فصل: فَصْلٌ: إذا تَحَاكَمَ شَخْصَانِ إلَى رَجُلٍ لِلْقَضَاءِ بَيْنَهُمَا:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: كشاف القناع عن متن الإقناع



.فَصْلٌ: إذا تَحَاكَمَ شَخْصَانِ إلَى رَجُلٍ لِلْقَضَاءِ بَيْنَهُمَا:

وَإِنْ تَحَاكَمَ شَخْصَانِ إلَى رَجُلٍ لِلْقَضَاءِ (بَيْنَهُمَا فَحَكَمَ، نَفَذَ حُكْمُهُ فِي الْمَالِ وَالْقِصَاصِ وَالْحَدِّ وَالنِّكَاحِ وَاللِّعَانِ وَغَيْرِهَا حَتَّى مَعَ وُجُودِ قَاضٍ فَهُوَ كَحَاكِمِ الْإِمَامِ) لِمَا رَوَى أَبُو شُرَيْحٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ إنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَكَمُ فَلِمَ تُكَنَّى أَبَا الْحَكَمِ؟ قَالَ: إنَّ قَوْمِي كَانُوا إذَا اخْتَلَفُوا فِي شَيْءٍ أَتَوْنِي فَحَكَمْتُ بَيْنَهُمْ فَرَضِيَ الْفَرِيقَانِ قَالَ فَمَا أَحْسَنَ هَذَا، فَمَنْ أَكْبَرُ وَلَدِكَ؟ قَالَ: شُرَيْحٌ قَالَ: فَأَنْتَ أَبُو شُرَيْحٍ» أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ.
وَعَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَنْ حَكَمَ بَيْنَ اثْنَيْنِ تَحَاكَمَا إلَيْهِ وَارْتَضَيَا بِهِ فَلَمْ يَعْدِلْ بَيْنَهُمَا بِالْحَقِّ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ» رَوَاهُ أَبُو بَكْرٍ وَلَوْلَا أَنَّ حُكْمَهُ يَلْزَمُهُمَا لَمَا لَحِقَهُ هَذَا الذَّمُّ وَلِأَنَّ عُمَرَ وَأُبَيًّا تَحَاكَمَا إلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَتَحَاكَمَ عُثْمَانُ وَطَلْحَةُ إلَى جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْهُمَا قَاضِيًا (وَيَلْزَمُ مَنْ كَتَبَ إلَيْهِ) الْمُحَكِّمُ (بِحُكْمِهِ الْقَبُولُ وَ) يَلْزَمُهُ (تَنْفِيذُهُ) لِأَنَّهُ حَاكِمٌ نَافِذُ الْأَحْكَامِ فَلَزِمَهُ قَبُولُهُ (كَحَاكِمِ الْإِمَامِ وَلَا يَجُوزُ نَقْضُ حُكْمِهِ فِيمَا لَا يُنْقَضُ) فِيهِ (حُكْمُ مَنْ لَهُ وِلَايَةٌ) مِنْ إمَامٍ أَوْ نَائِبِهِ كَمَا يَأْتِي بَيَانُهُ (وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْخَصْمَيْنِ الرُّجُوعُ عَنْ تَحْكِيمِهِ قَبْلَ شُرُوعِهِ فِي الْحُكْمِ) لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ حُكْمُهُ إلَّا بِرِضَا الْخَصْمَيْنِ أَشْبَهَ رُجُوعَ الْمُوَكِّلِ عَنْ التَّوْكِيلِ قَبْلَ التَّصَرُّفِ فِيمَا وُكِّلَ فِيهِ وَ(لَا) يَصِحُّ رُجُوعُ أَحَدِهِمَا (بَعْدَهُ) أَيْ بَعْدَ شُرُوعِهِ فِي الْحُكْمِ (وَقَبْلَ تَمَامِهِ) كَرُجُوعِ الْمُوَكِّلِ بَعْدَ صُدُورِ مَا وُكِّلَ فِيهِ مِنْ وَكِيلِهِ.
(وَقَالَ الشَّيْخُ: وَإِنْ حَكَّمَ أَحَدُهُمَا خَصْمَهُ أَوْ حَكَّمَا مُفْتِيًا فِي مَسْأَلَةٍ اجْتِهَادِيَّةٍ جَازَ، وَقَالَ: يَكْفِي وَصْفُ الْقِصَّةِ) أَيْ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ دَعْوَى (وَقَالَ: الْعَشْرُ صِفَاتٍ الَّتِي ذَكَرَهَا فِي الْمُحَرَّرِ فِي الْقَاضِي: لَا تُشْتَرَطُ فِيمَنْ يُحَكِّمُهُ الْخَصْمَانِ) وَيَنْبَغِي أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْهِمَا بِالرِّضَا بِهِ قَبْلَ حُكْمِهِ لِئَلَّا يَجْحَدَ الْمَحْكُومُ عَلَيْهِ مِنْهُمَا (وَقَالَ فِي عُمَدِ الْأَدِلَّةِ بَعْدَ ذِكْرِ التَّحْكِيمِ: وَكَذَا يَجُوزُ أَنْ يَتَوَلَّى مُقَدَّمُو الْأَسْوَاقِ وَالْمَسَاجِدِ الْوَاسِطَاتِ وَالصُّلْحَ عِنْدَ الْفَوْرَةِ وَالْمُخَاصَمَةِ، وَصَلَاةَ الْجِنَازَةِ، وَتَفْوِيضَ الْأَمْوَالِ إلَى الْأَوْصِيَاءِ، وَتَفْرِقَةَ زَكَاتِهِ بِنَفْسِهِ، وَإِقَامَةَ الْحُدُودِ عَلَى رَقِيقِهِ، وَخُرُوجَ طَائِفَةٍ إلَى الْجِهَادِ، وَالْقِيَامَ بِأَمْرِ الْمَسَاجِدِ، وَالْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَالتَّعْزِيرَ لِعَبِيدٍ، وَإِمَاءٍ وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ) قُلْتُ: وَفِي بَعْضِ ذَلِكَ مَا لَا يَخْفَى عَلَى الْمُتَأَمِّلِ.

.بَابُ آدَابِ الْقَاضِي:

بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالدَّالِ، يُقَالُ: أَدِبَ الرَّجُلُ بِكَسْرِ الدَّالِ وَضَمِّهَا لُغَةً إذَا صَارَ أَدِيبًا فِي خُلُقٍ أَوْ عِلْمٍ (وَهُوَ) أَيْ الْأَدَبُ (أَخْلَاقُهُ الَّتِي يَنْبَغِي) لَهُ وَلِغَيْرِهِ (التَّخَلُّقُ بِهَا) وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْبَابِ بَيَانُ مَا يَجِبُ عَلَى الْقَاضِي، أَوْ يُسَنُّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِهِ نَفْسَهُ وَأَعْوَانَهُ مِنْ الْآدَابِ وَالْقَوَانِينَ الَّتِي تَنْضَبِطُ بِهَا أُمُورُ الْقَضَاءِ وَتَحْفَظُهُمْ مِنْ الْمَيْلِ وَالزَّيْغِ (وَالْخُلُقُ) بِضَمِّ اللَّامِ (صُورَتُهُ الْبَاطِنَةُ) وَهِيَ نَفْسُهُ وَأَوْصَافُهَا وَمَعَانِيهَا، وَالثَّوَابُ وَالْعِقَابُ يَتَعَلَّقَانِ بِأَوْصَافِ الصُّورَةِ الْبَاطِنَةِ أَكْثَرُ مِمَّا يَتَعَلَّقَانِ بِأَوْصَافِ الصُّورَةِ الظَّاهِرَةِ قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ: حُسْنُ الْخُلُقِ اخْتِيَارُ الْفَضَائِلِ وَتَرْكُ الرَّذَائِلِ.
(يَنْبَغِي) أَيْ يُسَنُّ (أَنْ يَكُونَ) الْقَاضِي (قَوِيًّا مِنْ غَيْرِ عُنْفٍ) لِئَلَّا يَطْمَعَ فِيهِ الظَّالِمُ، وَالْعُنْفُ ضِدُّ الرِّفْقِ.
