْلَادِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ) مِنْهُمْ أَوْ مِمَّنْ سَبَاهُمْ (كَحَرْبِيٍّ بَاعَ أَهْلَهُ وَأَوْلَادَهُ) بِخِلَافِ الذِّمِّيّ وَقَدْ ذَكَرْتُ كَلَامَ ابْنِ نَصْرِ اللَّهِ وَأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِبَيْعٍ حَقِيقَةً؛ لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا أَرِقَّاءً قَبْل وَإِنَّمَا يَصِيرُونَ أَرِقَّاءً بِالِاسْتِيلَاءِ عَلَيْهِمْ كَالسَّبْيِ ذَكَرَ ذَلِكَ فِي حَاشِيَةِ الْمُنْتَهَى.
(وَإِنْ خَافَ) الْإِمَامُ (نَقْضَ الْعَهْدِ مِنْهُمْ بِأَمَارَةٍ تَدُلُّ عَلَيْهِ جَازَ نَبْذُهُ إلَيْهِمْ بِخِلَافِ ذِمَّتِهِ) فَيَقُولُ لَهُمْ قَدْ نَبَذْتُ عَهْدَكُمْ وَصِرْتُمْ حَرْبِيِّينَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} أَيْ: أَعْلِمْهُمْ بِنَقْضِ الْعَهْدِ، حَتَّى تَصِيرَ أَنْتَ وَهُمْ سَوَاءً فِي الْعِلْمِ (فَيَعْلَمُ بِنَقْضِ عَهْدِهِمْ وُجُوبًا قَبْلَ الْإِغَارَةِ) عَلَيْهِمْ (وَالْقِتَالِ) لِلْآيَةِ.
(وَمَتَى نَقَضَهَا) أَيْ: نَقَضَ الْإِمَامُ الْهُدْنَةَ (وَفِي دَارِنَا مِنْهُمْ أَحَدٌ وَجَبَ رَدُّهُمْ إلَى مَأْمَنِهِمْ) لِأَنَّهُمْ دَخَلُوا بِأَمَانٍ، فَوَجَبَ أَنْ يُرَدُّوا آمِنِينَ.
(وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِمْ حَقٌّ اسْتَوْفَى مِنْهُمْ) كَغَيْرِهِمْ لِلْعُمُومَاتِ (وَيُنْتَقَضُ عَهْدُ نِسَائِهِمْ وَذُرِّيَّتِهِمْ بِنَقْضِ عَهْدِ رِجَالِهِمْ تَبَعًا) لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ ووَسَلَّمَ «قَتَلَ رِجَالَ بَنِي قُرَيْظَةَ حِينَ نَقَضُوا عَهْدَهُ وَسَبَى ذَرَارِيَّهُمْ، وَأَخَذَ أَمْوَالَهُمْ» وَلَمَّا هَادَنَ قُرَيْشًا فَنَقَضُوا عَهْدَهُ حَلَّ لَهُ مِنْهُمْ مَا كَانَ حَرُمَ عَلَيْهِ مِنْهُمْ (وَيَجُوزُ قَتْلُ رَهَائِنُهُمْ إذَا قَتَلُوا رَهَائِنَنَا، وَمَتَى مَاتَ إمَامٌ، أَوْ عُزِلَ لَزِمَ مَنْ بَعْدَهُ الْوَفَاءُ بِعَقْدِ) الْهُدْنَةِ لِلُزُومِهِ كَمَا تَقَدَّمَ.

.بَابُ عَقْدِ الذِّمَّةِ:

قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ الذِّمَّةُ الْأَمَانُ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ ووَسَلَّمَ «يَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ» وَالذِّمَّةُ الضَّمَانُ وَالْعَهْدُ، وَهِيَ فِعْلَةٌ مِنْ أَذَمَّ يَذُمُّ إذَا جَعَلَ لَهُ عَهْدًا وَمَعْنَى عَهْدِ الذِّمَّةِ إقْرَارُ بَعْضِ الْكُفَّارِ عَلَى كُفْرِهِ بِشَرْطِ بَذْلِ الْجِزْيَةِ، وَالْتِزَامِ أَحْكَامِ الْمِلَّةِ (لَا يَصِحُّ عَقْدُهَا إلَّا مِنْ إمَامٍ أَوْ نَائِبِهِ)؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَتَعَلَّقُ بِنَظَرِ الْإِمَامِ، وَمَا يَرَاهُ مِنْ الْمَصْلَحَةِ؛ وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ مُؤَبَّدٌ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُفْتَاتَ بِهِ عَلَى الْإِمَامِ.
