فصل: فَصْلٌ: فيما يجوز من الشروط في عَقْدِ الذِّمَّةِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: كشاف القناع عن متن الإقناع



.فَصْلٌ: حكم نَصَارَى بَنِي تَغْلِبَ:

(وَلَا تُؤْخَذُ الْجِزْيَةُ مِنْ نَصَارَى بَنِي تَغْلِبَ) بْنِ وَائِلٍ مِنْ الْعَرَبِ مِنْ وَلَدِ رَبِيعَةَ بْنِ نَذَارٍ فَإِنَّهُمْ انْتَقَلُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ إلَى النَّصْرَانِيَّةِ فَدَعَاهُمْ عُمَرُ إلَى بَذْلِ الْجِزْيَةِ فَأَبَوْا وَأَنِفُوا وَقَالُوا نَحْنُ عَرَبٌ خُذْ مِنَّا كَمَا يَأْخُذُ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ بِاسْمِ الصَّدَقَةِ فَقَالَ: لَا آخُذُ مِنْ مُشْرِكٍ صَدَقَةً فَلَحِقَ بَعْضُهُمْ بِالرُّومِ فَقَالَ النُّعْمَانُ بْنُ زُرْعَةَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إنَّ الْقَوْمَ لَهُمْ بَأْسٌ وَشِدَّةٌ وَهُمْ عَرَبٌ يَأْنَفُونَ مِنْ الْجِزْيَةِ فَلَا تُعِنْ عَلَيْكَ عَدُوَّكَ بِهِمْ وَخُذْ مِنْهُمْ الْجِزْيَةَ بِاسْمِ الصَّدَقَةِ فَبَعَثَ عُمَرُ فِي طَلَبِهِمْ وَرَدِّهِمْ، وَضَعَّفَ عَلَيْهِمْ الزَّكَاةَ.
(وَلَوْ بَذَلُوهَا) أَيْ: الْجِزْيَةَ فَلَا تُؤْخَذُ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الذِّمَّةِ مُؤَبَّدٌ وَقَدْ عَقَدَهُ مَعَهُمْ عُمَرُ هَكَذَا فَلَيْسَ لِأَحَدٍ نَقْضُهُ (بَلْ) تُؤْخَذُ الْجِزْيَةُ (مِنْ حَرْبِيٍّ مِنْهُمْ) أَيْ: مِنْ بَنِي تَغْلِبَ (لَمْ يَدْخُلْ فِي الصُّلْحِ إذَا بَذَ لَهَا) قَطَعَ بِهِ فِي الْفُرُوعِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ نَقْضٌ لِفِعْلِ عُمَرَ لِعَدَمِ دُخُولِهِ فِيهِ.
(وَلَيْسَ لِلْإِمَامِ نَقْضُ عَهْدِهِمْ) أَيْ: بَنِي تَغْلِبَ (وَتَجْدِيدُ الْجِزْيَةِ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الذِّمَّةِ مُؤَبَّدٌ وَقَدْ عَقَدَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هَكَذَا فَلَا يُغَيِّرُهُ إلَى الْجِزْيَةِ) أَحَدٌ (وَإِنْ سَأَلُوهُ)؛ لِأَنَّ الِاجْتِهَادَ لَا يَنْقُضُ الِاجْتِهَادَ.
(وَتُؤْخَذُ الزَّكَاةُ مِنْهُمْ) أَيْ: مِنْ بَنِي تَغْلِبَ (عِوَضَهَا) أَيْ: الْجِزْيَةَ (مِنْ مَاشِيَةٍ وَغَيْرِهَا مِمَّا تَجِبُ فِيهِ زَكَاةُ مِثْلَيْ مَا يُؤْخَذُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ)؛ لِأَنَّ تَمَامَ حَدِيثِ عُمَرَ أَنَّهُ ضَعَّفَ عَلَيْهِمْ مِنْ الْإِبِلِ فِي كُلِّ خَمْسٍ شَاتَانِ، وَفِي كُلِّ ثَلَاثِينَ بَقَرَةً تَبِيعَانِ وَفِي كُلِّ عِشْرِينَ دِينَارًا دِينَارٌ وَفِي كُلِّ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ عَشْرَةٌ وَفِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ الْخُمُسُ وَفِيمَا سُقِيَ بِنَضْخٍ أَوْ دُولَابٍ الْعُشْرُ وَاسْتَقَرَّ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ وَلَمْ يُنْكَرْ فَكَانَ كَالْإِجْمَاعِ، وَفِي عِبَارَتِهِ تَسَامُحٌ وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ وَيُؤْخَذُ عِوَضُ الْجِزْيَةِ مِنْهُمْ مِثْلَيْ زَكَاةِ الْمُسْلِمِينَ (حَتَّى مِمَّنْ لَا تَلْزَمُهُ جِزْيَةٌ فَيُؤْخَذُ مِنْ نِسَائِهِمْ وَصِغَارِهِمْ وَمَجَانِينِهِمْ وَزَمِنَاهُمْ وَمَكَافِيفِهِمْ) أَيْ: الْعُمْيِ مِنْهُمْ (وَشُيُوخِهِمْ وَنَحْوِهِمْ)؛ لِأَنَّ اعْتِبَارَهَا بِالْأَنْفُسِ سَقْطٌ وَانْتَقَلَ إلَى الْأَمْوَالِ بِتَقْدِيرِهِمْ فَتُؤْخَذُ مِنْ كُلِّ مَالٍ زَكَوِيٍّ سَوَاءٌ كَانَ صَاحِبُهُ مِنْ أَهْلِ الْجِزْيَةِ أَوْ لَمْ يَكُنْ وَلِأَنَّ نِسَاءَهُمْ وَصِبْيَانَهُمْ صِينُوا عَنْ السَّبْيِ بِهَذَا الصُّلْحِ وَدَخَلُوا فِي حُكْمِهِ فَجَازَ أَنْ يَدْخُلُوا فِي الْوَاجِبِ بِهِ كَالرِّجَالِ الْعُقَلَاءِ (وَ) لِهَذَا (لَا تُؤْخَذُ مِنْ فَقِيرٍ) وَلَوْ مُعْتَمَلًا (وَلَا مِمَّنْ لَهُ مَالٌ دُونَ نِصَابٍ أَوْ) لَهُ مَالٌ (غَيْرُ زَكَوِيٍّ) كَالْخَيْلِ وَالرَّقِيقِ وَنَحْوِهِ الَّذِي لَمْ يَكُنْ لِلتِّجَارَةِ وَيَكْتَفِي بِمَا يُؤْخَذُ مِنْهُمْ بِاسْمِ الزَّكَاةِ (وَلَوْ كَانَ الْمَأْخُوذُ مِنْ أَحَدِهِمْ أَقَلَّ مِنْ جِزْيَةِ ذِمِّيٍّ) لِعُمُومِ مَا سَبَقَ.