(لَيِّنًا مِنْ غَيْرِ ضَعْفٍ) لِئَلَّا يَهَابَهُ صَاحِبُ الْحَقِّ، وَظَاهِرُ الْفُصُولِ يَجِبُ ذَلِكَ (حَلِيمًا) لِئَلَّا يَغْضَبَ مِنْ كَلَامِ الْخَصْمِ فَيَمْنَعُهُ ذَلِكَ مِنْ الْحُكْمِ بَيْنَهُمَا (مُتَأَنِّيًا) لِئَلَّا تُؤَدِّيَ عَجَلَتُهُ إلَى مَا لَا يَنْبَغِي (ذَا فِطْنَةٍ وَتَيَقُّظٍ) لِئَلَّا يُخْدَعَ مِنْ بَعْضِ الْخُصُومِ عَلَى غِرَّةٍ (بَصِيرًا بِأَحْكَامِ الْحُكَّامِ قَبْلَهُ، يَخَافُ اللَّهَ تَعَالَى وَيُرَاقِبُهُ لَا يُؤْتَى مِنْ غَفْلَةٍ وَلَا يُخْدَعُ لِغِرَّةٍ) لِقَوْلِ عَلِيٍّ «لَا يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَكُونَ قَاضِيًا حَتَّى يَكُونَ فِيهِ خَمْسُ خِصَالٍ: عَفِيفٌ حَلِيمٌ عَالِمٌ بِمَا كَانَ قَبْلَهُ يَسْتَشِيرُ ذَوِي الْأَلْبَابِ لَا يَخَافُ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ» (صَحِيحَ الْبَصَرِ وَالسَّمْعِ، عَالِمًا بِلُغَاتِ أَهْلِ وِلَايَتِهِ) لِأَنَّ ذَلِكَ أَمْكَنُ فِي الْعَدْلِ بَيْنَهُمْ لِأَنَّ الْمُتَرْجِمَ قَدْ يُخْفِي شَيْئًا مِنْ كَلَامِ أَحَدِهِمَا.
(عَفِيفًا) لِمَا تَقَدَّمَ عَنْ عَلِيٍّ (وَرِعًا نَزِهًا بَعِيدًا عَنْ الطَّمَعِ صَدُوقَ اللَّهْجَةِ لَا يَهْزِلُ وَلَا يَمْجِنُ) أَيْ يَمْزَحُ لِأَنَّ ذَلِكَ يُخِلُّ بِهَيْئَتِهِ (ذَا رَأْيٍ وَمَشُورَةٍ) لِمَا تَقَدَّمَ عَنْ عَلِيٍّ (لِكَلَامِهِ لَيِّنٌ ذَا قُرْبٍ وَهَيْبَةٍ إذَا أَوْعَدَ وَوَفَاءٍ إذَا وَعَدَ) يُقَالُ: وَعَدَ فِي الْخَيْرِ وَأَوْعَدَ فِي ضِدِّهِ هَذَا هُوَ الْأَصْلُ وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ كُلٌّ مِنْهُمَا بِمَعْنَى الْآخَرِ (وَلَا يَكُونُ) الْقَاضِي (جَبَّارًا وَلَا عَسُوفًا) لِأَنَّهُ لَا يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ بِتَوْلِيَتِهِ مِنْ وُصُولِ الْحَقِّ لِمُسْتَحِقِّهِ (وَلَهُ أَنْ يَنْتَهِرَ الْخَصْمَ إذَا الْتَوَى) لِأَنَّ الْحَاجَةَ دَاعِيَةٌ إلَى ذَلِكَ لِإِقَامَةِ الْعَدْلِ (وَ) أَنْ (يَصِيحَ عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى الْخَصْمِ عِنْدَ الْتِوَائِهِ (وَإِنْ اسْتَحَقَّ التَّعْزِيرَ عَزَّرَهُ بِمَا يَرَى مِنْ أَدَبٍ) لَا يَزِيدُ عَلَى عَشَرَةِ أَسْوَاطٍ (أَوْ حَبْسٍ).
(وَإِنْ افْتَاتَ) الْخَصْمُ (عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى الْقَاضِي (بِأَنْ يَقُولَ) الْخَصْمُ: (حَكَمْتَ عَلَيَّ بِغَيْرِ الْحَقِّ أَوْ ارْتَشَيْتَ، فَلَهُ تَأْدِيبُهُ) لِأَنَّهُ يَشُقُّ عَلَيْهِ رَفْعُهُ إلَى غَيْرِهِ، فَجَازَ لَهُ تَأْدِيبُهُ بِنَفْسِهِ مَعَ أَنَّهُ حَقٌّ لَهُ (وَلَهُ) أَيْ الْقَاضِي (أَنْ يَعْفُوَ) عَمَّنِ افْتَاتَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ حَقٌّ لَهُ.
(وَإِنْ بَدَأَ الْمُنْكِرُ بِالْيَمِينِ قَطَعَهَا) الْقَاضِي (عَلَيْهِ، وَقَالَ: الْبَيِّنَةُ عَلَى خَصْمِكَ) الْمُدَّعِي (فَإِنْ عَادَ) الْمُنْكِرُ إلَى الْيَمِينِ (نَهَرَهُ) عَنْ ذَلِكَ (فَإِنْ عَادَ) إلَيْهِ (عَزَّرَهُ إنْ رَأَى) ذَلِكَ (وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِمَّا فِيهِ إسَاءَةُ الْأَدَبِ).
(وَإِذَا وَلِيَ) الْقَاضِي (فِي غَيْرِ بَلَدٍ فَأَرَادَ الْمَسِيرَ إلَيْهِ اُسْتُحِبَّ أَنْ يَبْحَثَ عَنْ قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ ذَلِكَ الْبَلَدِ إنْ وُجِدَ لِيَسْأَلَهُمْ عَنْهُ) أَيْ عَنْ الْبَلَدِ (وَعَنْ عُلَمَائِهِ وَعُدُولِهِ وَفُضَلَائِهِ) لِيَعْرِفَ حَالَهُمْ حَتَّى يُشَاوِرَ مَنْ هُوَ أَهْلٌ لِلْمُشَاوَرَةِ، وَيَقْبَلَ شَهَادَةَ مَنْ هُوَ أَهْلٌ لِلْعَدَالَةِ (وَيَتَعَرَّفَ مِنْهُمْ) أَيْ مِمَّنْ وَجَدَ مِنْ أَهْلِ ذَلِكَ الْبَلَدِ (مَا يَحْتَاجُ إلَى مَعْرِفَتِهِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ) مَنْ يَسْأَلُ فِي الْبَلَدِ الَّذِي هُوَ فِيهِ (وَلَا فِي طَرِيقِهِ سَأَلَ إذَا دَخَلَ) لِيَتَعَرَّفَ حَالَهُمْ لِمَا تَقَدَّمَ (وَإِذَا قَرَّبَ) الْقَاضِي (مِنْهُ) أَيْ مِنْ الْبَلَدِ الَّذِي وَلِيَ فِيهِ (بَعَثَ مَنْ يُعْلِمُ بِقُدُومِهِ لِيَتَلَقَّوْهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَأْمُرَهُمْ بِتَلَقِّيهِ) لِأَنَّ فِي تَلَقِّيهِ تَعْظِيمًا لَهُ، وَذَلِكَ طَرِيقٌ لِقَبُولِ قَوْلِهِ وَنُفُوذِ أَمْرِهِ (وَيَدْخُلُ فِي الْبَلَدِ يَوْمُ الِاثْنَيْنِ أَوْ) يَوْمُ (الْخَمِيسِ أَوْ) يَوْمُ (السَّبْتِ) لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «بُورِكَ لِأُمَّتِي فِي سَبْتِهَا وَخَمِيسِهَا».
وَرُوِيَ أَنَّ «النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ قَدِمَ يَوْمَ الْخَمِيسِ» (ضَحْوَةً) لِاسْتِقْبَالِ الشَّهْرِ تَفَاؤُلًا (لَابِسًا أَجْمَلَ ثِيَابِهِ) أَيْ أَحْسَنَهَا لِأَنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ.
وَقَالَ تَعَالَى {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} لِأَنَّهَا مَجَامِعُ النَّاسِ وَهَذَا مَوْضِعٌ يَجْتَمِعُ فِيهِ مَا لَا يَجْتَمِعُ فِي الْمَسْجِدِ فَكَانَ أَوْلَى بِالزِّينَةِ (وَفِي التَّبْصِرَةِ وَكَذَا أَصْحَابُهُ) أَيْ يَلْبَسُونَ أَحْسَنَ ثِيَابِهِمْ وَجَزَمَ بِهِ فِي الْمُنْتَهَى لِأَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ أَعْظَمُ لَهُ وَلَهُمْ فِي النُّفُوسِ (وَأَنْ يَكُونَ جَمِيعُهَا) أَيْ الثِّيَابِ (سُودًا وَإِلَّا فَالْعِمَامَةُ) لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «دَخَلَ مَكَّةَ عَلَيْهِ عِمَامَةٌ حَرْقَانِيَّةٌ» أَيْ سَوْدَاءُ قَالَهُ فِي الْفُرُوعِ وَالْمُبْدِعِ.
