فصل: فَصْلٌ: فِي أَحْكَامٍ تَتَعَلَّقُ بِالْفُتْيَا:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: كشاف القناع عن متن الإقناع



.فَصْلٌ: فِي أَحْكَامٍ تَتَعَلَّقُ بِالْفُتْيَا:

(كَانَ السَّلَفُ) رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى (يَأْبَوْنَ الْفُتْيَا وَيُشَدِّدُونَ فِيهَا وَيَتَدَافَعُونَهَا) قَالَ النَّوَوِيُّ رَوَيْنَا عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ «أَدْرَكْتُ عِشْرِينَ وَمِائَةً مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسْأَلُ أَحَدُهُمْ عَنْ الْمَسْأَلَةِ فَيَرُدُّهَا هَذَا إلَى هَذَا وَهَذَا إلَى هَذَا حَتَّى تَرْجِعَ إلَى الْأَوَّلِ» وَفِي رِوَايَةٍ «مَا مِنْهُمْ مَنْ يُحَدِّثُ بِحَدِيثٍ إلَّا وَدَّ أَنَّ أَخَاهُ كَفَاهُ إيَّاهُ وَلَا يُسْتَفْتَى عَنْ شَيْءٍ إلَّا وَدَّ أَنَّ أَخَاهُ كَفَاهُ الْفُتْيَا» (وَأَنْكَرَ) الْإِمَامُ (أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ عَلَى مَنْ يَهْجُمُ عَلَى الْجَوَابِ) لِخَبَرِ «أَجْرَؤُكُمْ عَلَى الْفُتْيَا أَجْرَؤُكُمْ عَلَى النَّارِ».
(وَقَالَ) أَحْمَدُ (لَا يَنْبَغِي أَنْ يُجِيبَ فِي كُلِّ مَا يُسْتَفْتَى فِيهِ وَقَالَ: إذَا هَابَ الرَّجُلُ شَيْئًا لَا يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ عَلَى أَنْ يَقُولَ وَقَالَ: لَا يَنْبَغِي لِلرَّجُلِ أَنْ يُعَرِّضَ نَفْسَهُ لِلْفُتْيَا حَتَّى يَكُونَ فِيهِ خَمْسُ خِصَالٍ إحْدَاهَا: أَنْ تَكُونَ لَهُ نِيَّةٌ) أَيْ أَنْ يُخْلِصَ فِي ذَلِكَ لِلَّهِ تَعَالَى وَلَا يَقْصِدُ رِيَاسَةً وَلَا نَحْوَهَا (فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ نُورٌ وَلَا عَلَى كَلَامِهِ نُورٌ) إذْ الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى (الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ لَهُ حِلْمٌ وَوَقَارٌ وَسَكِينَةٌ) وَإِلَّا لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ فِعْلِ مَا تَصَدَّى لَهُ مِنْ بَيَانِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ (الثَّالِثَةُ: أَنْ يَكُونَ قَوِيًّا عَلَى مَا هُوَ فِيهِ وَعَلَى مَعْرِفَتِهِ) وَإِلَّا فَقَدْ عَرَّضَ نَفْسَهُ لِعَظِيمٍ (الرَّابِعَةُ: الْكِفَايَةُ وَإِلَّا أَبْغَضَهُ النَّاسُ فَإِنَّهُ إذَا لَمْ تَكُنْ لَهُ كِفَايَةٌ احْتَاجَ إلَى النَّاسِ وَإِلَى الْأَخْذِ مِمَّا فِي) أَيْدِيهِمْ، فَيَتَضَرَّرُونَ مِنْهُ (الْخَامِسَةُ: مَعْرِفَةُ النَّاسِ أَيْ يَنْبَغِي لَهُ) أَيْ لِلْمُفْتِي (أَنْ يَكُونَ بَصِيرًا بِمَكْرِ النَّاسِ وَخِدَاعِهِمْ، وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُحْسِنَ الظَّنَّ بِهِمْ بَلْ يَكُونُ حَذِرًا فَطِنًا مِمَّا يُصَوِّرُونَهُ فِي سُؤَالَاتِهِمْ) لِئَلَّا يُوقِعُوهُ فِي الْمَكْرُوهِ وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ «احْتَرِسُوا مِنْ النَّاسِ بِسُوءِ الظَّنِّ وَاخْبَرْ أَخَاكَ الْبَكْرِيَّ وَلَا تَأْمَنْهُ».
وَالْمُفْتِي مَنْ يُبَيِّنُ الْحُكْمَ الشَّرْعِيَّ وَيُخْبِرُ بِهِ مَنْ غَيْرِ إلْزَامٍ (وَالْحَاكِمُ يُبَيِّنُهُ) أَيْ الْحُكْم الشَّرْعِيَّ (وَيُلْزِمُ بِهِ) فَامْتَازَ بِالْإِلْزَامِ قَالَ الْخَطِيبُ: وَيَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَتَصَفَّحَ أَحْوَالَ الْمُفْتِينَ فَمَنْ صَلَحَ لِلْفُتْيَا أَقَرَّهُ وَمَنْ لَا يَصْلُحُ مَنْعَهُ وَنَهَاهُ أَنْ يَعُودَ وَتُوَاعَدَهُ بِالْعُقُوبَةِ إنْ عَادَ، وَطَرِيقُ الْإِمَامِ إلَى مَعْرِفَةِ مَنْ يَصْلُحُ لِلْفَتْوَى أَنْ يَسْأَلَ عُلَمَاءَ وَقْتِهِ وَيَعْتَمِدُ أَخْبَارَ الْمُوَثَّقِينَ بِهِمْ ثُمَّ رَوَى بِإِسْنَادِهِ عَنْ مَالِكٍ قَالَ: مَا أَفْتَيْتُ حَتَّى شَهِدَ لِي سَبْعُونَ أَنِّي أَهْلٌ لِذَلِكَ.
وَفِي رِوَايَةٍ مَا أَفْتَيْتُ حَتَّى سَأَلْتُ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنِّي هَلْ تَرَانِي مَوْضِعًا لِذَلِكَ؟ قَالَ مَالِكٌ: وَلَا يَنْبَغِي لِرَجُلٍ أَنْ يَرَى نَفْسَهُ أَهْلًا لِشَيْءٍ حَتَّى يَسْأَلَ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ.
(وَيَحْرُمُ أَنْ يُفْتِي فِي حَالٍ لَا يَجُوزُ أَنْ يُحْكِمَ فِيهَا كَغَضَبٍ وَنَحْوِهِ) كَحَرٍّ (مُفْرِطٍ وَبَرْدٍ مُفْرِطٍ وَمَلَلٍ وَنَحْوِهِ مِمَّا يُغَيِّرُ) الْفِكْرَ (فَإِنْ أَفْتَى) فِي ذَلِكَ الْحَالِ (وَأَصَابَ) الْحَقَّ (صَحَّ) جَوَابُهُ (وَكُرِهَ).
(وَتَصِحُّ فَتْوَى الْعَبْدِ وَالْمَرْأَةِ وَالْأُمِّيِّ وَالْأَخْرَسِ الْمَفْهُومِ الْإِشَارَةِ أَوْ الْكِتَابَةِ) كَخَبَرِهِمْ (وَتَصِحُّ) الْفُتْيَا (مَعَ أَحَدِ الشَّفْعِ وَدَفْعِ الضَّرَرِ مِنْ الْعَدُوِّ وَأَنْ يُفْتَى أَبَاهُ وَأُمَّهُ وَشَرِيكَهُ وَ) سَائِرَ (مَنْ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لَهُ) كَزَوْجَتِهِ وَمُكَاتِبَتِهِ لِأَنَّ الْقَصْدَ بَيَانُ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ وَهُوَ لَا يَخْتَلِفُ وَلَيْسَ مِنْهُ إلْزَامٌ بِخِلَافِ الْحَاكِمِ.