(وَيَلْحَقُ بِهِمْ) أَيْ: بِبَنِي تَغْلِبَ (كُلُّ مَنْ أَبَاهَا) أَيْ: الْجِزْيَةَ (إلَّا بِاسْمِ الصَّدَقَةِ مِنْ الْعَرَبِ وَخِيفَ مِنْهُمْ الضَّرَرُ كَمَنْ تَنَصَّرَ مِنْ تَنُوخِ) قَبِيلَةٌ سُمُّوا بِذَلِكَ لِأَنَّهُمْ اجْتَمَعُوا فَأَقَامُوا فِي مَوَاضِعِهِمْ يُقَالُ تَنَخَ بِالْمَكَانِ أَقَامَ بِهِ.
(وَبَهْرَاءَ) بِفَتْحِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ وَسُكُونِ الْهَاءِ وَفَتْحِ الرَّاءِ بَعْدَهَا أَلِفٌ وِزَانُ حَمْرَاءَ قَبِيلَةٌ مِنْ قُضَاعَةَ قَالَهُ فِي حَاشِيَتَيْهِ (أَوْ تَهَوَّدَ مِنْ كِنَانَةَ) بِكَسْرِ الْكَافِ (وَحِمْيَرَ) بِكَسْرِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ (أَوْ تَمَجَّسَ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ) وَمُضَرَ لِأَنَّهُمْ مِنْ الْعَرَبِ أَشْبَهُوا بَنِي تَغْلِبَ (وَمَصْرِفُ مَا يُؤْخَذُ مِنْهُمْ كَجِزْيَةٍ)؛ لِأَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ مُشْرِكٍ فَكَانَ جِزْيَةً وَغَايَتُهُ أَنَّهُ جِزْيَةٌ مُسَمَّاةٌ بِالصَّدَقَةِ وَلِهَذَا قَالَ عُمَرُ هَؤُلَاءِ حَمْقَاءُ رَضُوا بِالْمَعْنَى وَأَبَوْا عَنْ الِاسْمِ.
(وَلَا جِزْيَةَ عَلَى مَنْ لَا يَجُوزُ قَتْلُهُ إذَا أُسِرَ)؛ لِأَنَّ قَتْلَهُمْ مُمْتَنِعٌ وَتَقَدَّمَ أَنَّ الْجِزْيَةَ بَدَلٌ عَنْ قَتْلِهِمْ وَكَتَبَ عُمَرُ إلَى أُمَرَاءِ الْأَجْنَادِ «أَنْ اضْرِبُوا الْجِزْيَةَ وَلَا تَضْرِبُوهَا عَلَى النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ» رَوَاهُ سَعِيدٌ (فَلَا تَجِبُ) الْجِزْيَةُ (عَلَى صَغِيرٍ وَلَا امْرَأَةٍ) لِمَا مَرَّ.
(وَلَا) عَلَى (خُنْثَى) مُشْكَلٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعْلَمُ كَوْنُهُ رَجْلًا (فَإِنْ بَانَ) الْخُنْثَى (رَجُلًا أُخِذَ مِنْهُ لِلْمُسْتَقْبِلِ فَقَطْ) أَيْ: دُونَ الْمَاضِي (وَلَا) جِزْيَةَ (عَلَى مَجْنُونٍ وَلَا زَمِنٍ وَلَا أَعْمَى وَلَا شَيْخٍ فَانٍ وَلَا رَاهِبٍ بِصَوْمَعَةٍ، وَهُوَ الَّذِي حَبَسَ نَفْسَهُ وَتَخَلَّى عَنْ النَّاسِ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ) لِأَنَّهُمْ لَا يُقْتَلُونَ فَلَمْ تَجِبْ عَلَيْهِمْ الْجِزْيَةُ كَالنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ (وَلَا يَبْقَى بِيَدِهِ) أَيْ: الرَّاهِبِ بِصَوْمَعَةٍ (مَالٌ إلَّا بَلَغَتْهُ فَقَطْ، وَيُؤْخَذُ مَا بِيَدِهِ) زَائِدًا عَلَى ذَلِكَ.
(وَأَمَّا الرُّهْبَانُ الَّذِينَ يُخَالِطُونَ النَّاسَ وَيَتَّخِذُونَ الْمَتَاجِرَ وَالْمَزَارِعَ فَحُكْمُهُمْ كَسَائِرِ النَّصَارَى تُؤْخَذُ مِنْهُمْ الْجِزْيَةُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ قَالَهُ الشَّيْخُ وَتُؤْخَذُ) الْجِزْيَةُ (مِنْ الشَّمَّاسِ كَغَيْرِهِ) لِعَدَمِ الْفَرْقِ.