(وَظَاهِرُ كَلَامِهِمْ غَيْرُ السَّوَادِ أَوْلَى) لِلْأَخْبَارِ أَيْ فِي الْبَيَاضِ (وَلَا يَتَطَيَّرُ) أَيْ يَتَشَاءَمُ (بِشَيْءٍ وَإِنْ تُفَاءَلَ فَحَسَنٌ) لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُحِبُّ الْفَأْلَ الْحَسَنَ وَنَهَى عَنْ الطِّيَرَةِ (فَيَأْتِي) الْقَاضِي (الْجَامِعَ يُصَلِّي فِيهِ رَكْعَتَيْنِ) لِأَنَّ «النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ بَدَأَ بِالْمَسْجِدِ فَصَلَّى فِيهِ رَكْعَتَيْنِ» فَيُسْتَحَبُّ ذَلِكَ لِكُلِّ قَادِمٍ (وَيَجْلِسُ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ) لِأَنَّ خَيْرَ الْمَجَالِسِ مَا اسْتَقْبَلَ بِهِ الْقِبْلَةَ (فَإِذَا اجْتَمَعَ النَّاسُ أَمَرَ بِعَهْدِهِ) أَيْ بِاَلَّذِي كَتَبَهُ لَهُ مُوَلِّيهِ عَمَّا وَلَّاهُ إيَّاهُ (فَقُرِئَ عَلَيْهِمْ) أَيْ الْحَاضِرِينَ لِيَعْلَمُوا تَوْلِيَتَهُ وَيَعْلَمُوا احْتِيَاطَ الْإِمَامِ عَلَى اتِّبَاعِ أَحْكَامِ الشَّرْعِ، وَالنَّهْيَ عَنْ مُخَالَفَتِهِ وَقَدْرَ الْمَوْلَى عِنْدَهُ وَيَعْلَمُوا حُدُودَ وِلَايَتِهِ وَمَا فَوَّضَ إلَيْهِ الْحُكْمَ فِيهِ (وَلْيُقْلِلْ) الْقَاضِي (مِنْ كَلَامِهِ إلَّا لِحَاجَةٍ) لِلْخَبَرِ (وَيَأْمُرُ مَنْ يُنَادِي بِيَوْمِ جُلُوسِهِ لِلْحُكْمِ) لِيَعْلَمَ مَنْ لَهُ حَاجَةٌ فَيَقْصِدَ الْحُضُورَ لِفَصْلِ حَاجَتِهِ.
(ثُمَّ يَنْصَرِفُ) الْقَاضِي (إلَى مَنْزِلِهِ الَّذِي أُعِدَّ لَهُ) لِيَسْتَرِيحَ مِنْ نَصَبِ سَفَرِهِ وَيُعِدَّ أَمْرَهُ وَلِيُرَتِّبَ نُوَّابَهُ لِيَكُونَ خُرُوجُهُ عَلَى أَعْدَلِ أَحْوَالِهِ.
(وَأَوَّلُ مَا يَبْدَأُ بِهِ أَنْ يَبْعَثَ إلَى الْحَاكِمِ الْمَعْزُولِ فَيَأْخُذُ مِنْهُ دِيوَانَ الْحُكْمِ) بِكَسْرِ الدَّالِ وَحُكِيَ فَتْحُهَا وَهُوَ فَارِسِيٌّ مُعَرَّبٌ، لِأَنَّهُ الْأَسَاسُ الَّذِي يُبْنَى عَلَيْهِ (وَيَلْزَمُهُ) أَيْ الْمَعْزُولَ (تَسْلِيمُهُ) أَيْ الْحُكْمِ (إلَيْهِ) أَيْ إلَى الْقَاضِي الْمُتَوَلِّي لِأَنَّهُ فِي يَدِ الْحَاكِمِ بِحُكْمِ الْوِلَايَةِ وَقَدْ صَارَتْ إلَيْهِ فَوَجَبَ أَنْ يَنْتَقِلَ ذَلِكَ إلَيْهِ (وَهُوَ) أَيْ الدِّيوَانُ (مَا فِيهِ وَثَائِقُ النَّاسِ مِنْ الْمَحَاضِرِ، وَهِيَ نُسَخُ مَا ثَبَتَ عِنْدَ الْحَاكِمِ وَالسِّجِلَّاتِ وَهِيَ نُسَخُ مَا حُكِمَ بِهِ) وَيُعْرَفُ الْآن بِالسِّجِلِّ.
(وَلِيَأْمُرَ) الْقَاضِي (كَاتِبًا ثِقَةً يَكْتُبُ مَا يُسَجِّلُهُ بِمَحْضَرِ عَدْلَيْنِ) احْتِيَاطًا (ثُمَّ يَخْرُجُ) الْقَاضِي (يَوْمَ الْوَعْدِ عَلَى أَعْدَلِ أَحْوَالِهِ غَيْرَ غَضْبَانَ وَلَا جَائِعٍ وَلَا شَبْعَانَ وَلَا حَاقِنٍ وَلَا مَهْمُومٍ بِأَمْرٍ يَشْغَلُهُ عَنْ الْفَهْمِ كَالْعَطَشِ وَالْفَرَحِ الشَّدِيدَيْنِ وَالْحُزْنِ الْكَثِيرِ وَالْهَمِّ الْعَظِيمِ وَالْوَجَعِ الْمُؤْلِمِ وَالنُّعَاسِ الَّذِي يَغْمُرُ الْقَلْبَ) لِيَكُونَ أَجْمَعَ لِقَلْبِهِ وَأَبْلَغَ فِي تَيَقُّظِهِ لِلصَّوَابِ وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَا يَقْضِي الْقَاضِي وَهُوَ غَضْبَانُ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ وَالْبَاقِي بِالْقِيَاسِ عَلَيْهِ.
(وَيُسَلِّمُ عَلَى مَنْ يَمُرُّ عَلَيْهِ) مِنْ الْمُسْلِمِينَ (وَلَوْ صِبْيَانًا ثُمَّ عَلَى مَنْ فِي مَجْلِسِهِ) لِحَدِيثِ «إنَّ حَقَّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يُسَلِّمَ عَلَيْهِ إذَا لَقِيَهُ».
(وَيُصَلِّي تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ إنْ كَانَ فِي مَسْجِدٍ) لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إذَا دَخَلَ أَحَدُكُمْ الْمَسْجِدَ فَلَا يَجْلِسْ حَتَّى يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ» (وَإِلَّا) أَيْ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي مَسْجِدٍ (خَيْرٌ وَالْأَفْضَلُ الصَّلَاةُ) لِيَنَالَ ثَوَابَهَا.
(وَيَجْلِسُ عَلَى بِسَاطٍ أَوْ لِبْدٍ أَوْ غَيْرِهِ يُفْرَشُ لَهُ فِي مَجْلِسِ حُكْمِهِ بِسَكِينَةٍ وَوَقَارٍ) لِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي هَيْبَتِهِ وَأَوْقَعُ فِي النُّفُوسِ وَأَعْظَمُ لِحُرْمَةِ الشَّرْعِ (وَلَا يَجْلِسُ عَلَى التُّرَابِ وَلَا عَلَى حُصُرِ الْمَسْجِدِ لِأَنَّ ذَلِكَ يَذْهَبُ بِهَيْبَتِهِ مِنْ أَعْيُنِ الْخُصُومِ) لَكِنْ قَالَ فِي الشَّرْحِ: وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ جُلُوسِهِ عَلَى الْبِسَاطِ دُونَ تُرَابٍ وَحَصِيرٍ لَمْ نَعْلَمْ أَنَّهُ نُقِلَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ خُلَفَائِهِ، وَالِاقْتِدَاءُ بِهِمْ أَوْلَى.
(وَيَسْتَعِينُ بِاَللَّهِ وَيَتَوَكَّلُ عَلَيْهِ وَيَدْعُوهُ سِرًّا أَنْ يَعْصِمَهُ مِنْ الزَّلَلِ وَيُوَفِّقَهُ لِلصَّوَابِ وَلِمَا يُرْضِيهِ) مِنْ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ لِأَنَّ ذَلِكَ مَطْلُوبٌ مُطْلَقًا فَفِي وَقْتِ الْحَاجَةِ أَوْلَى وَالْقَاضِي أَشَدُّ النَّاسِ إلَيْهِ حَاجَةً.
(وَيَجْعَلُ) الْقَاضِي (مَجْلِسَهُ فِي مَكَان فَسِيحٍ كَجَامِعٍ وَيَصُونُهُ) أَيْ الْمَسْجِدَ (عَمَّا يُكْرَهُ فِيهِ) مِنْ لَغَطٍ وَنَحْوِهِ (أَوْ) يَجْلِسُ فِي (فَضَاءٍ وَاسِعٍ أَوْ دَارٍ وَاسِعَةٍ فِي وَسَطِ الْبَلَدِ إنْ أَمْكَنَ) لِيَكُونَ ذَلِكَ أَوْسَعَ عَلَى الْخُصُومِ وَأَقْرَبَ إلَى الْعَدْلِ.
(وَلَا يُكْرَهُ الْقَضَاءُ فِي الْجَوَامِعِ وَالْمَسَاجِدِ) لِحَدِيثِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ «أَنَّهُمْ كَانُوا يَقْضُونَ فِي الْمَسْجِدِ».
وَقَالَ مَالِكٌ: هُوَ السُّنَّةُ وَالْقَضَاءُ فِيهِ مِنْ أَمْرِ النَّاسِ وَالْقَدِيمِ فَإِنْ اتَّفَقَ لِأَحَدٍ مِنْ الْخُصُومِ مَانِعٌ مِنْ الدُّخُولِ كَحَيْضٍ وَكُفْرٍ، وَكَّلَ وَكِيلًا وَيَنْتَظِرُ حَتَّى يَخْرُجَ فَيُحَاكِمُ إلَيْهِ.
