فصل: فَصْلُ فِي دَفْنِ الْمَيِّتِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: كشاف القناع عن متن الإقناع



.فَصْلُ فِي دَفْنِ الْمَيِّتِ:

وَتَقَدَّمَ أَنَّهُ فَرْضُ كِفَايَةٍ وَقَدْ أَرْشَدَ اللَّهُ قَابِيلَ إلَى دَفْنِ أَخِيهِ هَابِيلَ وَأَبَانَ ذَلِكَ بِبَعْثِ غُرَابٍ {يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ} وَقَالَ تَعَالَى: {أَلَمْ نَجْعَلْ الْأَرْضَ كِفَاتًا أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا} أَيْ: جَامِعَةً لِلْأَحْيَاءِ فِي ظَهْرِهَا بِالْمَسَاكِنِ، وَالْأَمْوَاتِ فِي بَطْنِهَا بِالْقُبُورِ، وَالْكَفْتُ الْجَمْعُ وَقَالَ تَعَالَى {ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ مَعْنَاهُ أَكْرَمَهُ بِدَفْنِهِ (وَيُسَنُّ أَنْ يُدْخَلَ قَبْرَهُ مِنْ عِنْدَ رِجْلَيْهِ) أَيْ: رِجْلَيْ الْقَبْرِ (إنْ كَانَ أَسْهَلَ عَلَيْهِمْ) «لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُلَّ مِنْ قِبَلِ رَأْسِهِ سَلًّا وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ أَدْخَلَ الْحَارِثَ قَبْرَهُ مِنْ قِبَلِ رِجْلِ الْقَبْرِ وَقَالَ هَذَا مِنْ السُّنَّةِ» رَوَاه أَحْمَدُ وَلِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَوْضِعِ تَوَجُّهٍ، بَلْ دُخُولٍ فَدُخُولُ الرَّأْسِ أَوْلَى كَعَادَةِ الْحَيِّ، لِكَوْنِهِ مَجْمَعُ الْأَعْضَاءِ الشَّرِيفَةِ.
(وَإِلَّا) أَيْ: وَإِنْ لَمْ يَكُنْ إدْخَالُهُ الْقَبْرَ مِنْ عِنْدَ رِجْلَيْهِ أَسْهَلَ أُدْخِلَ (مِنْ حَيْثُ يَسْهُلُ) دَفْعًا لِلضُّرِّ وَالْمَشَقَّةِ (ثُمَّ) إنْ سَهُلَ كُلٌّ مِنْ الْأَمْرَيْنِ فَهُمَا (سَوَاءٌ) مِنْ غَيْرِ تَرْجِيحٍ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ.
(وَلَا تَوْقِيتَ فِي عَدَدِ مَنْ يُدْخِلُهُ) الْقَبْرَ (مِنْ شَفْعٍ أَوْ وَتْرٍ، بَلْ) يَكُونُ ذَلِكَ (بِحَسَبِ الْحَاجَةِ) كَسَائِرِ أُمُورِهِ (وَيُكْرَهُ أَنْ يُسَجَّى قَبْرُ رَجُلٍ) لِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ مَرَّ بِقَوْمٍ وَقَدْ دَفَنُوا مَيِّتًا وَبَسَطُوا عَلَى قَبْرِهِ الثَّوْبَ فَجَذَبَهُ وَقَالَ: إنَّمَا يُصْنَعُ هَذَا بِالنِّسَاءِ وَلِأَنَّ كَشْفَهُ أَبْعَدُ مِنْ التَّشَبُّهِ بِالنِّسَاءِ، مَعَ مَا فِيهِ مِنْ اتِّبَاعِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إلَّا لِعُذْرِ مَطَرٍ أَوْ غَيْرِهِ) فَلَا يُكْرَهُ إذَنْ (وَيُسَنُّ) أَنْ يُسَجَّى (لِامْرَأَةٍ) لِأَنَّهَا عَوْرَةٌ وَلِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ أَنْ يَبْدُوَ مِنْهَا شَيْءٌ فَيَرَاهُ الْحَاضِرُونَ وَبِنَاءُ أَمْرِهَا عَلَى السَّتْرِ وَالْخُنْثَى كَالْأُنْثَى فِي ذَلِكَ احْتِيَاطًا.