(وَلَا) جِزْيَةَ (عَلَى عَبْدٍ وَلَوْ لِكَافِرٍ) نَصَّ عَلَيْهِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَا جِزْيَةَ عَلَى عَبْدٍ» وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ مِثْلُهُ وَلِأَنَّهُ مَالٌ فَلَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ كَسَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ.
(بَلْ) تَجِبُ الْجِزْيَةُ (عَلَى مُعْتَقٍ ذِمِّيٍّ) لِمَا يُسْتَقْبَلُ (وَلَوْ أَعْتَقَهُ مُسْلِمٌ)؛ لِأَنَّهُ حُرٌّ مُكَلَّفٌ مُوسِرٌ مِنْ أَهْلِ الْقَتْلِ، فَلَمْ يُقَرَّ فِي دَارِنَا بِغَيْرِ جِزْيَةٍ كَحُرِّ الْأَصْلِ.
(وَ) تَجِبُ الْجِزْيَةُ عَلَى (مُعْتَقٍ بَعْضُهُ بِقَدْرِ حُرِّيَّتِهِ)؛ لِأَنَّهُ حُكْمٌ يَتَجَزَّأُ يَخْتَلِفُ بِالرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ، فَيَقْسِمُ عَلَى قَدْرِ مَا فِيهِ مِنْهُمَا كَالْإِرْثِ.
(وَلَا) تَجِبُ الْجِزْيَةُ (عَلَى فَقِيرٍ يَعْجَزُ عَنْهَا غَيْرُ مُعْتَمَلٍ)؛ لِأَنَّ عُمَرَ جَعَلَ الْجِزْيَةَ عَلَى ثَلَاثِ طَبَقَاتٍ: جَعَلَ أَدْنَاهَا عَلَى الْفَقِيرِ الْمُعْتَمَلِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ غَيْرَ الْمُعْتَمَلِ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا} (فَإِنْ كَانَ) الْفَقِيرُ (مُعْتَمَلًا وَجَبَتْ عَلَيْهِ) الْجِزْيَةُ لِمَا سَبَقَ.
(وَمَنْ بَلَغَ أَوْ أَفَاقَ أَوْ اسْتَغْنَى مِمَّنْ تُعْقَدُ لَهُ الْجِزْيَةُ فَهُوَ مِنْ أَهْلِهَا بِالْعَقْدِ الْأَوَّلِ، وَلَا يَحْتَاجُ إلَى اسْتِئْنَافِ عَقْدٍ) لَهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَنْقُلْ تَجْدِيدَهُ لِمَنْ ذُكِرَ، وَلِأَنَّ الْعَقْدَ يَقَعُ مَعَ سَادَتِهِمْ، فَيَدْخُلُ فِيهِ سَائِرُهُمْ.
(وَتُؤْخَذُ) مِنْهُ الْجِزْيَةُ (فِي آخِرِ الْحَوْلِ بِقَدْرِ مَا أَدْرَكَ) مِنْهُ فَإِنْ كَانَ فِي نِصْفِهِ فَنِصْفُهَا، وَلَا يُتْرَكُ حَتَّى يَتِمَّ حَوْلٌ مِنْ حِينِ وَجَدَ سَبَبَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى إفْرَادِهِ بِحَوْلٍ وَضَبْطُ كُلِّ إنْسَانٍ بِحَوْلٍ يَشُقُّ وَيَتَعَذَّرُ وَمِثْلُهُمْ مَنْ عَتَقَ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ.
(وَمَنْ كَانَ) مِنْ أَهْلِ الْجِزْيَةِ (يُجَنُّ) تَارَةً (وَيُفِيقُ) أُخْرَى (لُفِّقَتْ إفَاقَتُهُ فَإِذَا بَلَغَتْ) إفَاقَتُهُ (حَوْلًا أُخِذَتْ مِنْهُ) الْجِزْيَةُ؛ لِأَنَّ حَوْلَهُ لَا يَكْمُلُ إلَّا حِينَئِذٍ.
(وَإِنْ كَانَ فِي الْحِصْنِ نِسَاءٌ أَوْ مَنْ لَا جِزْيَةَ عَلَيْهِ) كَالْأَعْمَى وَالشُّيُوخِ (فَطَلَبُوا عَقْدَ الذِّمَّةِ بِغَيْرِ جِزْيَةٍ أُجِيبُوا إلَيْهَا) فَيُعْقَدُ لَهُمْ الْأَمَانُ (وَإِنْ طَلَبُوا عَقْدَهَا) أَيْ: الذِّمَّةِ (بِجِزْيَةٍ أُخْبِرُوا أَنَّهُ لَا جِزْيَةَ عَلَيْهِمْ) لِيَنْكَشِفَ لَهُمْ الْأَمْرُ (وَإِنْ تَبَرَّعُوا بِهَا، كَانَتْ هِبَةً) لَا جِزْيَةً فَلَا تَلْزَمُ قَبْلَ الْقَبْضِ فَ (مَتَى امْتَنَعُوا مِنْهَا لَمْ يُجْبَرُوا) عَلَيْهَا لِعَدَمِ اللُّزُومِ.