(وَيَحْرُمُ) عَقْدُ الذِّمَّةِ (مِنْ غَيْرِهِمْ) أَيْ: غَيْرِ الْإِمَامِ وَنَائِبِهِ؛ لِأَنَّهُ افْتِيَاتٌ عَلَى الْإِمَامِ (وَيَجِبُ عَقْدُهَا إذَا اجْتَمَعَتْ الشُّرُوطُ) السَّابِقُ ذِكْرُهَا، وَتَأْتِي أَيْضًا (مَا لَمْ يَخَفْ غَائِلَةً مِنْهُمْ) أَيْ: غَدْرًا بِتَمَكُّنِهِمْ مِنْ الْإِقَامَةِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ فَلَا يَجُوزُ عَقْدُهَا، لِمَا فِيهِ مِنْ الضَّرَرِ عَلَيْنَا.
(وَصِفَةُ عَقْدِهَا أَقْرَرْتُكُمْ بِجِزْيَةٍ وَاسْتِسْلَامٍ) أَيْ: انْقِيَادٍ وَالْتِزَامٍ لِأَحْكَامِ الْإِسْلَامِ (أَوْ يَبْذُلُونَ ذَلِكَ فَيَقُولُ: أَقْرَرْتُكُمْ عَلَى ذَلِكَ وَنَحْوِهِمَا) أَيْ: هَاتَيْنِ الصِّيغَتَيْنِ كَقَوْلِهِ: عَاهَدْتُكُمْ عَلَى أَنْ تُقِيمُوا بِدَارِنَا بِجِزْيَةٍ وَالْتِزَامِ حُكْمِنَا، وَلَا يُعْتَبَرُ ذِكْرُ قَدْرِ الْجِزْيَةِ فِي الْعَقْدِ (فَالْجِزْيَةُ) مَأْخُوذَةٌ مِنْ الْجَزَاءِ (مَالٌ يُؤْخَذُ مِنْهُمْ عَلَى وَجْهِ الصَّغَارِ) بِفَتْحِ الصَّادِ الْمُهْمَلَة أَيْ: الذِّلَّةِ وَالِامْتِهَانِ (كُلَّ عَامٍ بَدَلًا عَنْ قَتْلِهِمْ وَإِقَامَتِهِمْ بِدَارِنَا) فَإِنَّهُمْ لَوْ لَمْ يَبْذُلُوهَا، لَمْ يَكْفِ عَنْهُمْ.
(وَلَا يَجُوزُ عَقْدُ الذِّمَّةِ الْمُؤَبَّدَةِ إلَّا بِشَرْطَيْنِ أَحَدُهُمَا الْتِزَامُ إعْطَاءِ الْجِزْيَةِ كُلَّ حَوْلٍ وَالثَّانِي الْتِزَامُ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ وَهُوَ قَبُولُ مَا يُحْكَمُ بِهِ عَلَيْهِمْ مِنْ أَدَاءِ حَقٍّ أَوْ تَرْك مُحَرَّمٍ) فَإِنْ عَقَدَ عَلَى غَيْرِ هَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ لَمْ يَصِحَّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} قِيلَ: الصَّغَارُ جَرَيَانُ أَحْكَامِ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِمْ.
(وَلَا يَجُوزُ عَقْدُهَا، إلَّا لِأَهْلِ الْكِتَابَيْنِ) التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، وَهُمْ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى (وَلِمَنْ وَافَقَهُمَا) أَيْ: الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى (فِي التَّدَيُّنِ بِالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ كَالسَّامِرَةِ) قَبِيلَةٌ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ نُسِبَ إلَيْهِمْ السَّامِرِيُّ وَيُقَالُ لَهُمْ فِي زَمَنِنَا سَمَرَةٌ بِوَزْنِ شَجَرَةٍ وَهُمْ طَائِفَةٌ مِنْ الْيَهُودِ يَتَشَدَّدُونَ فِي دِينِهِمْ وَيُخَالِفُونَهُمْ فِي بَعْضِ الْفُرُوعِ.