(وَلَا تَصِحُّ) الْفُتْيَا (مِنْ فَاسِقٍ لِغَيْرِهِ وَإِنْ كَانَ مُجْتَهِدًا) لِأَنَّهُ لَيْسَ بِأَمِينٍ عَلَى مَا يَقُولُ وَفِي إعْلَامِ الْمُوَقِّعِينَ قُلْتُ: الصَّوَابُ جَوَازُ اسْتِفْتَاءِ الْفَاسِقِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مُعْلِنًا بِفِسْقِهِ دَاعِيًا إلَى بِدْعَتِهِ (لَكِنْ يُفْتِي) الْمُجْتَهِدُ الْفَاسِقُ (نَفْسَهُ) لِأَنَّهُ لَا يُتَّهَمُ بِالنِّسْبَةِ إلَى نَفْسِهِ (وَلَا يَسْأَلُهُ) أَيْ الْفَاسِقَ (غَيْرُهُ) لِعَدَمِ حُصُولِ الْمَقْصُودِ وَالْوُثُوقِ بِهِ.
(وَلَا تَصِحُّ) الْفُتْيَا (مِنْ مَسْتُورِ الْحَالِ وَفِي الْمُبْدِعِ تَصِحُّ فُتْيَا مَسْتُورِ) الْحَالِ فِي الْأَصَحِّ.
(وَالْحَاكِمُ كَغَيْرِهِ فِي الْفُتْيَا) فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْقَضَاءِ وَغَيْرِهِ (وَيَحْرُمُ لِتَسَاهُلِ مُفْتٍ) فِي الْفُتْيَا (وَتَقْلِيدِ مَعْرُوفٍ بِهِ) أَيْ بِالتَّسَاهُلِ فِي الْفُتْيَا.
(قَالَ الشَّيْخُ لَا يَجُوزُ اسْتِفْتَاءُ إلَّا مَنْ يُفْتِي بِعِلْمٍ أَوْ عَدْلٍ انْتَهَى) لِأَنَّ أَمْرَ الْفُتْيَا خَطَرٌ فَيَنْبَغِي أَنْ يُحْتَاطَ.
(وَلَيْسَ لِمَنْ انْتَسَبَ إلَى مَذْهَبِ إمَامٍ) إذَا اُسْتُفْتِيَ (فِي مَسْأَلَةٍ ذَاتِ قَوْلَيْنِ أَوْ وَجْهَيْنِ بِأَنْ يَتَخَيَّرَ وَيَعْمَلَ بِأَيِّهِمَا شَاءَ) بَلْ يُرَاعِي أَلْفَاظَ الْأُمَّةِ وَمُتَأَخِّرِهِمَا وَأَقْرَبِهِمَا مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ (وَتَقَدَّمَ فِي الْبَابِ).
(وَيَلْزَمُ الْمُفْتِي تَكْرِيرُ النَّظَرِ عِنْدَ تَكْرَارِ الْوَاقِعَةِ) كَالْمُجْتَهِدِ فِي الْقِبْلَةِ يَجْتَهِدُ لِكُلِّ صَلَاةٍ وَأَمَّا الْعَامِّيُّ إذَا وَقَعَتْ مَسْأَلَةٌ فَسَأَلَ عَنْهَا ثُمَّ وَقَعَتْ لَهُ ثَانِيًا فَلَمْ أَرَ لِأَصْحَابِنَا فِيهَا شَيْئًا.
وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الطِّيبِ الشَّافِعِيُّ: يَلْزَمُهُ السُّؤَالُ الْأَوَّلُ ثَانِيًا إلَّا أَنْ تَكُونَ مَسْأَلَةٌ يَكْثُرُ وُقُوعُهَا وَيَشُقُّ عَلَيْهِ إعَادَةُ السُّؤَالِ عَنْهَا فَلَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ وَيَكْفِيهِ السُّؤَالُ الْأَوَّلُ لِلْمَشَقَّةِ نَقَلَهُ عَنْهُ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ.
وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: لَا يَلْزَمُهُ فِي الْأَصَحِّ لِأَنَّهُ قَدْ عَرَفَ الْحُكْمَ الْأَوَّلَ وَالْأَصْلُ اسْتِمْرَارُ الْمُفْتِي عَلَيْهِ انْتَهَى وَهَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ أَصْحَابِنَا.
(وَإِنْ حَدَّثَ مَا لَا قَوْلَ فِيهِ) لِلْعُلَمَاءِ (تَكَلَّمَ فِيهِ حَاكِمٌ وَمُجْتَهِدٌ وَمُفْتٍ) فَيَرُدُّهُ إلَى الْأَصْلِ وَالْقَوَاعِدِ (وَيَنْبَغِي لَهُ) أَيْ لِلْمُفْتِي (أَنْ يُشَاوِرَ مَنْ عِنْدَهُ مِمَّنْ يَثِقُ بِعِلْمِهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ فِي ذَلِكَ إفْشَاءُ سِرِّ السَّائِلِ أَوْ تَعْرِيضُهُ لِلْأَذَى أَوْ) يَكُونَ فِيهِ (مَفْسَدَةٌ لِبَعْضِ الْحَاضِرِينَ) فَيُخْفِيهِ إزَالَةٌ لِذَلِكَ.
(وَحَقِيقٌ بِهِ) أَيْ الْمُفْتِي (أَنْ يُكْثِرَ الدُّعَاءَ بِالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ «اللَّهُمَّ رَبَّ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالَمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ اهْدِنِي لِمَا اخْتَلَفْتُ فِيهِ مِنْ الْحَقِّ بِإِذْنِكَ إنَّكَ تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ» وَيَقُولُ إذَا أُشْكِلَ عَلَيْهِ شَيْءٌ: يَا مُعَلِّمَ إبْرَاهِيمَ عَلِّمْنِي) لِلْخَبَرِ.
(وَفِي آدَابِ الْمُفْتِي لَيْسَ لَهُ أَنْ يُفْتِيَ فِي شَيْءٍ مِنْ مَسَائِلِ الْكَلَامِ مُفَصِّلًا بَلْ يَمْنَعُ السَّائِلَ وَسَائِرَ الْعَامَّةِ مِنْ الْخَوْضِ فِي ذَلِكَ أَصْلًا) قَالَ فِي الْمُبْدِعِ: وَلَا تَجُوزُ الْفَتْوَى فِي عِلْمِ الْكَلَامِ بَلْ نَهْيُ السَّائِلِ عَنْهُ وَالْعَامَّةِ أَوْلَى وَيَأْمُرُ الْكُلَّ بِالْإِيمَانِ الْمُجْمَلِ وَمَا يَلِيقُ بِاَللَّهِ تَعَالَى، وَلَا يَجُوزُ التَّقْلِيدُ فِيمَا يُطْلَبُ بِهِ الْجَزْمُ وَلَا إثْبَاتُهُ بِدَلِيلٍ ظَنِّيٍّ وَلَا الِاجْتِهَادُ فِيهِ وَيَجُوزُ فِيمَا يُطْلَبُ فِيهِ الظَّنُّ وَإِثْبَاتُهُ بِدَلِيلٍ ظَنِّيٍّ وَالِاجْتِهَادُ فِيهِ.