(وَإِنْ بَذَلَتْهَا) أَيْ: الْجِزْيَةَ (امْرَأَةٌ لِدُخُولِ دَارِنَا مُكِّنَتْ مَجَّانًا) أَيْ: بِلَا شَيْءٍ، وَإِنْ كَانَتْ أَعْطَتْ شَيْئًا رُدَّ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ مَنْ أَدَّى شَيْئًا يَظُنُّ أَنَّهُ عَلَيْهِ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَجَبَ رَدُّهُ عَلَى آخِذِهِ لِفَسَادِ الْقَبْضِ (إلَّا إنْ تَتَبَرَّعَ بِهِ) أَيْ: بِمَا تَدْفَعُهُ (بَعْدَ مَعْرِفَتِهَا أَنْ لَا شَيْءَ عَلَيْهَا) فَتَكُونُ هِبَةً لَا تَلْزَمُ إلَّا بِالْقَبْضِ فَإِنْ شَرَطَتْ ذَلِكَ عَلَى نَفْسِهَا ثُمَّ رَجَعَتْ فَلَهَا ذَلِكَ (لَكِنْ يَشْتَرِطُ) الْإِمَامُ أَوْ نَائِبُهُ (عَلَيْهَا) أَيْ: عَلَى الْمَرْأَةِ إذَا أَرَادَتْ دُخُولَ دَارِنَا (الْتِزَامَ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ) كَمَا يَشْتَرِطُهُ عَلَى الْمُقَاتِلَةِ (وَيَعْقِدُ لَهَا الذِّمَّةَ) بَعْدَ إجَابَتِهَا لِذَلِكَ.
(وَمَرْجِعُ جِزْيَةٍ وَخَرَاجٍ: إلَى اجْتِهَادِ الْإِمَامِ وَتَقَدَّمَ) فِي الْأَرَضِينَ الْمَغْنُومَةِ.
(وَعَنْهُ) يَرْجِعُ فِيهِمَا (إلَى مَا ضَرَبَهُ عُمَرُ) بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (فَيَجِبُ أَنْ يَقْسِمَهُ) أَيْ: مَالَ الْجِزْيَةِ (الْإِمَامُ عَلَيْهِمْ، فَيَجْعَلُ عَلَى الْمُوسِرِ ثَمَانِيَةً وَأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا، وَعَلَى الْمُتَوَسِّطِ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ) دِرْهَمًا.
(وَعَلَى الْأَدْوَنِ اثْنَا عَشْرَ) دِرْهَمًا لِفَعْلِ عُمَرَ ذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَلَمْ يُنْكِرْ فَكَانَ كَالْإِجْمَاعِ وَيُجَابُ عَنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُعَاذٍ «خُذْ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ دِينَارًا» بِأَنَّ الْفَقْرَ كَانَ فِي أَهْلِ الْيَمَنِ أَغْلَبُ لِذَلِكَ قِيلَ لِمُجَاهِدٍ مَا شَأْنُ أَهْلِ الشَّامِ عَلَيْهِمْ أَرْبَعَةُ دَنَانِيرَ، وَأَهْلُ الْيَمَنِ عَلَيْهِمْ دِينَارٌ قَالَ جَعَلَ ذَلِكَ مِنْ أَجْلِ الْيَسَارِ وَبِأَنَّ الْجِزْيَةَ يُرْجَعُ فِيهَا إلَى اجْتِهَادِ الْإِمَامِ، وَلَيْسَ التَّقْدِيرُ وَاجِبًا لِأَنَّهَا وَجَبَتْ صَغَارًا وَعُقُوبَةً فَاخْتَلَفَتْ بِاخْتِلَافِهِمْ (وَيَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَ) فِي الْجِزْيَةِ (عَنْ كُلِّ اثْنَيْ عَشْرَةَ دِرْهَمًا دِينَارًا)؛ لِأَنَّهُ يُعَدُّ لَهَا قِيمَةً بِحَسْبِ الزَّمَنِ الْأَوَّلِ.
(وَلَا يَتَعَيَّنُ أَخْذُهَا) أَيْ: الْجِزْيَةِ (مِنْ ذَهَبٍ وَلَا فِضَّةٍ بَلْ كُلُّ الْأَمْتِعَةِ بِالْقِيمَةِ) لِحَدِيثِ مُعَاذٍ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا وَجَّهَهُ إلَى الْيَمَنِ أَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ يَعْنِي مُحْتَلِمًا- دِينَارًا أَوْ عَدْلَهُ مِنْ الْمَعَافِرِ- ثِيَابٌ تَكُونُ بِالْيَمَنِ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ.
(وَيَجُوزُ أَخْذُ ثَمَنِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ عَنْ الْجِزْيَةِ وَالْخَرَاجِ إذَا تَوَلَّوْا بَيْعَهَا وَقَبَضُوهُ) أَيْ: الثَّمَنَ،؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ الَّتِي نُقِرُّهُمْ عَلَى اقْتِنَائِهَا كَثِيَابِهِمْ قَالَ فِي أَحْكَامِ الذِّمَّةِ قُلْت: وَلَوْ بَذَلُوهَا فِي ثَمَنِ مَبِيعٍ، أَوْ إجَارَةٍ أَوْ قَرْضٍ أَوْ ضَمَانٍ أَوْ بَدَلِ مُتْلَفٍ جَازَ لِلْمُسْلِمِ أَخْذُهَا وَطَابَتْ لَهُ (وَالْغَنِيُّ فِيهِمْ مَنْ عَدَّهُ النَّاسُ غَنِيًّا عُرْفًا)؛ لِأَنَّ الْمَقَادِيرَ تَوْقِيفِيَّةٌ، وَلَا تَوْقِيفَ هُنَا فَوَجَبَ رَدُّهُ إلَى الْعُرْفِ كَالْقَبْضِ، وَالْحِرْزِ.
(وَمَتَى بَذَلُوا الْوَاجِبَ) عَلَيْهِمْ مِنْ الْجِزْيَةِ (لَزِمَ قَبُولُهُ) لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُعَاذٍ «اُدْعُهُمْ إلَى أَدَاءِ الْجِزْيَةِ فَإِنْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ».