(وَلَا يَتَّخِذُ) الْقَاضِي (فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ حَاجِبًا وَلَا بَوَّابًا نَدْبًا بِلَا عُذْرٍ) لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَا مِنْ إمَامٍ أَوْ وَالٍ يُغْلَقُ بَابَهُ دُونَ ذَوِي الْحَاجَةِ وَالْخَلَّةِ وَالْمَسْكَنَةِ إلَّا أَغْلَقَ اللَّهُ أَبْوَابَ السَّمَاءِ دُونَ حَاجَتِهِ وَخَلَّتِهِ وَمَسْكَنَتِهِ» إسْنَادُهُ ثِقَاتٌ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ غَرِيبٌ، وَلِأَنَّ الْحَاجِبَ رُبَّمَا قَدَّمَ الْمُتَأَخِّرَ وَأَخَّرَ الْمُتَقَدِّمَ لِغَرَضٍ لَهُ (وَفِي الْأَحْكَامِ السُّلْطَانِيَّةِ: لَيْسَ لَهُ تَأْخِيرُ الْخُصُومَةِ إذَا تَنَازَعُوا إلَيْهِ بِلَا عُذْرٍ) لِمَا فِيهِ مِنْ الضَّرَرِ (وَلَا لَهُ) أَيْ الْقَاضِي (أَنْ يَحْتَجِبَ إلَّا فِي أَوْقَاتِ الِاسْتِرَاحَةِ) لِأَنَّهَا لَيْسَتْ وَقْتًا لِلْحُكُومَةِ.
(وَيَعْرِضَ الْقِصَصَ) لِيَقْضِيَ حَوَائِجَ أَصْحَابِهَا (فَيَبْدَأُ بِالْأَوَّلِ فَالْأَوَّلِ) كَمَا لَوْ سَبَقُوا إلَى مُبَاحٍ (وَيَكُونَ لَهُ مَنْ يُرَتِّبُ النَّاسَ إذَا كَثُرُوا فَيَكْتُبَ الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ) لِيَعْلَمَ السَّابِقُ (وَيَجِبُ تَقْدِيمُ السَّابِقِ عَلَى غَيْرِهِ) كَالسَّبَقِ إلَى الْمُبَاحِ.
(فَإِذَا حَكَمَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَصْمِهِ فَقَالَ: لِي دَعْوَى أُخْرَى لَمْ تُسْمَعْ مِنْهُ، وَيَقُولُ لَهُ: اجْلِسْ، إذَا لَمْ يَبْقَ أَحَدٌ مِنْ الْحَاضِرِينَ نَظَرْتُ فِي دَعْوَاكَ الْأُخْرَى إنْ أَمْكَنَ) لِئَلَّا يَسْتَوْعِبَ الْمَجْلِسُ بِدَعَاوِيهِ فَيُضِرَّ بِغَيْرِهِ وَلِأَنَّهُ مَسْبُوقٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى الثَّانِيَةِ، لِأَنَّ الَّذِي يَلِيهِ سَبَقَهُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الدَّعْوَى الثَّانِيَةِ (فَإِذَا فَرَغَ الْكُلُّ) مِنْ دَعَاوِيهِمْ (فَقَالَ الْأَخِيرُ بَعْدَ فَصْلِ حُكُومَتِهِ لِي دَعْوَى أُخْرَى لَمْ تُسْمَعْ مِنْهُ حَتَّى تُسْمَعَ دَعْوَى الْأَوَّلِ الثَّانِيَةِ) لِسَبْقِهِ (ثُمَّ تُسْمَعُ دَعْوَاهُ) لِعَدَمِ الْمُعَارِضِ (وَإِنْ ادَّعَى الْمُدَّعِي عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ حَكَمَ بَيْنَهُمَا لِأَنَّنَا إنَّمَا نَعْتَبِرُ الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ فِي الْمُدَّعِي لَا فِي الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَإِذَا تَقَدَّمَ الثَّانِي) أَيْ الَّذِي جَاءَ ثَانِيًا (فَادَّعَى عَلَى الْمُدَّعِي الْأَوَّلِ وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْأَوَّلُ حَكَمَ بَيْنَهُمَا) كَمَا لَوْ ادَّعَى عَلَى غَيْرِهِمَا.
(وَإِنْ حَضَرَ اثْنَانِ) مُدَّعِيَانِ (أَوْ جَمَاعَةٌ دَفْعَةً وَاحِدَةً) وَتَشَاحُّوا (أَقْرَعَ بَيْنَهُمْ فَقَدَّمَ مَنْ خَرَجَتْ لَهُ الْقُرْعَةُ) لِأَنَّهَا مَشْرُوعَةٌ لِلتَّرْجِيحِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ فَكَذَا هُنَا.
وَفِي الْمُحَرَّرِ وَالْوَجِيزِ يُقَدَّمُ الْمُسَافِرُ وَالْمُرْتَحِلُ زَادَ فِي الرِّعَايَةِ وَالْمَرْأَةُ فِي حُكُومَاتٍ يَسِيرَةٍ قَالَ فِي الْمُبْدِعِ: لَكِنْ لَوْ قَدِمَ الْمُتَأَخِّرُ أَوْ عُكِسَ صَحَّ قَضَاؤُهُ مَعَ الْكَرَاهَةِ انْتَهَى وَمُقْتَضَى كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَنَّهُ يَحْرُمُ،.
وَإِنْ ادَّعَى كُلٌّ مِنْهُمْ أَنَّهُ حَضَرَ قَبْلَ الْآخَرِ لِيَدَّعِيَ عَلَيْهِ فَهَلْ يُقَدِّمُ الْحَاكِمُ مَنْ شَاءَ مِنْهُمَا أَوْ يَصْرِفُهُمَا حَتَّى يَتَّفِقَا أَوْ يَقْرِعَ بَيْنَهُمَا أَوْ يُحَلِّفَ كُلٌّ مِنْهُمَا الْآخَرَ؟ فِيهِ أَوْجُهٌ وَالِاعْتِبَارُ بِسَبْقِ الْمُدَّعِي.
(وَإِنْ كَثُرَ عَدَدُهُمْ) أَيْ الْمُدَّعِينَ الَّذِينَ جَاءُوا دُفْعَهً وَاحِدَةً (كَتَبَ أَسْمَاءَهُمْ فِي رِقَاعٍ وَتَرَكَهَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَمَدَّ يَدَهُ فَأَخَذَ رُقْعَةً وَاحِدَةً بَعْدَ أُخْرَى أَيْ كُلَّمَا انْتَهَتْ خُصُومَةُ صَاحِبِ رُقْعَةٍ أَخَذَ الْأُخْرَى فَأَنْهَى) حُكُومَةَ صَاحِبِهَا (وَ) يَأْخُذُ (أُخْرَى) فَ (يُقَدِّمُ صَاحِبَهَا حَسَبَ مَا يُتَّفَقُ) إلَى أَنْ يَنْتَهُوا لِأَنَّهُ لَا مُرَجِّحَ هُنَا إلَّا الْقُرْعَةُ وَهَذَا أَسْهَلُ طُرُقِهَا.

.فَصْلٌ: فيما يجب على الْقَاضِي:

وَيَلْزَمُهُ أَيْ الْقَاضِيَ (الْعَدْلُ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ فِي لَحْظِهِ وَلَفْظِهِ وَمَجْلِسِهِ وَالدُّخُولِ عَلَيْهِ) لِمَا رَوَى عَمْرُو بْنُ شَبَّةَ فِي كِتَابِ قُضَاةِ الْبَصْرَةِ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «مَنْ اُبْتُلِيَ بِالْقَضَاءِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فَلْيَعْدِلْ بَيْنَهُمْ فِي لَفْظِهِ وَإِشَارَتِهِ وَمَقْعَدِهِ وَلَا يَرْفَعَنَّ صَوْتَهُ عَلَى أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ وَلَا يَرْفَعْهُ عَلَى الْآخَرِ» وَلِأَنَّهُ إذَا مَيَّزَ أَحَدَ الْخَصْمَيْنِ عَلَى الْآخَرِ حُصِرَ وَانْكَسَرَ وَرُبَّمَا لَمْ يَفْهَمْ حُجَّتَهُ فَيُؤَدِّي إلَى ظُلْمِهِ (إلَّا أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا كَافِرًا فَيُقَدِّمُ الْمُسْلِمَ عَلَيْهِ فِي الدُّخُولِ وَيَرْفَعُهُ فِي الْجُلُوسِ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ} وَلِقَوْلِ عَلِيٍّ لِشُرَيْحٍ: لَوْ كَانَ مُسْلِمًا لَجَلَسْتُ مَعَهُ بَيْنَ يَدَيْكَ، وَلَكِنْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «لَا تُسَاوُوهُمْ فِي الْجُلُوسِ» قَالَ فِي الْمُبْدِعِ وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ (أَوْ يَأْذَنُ لَهُ) أَيْ الْقَاضِي (أَحَدُ الْخَصْمَيْنِ فِي رَفْعِ الْخَصْمِ الْآخَرِ عَلَيْهِ فِي الْمَجْلِسِ فَيَجُوزُ) لَهُ رَفْعُهُ لِإِسْقَاطِ خَصْمِهِ حَقَّهُ بِإِذْنِهِ فِيهِ (وَإِذَا سَلَّمَ عَلَيْهِ أَحَدُهُمَا رَدَّ عَلَيْهِ) السَّلَامَ (وَلَا يَنْتَظِرُ) بِالرَّدِّ (سَلَامَ الثَّانِي) لِوُجُوبِ رَدِّ السَّلَامِ لِعُمُومِ الْأَخْبَارِ.