(وَالْفِرِنْجَةِ) وَهُمْ الرُّومُ يُقَالُ لَهُمْ بَنُو الْأَصْفَرِ وَالْأَشْبَهُ أَنَّهَا مُوَلَّدَةٌ نِسْبَةً إلَى فَرَنْجَةَ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَثَانِيهِ وَسُكُونِ ثَالِثِهِ وَهِيَ جَزِيرَةٌ مِنْ جَزَائِرِ الْبَحْرِ وَالنِّسْبَةُ إلَيْهَا فَرَنْجِيٌّ ثُمَّ حُذِفَتْ الْيَاءُ وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ} إلَى قَوْلِهِ: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} وَقَوْلُ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ لِعَامِلِ كِسْرَى «أَمَرَنَا نَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ نُقَاتِلَكُمْ حَتَّى تَعْبُدُوا اللَّهَ وَحْدَهُ أَوْ تُؤَدُّوا الْجِزْيَةَ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ.
وَالْإِجْمَاعُ عَلَى قَبُولِ الْجِزْيَةِ لِمَنْ بَذَلَهَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَمَنْ يَلْحَقُ بِهِمْ وَإِقْرَارُهُمْ بِذَلِكَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ (وَلِمَنْ لَهُ شُبْهَةُ كِتَابٍ كَالْمَجُوسِ)؛ لِأَنَّ عُمَرَ لَمْ يَأْخُذْهَا مِنْهُمْ «حَتَّى شَهِدَ عِنْدَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَهَا مِنْ مَجُوسِ هَجَرَ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ» رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ وَإِنَّمَا قِيلَ لَهُمْ شُبْهَةُ كِتَابٍ؛ لِأَنَّهُ رَوَى أَنَّهُ كَانَ لَهُمْ كِتَابٌ فَرُفِعَ فَصَارَ لَهُمْ بِذَلِكَ شُبْهَةٌ أَوْجَبَتْ حَقْنَ دِمَائِهِمْ.
وَأَخْذَ الْجِزْيَةِ مِنْهُمْ وَلَا تَنْهَضُ فِي إبَاحَةِ نِسَائِهِمْ وَحِلِّ ذَبَائِحِهِمْ (وَ) (كَالصَّابِئِينَ وَهُمْ جِنْسٌ مِنْ النَّصَارَى نَصًّا) وَعَنْهُ أَنَّهُمْ يَسْبِتُونَ وَرَوَى عَنْ عُمَرَ فَهُمْ بِمَنْزِلَةِ الْيَهُودِ.
وَقَالَ مُجَاهِدُ: هُمْ بَيْنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَرُوِيَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: إنَّ الْفَلَكَ حَيٌّ نَاطِقٌ، وَأَنَّ الْكَوَاكِبَ السَّبْعَةَ آلِهَةٌ وَحِينَئِذٍ فَهُمْ كَعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ (وَمَنْ عَدَاهُمْ) أَيْ: عَدَا أَهْلَ الْكِتَابِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ فِي التَّدَيُّنِ بِالْكِتَابَيْنِ وَمَنْ لَهُ شُبْهَةُ كِتَابٍ كَالْمَجُوسِ (فَلَا يُقْبَلُ مِنْهُمْ إلَّا الْإِسْلَامُ أَوْ الْقَتْلُ) لِحَدِيثِ «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنَّ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ» خَصَّ مِنْهُ أَهْلَ الْكِتَابِ وَمَنْ أُلْحِقَ بِهِمْ لِمَا تَقَدَّمَ وَبَقِيَ مَنْ عَدَاهُمْ عَلَى الْأَصْلِ فَأَمَّا أَهْلُ صُحُفِ إبْرَاهِيمَ وَشِيثٍ وَزَبُورِ دَاوُد فَلَا تُقْبَلُ مِنْهُمْ الْجِزْيَةُ لِأَنَّهُمْ غَيْرُ أُولَئِكَ وَلِأَنَّ هَذِهِ لَمْ يَكُنْ فِيهَا شَرَائِعُ إنَّمَا هِيَ مَوَاعِظُ وَأَمْثَالٌ كَذَلِكَ وَصَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صُحُفَ إبْرَاهِيمَ وَزَبُورَ دَاوُد فِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ.