(وَدَفَعَ مَنْ قَصَدَهُمْ بِأَذًى فِي دَارِنَا) وَلَوْ كَانُوا مُنْفَرِدِينَ بِبَلَدٍ قَالَ فِي التَّرْغِيبِ: وَالْمُنْفَرِدُونَ بِبَلَدٍ مُتَّصِلٍ بِبَلَدِنَا يَجِبُ ذَبُّ أَهْلِ الْحَرْبِ عَنْهُمْ عَلَى الْأَشْبَهِ، وَلَوْ شَرَطْنَا أَنْ لَا نَذُبَّ عَنْهُمْ لَمْ يَصِحَّ وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ فِي الْفُرُوعِ فَإِنْ كَانُوا بِدَارِ الْحَرْبِ لَمْ يَلْزَمْنَا الذَّبُّ عَنْهُمْ (وَحَرُمَ قِتَالُهُمْ وَأَخْذُ مَالِهِمْ) بَعْدَ إعْطَاءِ الْجِزْيَةِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ إعْطَاءَ الْجِزْيَةِ غَايَةً لِقِتَالِهِمْ.
(وَمَنْ أَسْلَمَ) مِنْهُمْ (بَعْدَ الْحَوْلِ سَقَطَتْ عَنْهُ الْجِزْيَةُ) لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «الْإِسْلَامُ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ» وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا «لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ جِزْيَةٌ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ، وَلِأَنَّهَا عُقُوبَةٌ سَبَبُهَا الْكُفْرُ فَسَقَطَتْ بِالْإِسْلَامِ فَإِنْ كَانَ إسْلَامُهُ قَبْلَ تَمَامِ الْحَوْلِ لَمْ تُؤْخَذْ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى.
وَ(لَا) الْجِزْيَةُ (إنْ مَاتَ) الذِّمِّيُّ بَعْدَ الْحَوْلِ (أَوْ طَرَأَ عَلَيْهِ مَانِعٌ مِنْ جُنُونٍ وَنَحْوِهِ) كَعَمًى (فَتُؤْخَذُ مِنْ تَرِكَةِ مَيِّتٍ وَمِنْ مَالِ حَيٍّ) لِأَنَّهَا دَيْنٌ فَلَمْ تَسْقُطْ بِذَلِكَ كَدَيْنِ الْآدَمِيِّ (وَإِنْ طَرَأَ الْمَانِعُ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ كَمَوْتٍ سَقَطَتْ)؛ لِأَنَّ الْجِزْيَةَ لَا تَجِبُ وَلَا تُؤْخَذُ قَبْلَ كَمَالِ حَوْلِهَا.
(وَمَنْ اجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ جِزْيَةٌ سِنِينَ اُسْتُوْفِيَتْ كُلُّهَا وَلَمْ تَتَدَاخَلْ) كَدَيْنِ الْآدَمِيِّ، وَلِأَنَّهَا حَقٌّ مَالِيٌّ يَجِبُ فِي آخِرِ كُلِّ حَوْلٍ فَلَمْ تَتَدَاخَلْ كَالدِّيَةِ.
(وَتُؤْخَذُ) الْجِزْيَةُ (كُلَّ سَنَةٍ هِلَالِيَّةٍ مَرَّةً) وَاحِدَةً (بَعْدَ انْقِضَائِهَا) أَيْ: السَّنَةِ لِأَنَّهَا مَالٌ يَتَكَرَّرُ بِتَكْرَارِ الْحَوْلِ فَلَمْ تُؤْخَذْ قَبْلَهُ كَالزَّكَاةِ.
(وَلَا تَجُوزُ مُطَالَبَتُهُ بِهَا عَقِبَ عَقْدِ الذِّمَّةِ)؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ شَرْطُ تَعْجِيلِهَا، وَلَا يَقْتَضِيهِ الْإِطْلَاقُ قَالَ الْأَصْحَابُ: لِأَنَّا لَا نَأْمَنُ نَقْضَ أَمَانِهِ فَيَسْقُطُ حَقُّهُ مِنْ الْعِوَضِ.
(وَيُمْتَهَنُونَ عِنْدَ أَخْذِهَا) أَيْ: الْجِزْيَةِ مِنْهُمْ (وَتُجَرُّ أَيْدِيهِمْ عِنْدَ أَخْذِهَا وَيُطَالُ قِيَامُهُمْ حَتَّى يَأْلَمُوا وَيُتْعَبُوا، وَيُؤْخَذُ مِنْهُمْ وَهُمْ قِيَامٌ وَالْآخِذُ) لِلْجِزْيَةِ (جَالِسٌ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} قَالَ فِي الْمُبْدِعِ: وَظَاهِرُهُ أَنَّ هَذِهِ الصِّفَةَ مُسْتَحَقَّةٌ.
(وَلَا يُقْبَلُ مِنْهُمْ إرْسَالُهَا) أَيْ: الْجِزْيَةِ (مَعَ غَيْرِهِمْ لِزَوَالِ الصَّغَارِ كَمَا لَا يَجُوزُ تَفْرِيقُهَا بِنَفْسِهِ بَلْ يُحْضَرُ الذِّمِّيُّ بِنَفْسِهِ لِيُؤَدِّيَهَا وَهُوَ قَائِمٌ) صَاغِرٌ (وَلَيْسَ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَتَوَكَّلَ لَهُمْ فِي أَدَائِهَا، وَلَا أَنْ يَضْمَنَهَا، وَلَا أَنْ يُحِيلَ الذِّمِّيَّ عَلَيْهِ بِهَا) لِفَوَاتِ الصَّغَارِ.