(وَلَهُ) أَيْ الْقَاضِي (الْقِيَامُ السَّائِغُ) كَالْقِيَامِ لِعَالِمٍ وَوَالِدٍ وَنَحْوِهِمَا فَيَقُومُ لِخَصْمَيْنِ فَإِنْ قَامَ لِأَحَدِهِمَا لَزِمَهُ الْقِيَامُ لِلْآخَرِ لِلْعَدْلِ (وَ) لَهُ (تَرْكُهُ) أَيْ تَرْكُ الْقِيَامِ لَهُمَا لِأَنَّهُ أَبْلُغُ فِي الْهَيْبَةِ (وَمُسَارَّةُ أَحَدِهِمَا) لِمَا فِيهِ مِنْ كَسْرِ قَلْبِ صَاحِبِهِ وَرُبَّمَا أَضْعَفَهُ ذَلِكَ عَنْ إقَامَةِ حُجَّتِهِ.
(وَ) يَحْرُمُ عَلَيْهِ (تَلْقِينُهُ) لِأَحَدِهِمَا (حُجَّتَهُ) لِأَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَعْدِلَ بَيْنَهُمَا وَلِمَا فِيهِ مِنْ الضَّرَرِ عَلَى وَجْهِ صَاحِبهِ (وَ) يُحَرَّمُ عَلَيْهِ (تَضْيِيفُهُ) أَيْ تَضْيِيفُ أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ (إلَّا أَنْ يُضَيِّفَ خَصْمَهُ مَعَهُ) لِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ نَزَلَ بِهِ رَجُلٌ فَقَالَ: لَكَ خَصْمٌ قَالَ: نَعَمْ قَالَ: تَحَوَّلْ عَنَّا فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ «لَا تُضَيِّفُوا أَحَدَ الْخَصْمَيْنِ إلَّا وَمَعَهُ خَصْمُهُ».
(وَ) يُحَرَّمُ أَيْضًا (تَعْلِيمُهُ كَيْفَ يَدَّعِي) لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِعَانَةِ عَلَى خَصْمِهِ وَكَسْرِ قَلْبِهِ (إذَا لَمْ يَلْزَمْ ذِكْرُهُ، فَإِنْ لَزِمَ كَشَرْطِ عَقْدٍ أَوْ سَبَبِ) إرْثٍ (وَنَحْوِهِ) مِمَّا تَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ صِحَّةُ الدَّعْوَى كَوَصْفِ سَرِقَةٍ أَوْ قَتْلٍ (وَلَمْ يَذْكُرْهُ الْمُدَّعِي فَلَهُ) أَيْ الْقَاضِي (أَنْ يَسْأَلَ) عَنْهُ (لِيَحْتَرِزَ عَنْهُ) وَيُحَرِّرُهُ لِتَوَقُّفِ الْحُكْمِ عَلَيْهِ.
(وَلَهُ) أَيْ الْقَاضِي (أَنْ يَشْفَعَ إلَى خَصْمِهِ لِيَنْظُرَهُ) بِالدَّيْنِ (أَوْ يَضَعَ عَنْهُ وَلَهُ أَنْ يَزِنَ عَنْهُ وَيَكُونُ) ذَلِكَ (بَعْدَ انْقِضَاءِ الْحُكْمِ) لِأَنَّ فِي ذَلِكَ نَفْعًا لِخَصْمِهِ وَلِأَنَّ مُعَاذًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَلَّمَهُ لِيُكَلِّمَ غُرَمَاءَهُ فَلَوْ تَرَكُوا لِأَحَدٍ لَتَرَكُوا مُعَاذًا لِأَجْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَوَاهُ سَعِيدٌ قَالَ فِي الْمُبْدِعِ مُرْسَلٌ جَيِّدٌ وَنَقَلَ حَنْبَلٌ أَنَّ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ تَقَاضَى ابْنَ أَبِي حَدْرَدٍ دَيْنًا عَلَيْهِ وَأَشَارَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى كَعْبٍ أَنْ ضَعْ الشِّطْرَ مِنْ دَيْنِكَ قَالَ: قَدْ فَعَلْتُ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُمْ فَأَعْطِهِ قَالَ أَحْمَدُ هَذَا حُكْمٌ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
(وَيَنْبَغِي) لِلْقَاضِي (أَنْ يُحْضِرَ مَجْلِسَهُ الْفُقَهَاءَ مِنْ كُلِّ مَذْهَبٍ إنْ أَمْكَنَ؛ يُشَاوِرهُمْ فِيمَا أُشْكِلَ عَلَيْهِ) لِيَذْكُرُوا أَدِلَّتَهُمْ فِيهَا وَجَوَابَهُمْ عَنْهَا فَإِنَّهُ أَسْرَعُ إلَى اجْتِهَادِهِ وَأَقْرَبُ إلَى صَوَابِهِ (فَإِنْ حَكَمَ بِاجْتِهَادِهِ فَلَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ الِاعْتِرَاضُ عَلَيْهِ) لِأَنَّ ذَلِكَ افْتِيَاتًا عَلَيْهِ (وَإِنْ خَالَفَ اجْتِهَادَهُ إلَّا أَنْ يَحْكُمَ بِمَا يُخَالِفُ نَصًّا) مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ، وَظَاهِرَهُ وَلَوْ آحَادًا كَمَا يَأْتِي (أَوْ إجْمَاعًا) لِوُجُوبِ إنْكَارِهِ وَنَقْضِ حُكْمِهِ بِهِ (وَيُشَاوِرُ) الْقَاضِي (الْمُوَافِقِينَ وَالْمُخَالِفِينَ) مِنْ الْفُقَهَاءِ (وَيَسْأَلهُمْ عَنْ حُجَجِهِمْ لِاسْتِخْرَاجِ الْأَدِلَّةِ وَ) لِ (تَعَرُّفِ الْحَقِّ بِالِاجْتِهَادِ قَالَ) الْإِمَامُ (أَحْمَدُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ): لَمَّا وَلِيَ سَيِّدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ قَضَاءَ الْمَدِينَةِ كَانَ يَجْلِسُ بَيْنَ الْقَاسِمِ وَسَالِمٍ يُشَاوِرُهُمَا، وَوُلِّيَ مُحَارَبُ بْنُ زِيَادٍ قَضَاءَ الْكُوفَةِ فَكَانَ يَجْلِسُ بَيْنَ الْحَكَمِ وَحَمَّادٍ يُشَاوِرُهُمَا (مَا أَحْسَنَهُ لَوْ فَعَلَهُ الْحُكَّامُ يُشَارُونَ وَيَنْظُرُونَ) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} (فَإِنْ اتَّضَحَ لَهُ الْحُكْمُ) حَكَمَ فَوْرًا (وَإِلَّا أَخَّرَهُ) أَيْ الْحُكْمَ حَتَّى يَتَّضِحَ لَهُ الْحَقُّ فَيَحْكُمَ بِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْقَضَاءِ بِالْجَهْلِ.
(فَلَوْ حَكَمَ وَلَمْ يَجْتَهِدْ فَأَصَابَ الْحَقَّ لَمْ يَصِحَّ) حُكْمُهُ (وَيُحَرَّمُ عَلَيْهِ) إنْ كَانَ مُجْتَهِدًا (تَقْلِيدُ غَيْرِهِ إنْ كَانَ أَعْلَمَ مِنْهُ) لِأَنَّ الْمُجْتَهِدَ لَا يَجُوزُ لَهُ التَّقْلِيدُ نَقَلَ ابْنُ الْحَكَمِ عَلَيْهِ أَنْ يَجْتَهِدَ قَالَ عُمَرُ «وَاَللَّهِ مَا يَدْرِي عُمَرُ أَصَابَ الْحَقَّ أَمْ أَخْطَأَ» وَلَوْ كَانَ حَكَمٌ يَحْكُمُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَقُلْ هَذَا وَنَقَلَ أَبُو الْحَارِثِ لَا تُقَلِّدْ أَمْرَك أَحَدًا وَعَلَيْكَ بِالْأَثَرِ.
وَقَالَ الْمُفَضَّلُ بْنُ زِيَادٍ: لَا تُقَلِّدْ دِينَكَ الرِّجَالَ فَإِنَّهُمْ لَنْ يُسْأَلُوا أَنْ يَغْلَطُوا.