(وَلَهُ) أَيْ الْمُفْتِي (تَخْيِيرُ مَنْ اسْتَفْتَاهُ بَيْنَ قَوْلِهِ وَقَوْلِ مُخَالِفِهِ)؛ لِأَنَّ الْمُسْتَفْتَى يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَخَيَّرَ وَإِنْ لَمْ يُخَيِّرْهُ، وَقَدْ سُئِلَ أَحْمَدُ عَنْ مَسْأَلَةٍ فِي الطَّلَاقِ؟ فَقَالَ: إنْ فَعَلَ حَنِثَ فَقَالَ السَّائِلُ: إنْ أَفْتَانِي إنْسَانٌ لَا أَحْنَثُ قَالَ: تَعْرِفُ حَلْقَةَ الْمَدَنِيِّينَ؟ قَالَ: فَإِنْ أَفْتَوْنِي حَلَّ؟ قَالَ: نَعَمْ.
(وَلَا يَلْزَمُ جَوَابُ مَا لَمْ يَقَعْ) لِخَبَرِ أَحْمَدَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ «لَا تَسْأَلُوا عَمَّا لَمْ يَكُنْ، فَإِنَّ عُمَرَ نَهَى ذَلِكَ» (لَكِنْ يُسْتَحَبُّ إجَابَتُهُ) أَيْ السَّائِلِ عَمَّا لَمْ يَقَعْ لِئَلَّا يَدْخُلَ فِي خَبَرِ «مَنْ كَتَمَ عِلْمًا سُئِلَهُ»- الْحَدِيثَ.
(وَلَا) يَلْزَمُ (جَوَابُ مَا لَا يَحْتَمِلُهُ السَّائِلُ) قَالَ الْبُخَارِيُّ: قَالَ عَلِيٌّ «حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ أَتُرِيدُونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ؟» وَفِي مُقَدِّمَةِ مُسْلِمٍ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ «مَا أَنْتَ بِمُحَدِّثٍ قَوْمًا حَدِيثًا لَا تَبْلُغُهُ عُقُولُهُمْ إلَّا كَانَ فِتْنَةً لِبَعْضِهِمْ».
(وَ) لَا يَلْزَمُ جَوَابُ (مَا لَا يَقَعُ فِيهِ) لِخَبَرِ أَحْمَدَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ عَنْ الصَّحَابَةِ «مَا كَانُوا يَسْأَلُونَ إلَّا عَمَّا يَنْفَعُهُمْ» وَسُئِلَ أَحْمَدُ عَنْ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ أَمُسْلِمُونَ هُمْ؟ فَقَالَ لِلسَّائِلِ: أَحْكَمْتَ الْعِلْمَ حَتَّى تَسْأَلَ عَنْ ذَا؟ وَسَأَلَ عَنْ مَسْأَلَةٍ فِي اللِّعَانِ فَقَالَ: سَلْ رَحِمَكَ اللَّهُ عَمَّا اُبْتُلِيتَ بِهِ.
(وَإِنْ جَعَلَ لَهُ) أَيْ لِلْمُفْتِي (أَهْلُ بَلَدٍ رِزْقًا لِيَتَفَرَّغَ لَهُمْ جَازَ) لَهُ أَخْذُهُ وَالْأَرْزَاقُ مَعْرُوفٌ غَيْر لَازِمٍ لِجِهَةٍ مُعَيَّنَةٍ قَالَ الْقَرَافِيُّ وَلَا يُورَثُ بِخِلَافِ الْأُجْرَةِ قَالَ: وَبَابُ الْأَرْزَاقِ أَدْخَلُ فِي بَابِ الْإِحْسَانِ، وَأَبْعَدُ عَنْ بَابِ الْمُعَاوَضَةِ، وَبَابُ الْإِجَارَةِ أَبْعَدُ عَنْ بَابِ الْمُسَامَحَةِ وَأَدْخَلُ فِي بَاب الْمُكَاسَبَةِ.
(وَلَهُ) أَيْ الْمُفْتِي (قَبُولُ هَدِيَّةٍ وَالْمُرَادُ لَا لِيُفْتِيَهُ بِمَا يُرِيدُهُ مِمَّا لَا يُفْتِي بِهِ غَيْرُهُ) أَيْ غَيْرُ الْمُهْدِي (وَإِلَّا) أَيْ وَإِنْ أَخَذَهَا لِيُفْتِيَهُ بِمَا يُرِيدُهُ مِمَّا لَا يُفْتِي بِهِ غَيْرُهُ (حُرِّمَتْ) عَلَيْهِ الْهَدِيَّةُ.
(وَمَنْ عَدِمَ مُفْتِيًا فِي بَلَدِهِ وَغَيْرِهِ فَلَهُ حُكْمُ مَا قَبْلَ الشَّرْعِ) عَلَى الْخِلَافِ هَلْ الْأَصْلُ فِي الْأَشْيَاءِ الْحَظْرُ أَوْ الْإِبَاحَةُ أَوْ الْوَقْفُ؟ (وَقِيلَ مَتَى خَلَتْ الْبَلَدُ مِنْ مُفْتٍ حُرِّمَ السُّكْنَى فِيهَا) قَالَ النَّوَوِيُّ: وَالْأَصَحُّ لَا يَحْرُمُ إنْ أَمْكَنَ الذَّهَابُ إلَى مُفْتٍ.
(وَلَهُ) أَيْ الْمُفْتِي (رَدُّ الْفُتْيَا إنْ خَافَ غَائِلَتَهَا أَوْ كَانَ فِي الْبَلَدِ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ) فِي الْفُتْيَا لِأَنَّ الْإِفْتَاءَ فِي حَقِّهِ مَعَ وُجُودِ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ سَنَةً (وَإِلَّا) أَيْ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْبَلَدِ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ (لَمْ يَجُزْ) لَهُ رَدُّ الْفُتْيَا لِتَعَيُّنِهَا عَلَيْهِ، وَالتَّعْلِيمُ كَذَلِكَ كَمَا ذَكَرَ مَعْنَاهُ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ التَّهْذِيبِ (لَكِنْ إنْ كَانَ الَّذِي يَقُومُ مَقَامَهُ مَعْرُوفًا عِنْدَ الْعَامَّةِ مُفْتِيًا وَهُوَ جَاهِلٌ تَعَيَّنَ الْجَوَابُ عَلَى الْعَالِمِ) لِتَعَيُّنِ الْإِفْتَاءِ عَلَيْهِ إذَنْ (قَالَ فِي عُيُونِ الْمَسَائِلِ: الْحُكْمُ يَتَعَيَّنُ بِوِلَايَتِهِ) أَيْ الْحُكْمِ (حَتَّى لَا يُمْكِنَهُ رَدُّ مُحْتَكِمَيْنِ إلَيْهِ وَيُمْكِنُهُ رَدُّ مَنْ يَسْتَشِيرُهُ وَإِنْ كَانَ مُحْتَمِلًا شَهَادَةً فَنَادِرٌ أَنْ لَا يَكُونَ سِوَاهُ) أَيْ مَعَهُ مُتَحَمِّلًا لِتِلْكَ الشَّهَادَةِ فَلَا يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَدَاؤُهَا إذْ يُمْكِنُ نِيَابَةُ غَيْرِهِ (وَأَمَّا فِي الْحُكْمِ فَ) إنَّهُ (لَا يَنُوبُ الْبَعْض عَنْ الْبَعْضِ وَلَا يَقُولُ لِمَنْ ارْتَفَعَ: إلَيْهِ امْضِ إلَى غَيْرِي مِنْ الْحُكَّامِ انْتَهَى) أَيْ وَلَوْ كَانَ فِي الْبَلَدِ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ لَمَا يَلْزَمُ عَلَى جَوَازِ تَدَافُعِ الْحُكُومَاتِ مِنْ الْحُقُوقِ.