(وَلَا يُعَذَّبُونَ) أَيْ: أَهْلُ الذِّمَّةِ (فِي أَخْذِهَا) أَيْ: الْجِزْيَةِ (وَلَا يُشْتَطُّ) وَفِي نُسْخَةٍ: وَلَا يُتَسَطَّطُ (عَلَيْهِمْ) لِمَا رَوَى أَبُو عُبَيْدٍ «أَنَّ عُمَرَ أَتَى بِمَالٍ كَثِيرٍ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ أَحْسَبُهُ الْجِزْيَةَ فَقَالَ: إنِّي لَأَظُنُّكُمْ قَدْ أَهْلَكْتُمْ؟ قَالُوا وَاَللَّهِ مَا أَخَذْنَا إلَّا عَفْوًا صَفْوًا قَالَ بِلَا سَوْطٍ وَلَا نَوْطٍ قَالُوا: نَعَمْ قَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَجْعَلْ ذَلِكَ عَلَى يَدَيَّ وَلَا فِي سُلْطَانِي».

.فَصْلٌ: فيما يجوز من الشروط في عَقْدِ الذِّمَّةِ:

(وَيَجُوزُ أَنْ يَشْرِطَ عَلَيْهِمْ) فِي عَقْدِ الذِّمَّةِ (مَعَ الْجِزْيَةِ ضِيَافَةَ مَنْ يَمُرُّ بِهِمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ الْمُجَاهِدِينَ وَغَيْرِهِمْ حَتَّى الرَّاعِي وَعَلْفِ دَوَابِّهِمْ) لِمَا رُوِيَ «أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَرَبَ عَلَى نَصَارَى أَيْلَةَ ثَلَاثَمِائَةِ دِينَارٍ وَكَانُوا ثَلَاثَمِائَةِ نَفْسٍ وَأَنْ يُضِيفُوا مَنْ مَرَّ بِهِمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ» وَعَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَضَى عَلَيْهِمْ ضِيَافَةَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَعَلْفَ دَوَابِّهِمْ، وَمَا يُصْلِحُهُمْ وَرَوَى أَحْمَدُ عَنْ الْأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ «أَنَّ عُمَرَ شَرَطَ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ ضِيَافَةَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، وَأَنْ يُصْلِحُوا الْقَنَاطِرَ، وَإِنْ قُتِلَ رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ بِأَرْضِهِمْ فَعَلَيْهِمْ دِيَتُهُ» (وَيُبَيِّنُ) الْإِمَامُ أَوْ نَائِبُهُ لَهُمْ (أَيَّامَ الضِّيَافَةِ، وَالْإِدَامُ وَالْعَلْفَ، وَعَدَدَ مَنْ يُضَافُ مِنْ الرَّجَّالَةِ وَالْفُرْسَانِ وَالْمَنْزِلِ فَيَقُولُ: تُضَيِّفُونَ فِي كُلِّ سَنَةٍ مِائَةَ يَوْمٍ، فِي كُلِّ يَوْمٍ عَشْرَةً مِنْ الْمُسْلِمِينَ مِنْ خُبْزِ كَذَا وَكَذَا) وَمِنْ الْأُدْمِ كَذَا (وَلِلْفَرَسِ مِنْ الشَّعِيرِ كَذَا، وَمِنْ التِّبْنِ كَذَا)؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ الْجِزْيَةِ، فَاعْتُبِرَ الْعِلْمُ بِهِ كَالنُّقُودِ.
قَالَهُ الْقَاضِي (وَيُبَيِّنُ لَهُمْ مَا عَلَى الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ) مِنْ الضِّيَافَةِ كَمَا فِي الْجِزْيَةِ (فَيَكُونُ ذَلِكَ بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ جِزْيَتِهِمْ) قَطَعَ بِهِ فِي الْمُبْدِعِ وَحَكَاهُ فِي الْإِنْصَافِ قَوْلًا عَنْ الرِّعَايَةِ، مُقَابِلًا لِمَا قَدَّمَهُ مِنْ أَنَّهُ يُبَيِّنُ مَا عَلَى الْفَقِيرِ وَالْغَنِيِّ (فَإِنْ شَرَطَ الضِّيَافَةَ مُطْلَقًا قَالَ فِي الشَّرْحِ وَالْفُرُوعِ: صَحَّ) وَقَدَّمَهُ فِي الْكَافِي؛ لِأَنَّ عُمَرَ لَمْ يُقَدِّرْ ذَلِكَ، وَقَالَ «أَطْعِمُوهُمْ مِمَّا تَأْكُلُونَ».
تَنْبِيهٌ:
فِي عَزْوِهِ ذَلِكَ لِلْفُرُوعِ نَظَرٌ فَإِنَّهُ أَطْلَقَ فِيهِ الْخِلَافَ.
وَقَالَ فِي الْإِنْصَافِ: قَدَّمَهُ فِي الْفُرُوعِ فَيَحْتَمِلُ أَنَّ النُّسَخَ مُخْتَلِفَةٌ (وَتَكُونُ مُدَّتُهَا) أَيْ: الضِّيَافَةِ (يَوْمًا وَلَيْلَةً) قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْوَاجِبُ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ كَالْمُسْلِمِينَ وَلَا يُكَلَّفُونَ إلَّا مِنْ طَعَامِهِمْ وَإِدَامِهِمْ.
(وَلَا تَجِبُ) الضِّيَافَةُ (مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ) لِأَنَّهَا مَالٌ فَلَا يَلْزَمُهُمْ بِغَيْرِ رِضَاهُمْ كَالْجِزْيَةِ (فَلَا يُكَلَّفُونَ الضِّيَافَةُ) (مَعَ عَدَمِ الشَّرْطِ) وَلَا (يُكَلَّفُونَ الذَّبِيحَةَ) وَإِنْ شُرِطَتْ عَلَيْهِمْ الضِّيَافَةُ (وَلَا) يُكَلَّفُونَ (أَنْ يُضَيِّفُونَا بِأَرْفَعَ مِنْ طَعَامِهِمْ) لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِ عُمَرَ «أَطْعِمُوهُمْ مِمَّا تَأْكُلُونَ».