(وَيَحْرُمُ الْقَضَاءُ وَهُوَ غَضْبَانُ كَثِيرًا) لِخَبَرِ أَبِي بَكْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «لَا يَقْضِيَنَّ حَاكِمٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَانُ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَلِأَنَّهُ رُبَّمَا حَمَلَهُ الْغَضَبُ عَلَى الْجَوْرِ فِي الْحُكْمِ (أَوْ) وَهُوَ (حَاقِنٌ أَوْ حَاقِبٌ أَوْ فِي شِدَّةِ جُوعٍ أَوْ عَطَشٍ أَوْ هَمٍّ أَوْ غَمٍّ أَوْ وَجَعٍ أَوْ نُعَاسٍ أَوْ بَرْدٍ مُؤْلِمٍ أَوْ حَرٍّ مُزْعِجٍ أَوْ تَوَقَانِ جِمَاعٍ أَوْ شِدَّةِ مَرَضٍ أَوْ خَوْفٍ أَوْ فَرَحٍ غَالِبٍ أَوْ مَلَلٍ أَوْ كَسَلٍ وَنَحْوِهِ) كَحُزْنٍ قِيَاسًا عَلَى الْغَضَبِ لِأَنَّهُ يَمْنَعُ حُضُورَ الْقَلْبِ وَاسْتِيفَاءَ الذِّكْرِ الَّذِي يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَى إصَابَةِ الْحَقِّ فِي الْغَالِبِ فَهُوَ فِي مَعْنَى الْغَضَبِ (فَإِنْ خَالَفَ) الْقَاضِي (وَحَكَمَ) فِي حَالٍ مِنْ تِلْكَ الْأَحْوَالِ (فَوَافَقَ الْحَقَّ نَفَذَ) حُكْمُهُ خِلَافًا لِلْقَاضِي، قَالَ: لِأَنَّ النَّهْيَ يَقْتَضِي فَسَادُ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَكَانَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقَضَاءُ مَعَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ غَلَطٌ يُقِرُّ عَلَيْهِ لَا قَوْلًا وَلَا فِعْلًا فِي حُكْمٍ وَتَقَدَّمَ فِي الْخَصَائِصِ.
(وَيُحَرَّمُ) عَلَى الْقَاضِي (قَبُولُ رِشْوَةٍ) بِتَثْلِيثِ الرَّاءِ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ «لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرَّاشِيَ وَالْمُرْتَشِيَ» قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ وَرَوَاهُ أَبُو بَكْرٍ فِي زَادِ الْمُسَافِرِ وَزَادَ «وَالرَّائِشَ» وَهُوَ السَّفِيرُ بَيْنَهُمَا (وَهِيَ) أَيْ الرِّشْوَةِ (مَا يُعْطَى بَعْدَ طَلَبِهِ) لَهَا (وَيُحَرَّمُ بَذْلُهَا مِنْ الرَّاشِي لِيَحْكُمَ بِبَاطِلٍ، أَوْ يَدْفَعُ عَنْهُ حَقًّا وَإِنَّ رَشَّاهُ لِيَدْفَعَ) عَنْهُ (ظُلْمَهُ وَيَجْرِيهِ عَلَى وَاجِبِهِ فَلَا بَأْسَ بِهِ فِي حَقِّهِ) قَالَ عَطَاءٌ وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ وَالْحَسَنُ: لَا بَأْسَ أَنْ يُصَانِعَ عَنْ نَفْسِهِ وَلِأَنَّهُ يَسْتَفِيدُ مَا لَهُ كَمَا يَسْتَفِيدُ الرَّجُلُ أَسِيرَهُ.
(وَيَحْرُمُ قَبُولُهُ) أَيْ الْقَاضِي (هَدِيَّةً) لِمَا رَوَى أَبُو سَعِيدٍ قَالَ «بَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا مِنْ الْأَزْدِ يُقَالُ لَهُ ابْنُ اللُّتْبِيَّةِ عَلَى الصَّدَقَةِ، فَقَالَ: هَذَا لَكُمْ وَهَذَا أُهْدِيَ إلَيَّ فَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: مَا بَالُ الْعَامِلِ نَبْعَثُهُ فَيَجِيءُ فَيَقُولُ: هَذَا لَكُمْ وَهَذَا أُهْدِيَ إلَيَّ؟ أَلَا جَلَسَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ فَيَنْظُرَ أَيُهْدَى إلَيْهِ أَمْ لَا؟ وَاَلَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَا نَبْعَثُ أَحَدًا مِنْكُمْ فَيَأْخُذُ شَيْئًا إلَّا جَاءَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُهُ عَلَى رَقَبَتِهِ، إنْ كَانَ بَعِيرًا لَهُ رُغَاءٌ أَوْ بَقَرَةٌ لَهَا خُوَارٌ أَوْ شَاةٌ تَيْعَرُ، ثُمَّ رَفَعَ يَدَهُ حَتَّى رُئِيَتْ عُقْدَةُ إبِطَيْهِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ؟ ثَلَاثًا» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَقَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ: قَرَأْتُ فِيمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى أَنْبِيَائِهِ: الْهَدِيَّةُ تَفْقَأُ عَيْنَ الْحُكْمِ (بِخِلَافِ مُفْتٍ) فَلَا يَحْرُمُ قَبُولُ الْهَدِيَّةِ (وَتَقَدَّمَ فِي الْبَابِ قَبْلَهُ) مُفَصَّلًا (وَهِيَ) أَيْ: الْهَدِيَّةُ (الدَّفْعُ إلَيْهِ ابْتِدَاءً) مِنْ غَيْرِ طَلَبٍ (وَظَاهِرُهُ) أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى الْقَاضِي قَبُولُهُ الْهَدِيَّةَ (وَلَوْ كَانَ) الْقَاضِي (فِي غَيْرِ عَمَلِهِ) لِعُمُومِ الْخَبَرِ (إلَّا مِمَّنْ كَانَ يُهْدِي إلَيْهِ قَبْلَ وِلَايَتِهِ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ) أَيْ الْمُهْدِي (حُكُومَةٌ) لِأَنَّ التُّهْمَةَ مُنْتَفِيَةٌ لِأَنَّ الْمَنْعَ إنَّمَا يَكُونُ مِنْ أَجْلِ الِاسْتِمَالَةِ أَوْ مِنْ أَجْلِ الْحُكُومَةِ وَكِلَاهُمَا مُنْتَفٍ (أَوْ) كَانَتْ الْهَدِيَّةُ (مِنْ ذَوِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ) أَيْ مِنْ الْحَاكِمِ (لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَحْكُمَ لَهُ) هَذَا وَاضِحٌ فِي عَمُودَيْ نَسَبَهُ دُونَ مَنْ عَدَاهُمْ مِنْ أَقَارِبِهِ مَعَ أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَهْدِيَ لِئَلَّا يَحْكُمَ عَلَيْهِ.
قَالَ الْقَاضِي فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: لَا يَنْبَغِي أَنْ يَقْبَلَ هَدِيَّةً إلَّا مِنْ صَدِيقٍ كَانَ يُلَاطِفُهُ، أَوْ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ بَعْدَ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ خَصْمٌ (وَرَدَّهَا) أَيْ رَدَّ الْقَاضِي الْهَدِيَّةَ حَيْثُ جَازَ لَهُ أَخْذُهَا (أَوْلَى) لِأَنَّهُ لَا يَأْمَنُ أَنْ يَكُونَ لِحُكُومَةٍ مُنْتَظَرَةٍ (وَاسْتِعَارَتُهُ) أَيْ الْقَاضِي (مِنْ غَيْرِهِ كَالْهَدِيَّةِ؛ لِأَنَّ نَافِعَ كَالْأَعْيَانِ، وَمِثْلُهُ لَوْ خَتَنَ) الْقَاضِي (وَلَدَهُ وَنَحْوَهُ فَأُهْدِيَ لَهُ، وَلَوْ قُلْنَا: إنَّهَا لِلْوَلَدِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ وَسِيلَةٌ إلَى الرِّشْوَةِ فَإِنْ تَصَدَّقَ عَلَيْهِ فَالْأَوْلَى أَنَّهُ كَالْهَدِيَّةِ) عَلَى التَّفْصِيلِ السَّابِقِ وَفِي الْفُنُونِ لَهُ أَخْذُ الصَّدَقَةِ.
(وَإِنْ قَبِلَ) الرِّشْوَةَ أَوْ الْهَدِيَّةَ (حَيْثُ حَرُمَ الْقَبُولُ وَجَبَ رَدُّهَا إلَى صَاحِبِهَا، كَمَقْبُوضٍ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ) وَقِيلَ: تُؤْخَذُ لِبَيْتِ الْمَالِ لِخَبَرِ ابْنِ اللُّتْبِيَّةِ (وَقَالَ الشَّيْخُ فِيمَنْ تَابَ: إنْ عَلِمَ صَاحِبُهُ دَفَعَهُ إلَيْهِ وَإِلَّا دَفَعَهُ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ انْتَهَى).
(وَتَقَدَّمَ لَوْ بَقِيَتْ فِي يَدِهِ غُصُوبٌ لَا يَعْرِفُ أَرْبَابَهَا) يَدْفَعُهَا لِلْحَاكِمِ، أَوْ يَتَصَدَّقُ بِهَا عَنْ أَرْبَابِهَا مَضْمُونَةً.