(وَمَنْ قَوِيَ عِنْدَهُ مَذْهَبُ غَيْرِ إمَامِهِ) لِظُهُورِ الدَّلِيلِ مَعَهُ (أَفْتَى بِهِ) أَيْ بِمَا تَرَجَّحَ عِنْدَهُ مِنْ مَذْهَبِ غَيْرِ إمَامِهِ (وَأَعْلَمَ السَّائِلَ) بِذَلِكَ لِيَكُونَ عَلَى بَصِيرَةٍ فِي تَقْلِيدِهِ.
(قَالَ) الْإِمَامُ (أَحْمَدُ: إذَا جَاءَتْ الْمَسْأَلَةُ لَيْسَ فِيهَا أَثَرٌ) أَيْ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ وَلَا مَوْقُوفٌ لِأَنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ عِنْدَهُ حُجَّةٌ إذَا لَمْ يُخَالِفْهُ غَيْرُهُ (فَأَفْتِ فِيهَا بِقَوْلِ الشَّافِعِيِّ، ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ فِي تَهْذِيبِ الْأَسْمَاءِ وَاللُّغَاتِ فِي تَرْجَمَةِ الشَّافِعِيِّ).
وَفِي الْمُبْدِعِ: قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ الْمَرُّوذِيِّ: إذَا سُئِلْتُ عَنْ مَسْأَلَةٍ لَمْ أَعْرِفْ فِيهَا خَبَرًا قُلْتُ فِيهَا بِقَوْلِ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّهُ إمَامٌ عَالِمٌ مِنْ قُرَيْشٍ وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «يَمْلَأُ الْأَرْضَ عِلْمًا».
(وَيَجُوزُ لَهُ) أَيْ لِلْمُفْتِي (الْعُدُولُ عَنْ جَوَابِ الْمَسْئُولِ عَنْهُ إلَى مَا هُوَ أَنْفَعُ لِلسَّائِلِ) قَالَ تَعَالَى:
{يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ}.
(وَ) يَجُوزُ لِلْمُفْتِي (أَنْ يُجِيبَهُ بِأَكْثَرَ مِمَّا سَأَلَهُ) عَنْهُ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ سُئِلَ عَنْ مَاءِ الْبَحْرِ «هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ».
(وَ) لِلْمُفْتِي (أَنْ يَدُلَّهُ) أَيْ الْمُسْتَفْتِي (عَلَى عِوَضِ مَا مَنَعَهُ عَنْهُ وَأَنْ يُنَبِّهَهُ عَلَى مَا يَجِبُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ) لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ قَبِيلِ الْهِدَايَةِ لِدَفْعِ الْمَضَارِّ (وَإِذَا كَانَ الْحُكْمُ مُسْتَغْرَبًا وَطَّأَ قَبْلَهُ) أَيْ مَهَّدَ لَهُ، أَيْ ذَكَرَ لِلْحُكْمِ شَيْئًا يُوَضِّحُ وَيُبَيِّنُ بِهِ الْحُكْمَ الْمَذْكُورَ، وَوَطَّأَ قَبْلَهُ (مَا هُوَ كَالْمُقَدَّمَةِ لَهُ) لِيُزِيلَ اسْتِغْرَابَهُ (وَلَهُ الْحَلِفُ عَلَى ثُبُوتِ الْحُكْمِ أَحْيَانًا) قَالَ تَعَالَى:
{قُلْ إي وَرَبِّي إنَّهُ لَحَقٌّ} وَقَالَ جَلَّ ذِكْرُهُ:
{فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} وَالسُّنَّةُ شَهِيرَةٌ بِذَلِكَ وَقَوْلُهُ أَحْيَانًا احْتِرَازٌ مِنْ الْإِفْرَاطِ فِي الْحَلِفِ فَإِنَّهُ مَكْرُوهٌ.
(وَلَهُ أَنْ يُكَذْلِكَ مَعَ جَوَابِ مَنْ تَقَدَّمَهُ بِالْفُتْيَا لِيَقُولَ جَوَابِي كَذَلِكَ وَالْجَوَابُ صَحِيحٌ وَبِهِ أَقُولُ) طَلَبًا لِلِاخْتِصَارِ مَعَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ (إذَا عَلِمَ صَوَابَ جَوَابِهِ وَكَانَ أَهْلًا) لِلْفُتْيَا (وَإِلَّا) أَيْ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ صَوَابَهُ (اشْتَغَلَ بِالْجَوَابِ مَعَهُ فِي الْوَرَقِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ) مَنْ تَقَدَّمَ الْمُفْتِي (أَهْلًا) لِلْفُتْيَا (لَمْ يُفْتِ مَعَهُ لِأَنَّهُ تَقْرِيرٌ لِمُنْكَرٍ، وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ الْمُفْتِي اسْمَ مَنْ كَتَبَ فَلَهُ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ الْفُتْيَا مَعَهُ خَوْفًا مِمَّا قُلْنَاهُ) أَيْ مِنْ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ أَهْلٍ تَقْرِيرًا لِلْمُنْكَرِ (وَالْأَوْلَى أَنْ يُشِيرَ عَلَى صَاحِبِ الرُّقْعَةِ بِإِبْدَالِهَا) إذَا جَهِلَ الْمُفْتِي قَبْلَهُ فِيهَا (فَإِنْ أَبَى ذَلِكَ) أَيْ إبْدَالَهَا (أَجَابَهُ شَفَاهًا) بِلَا كِتَابَةٍ (وَإِذَا كَانَ هُوَ الْمُبْتَدِئَ بِالْإِفْتَاءِ فِي الرُّقْعَةِ كَتَبَ فِي النَّاحِيَةِ الْيُسْرَى لِأَنَّهُ أَمْكَنَ وَإِنْ كَتَبَ فِي) الْجَانِبِ (الْأَيْمَنِ أَوْ الْأَسْفَلِ جَازَ وَلَا يَكْتُبُ فَوْقَ الْبَسْمَلَةِ) احْتِرَامًا لِاسْمِ اللَّهِ تَعَالَى (وَعَلَيْهِ أَنْ يَخْتَصِرَ جَوَابَهُ) لِأَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى مَا يَحْصُلُ بِهِ الْمَقْصُودُ إشْغَالٌ لِلرُّقْعَةِ بِلَا حَاجَةٍ إلَيْهِ وَقَدْ لَا يَرْضَى رَبُّهَا بِذَلِكَ، وَدَلَالَةُ الْحَالِ إنَّهُ إنَّمَا أَذِنَ فِي قَدْرِ الْحَاجَةِ (وَلَا بَأْسَ لَوْ كَتَبَ) الْمُفْتِي (بَعْد جَوَابِهِ كَمَا فِي الرُّقْعَةِ: زَادَ السَّائِلُ مِنْ لَفْظِهِ كَذَا وَكَذَا وَالْجَوَابُ عَنْهُ كَذَا وَكَذَا) لِأَنَّهُ إخْبَارٌ بِالْوَاقِعِ.
(وَإِنْ جَهِلَ) الْمُفْتِي (لِسَانَ السَّائِلِ) أَيْ لُغَتَهُ (أَجْزَأَتْ تَرْجَمَةُ وَاحِدٍ ثِقَةٍ) كَالْإِخْبَارِ بِالْقِبْلَةِ وَغَيْرِهَا بِخِلَافِ التَّرْجَمَةِ عِنْدَ الْحَاكِمِ فَحُكْمُهَا كَالشَّهَادَةِ وَيَأْتِي.