(وَلِلْمُسْلِمِينَ النُّزُولُ فِي الْكَنَائِسِ وَالْبِيَعِ) فَإِنَّ عُمَرَ صَالَحَ أَهْلَ الشَّامِ عَلَى أَنْ يُوَسِّعُوا أَبْوَابَ بِيَعِهِمْ وَكَنَائِسِهِمْ لِمَنْ يَجْتَازُ بِهِمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ لِيَدْخُلُوهَا رُكْبَانًا (فَإِنْ لَمْ يَجِدُوا) أَيْ: الْمُسْلِمُونَ (مَكَانًا فَلَهُمْ النُّزُولُ فِي الْأَفْنِيَةِ وَفُضُولِ الْمَنَازِلِ وَلَيْسَ لَهُمْ تَحْوِيلُ صَاحِبِ الْمَنْزِلِ مِنْهُ)؛ لِأَنَّهُ إضْرَارٌ بِهِ، وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ».
وَإِنْ شَرَطَ عَلَيْهِمْ الضِّيَافَةَ فَامْتَنَعُوا مِنْ قَبُولِهَا لَمْ يَعْقِدْ لَهُمْ الذِّمَّةَ (فَإِنْ) قَبِلُوا وَ(امْتَنَعَ بَعْضُهُمْ مِنْ الْقِيَامِ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِ أُجْبِرَ عَلَيْهِ) كَسَائِرِ الْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ (فَإِنْ امْتَنَعَ الْجَمِيعُ) مِمَّا وَجَبَ عَلَيْهِمْ (أُجْبِرُوا) عَلَى الْقِيَامِ بِهِ لِوُجُوبِهِ (فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ) إجْبَارُهُمْ (إلَّا بِالْقِتَالِ قُوتِلُوا) عَلَيْهِ (فَإِنْ قَاتَلُوا انْتَقَضَ عَهْدُهُمْ) بِالْقِتَالِ.
(فَإِنْ جَعَلَ الضِّيَافَةَ مَكَانَ الْجِزْيَةِ صَحَّ) لِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ كَتَبَ لِرَاهِبٍ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ «إنَّنِي إنْ وُلِّيتُ هَذِهِ الْأَرْضَ أَسْقَطْتُ عَنْك خَرَاجَكَ فَلَمَّا قَدِمَ عُمَرُ الْجَابِيَةَ وَهُوَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ جَاءَ بِهِ وَقَالَ إنَّنِي جَعَلْتُ لَكَ مَا لَيْسَ لِي، وَلَكِنْ اخْتَرْ إنْ شِئْتَ أَدِّ الْخَرَاجَ وَإِنْ شِئْتَ أَنْ تُضَيِّفَ الْمُسْلِمِينَ فَاخْتَارَ الضِّيَافَةَ» لَكِنْ يُشْتَرَطُ أَنْ تَكُونَ الضِّيَافَةُ يَبْلُغُ قَدْرُهَا مَا يُقَابِلُ مَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِنْ الدَّرَاهِمِ أَوْ الدَّنَانِيرِ قَالَهُ فِي شَرْحِ الْمُنْتَهَى: قَالَ فِي الْمُبْدِعِ: وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَبْلُغَ قَدْرُهَا أَقَلَّ الْجِزْيَةِ إذَا قُلْنَا هِيَ مُقَدَّرَةٌ لِئَلَّا يَنْقُصَ خَرَاجُهُ مِنْ أَقَلِّهَا ا هـ وَمَعْنَاهُ فِي الشَّرْحِ وَمُقْتَضَاهُ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ إذْ الْأَصَحُّ أَنَّهَا إلَى اجْتِهَادِ الْإِمَامِ.
(وَإِذَا شَرَطَ فِي) عَقْدِ (الذِّمَّةِ شَرْطًا فَاسِدًا مِثْلَ أَنْ يَشْتَرِطَ أَنْ لَا جِزْيَةَ عَلَيْهِمْ أَوْ) يَشْتَرِطَ (إظْهَارَهُمْ الْمُنْكَرَ أَوْ إسْكَانَهُمْ الْحِجَازَ وَنَحْوَهُ فَسَدَ الْعَقْدُ) لِفَسَادِ الشَّرْطِ وَصَحَّحَ فِي تَصْحِيحِ الْفُرُوعِ: أَنَّهُ يَفْسُدُ الشَّرْطُ دُونَ الْعَقْدِ ذَكَرَهُ فِي الْهُدْنَةِ، وَجَزَمَ بِهِ فِي الْمُنْتَهَى هُنَاكَ.
(وَإِذَا تَوَلَّى إمَامٌ فَعَرَفَ قَدْرَ جِزْيَتِهِمْ أَوْ قَامَتْ بِهِ بَيِّنَةٌ أَوْ كَانَ) قَدْرُ جِزْيَتِهِمْ (ظَاهِرًا أَقَرَّهُمْ عَلَيْهِ) لِأَنَّ الْخُلَفَاءَ أَقَرُّوهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَلَمْ يَجِدُوا لِمَنْ كَانَ فِي زَمَنِهِمْ عَقَدًا، وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ لَازِمٌ كَالْإِجَارَةِ أَوْ عَقْدٌ بِالِاجْتِهَادِ فَلَا يُنْقَضُ.