(فَإِنْ أَهْدَى لِمَنْ يَشْفَعُ لَهُ عِنْدَ السُّلْطَانِ وَنَحْوِهِ) مِنْ أَرْبَابِ الْوِلَايَاتِ (لَمْ يَجُزْ) لِلشَّافِعِ (أَخْذُهَا) لِيَشْفَعَ لَهُ أَنْ يَرْفَعَ عَنْهُ مَظْلِمَةً أَوْ يُوصِلَ إلَيْهِ حَقَّهُ، أَوْ يُوَلِّيهِ وِلَايَةً يَسْتَحِقّهَا، أَوْ يَسْتَخْدِمَهُ فِي الْجُنْدِ الْمُقَاتِلَةِ وَهُوَ مُسْتَحِقٌّ لِذَلِكَ وَيَجُوزُ لِلْمَهْدِيِّ أَنْ يَبْذُلَ فِي ذَلِكَ مَا يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَى أَخْذِ حَقِّهِ أَوْ دَفْعِ الظُّلْمِ عَنْهُ، وَهُوَ الْمَنْقُولُ عَنْ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ الْأَكَابِرِ، وَفِيهِ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ قَالَهُ فِي الِاخْتِيَارَاتِ.
(وَنَصَّ) الْإِمَامُ (أَحْمَدُ فِيمَنْ عِنْدَهُ وَدِيعَةٌ فَأَدَّاهَا فَأُهْدِيَتْ إلَيْهِ هَدِيَّةٌ؛ أَنَّهُ لَا يَقْبَلُهَا إلَّا بُنَيَّةِ الْمُكَافَأَةِ وَحُكْمُ الْهَدِيَّةِ عِنْدَ سَائِرِ الْأَمَانَاتِ حُكْمُ الْوَدِيعَةِ) وَمِثْلُهُ دَفْعُ رَبِّ اللُّقَطَةِ لِوَاجِدِهَا عِنْدَ رَدِّهَا إلَيْهِ شَيْئًا مِنْهَا، وَتَقَدَّمَ فِي الْجِعَالَةِ.
(وَيُكْرَهُ لَهُ) أَيْ لِلْقَاضِي أَنْ يَتَوَلَّى الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ بِنَفْسِهِ خُصُوصًا بِمَجْلِسِ حُكْمِهِ لِأَنَّهُ يُعْرَفُ فَيُحَابَى فَيَكُونُ كَالْهَدِيَّةِ وَلِأَنَّ ذَلِكَ يَشْغَلُهُ عَنْ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ، وَ(لَا) يُكْرَهُ (لِمُفْتٍ وَلَوْ فِي مَجْلِسِ فَتْوَاهُ أَنْ يَتَوَلَّى الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ بِنَفْسِهِ)؛ لِأَنَّهُ لَا يُكْرَهُ لَهُ قَبُولُ الْهَدِيَّةِ فَلَا يَضُرُّهُ أَنْ يُحَابَى (وَيُسْتَحَبُّ) لِلْقَاضِي (أَنْ يُوَكِّلَ فِي ذَلِكَ) أَيْ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ (مِنْ لَا يُعْرَفُ أَنَّهُ وَكِيلُهُ)، لِأَنَّهُ أَنْفَى لِلتُّهْمَةِ فَإِنْ تَعَذَّرَ ذَلِكَ أَوْ شَقَّ جَازَ، لِقَضِيَّةِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
(وَلَهُ) أَيْ الْقَاضِي (عِيَادَةُ الْمَرْضَى وَشَهَادَةُ الْجَنَائِزِ وَزِيَارَةُ الْأَهْلِ وَالصَّالِحِينَ وَالْإِخْوَانِ وَتَوْدِيعُ الْغَازِي وَالْحَاجِّ مَا لَمْ يُشْغَلْهُ عَنْ الْحُكْم)؛ لِأَنَّ ذَلِكَ قُرْبَةٌ وَطَاعَةٌ وَقَدْ وَعَدَ الْمُشَرِّعُ عَلَى ذَلِكَ أَجْرًا عَظِيمًا فَيَدْخُلُ الْقَاضِي فِي ذَلِكَ (فَإِنْ شَغَلَهُ) ذَلِكَ عَنْ الْحُكْمِ (فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ)؛ لِأَنَّ اشْتِغَالَهُ بِالْفَصْلِ بَيْنَ الْخُصُومِ، وَمُبَاشَرَةَ الْحُكْمِ أَوْلَى (وَلَهُ حُضُورُ بَعْضِ) ذَلِكَ (دُونَ بَعْضٍ)؛ لِأَنَّ هَذَا يَفْعَلُهُ لِنَفْعٍ نَفْسِهِ بِخِلَافِ الْوَلَائِمِ.
، (وَلَهُ حُضُورُ الْوَلَائِمِ) كَغَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِحُضُورِهَا (فَإِنْ كَثُرَتْ الْوَلَائِمُ تَرَكَهَا) كُلَّهَا، (وَاعْتَذَرَ إلَيْهِمْ) وَسَأَلَهُمْ التَّحْلِيلَ لِئَلَّا يَشْتَغِلَ بِذَلِكَ عَنْ الْحُكْمِ الَّذِي هُوَ فَرْضُ عَيْنٍ (وَلَا يُجِيبُ بَعْضًا دُونَ بَعْضٍ)؛ لِأَنَّ ذَلِكَ كَسْرٌ لِقَلْبِ مَنْ لَا يُجِيبُهُ (إلَّا أَنْ يَخْتَصَّ بَعْضَهَا بِعُذْرٍ يَمْنَعُهُ، مِثْل أَنْ يَكُونَ فِي إحْدَاهُمَا مُنْكَرٌ، أَوْ فِي مَكَان بَعِيدٍ أَوْ يَشْتَغِلُ بِهَا زَمَنًا طَوِيلًا، وَالْأُخْرَى بِخِلَافِهَا فَلَهُ الْإِجَابَةُ إلَيْهَا لِظُهُورِ عُذْرِهِ) وَذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ يُكْرَهُ مُسَارَعَتُهُ إلَى غَيْرِ وَلِيمَةِ عُرْسٍ وَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لَهُ حُضُورُ غَيْرِ وَلِيمَةِ عُرْسٍ وَالْمُرَادُ غَيْرُ مَأْتَمٍ فَيُكْرَهُ وَلَوْ تَضَيَّفَ رَجُلًا فَظَاهِرُ كَلَامِهِمْ: يَجُوزُ قَالَهُ فِي الْمُبْدِعِ.
(وَيُوصِي الْوُكَلَاءَ وَالْأَعْوَانَ عَلَى بَابِهِ الرِّفْقَ بِالْخُصُومِ وَقِلَّةَ الطَّمَعِ) تَنْبِيهًا لَهُمْ عَلَى الْفِعْلِ الْجَمِيلِ اللَّائِقِ بِمَجَالِسِ الْحُكَّامِ وَالْقُضَاةِ، (وَيَجْتَهِدُ) الْقَاضِي (أَنْ يَكُونُوا) أَيْ الْوُكَلَاءُ وَالْأَعْوَانُ (شُيُوخًا أَوْ كُهُولًا مِنْ أَهْلِ الدِّينِ وَالْفِقْهِ وَالصِّيَانَةِ)، لِأَنَّ فِي ضِدِّ ذَلِكَ ضَرَرًا بِالنَّاسِ وَلِلْكُهُولِ وَالشُّيُوخِ أَوْلَى مِنْ غَيْرِهِمْ لِأَنَّ الْحَاكِمَ يَأْتِيهِ النِّسَاءُ وَفِي اجْتِمَاعِ الْأَشْبَابِ لَهُنَّ ضَرَرٌ.
(وَيَتَّخِذُ حَبْسًا لِأَنَّهُ قَدْ يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِتَأْدِيبِ وَاسْتِيفَاءِ حَقٍّ وَاحْتِفَاظِ مِمَّنْ عَلَيْهِ قِصَاصٌ وَنَحْوُهُ وَيَتَّخِذُ أَصْحَابَ مَسَائِلَ يَتَصَرَّفُ بِهِمْ أَحْوَالَ مَنْ جَهِلَ عَدَالَتَهُ مِنْ الشُّهُودِ) لِدُعَاءِ الْحَاجَةِ إلَى ذَلِكَ (وَيَجِبُ أَنْ يَكُونُوا عُدُولًا) لِأَنَّ خَبَرَ الْفَاسِقِ غَيْرُ مَقْبُولٍ (بُرَآءُ مِنْ الشَّحْنَاءِ) أَيْ الْعَدَاوَةِ (بِعَدَاءٍ مِنْ الْعَصَبِيَّةِ فِي نَسَبٍ أَوْ مَذْهَبٍ) لِئَلَّا يَحْمِلَهُمْ ذَلِكَ عَلَى كِتْمَانِ الْحَقِّ، (وَلَا يَسْأَلُوا) شَاهِدًا (عَدُوًّا وَلَا صَدِيقًا)، لَهُ لِأَنَّهُ مِنْهُمَا (وَيَأْتِي بَعْضُهُ فِي الْبَابِ بَعْدَهُ).