(وَإِنْ رَأَى) الْمُفْتِي (لَحْنًا فَاحِشًا فِي الرُّقْعَةِ) الْمَكْتُوبِ فِيهَا السُّؤَالُ (أَوْ) رَأَى بِهَا (خَطَأً يُحِيلُ الْمَعْنَى أَصْلَحَهُ) لِأَنَّ إجَابَتَهُ تَتَوَقَّفُ عَلَى ذَلِكَ لِفَهْمِ الْمَقْصُودِ (وَيَنْبَغِي) لِلْمُفْتِي (أَنْ يَكْتُبَ الْجَوَابَ بِخَطٍّ وَاضِحٍ وَسَطًا، وَيُقَارِبَ سُطُورَهُ وَخَطَّهُ لِئَلَّا يُزَوِّرَ أَحَدٌ عَلَيْهِ ثُمَّ يَتَأَمَّلَ الْجَوَابَ بَعْدَ كِتَابَتِهِ خَوْفًا مِنْ غَلَطٍ أَوْ سَهْوٍ وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكْتُبَ فِي فَتْوَاهُ الْحَمْدُ لِلَّهِ، وَفِي آخِرِهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَنَحْوَهُ، وَكَتَبَهُ فُلَانٌ الْحَنْبَلِيُّ أَوْ الشَّافِعِيُّ وَنَحْوُهُ) كَالْمَالِكِيِّ وَالْحَنَفِيِّ اقْتِدَاءً بِمَنْ سَلَفَ (وَإِذَا رَأَى خِلَالَ السُّطُورِ أَوْ فِي آخِرِهَا بَيَاضًا يَحْتَمِلُ أَنْ يَلْحَقَ بِهِ مَا يُفْسِدُ الْجَوَابَ فَلْيَحْتَرِزْ مِنْهُ، فَإِمَّا أَنْ يَأْمُرَهُ بِكِتَابَةِ غَيْرِ الْوَرَقَةِ أَوْ يَشْغَلَهُ بِشَيْءٍ) لِيَأْمَنَ مِنْ الزِّيَادَةِ (وَيَنْبَغِي) لِلْمُفْتِي (أَنْ يَكُونَ جَوَابُهُ مَوْصُولًا بِآخِرِ سَطْرٍ فِي الْوَرَقَةِ وَلَا يَدَعُ بَيْنَهُمَا فُرْجَةً خَوْفًا مِنْ أَنْ يَكْتُبَ لِلسَّائِلِ فِيهَا غَرَضًا لَهُ ضَارًّا، وَإِنْ كَانَ فِي مَوْضِعِ الْجَوَابِ وَرَقَةٌ مَلْزُوقَةٌ كَتَبَ عَلَى مَوْضِعِ الِالْتِزَاقِ وَشَغَلَهُ بِشَيْءٍ) لِئَلَّا يَحِلَّ اللَّزْقُ وَيُوصَلَ بِرُقْعَةٍ أُخْرَى قُلْتُ: فَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُلْتَزِقٍ وَطُلِبَ مِنْهُ الْكِتَابَةُ لِيُلْزَقَ لَمْ يَجِبْ لِئَلَّا يُلْزَقَ بِغَيْرِ مَا سُئِلَ عَنْهُ مِمَّا يُخَالِفُ فِي الْحُكْمِ.
(وَإِذَا سُئِلَ) الْمُفْتِي (عَنْ شَرْطٍ وَاقِفٍ لَمْ يُفْتِ بِإِلْزَامِ الْعَمَلِ بِهِ حَتَّى يَعْلَمَ هَلْ الشَّرْطُ مَعْمُولٌ بِهِ فِي الشَّرْعِ أَوْ مِنْ الشُّرُوطِ الَّتِي لَا تَحِلُّ مِثْلُ أَنْ يَشْرِطَ أَنْ يُصَلِّيَ الصَّلَوَاتِ فِي التُّرْبَةِ الْمَدْفُونِ بِهَا) الْوَاقِفُ (وَيَدْعُ الْمَسْجِدَ أَوْ يُشْعِلَ بِهَا) أَيْ التُّرْبَةِ (قِنْدِيلًا أَوْ سِرَاجًا) لِأَنَّ ذَلِكَ مُحَرَّمٌ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْجَنَائِزِ (أَوْ وَقَفَ مَدْرَسَةً أَوْ رِبَاطًا أَوْ زَاوِيَةً وَشَرَطَ أَنَّ الْمُقِيمِينَ بِهَا مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ كَالشِّيعَةِ وَالْخَوَارِجِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَالْجَهْمِيَّةِ وَالْمُبْتَدِعِينَ فِي أَعْمَالِهِمْ، كَأَصْحَابِ الْإِشَارَاتِ وَالْمَلَاذِنِ وَأَهْلِ الْحَيَّاتِ وَأَشْبَاهِ الذُّبَابِ الْمُشْتَغِلِينَ بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالرَّقْصِ) فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْمَلَ بِالشَّرْطِ الْمَذْكُورِ فَضْلًا عَنْ وُجُوبِ اتِّبَاعِهِ (وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُفْتِيَ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِاللَّفْظِ) كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالْأَيْمَانِ وَالْأَقَارِيرِ (بِمَا اعْتَادَهُ هُوَ مِنْ فَهْمِ تِلْكَ الْأَلْفَاظِ دُونَ أَنْ يَعْرِفَ عُرْفَ أَهْلِهَا وَالْمُتَكَلِّمِينَ بِهَا بَلْ يَحْمِلُهَا عَلَى مَا اعْتَادُوهُ وَعَرَفُوهُ وَإِنْ كَانَ) الَّذِي اعْتَادُوهُ (مُخَالِفًا لِحَقَائِقِهَا الْأَصْلِيَّةِ) اللُّغَوِيَّةِ لِمَا تَقَدَّمَ فِي الْأَيْمَانِ أَنَّ الْعُرْفَ يُقَدَّمُ عَلَى الْحَقِيقَةِ الْمَهْجُورَةِ.
(وَإِذَا اعْتَدَلَ عِنْدَهُ قَوْلَانِ مِنْ غَيْرِ تَرْجِيحٍ) أَيْ وَكَانَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ (فَقَالَ الْقَاضِي يُفْتِي بِأَيِّهِمَا شَاءَ) وَتَقَدَّمَ لَيْسَ لِمَنْ انْتَسَبَ لِمَذْهَبِ إمَامٍ أَنْ يَتَخَيَّرَ فِي مَسْأَلَةٍ ذَاتِ قَوْلَيْنِ.
(وَمَنْ أَرَادَ كِتَابَةً عَلَى فُتْيَا أَوْ) أَنْ يَكْتُبَ (شَهَادَةً لَمْ يَجُزْ أَنْ يُكَبِّرَ خَطَّهُ وَلَا أَنْ يُوَسِّعَ السُّطُورَ بِلَا إذْنٍ وَلَا حَاجَةٍ) لِأَنَّهُ غَيْرُ مَأْذُونٍ فِيهِ لَفْظًا وَلَا عُرْفًا.
(وَيُكْرَهُ أَنْ يَكُونَ السُّؤَالُ بِخَطِّهِ) أَيْ الْمُفْتِي وَ(لَا) يُكْرَهُ أَنْ يَكُونَ (بِإِمْلَائِهِ وَتَهْذِيبِهِ وَإِذَا كَانَ فِي رُقْعَةِ الِاسْتِفْتَاءِ مَسَائِلُ فَحَسَنٌ أَنْ يُرَتِّبَ الْجَوَابَ عَلَى تَرْتِيبِ الْأَسْئِلَةِ) لِيَحْصُلَ التَّنَاسُبُ (وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَكْتُبَ الْجَوَابَ عَلَى مَا يَعْلَمُهُ مِنْ صُورَةِ الْوَاقِعَةِ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي الرُّقْعَةِ تَعَرُّضٌ لَهُ، بَلْ يَذْكُرُ جَوَابَهُ فِي الرُّقْعَةِ) فَإِنْ أَرَادَ الْجَوَابَ عَلَى خِلَافِ مَا فِيهَا فَلْيَقُلْ، وَإِنْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَا فَجَوَابُهُ كَذَا قُلْتُ وَإِنْ أَمَرَ السَّائِلَ بِتَغْيِيرِ الرُّقْعَةِ فَهُوَ أَوْلَى.