(وَإِنْ لَمْ يُعَرِّفْهُ) أَيْ: مَا عَلَيْهِمْ (رَجَعَ إلَى قَوْلِهِمْ فِيمَا يَسُوغُ أَنْ يَكُونَ جِزْيَةً) لِإِنْكَارِهِمْ مَا زَادَ (وَلَهُ) أَيْ: الْإِمَامِ (تَحْلِيفُهُمْ مَعَ التُّهْمَةِ) أَيْ: اتِّهَامِهِ إيَّاهُمْ فِيمَا يَذْكُرُونَهُ (فَإِنْ بَانَ لَهُ) أَيْ: الْإِمَامِ (كَذِبُهُمْ) وَأَنَّهُمْ أَخْبَرُوهُ بِنَقْصٍ عَمَّا كَانُوا يُؤَدُّونَهُ لِمَنْ قَبْلَهُ (رَجَعَ عَلَيْهِمْ) بِمَا بَقِيَ لِبَقَائِهِ عَلَيْهِمْ وَإِنْ قَالُوا كُنَّا نُؤَدِّي كَذَا جِزْيَةٍ وَكَذَا هَدِيَّةٍ اسْتَحْلَفَهُمْ يَمِينًا وَاحِدَةً؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ فِيمَا يَدْفَعُونَهُ أَنَّهُ كُلَّهُ جِزْيَةٌ وَإِنْ قَالَ بَعْضُهُمْ كُنَّا نُؤَدِّي دِينَارًا، وَبَعْضُهُمْ كُنَّا نُؤَدِّي دِينَارَيْنِ، أَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِمَا أَقَرَّ بِهِ، وَلَا يَقْبَلُ قَوْلَ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ؛ لِأَنَّ أَقْوَالَهُمْ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ.
(وَإِذَا عَقَدَ الْإِمَامُ الذِّمَّةَ كَتَبَ أَسْمَاءَهُمْ وَأَسْمَاءَ آبَائِهِمْ) فَيُكْتَبُ فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ.
(وَ) كَتَبَ (حِلَاهُمْ) جَمْعُ حِلْيَةٍ بِكَسْرِ الْحَاءِ، وَيَجُوزُ ضَمُّهَا، فَيُكْتَبُ طَوِيلٌ أَوْ قَصِيرٌ، أَوْ رَبْعَةٌ أَسْمَرُ أَوْ أَخْضَرُ أَوْ أَبْيَضُ مَقْرُونُ الْحَاجِبَيْنِ أَوْ مَفْرُوقُهُمَا أَدْعَجُ الْعَيْنِ، أَقْنَى الْأَنْفِ أَوْ ضِدُّهُمَا، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ الصِّفَاتِ اللَّازِمَةِ الَّتِي يَتَمَيَّزُ بِهَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَنْ غَيْرِهِ.
(وَ) كَتَبَ (دِينَهُمْ) فَيَقُولُ يَهُودِيٌّ، أَوْ نَصْرَانِيٌّ، أَوْ مَجُوسِيٌّ (وَجَعَلَ لِكُلِّ طَائِفَةٍ عَرِيفًا) وَهُوَ الْقَيِّمُ بِأُمُورِ الْقَبِيلَةِ أَوْ الْجَمَاعَةِ، وَتَقَدَّمَ حَدِيثُ «الْعِرَافَةُ حَقٌّ» (مُسْلِمًا) لِيُقْبَلَ خَبَرُهُ وَيَجْمَعُهُمْ عِنْدَ أَدَاءِ الْجِزْيَةِ، وَ(يَكْشِفَ حَالَ مَنْ بَلَغَ أَوْ اسْتَغْنَى أَوْ أَسْلَمَ أَوْ سَافَرَ وَنَحْوَهُ) كَمَنْ عَتَقَ مِنْ أَرِقَّائِهِمْ، أَوْ أَفَاقَ مِنْ مَجَانِينِهِمْ لِيَتَعَرَّفَ أَمْرَ الْجِزْيَةِ (أَوْ نَقْضَ الْعَهْدِ أَوْ خَرَقَ شَيْئًا مِنْ أَحْكَامِ الذِّمَّةِ) لِيَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ مُقْتَضَاهُ.
(وَمَا يَذْكُرُهُ بَعْضُ أَهْلِ الذِّمَّةِ أَنَّ مَعَهُمْ كِتَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِسْقَاطِ الْجِزْيَةِ عَنْهُمْ لَا يَصِحُّ) وَسُئِلَ ابْنُ شُرَيْحٍ عَنْ ذَلِكَ؟ فَقَالَ: لَمْ يَنْقُلْ ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَرُوِيَ: أَنَّهُمْ طُولِبُوا بِذَلِكَ فَأَخْرَجُوا كِتَابًا ذَكَرُوا فِيهِ أَنَّهُ بِخَطِّ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ كَتَبَهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَّ فِيهِ: شَهَادَةَ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ وَمُعَاوِيَةَ فَوُجِدَ تَارِيخُهُ بَعْدَ مَوْتِ سَعْدٍ وَقَبْلَ إسْلَامِ مُعَاوِيَةَ فَاسْتُدِلَّ بِذَلِكَ عَلَى بُطْلَانِهِ.
(وَمَنْ أُخِذَتْ مِنْهُ الْجِزْيَةُ كُتِبَ لَهُ بَرَاءَةٌ لِتَكُونَ لَهُ حُجَّةً إذَا احْتَاجَ إلَيْهَا) كَمَا تَقَدَّمَ فِي الزَّكَاةِ، بَلْ هُنَا أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي أَدَاءِ الْجِزْيَةِ بِلَا بَيِّنَةٍ (وَيَأْتِي) ذَلِكَ فِي (الْبَابِ بَعْدَهُ).