(وَإِذَا عَقَدَ الْإِمَامُ) أَوْ نَائِبُهُ (الذِّمَّةَ لِكُفَّارٍ زَعَمُوا أَنَّهُمْ أَهْلُ كِتَابٍ ثُمَّ تَبَيَّنَ يَقِينًا أَنَّهُمْ عَبَدَةُ أَوْثَانٍ) أَوْ نَحْوُهُمْ (فَالْعَقْدُ بَاطِلٌ) لِفَوَاتِ شَرْطِهِ.
(وَمَنْ انْتَقَلَ إلَى أَحَدِ الْأَدْيَانِ الثَّلَاثَةِ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهَا بِأَنْ تَهَوَّدَ أَوْ تَنَصَّرَ أَوْ تَمَجَّسَ قَبْلَ بَعْثَةِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَوْ بَعْدَ التَّبْدِيلِ فَلَهُ حُكْمُ الدِّينِ الَّذِي انْتَقَلَ إلَيْهِ مِنْ إقْرَارِهِ بِالْجِزْيَةِ وَغَيْرِهِ) كَحِلِّ ذَبِيحَتِهِ وَمُنَاكَحَتِهِ إذَا تَهَوَّدَ أَوْ تَنَصَّرَ.
(وَكَذَا) مَنْ تَهَوَّدَ أَوْ تَنَصَّرَ أَوْ تَمَجَّسَ (بَعْدَ بَعْثَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)؛ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْبَلُهَا مِنْهُمْ مِنْ غَيْرِ سُؤَالٍ وَلَوْ اخْتَلَفَ الْحُكْمُ بِذَلِكَ لَسَأَلَ عَنْهُ وَلَوْ وَقَعَ لَنُقِلَ.
(وَكَذَا مَنْ وُلِدَ بَيْنَ أَبَوَيْنِ لَا تُقْبَلُ الْجِزْيَةُ مِنْ أَحَدِهِمَا) كَمَنْ وُلِدَ بَيْنَ مَجُوسِيٍّ وَوَثَنِيَّةٍ (إذَا اخْتَارَ دِينَ مَنْ يُقْبَلُ مِنْهُ الْجِزْيَةُ) فَتُقْبَلُ مِنْهُ لِعُمُومِ النَّصِّ فِيهِمْ وَلِأَنَّهُ اخْتَارَ أَفْضَلَ الدِّينَيْنِ، وَأَقَلَّهُمَا كُفْرًا (وَيَأْتِي إذَا انْتَقَلَ أَحَدُ أَهْلِ الْأَدْيَانِ الثَّلَاثَةِ إلَى غَيْرِ دِينِهِ) فِي الْبَابِ مُفَصَّلًا.
تَتِمَّةٌ:
فِي تَسْمِيَةِ الْيَهُودِ بِذَلِكَ أَقْوَالٌ إمَّا لِأَنَّهُمْ هَادُوا عَنْ عِبَادَةِ الْعِجْلِ أَيْ: تَابُوا أَوْ لِأَنَّهُمْ مَالُوا عَنْ دِينِ الْإِسْلَامِ أَوْ؛ لِأَنَّهُمْ يَتَهَوَّدُونَ عِنْدَ قِرَاءَةِ التَّوْرَاةِ أَيْ: يَتَحَرَّكُونَ أَوْ لِنِسْبَتِهِمْ إلَى يَهُودِ بْنِ يَعْقُوبَ بِالْمُعْجَمَةِ ثُمَّ عُرِّبَ بِالْمُهْمَلَةِ وَالنَّصَارَى وَاحِدُهُمْ نَصْرَانِيٌّ وَالْأُنْثَى نَصْرَانِيَّةٌ نِسْبَةً إلَى قَرْيَةٍ بِالشَّامِّ يُقَالُ لَهَا نَصْرَانُ وَنَاصِرَةٌ.