(وَلَا يَجُوزُ إطْلَاقُهُ فِي الْفُتْيَا فِي اسْمٍ مُشْتَرَكٍ إجْمَاعًا) قَالَهُ ابْنُ عَقِيلٍ (بَلْ عَلَيْهِ التَّفْصِيلُ) فِي الْجَوَابِ (فَلَوْ سُئِلَ) الْمُفْتِي (هَلْ لَهُ الْأَكْلُ فِي رَمَضَانَ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَقُولَ يَجُوزُ بَعْدَ الْفَجْرِ الْأَوَّلِ لَا الثَّانِي وَأَرْسَلَ) الْإِمَامُ (أَبُو حَنِيفَةَ إلَى أَبِي يُوسُفَ يَسْأَلُهُ عَمَّنْ دَفَعَ ثَوْبًا إلَى قَصَّارٍ فَقَصَرَهُ وَجَحَدَهُ هَلْ لَهُ أُجْرَةٌ إنْ عَادَ وَسَلَّمَهُ إلَى رَبِّهِ؟ وَقَالَ) أَبُو حَنِيفَةَ (إنْ قَالَ:) أَبُو يُوسُفَ (نَعَمْ أَوْ لَا أَخْطَأَ فَفَطِنَ أَبُو يُوسُفَ وَقَالَ: إنْ قَصَّرَهُ قَبْلَ جُحُودِهِ فَلَهُ) الْأُجْرَةُ لِأَنَّهُ قَصَّرَهُ لِرَبِّهِ (وَبَعْدَهُ) أَيْ وَإِنْ قَصَّرَهُ بَعْدَ جُحُودِهِ (لَا) أُجْرَةَ لَهُ (لِأَنَّهُ قَصَّرَهُ لِنَفْسِهِ، وَسَأَلَ أَبُو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ) (قَوْمًا) مِنْ أَصْحَابِهِ (عَنْ بَيْعِ رَطْلِ تَمْرٍ بِرَطْلِ تَمْرٍ فَقَالُوا: يَجُوزُ، فَخَطَّأَهُمْ فَقَالُوا: لَا فَخَطَّأَهُمْ) فَخَجِلُوا (فَقَالَ: إنْ تَسَاوَيَا كَيْلًا جَازَ) فَهَذَا يُوَضِّحُ خَطَأَ الْمُطْلِقِ فِي كُلِّ مَا يَحْتَمِلُ التَّفْصِيل قَالَ ابْنُ مُفْلِحٍ عَنْ قَوْلِ ابْنِ عَقِيلٍ: الْمَذْكُورِ كَذَا قَالَ: وَيَتَوَجَّهُ عَمَلُ بَعْضِ أَصْحَابِنَا بِظَاهِرِهِ انْتَهَى قُلْتُ وَلَمْ يَزَلْ الْعُلَمَاءُ يُجِيبُونَ بِحَسْبِ مَا يَظْهَرُ لَهُمْ مِنْ الْمُتَبَادَرِ إلَى الْفَهْمِ وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ جِبْرِيلَ عَنْ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ وَالْإِحْسَانِ وَلَمْ يَسْتَفْصِلْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ السُّؤَالُ عَنْ حَقَائِقِهَا أَوْ شُرُوطِهَا أَوْ أَرْكَانِهَا وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ مُتَعَلِّقَاتِهَا.
(وَلَا يَجُوزُ) لِلْمُفْتِي (أَنْ يُلْقِيَ السَّائِلَ فِي الْحَيْرَةِ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ فِي مَسْأَلَةٍ فِي الْفَرَائِضِ: تُقْسَمُ عَلَى فَرَائِضِ اللَّهِ) تَعَالَى (أَوْ يَقُولَ فِيهَا) أَيْ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي سُئِلَ عَنْهَا (قَوْلَانِ وَنَحْوُهُ) مِمَّا لَا يُنَافِيهِ (بَلْ يُبَيِّنُ لَهُ بَيَانًا مُزِيلًا لِلْإِشْكَالِ) لِأَنَّ الْفُتْيَا تَبْيِينُ الْحُكْمِ كَمَا تَقَدَّمَ (لَكِنْ لَيْسَ عَلَيْهِ) أَيْ الْمُفْتِي (أَنْ يَذْكُرَ الْمَانِعَ فِي الْمِيرَاثِ مِنْ الْكُفْرِ وَغَيْرِهِ) كَالرِّقِّ وَاخْتِلَافِ الدِّينِ (وَكَذَلِكَ فِي بَقِيَّةِ الْعُقُودِ مِنْ الْإِجَارَةِ وَالنِّكَاحِ وَغَيْرِ ذَلِكَ) كَالْبَيْعِ وَالصُّلْحِ وَنَحْوِهِمَا (فَلَا يَجِبُ) عَلَى الْمُفْتِي (أَنْ يَذْكُرَ الْجُنُونَ وَالْإِكْرَاهَ وَنَحْوَ ذَلِكَ) مِنْ الصِّغَرِ وَعَدَمِ مَعْرِفَةِ الْمَبِيعِ وَنَحْوِهِ عَمَلًا بِالظَّاهِرِ، وَهُوَ الصِّحَّةُ.
(وَالْعَامِّيُّ يُخَيَّرُ فِي فَتْوَاهُ فَيَقُولُ) الْمُفْتِي: (مَذْهَبُ فُلَانٍ كَذَا) وَتَقَدَّمَ أَنَّ الْعَامِّيَّ يَتَخَيَّرُ وَإِنْ لَمْ يُخَيَّرْ وَإِنْ لَمْ يُخَيِّرْهُ الْمُفْتِي.
(وَيُقَلِّدُ الْعَامِّيُّ مَنْ عَرَفَهُ عَالِمًا عَدْلًا أَوْ رَآهُ مُنْتَصِبًا) لِلتَّدْرِيسِ وَالْإِفْتَاءِ (مُعَظَّمًا) لِأَنَّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى فَضْلِهِ (وَلَا يُقَلِّدُ مَنْ عَرَفَهُ جَاهِلًا عِنْدَ الْعُلَمَاءِ وَيَكْفِيهِ) أَيْ الْعَامِّيَّ (قَوْلُهُ عَدْلٌ خَبِيرٌ) بِمَا أَفْتَاهُ فِيهِ كَسَائِرِ الْأَخْبَارِ الدِّينِيَّةِ (قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ يَجِبُ سُؤَالُ أَهْلِ الْفِقْهِ وَالْخَيْرِ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
{فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (فَإِنْ جَهِلَ عَدَالَتَهُ لَمْ يَجُزْ تَقْلِيدُهُ) لِأَنَّهُ لَمْ يَتَحَقَّقْ شَرْطُ جَوَازِ التَّقْلِيدِ (وَيُقَلِّدُ) الْمُجْتَهِدُ الْعَدْلُ وَلَوْ (مَيِّتًا وَهُوَ كَالْإِجْمَاعِ فِي هَذِهِ الْأَعْصَارِ وَقَبْلِهَا) لِأَنَّ قَوْلَهُ بَاقٍ فِي الْإِجْمَاعِ كَالْحَاكِمِ، وَالشَّاهِدُ لَمْ يَبْطُلْ حُكْمُهُ وَلَا شَهَادَتُهُ بِمَوْتِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ: الْمَذَاهِبُ لَا تَمُوتُ بِمَوْتِ أَرْبَابِهَا قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ: وَلَيْسَ لَهُ أَيْ لِلْعَامِّيِّ التَّمَذْهُبُ بِمَذْهَبِ أَحَدِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْأَوَّلِينَ وَإِنْ كَانُوا أَعْلَمَ وَأَعْلَى دَرَجَةً مِمَّنْ بَعْدَهُمْ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَتَفَرَّغُوا لِتَدْوِينِ الْعِلْمِ وَضَبْطِ أُصُولِهِ وَفُرُوعِهِ فَلَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ مَذْهَبٌ مُحَرَّرٌ مُقَرَّرٌ.