(وَيُسْتَحَبُّ لَهُ اتِّخَاذُ كَاتِبٍ) لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ اسْتَكْتَبَ زَيْدًا وَغَيْرَهُ؛ لِأَنَّ الْحَاكِمَ تَكْثُرُ أَشْغَالُهُ فَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْجَمْعِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْكِتَابَةِ، (وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ) الْكَاتِبُ (مُسْلِمًا) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا} (مُكَلَّفًا) لِأَنَّ غَيْرَ الْمُكَلَّفِ لَا يُوثَقُ لِقَوْلِهِ وَلَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ (عَدْلًا) لِأَنَّ الْكِتَابَةَ مَوْضِعُ أَمَانَةٍ، (وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ) الْكَاتِبُ (وَافِرَ الْعَقْلِ وَرِعًا نَزِهًا مُتَيَقِّظًا) لِئَلَّا يُخْدَعَ، (لَيِّنًا فَقِهًا حَافِظًا جَيِّدَ الْخَطِّ، لَا يُشْتَبَهُ فِيهِ سَبْعَةٌ بِتِسْعَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ) مِمَّا يُؤَدِّي إلَى اللَّبْسِ فَيُخِلُّ بِالْمَقْصُودِ، (صَحِيحُ بِالضَّبْطِ) لِئَلَّا يُفْسِدَ مَا يَكْتُبُهُ (حُرًّا) لِأَنَّهُ رُبَّمَا اُحْتِيجَ إلَى شَهَادَتِهِ فَيَكُونَ مُتَّفَقًا عَلَى قَبُولِهَا، (يُجْلِسُهُ) الْقَاضِي (بِحَيْثُ يُشَاهِدُ مَكْتَبَهُ) لِأَنَّهُ أَبْعَدُ لِلتُّهْمَةِ وَأَمْكَنُ لِإِمْلَائِهِ، وَإِنْ قَصَدَ نَاحِيَةً جَازَ لِأَنَّ مَا يَكْتُبُهُ يُعْرَضُ عَلَى الْقَاضِي (وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ) الْكَاتِبُ (بَيْنَ يَدَيْهِ) أَيْ الْقَاضِي (لِلْمُشَافَهَةِ بِمَا يُمْلِي عَلَيْهِ)، لِأَنَّهُ أَنْفَى لِلتُّهْمَةِ كَمَا تَقَدَّمَ (وَإِنْ أَمْكَنَ الْقَاضِي تَوَلِّي الْكِتَابَةِ بِنَفْسِهِ جَازَ) لَهُ ذَلِكَ (وَالْأَوْلَى الِاسْتِتَابَةُ) وَظَاهِرُ كَلَامِ السَّامِرِيِّ أَنَّهُ لَا يُتَّخَذُ إلَّا مَعَ الْحَاجَةِ (وَيَجْعَلُ) الْقَاضِي (الْقِمَطْرَ) بِكَسْرِ الْقَافِ وَفَتْحِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الطَّاءِ الْمُهْمَلَةِ أَعْجَمِيٌّ مُعَرَّبٌ، وَهُوَ الَّذِي تُصَانُ فِيهِ الْكُتُبُ (مَخْتُومًا بَيْنَ يَدَيْهِ لِيُنْزِلَ) مِنْهُ مَا يَجْتَمِعُ (مِنْ الْمَحَاضِرِ وَالسِّجِلَّاتِ)، لِأَنَّهُ أَحْفَظُ لَهُ أَنْ يُغَيِّرَ.
(وَيُسْتَحَبُّ) لِلْقَاضِي (أَنْ لَا يَحْكُمَ إلَّا بِحَضْرَةِ الشُّهُودِ بِحَيْثُ يَسْمَعُونَ الْمُتَحَاكِمِينَ)، لِيَسْتَوْفِيَ بِهِمْ الْحُقُوقَ وَتَثْبُتَ بِهِمْ الْحُجَجُ (وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُرَتِّبَ شُهُودًا لَا يَقْبَلُ غَيْرَهُمْ)؛ لِأَنَّهُ مَنْ ثَبَتَتْ عَدَالَتُهُ وَجَبَ قَبُولُ شَهَادَتِهِمْ (لَكِنْ لَهُ أَنْ يُرَتِّبَ شُهُودًا لِيَشْهَدهُمْ النَّاسُ فَيَسْتَغْنُونَ بِإِشْهَادِهِمْ عَنْ تَعْدِيلِهِمْ وَيَسْتَغْنِي الْحَاكِمُ عَنْ الْكَشْفِ عَنْ أَحْوَالِهِمْ)، لِأَنَّ فِيهِ رِفْقًا بِالنَّاسِ وَيَأْتِي فِي الْبَابِ بَعْدَهُ.
(وَلَا يَجُوزُ لَهُ) أَيْ الْقَاضِي (مَنْعُ الْفُقَهَاءِ مِنْ عَقْدِ الْعُقُودِ وَكِتَابَةِ الْحِجَجِ) أَيْ الْإِشْهَادَاتِ، (وَمَا يَتَعَلَّقُ بِأُمُورِ الشَّرْعِ مِمَّا أَبَاحَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ إذَا كَانَ الْكَاتِبُ فَقِيهًا عَالِمًا بِأُمُورِ الشَّرْعِ، وَشُرُوطُهُ) أَيْ الْعَقْدِ (مِثْلُ أَنْ يُزَوِّجَ الْمَرْأَةَ وَلِيُّهَا بِحُضُورِ شَاهِدَيْنِ، وَيَكْتُبَ كَاتِبٌ عَقْدَهَا، أَوْ يَكْتُبَ رَجُلٌ عَقْدَ بَيْعٍ أَوْ إجَارَةٍ أَوْ إقْرَارٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، أَوْ كَانَ الْكَاتِبُ مُرْتَزِقًا بِذَلِكَ وَإِذَا مَنَعَ الْقَاضِي، ذَلِكَ لِيَصِيرَ إلَيْهِ مَنَافِعُ هَذِهِ الْأُمُورِ كَانَ هَذَا مِنْ الْمَكْسِ نَظِيرَ مَنْ يَسْتَأْجِرُ حَانُوتًا مِنْ) حَاكِمِ (الْقَرْيَةِ عَلَى أَنْ لَا يَبِيعَ غَيْرَهُ) فِي تِلْكَ الْقَرْيَةِ (وَإِنْ كَانَ) الْقَاضِي يُرِيدُ (مَنْعَ الْجَاهِلِينَ لِئَلَّا يَعْقِدَ) الْجَاهِلُ (عَقْدًا فَاسِدًا، فَالطَّرِيقُ أَنْ يَفْعَلَ كَمَا فَعَلَ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ بِتَعْزِيرِ مَنْ يَعْقِدُ نِكَاحًا فَاسِدًا، كَمَا فَعَلَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِيمَنْ تَزَوَّجَ بِغَيْرِ وَلِيٍّ وَفِيمَنْ تَزَوَّجَ فِي الْعِدَّةِ).
(وَلَا يَجُوز وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَحْكُمَ) الْقَاضِي (لِنَفْسِهِ) لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَ لَهَا، وَيَتَحَاكَمَ هُوَ وَخَصْمُهُ إلَى قَاضٍ آخَرَ أَوْ بَعْضِ خُلَفَائِهِ، لِأَنَّ عُمَرَ حَاكَمَ أُبَيًّا إلَى زَيْدٍ وَحَاكَمَ عُثْمَانُ طَلْحَةَ إلَى جُبَيْرٍ.
(وَ) لَا يَصِحُّ حُكْمُهُ (لِمَنْ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لَهُ) ذَكَرَهُ بَعْضُهُمْ إجْمَاعًا، كَشَهَادَتِهِ لَهُ (وَلَهُ الْحُكْمُ عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى مَنْ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لَهُ كَأَبِيهِ وَوَلَدِهِ كَشَهَادَتِهِ عَلَيْهِ، (وَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ بَعْضُ خُلَفَائِهِ) لِزَوَالِ التُّهْمَةِ.
(وَيَجُوزُ) لِلْقَاضِي (أَنْ يَسْتَحْلِفَ وَالِدَهُ وَوَلَدَهُ كَحُكْمِهِ لِغَيْرِهِ بِشَهَادَتِهِمَا) قَالَ أَبُو الْوَفَاءِ: إذَا لَمْ يَتَعَلَّقْ عَلَيْهِمَا مِنْ ذَلِكَ تُهْمَةٌ وَلَمْ يُوجِبْ لَهُمَا بِقَبُولِ شَهَادَتِهِمَا رِيبَةً وَلَا يَثْبُتُ بِطَرِيقِ التَّزْكِيَةِ.
(وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَحْكُمَ عَلَى عَدُوِّهِ) كَشَهَادَتِهِ عَلَيْهِ (وَلَهُ أَنْ يُفْتِيَ عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى عَدُوِّهِ وَتَقَدَّمَ.