.حكم من مات في سفينة:

(وَ مَنْ مَاتَ فِي سَفِينَةٍ وَتَعَذَّرَ خُرُوجُهُ إلَى الْبَرِّ) لِبُعْدِهِمْ عَنْ السَّاحِلِ مَثَلًا (ثُقِّلَ بِشَيْءٍ، بَعْدَ غُسْلِهِ وَتَكْفِينِهِ وَالصَّلَاةِ عَلَيْهِ) لِيَسْتَقِرَّ فِي قَرَارِ الْبَحْرِ نَصَّ عَلَيْهِ (وَأُلْقِي فِي الْبَحْرِ سَلًّا كَإِدْخَالِهِ الْقَبْرَ وَإِنْ مَاتَ فِي بِئْرٍ أُخْرِجَ) وُجُوبًا لِيُغَسَّلَ وَيُكَفَّنَ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ وَيُدْفَنَ وَإِنْ أَمْكَنَ مُعَالَجَةُ الْبِئْرِ بِالْأَكْسِيَةِ الْمَبْلُولَةِ تُدَارُ فِيهَا، حَتَّى تَجْتَذِبَ الْبُخَارَ، ثُمَّ يَنْزِلُ مَنْ يُطْلِعُهُ، أَوْ أَمْكَنَ إخْرَاجُهُ بِكَلَالِيبَ وَنَحْوِهَا مِنْ غَيْرِ مُثْلَةٍ وَجَبَ ذَلِكَ لِتَأْدِيَةِ فَرْضِ غُسْلِهِ وَيَمْتَحِنُ زَوَالَ الْبُخَارِ إذَا شَكَّ فِيهِ بِسِرَاجٍ وَنَحْوِهِ فَإِنْ انْطَفَأَ فَهُوَ بَاقٍ وَإِلَّا فَقَدْ زَالَ لِأَنَّ الْعَادَةَ أَنَّ النَّارَ لَا تَبْقَى إلَّا فِيمَا يَعِيشُ فِيهِ الْحَيَوَانُ (فَإِنْ تَعَذَّرَ) إخْرَاجُهُ بِالْكُلِّيَّةِ أَوْ لَمْ يُمْكِنْ إلَّا مُتَقَطِّعًا وَنَحْوَهُ (طُمَّتْ) الْبِئْرُ (عَلَيْهِ) لَتَصِيرَ قَبْرًا لَهُ لِأَنَّهُ لَا ضَرُورَةَ إلَى إخْرَاجِهِ مُتَقَطِّعًا وَهَذَا حَيْثُ لَا حَاجَةَ إلَى الْبِئْرِ (وَمَعَ الْحَاجَةِ إلَيْهَا يُخْرَجُ مُطْلَقًا) أَيْ: وَلَوْ مُتَقَطِّعًا لِأَنَّ مُثْلَةَ الْمَيِّتِ أَخَفُّ ضَرَرًا مِمَّا يَحْصُلُ بِطَمِّ الْبِئْرِ وَتَعْطِيلِهَا.
(وَأَوْلَى النَّاسِ بِتَكْفِينِ) مَيِّتٍ مُطْلَقًا (وَدَفْنِ) رَجُلٍ (أَوْلَاهُمْ بِغُسْلِ) الْمَيِّتِ وَذَكَرَ الْمَجْدُ وَابْنُ تَمِيمٍ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَتَوَلَّى دَفْنَ الْمَيِّتِ غَاسِلُهُ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَحَدَهُ الْعَبَّاسُ وَعَلِيٌّ وَأُسَامَةُ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَكَانُوا هُمْ الَّذِينَ تَوَلَّوْا غُسْلَهُ وَلِأَنَّ الْمُقَدَّمَ بِغُسْلِهِ أَقْرَبُ إلَى سَتْرِ أَحْوَالِهِ، وَقِلَّةِ الِاطِّلَاعِ عَلَيْهِ.