(وَيَحْفَظُ الْمُسْتَفْتِي الْأَدَبَ مَعَ الْمُفْتِي وَيُجِلُّهُ) لِأَنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ (وَلَا يُومِئُ بِيَدِهِ فِي وَجْهِهِ وَلَا يَقُلْ: وَمَا مَذْهَبُ إمَامِكَ فِي كَذَا وَمَا تَحْفَظُ فِي كَذَا؟ أَوْ أَفْتَانِي غَيْرُكَ أَوْ) أَفْتَانِي (فُلَانٌ بِكَذَا أَوْ قُلْتُ أَنَا) كَذَا (أَوْ وَقَعَ لِي) كَذَا (أَوْ إنْ كَانَ جَوَابُكَ مُوَافِقًا فَاكْتُبْ) وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا يُنَافِي الْأَدَبَ.
(لَكِنْ إنْ عَلِمَ) الْمُفْتِي (غَرَضَ السَّائِلِ فِي شَيْءٍ لَمْ يَجُزْ) لَهُ (أَنْ يَكْتُبَ) فِي رُقْعَتِهِ (بِغَيْرِهِ) لِأَنَّهُ يُفْسِدُ عَلَيْهِ رُقْعَتَهُ وَيُحْوِجُهُ إلَى إبْدَالِهَا.
(وَيُكْرَهُ) لِلْمُسْتَفْتِي (أَنْ يَسْأَلَهُ) أَيْ الْمُفْتِيَ (فِي حَالِ ضَجِرٍ أَوْ هَمٍّ أَوْ) عِنْدَ (قِيَامِهِ أَوْ نَحْوِهِ) كَنُعَاسِهِ وَكُلِّ مَا يَشْغَلُ الْفِكْرِ (وَلَا يُطَالِبُهُ بِالْحُجَّةِ) أَيْ لَا يَطْلُبُ الْمُسْتَفْتِي مِنْ الْمُفْتِي الدَّلِيلَ عَلَى مَا قَالَهُ لِأَنَّ فِيهِ اتِّهَامًا لَهُ.
(وَيَجُوزُ تَقْلِيدُ الْمَفْضُولِ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ) مَعَ وُجُودِ أَفْضَل مِنْهُ لِأَنَّ الْمَفْضُولَ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالسَّلَفِ كَانَ يُفْتِي مَعَ الْفَاضِلِ مِنْهُمْ مَعَ الِاشْتِهَارِ وَالتَّكْرَارِ، وَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ أَحَدٌ فَكَانَ إجْمَاعًا.
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمْ اقْتَدَيْتُمْ اهْتَدَيْتُمْ» وَفِيهِمْ الْأَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهِ وَأَيْضًا الْعَامِّيُّ لَا يُمْكِنُهُ التَّرْجِيحُ لِقُصُورِهِ عَنْهُ.
فَائِدَةٌ:
لَا يَجُوزُ التَّقْلِيدُ فِي مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالتَّوْحِيدِ وَالرِّسَالَةِ، ذَكَرَهُ الْقَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ وَأَبُو الْخَطَّابِ وَذَكَرَهُ عَنْ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وَذَكَرَهُ غَيْرُهُ أَنَّهُ قَوْلُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ وَاسْتَدَلَّ لِذَلِكَ بِأَمْرِهِ تَعَالَى بِالتَّدَبُّرِ وَالتَّفَكُّرِ وَفِي صَحِيحِ ابْن حِبَّانَ: لَمَّا نَزَلَ قَوْله تَعَالَى {إنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لِآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} قَالَ «وَيْلٌ لِمَنْ قَرَأَهُنَّ وَلَمْ يَتَدَبَّرْهُنَّ، وَيْلٌ لَهُ وَيْلٌ لَهُ» وَالْإِجْمَاعُ عَلَى وُجُوبِ مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا تَحْصُلُ بِتَقْلِيدٍ لِجَوَازِ كَذِبِ الْمُخْبِرِ وَاسْتِحَالَةِ حُصُولهِ لِمَنْ قَلَّدَ فِي حُدُوثِ الْعَالَمِ، وَكَمَنْ قَلَّدَ فِي قِدَمِهِ، وَلِأَنَّ التَّقْلِيدَ لَوْ أَفَادَ عِلْمًا فَإِمَّا بِالضَّرُورَةِ وَهُوَ بَاطِلٌ، وَإِمَّا بِالنَّظَرِ فَيَسْتَلْزِمُ الدَّلِيلَ، وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ، وَالْعِلْمُ يَحْصُلُ بِالنَّظَرِ وَاحْتِمَالِ الْخَطَأَ لِعَدَمِ تَمَامِ مُرَاعَاةِ الْقَانُونِ الصَّحِيحِ وَلِأَنَّ اللَّه تَعَالَى ذَمَّ التَّقْلِيدَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {إنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} وَهِيَ فِيمَا يُطْلَبُ لِلْعِلْمِ فَلَا يَلْزَمُ فِي الْفُرُوعِ.
قَالَ فِي شَرْحِ الْمُنْتَهَى: (وَلُزُومُ التَّمَذْهُبِ بِمَذْهَبٍ، وَامْتِنَاعُ الِانْتِقَالِ إلَى غَيْرِهِ الْأَشْهَرُ عَدَمُهُ) قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: الْعَامِّيُّ عَلَيْهِ أَنْ يَلْتَزِمَ مَذْهَبًا مُعَيَّنًا يَأْخُذُ بِعَزَائِمِهِ وَرُخَصِهِ وَفِيهِ وَجْهَانِ لِأَصْحَابِ أَحْمَدَ وَهُمَا وَجْهَانِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَالْجُمْهُورُ مِنْ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ لَا يُحِبُّونَ ذَلِكَ وَاَلَّذِينَ يُوجِبُونَ يَقُولُونَ: إذَا الْتَزَمَهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَخْرُجَ عَنْهُ مَا دَامَ مُلْتَزِمًا لَهُ، أَوْ مَا لَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُ أَنَّ غَيْرَهُ أَوْلَى بِالِالْتِزَامِ مِنْهُ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْتِزَامَ الْمَذَاهِبِ وَالْخُرُوجَ عَنْهَا إنْ كَانَ لِغَيْرِ أَمْرٍ دِينِيٍّ مِثْلَ أَنْ يَلْتَمِسَ مَذْهَبًا لِحُصُولِ غَرَضٍ دُنْيَوِيٍّ مِنْ مَالٍ أَوْ جَاهٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَهَذَا مِمَّا لَا يُحْمَدُ عَلَيْهِ بَلْ يُذَمُّ عَلَيْهِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَلَوْ كَانَ مَا انْتَقَلَ إلَيْهِ خَيْرًا مِمَّا انْتَقَلَ عَنْهُ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ يُسْلِمُ وَلَا يُسْلِمُ إلَّا لِغَرَضٍ دُنْيَوِيٍّ أَوْ يُهَاجِرَ مِنْ مَكَّةَ إلَى الْمَدِينَةِ لِامْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا وَدُنْيَا يُصِيبُهَا.
وَأَمَّا إنْ كَانَ انْتِقَالُهُ مِنْ مَذْهَبٍ إلَى مَذْهَبٍ لِأَمْرٍ دِينِيٍّ فَهُوَ مُثَابٌ عَلَى ذَلِكَ، بَلْ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ إذَا تَبَيَّنَ لَهُ حُكْمُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فِي أَمْرٍ أَنْ لَا يَعْدِلَ عَنْهُ وَلَا يَتْبَعُ أَحَدًا فِي مُخَالَفَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَرَسُولِهِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَضَ طَاعَتَهُ وَطَاعَةَ رَسُولِهِ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ فِي كُلِّ حَالٍ انْتَهَى.
وَفِي الرِّعَايَةِ مَنْ الْتَزَمَ مَذْهَبًا أُنْكِرَ عَلَيْهِ مُخَالَفَتُهُ بِلَا دَلِيلٍ وَلَا تَقْلِيدٍ سَائِغٍ وَلَا عُذْرٍ، وَمُرَادُهُ بِقَوْلِهِ: بِلَا دَلِيلٍ إذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ وَقَوْلُهُ: وَلَا تَقْلِيدٍ سَائِغٍ أَيْ لِعَالِمٍ أَفْتَاهُ إذَا لَمْ يَكُنْ أَهْلًا لِلِاجْتِهَادِ.
وَقَوْلُهُ، وَلَا عُذْرٍ أَيْ يُبِيحُ لَهُ مَا فَعَلَهُ فَيُنْكَرُ عَلَيْهِ حِينَئِذٍ: لِأَنَّهُ يَكُونُ مُتَّبِعًا لِهَوَاهُ وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ:
يَلْزَمُ كُلُّ مُقَلِّدٍ أَنْ يَلْتَزِمَ بِمَذْهَبٍ مُعَيَّنٍ فِي الْأَشْهَرِ وَلَا يُقَلِّدُ غَيْرَهُ وَقِيلَ بَلَى، وَقِيلَ: ضَرُورَةٌ.
(وَلَا يَجُوزُ لَهُ) أَيْ لِلْمُفْتِي (وَلَا لِغَيْرِهِ تَتَبُّعُ الْحِيَلِ الْمُحَرَّمَةِ وَالْمَكْرُوهَةِ وَلَا تَتَبُّعُ الرُّخَصِ لِمَنْ أَرَادَ نَفْعَهُ فَإِنْ تَتَبَّعَ ذَلِكَ) أَيْ الْحِيَلَ الْمَكْرُوهَةَ وَالْمُحَرَّمَةَ وَالرُّخَصَ (فَسَقَ وَحَرُمَ اسْتِفْتَاؤُهُ وَإِنْ حَسُنَ قَصْدُهُ) أَيْ الْمُفْتِي (فِي حِيلَةٍ جَائِزَةٍ لَا شُبْهَةَ فِيهَا وَلَا مَفْسَدَةَ لِتَخَلُّصِ الْمُسْتَفْتِي بِهَا مِنْ حَرَجٍ جَازَ، كَمَا أَرْشَدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلَالًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إلَى بَيْعِ التَّمْرِ بِدَرَاهِمَ ثُمَّ يَشْتَرِي بِالدَّرَاهِمِ تَمْرًا آخَرَ فَيَتَخَلَّصُ مِنْ الرِّبَا) بِذَلِكَ، وَهَذَا إذَا كَانَ قَبَضَ الدَّرَاهِمَ فَاشْتَرَى فِي ذِمَّتِهِ بِدَرَاهِمَ مِنْ جِنْسِ الْأَوْلَى وَعَلَى صِفَتِهَا فَتَحِلُّ الْمُقَاصَّةُ وَيَتَخَلَّصُ مِنْ الرِّبَا وَأَمَّا إذَا اشْتَرَى بِعَيْنِ تِلْكَ الدَّرَاهِمِ قَبْلَ قَبْضِهَا مِمَّا يُشَارِكهُ فِي الْعِلَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْبَيْعِ.
(وَإِذَا اسْتَفْتَى وَاحِدًا أَخَذَ) الْمُسْتَفْتِي (بِقَوْلِهِ وَيَلْزَمُهُ) الْأَخْذُ بِقَوْلِهِ (بِالْتِزَامِهِ) قَالَ فِي شَرْحِ التَّحْرِيرِ: لَوْ أَفْتَى الْمُقَلِّدَ مُفْتٍ وَاحِدٌ وَعَمَل بِهِ الْمُقَلِّدُ لَزِمَهُ قَطْعًا وَلَيْسَ لَهُ الرُّجُوعُ عَنْهُ إلَى فَتْوَى غَيْرِهِ فِي تِلْكَ الْحَادِثَةِ بِعَيْنِهَا إجْمَاعًا نَقَلَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ وَالْهِنْدِيُّ وَغَيْرُهُمَا وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ فَالصَّحِيحُ مِنْ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ بِالْتِزَامِهِ قَالَ ابْنُ مُفْلِحٍ فِي أُصُولِهِ: هَذَا الْأَشْهَرُ.
(وَلَوْ سَأَلَ) الْعَامِّيُّ (مُفْتِيَيْنِ فَأَكْثَرَ فَاخْتَلَفَا عَلَيْهِ تَخَيَّرَ) صَحَّحَهُ فِي الْإِنْصَافِ، وَقَالَ الْمُوَفَّقُ فِي الرَّوْضَةِ: لَزِمَهُ الْأَخْذُ بِقَوْلِ الْأَفْضَلِ فِي عِلْمِهِ وَدِينِهِ.
وَقَالَ الطُّوفِيُّ فِي مُخْتَصَرِهَا: وَالظَّاهِرُ الْأَخْذُ بِقَوْلِ الْأَفْضَلِ فِي عِلْمِهِ وَدِينِهِ.
وَفِي إعْلَامِ الْمُوَقِّعِينَ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَحَرَّى وَيَبْحَثَ عَنْ الرَّاجِحِ بِحَسَبِهِ وَهُوَ أَرْجَحُ الْمَذَاهِبِ السَّبْعَةِ انْتَهَى وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ اخْتَارَهُ الْقَاضِي وَأَبُو الْخَطَّابِ قَالَ: وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ وَقَطَعَ بِهِ الْمَجْدُ فِي مَوْضِعٍ مِنْ الْمُسَوَّدَةِ وَقَدَّمَهُ صَاحِبُ الْفُرُوعِ فِي أُصُولِهِ (فَإِنْ لَمْ يَجِدْ إلَّا مُفْتِيًا وَاحِدًا لَزِمَهُ قَبُولُهُ) كَمَا لَوْ حَكَمَ عَلَيْهِ بِهِ، وَلَا يَتَوَقَّف ذَلِكَ عَلَى الْتِزَامِهِ وَلَا سُكُونِ نَفْسِهِ إلَى صِحَّتِهِ.
(وَلَهُ الْعَمَلُ بِخَطِّ الْمُفْتِي، وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْ الْفَتْوَى مِنْ لَفْظِهِ إذَا عُرِفَ أَنَّهُ خَطُّهُ) لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَكْتُبُ لِعُمَّالِهِ وَوُلَاتِهِ وَسُعَاتِهِ وَيَعْمَلُونَ بِذَلِكَ، وَلِدُعَاءِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ بِخِلَافِ الْحَاكِمِ قُلْتُ: وَمِنْ ذَلِكَ الْعَمَلُ بِكُتُبِ الْأَئِمَّةِ إذَا عُلِمَ أَنَّهَا خَطُّهُمْ أَوْ نَقَلَهَا الثِّقَةُ عَنْ خَطِّهِمْ.