(وَالْأَوْلَى: لِلْأَحَقِّ أَنْ يَتَوَلَّاهُ بِنَفْسِهِ) لِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي سَتْرِهِ، وَقِلَّةِ الِاطِّلَاعِ عَلَيْهِ (ثُمَّ بِنَائِبِهِ) لِقِيَامِهِ، مُقَامَهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ وَصِيًّا عَلَى قِيَاسِ مَا تَقَدَّمَ فِي الصَّلَاةِ عَلَيْهِ (ثُمَّ) الْأَوْلَى (مِنْ بَعْدِهِمْ) أَيْ: بَعْدَ الْمَذْكُورِينَ فِي تَغْسِيلِ الرَّجُلِ الْأَوْلَى (بِدَفْنِ رَجُلٍ: الرِّجَالُ الْأَجَانِبُ) فَيُقَدَّمُونَ عَلَى أَقَارِبِهِ مِنْ النِّسَاءِ لِأَنَّهُنَّ يَضْعُفْنَ عَنْ إدْخَالِهِ الْقَبْرَ وَلِأَنَّ الْجِنَازَةَ يَحْضُرُهَا جُمُوعُ الرِّجَالِ غَالِبًا.
وَفِي نُزُولِ النِّسَاءِ الْقَبْرَ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ تَعْرِيضٌ لَهُنَّ بِالْهَتْكِ وَالْكَشْفِ بِحَضْرَةِ الرِّجَالِ (ثُمَّ) الْأَوْلَى (مَحَارِمُهُ مِنْ النِّسَاءِ ثُمَّ الْأَجْنَبِيَّاتُ) لِلْحَاجَةِ إلَى دَفْنِهِ، وَعَدَمِ غَيْرِهِنَّ.
(وَ) الْأَوْلَى (بِدَفْنِ امْرَأَةٍ: مَحَارِمُهَا الرِّجَالُ) الْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ لِأَنَّ امْرَأَةَ عُمَرَ لَمَّا تُوُفِّيَتْ قَالَ لِأَهْلِهَا «أَنْتُمْ أَحَقُّ بِهَا» وَلِأَنَّهُمْ أَوْلَى النَّاسِ بِوِلَايَتِهَا حَالَ الْحَيَاةِ، فَكَذَا بَعْدَ الْمَوْتِ (ثُمَّ) إنْ عَدِمُوا فَالْأَوْلَى (زَوْجُهَا) لِأَنَّهُ أَشْبَهُ بِمَحْرَمِهَا مِنْ النَّسَبِ مِنْ الْأَجَانِبِ (ثُمَّ الرِّجَالُ الْأَجَانِبُ) لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ مَاتَتْ ابْنَتُهُ أَمَرَ أَبَا طَلْحَةَ فَنَزَلَ فِي قَبْرِهَا وَهُوَ أَجْنَبِيٌّ وَمَعْلُومٌ: أَنَّ مَحَارِمَهَا كُنَّ هُنَاكَ كَأُخْتِهَا فَاطِمَةَ وَلِأَنَّ تَوَلِّي النِّسَاءِ لِذَلِكَ لَوْ كَانَ مَشْرُوعًا لَفُعِلَ فِي عَصْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَصْرِ خُلَفَائِهِ وَلَمْ يُنْقَلْ (ثُمَّ مَحَارِمُهَا النِّسَاءُ) الْقُرْبَى فَالْقُرْبَى مِنْهُنَّ كَالرِّجَالِ.
(وَيُقَدَّمُ مِنْ الرِّجَالِ) بِدَفْنِ امْرَأَةٍ (خَصِيٌّ، ثُمَّ شَيْخٌ، ثُمَّ أَفْضَلُ دِينًا وَمَعْرِفَةً، وَمَنْ بَعُدَ عَهْدُهُ بِجِمَاعٍ: أَوْلَى مِمَّنْ قَرُبَ) عَهْدُهُ بِهِ قُلْتُ: وَالْخُنْثَى كَامْرَأَةٍ فِي ذَلِكَ، احْتِيَاطًا (وَلَا يُكْرَهُ لِلرِّجَالِ) الْأَجَانِبِ (دَفْنُ امْرَأَةٍ؛ وَثَمَّ مَحْرَمٌ) لَهَا نَصَّ عَلَيْهِ، لِمَا تَقَدَّمَ فِي قِصَّةِ أَبِي طَلْحَةَ قَالَ فِي الْفُرُوعِ: وَيَتَوَجَّهُ احْتِمَالٌ بِحَمْلِهَا مِنْ الْمُغْتَسَلِ إلَى النَّعْشِ وَيُسَلِّمُهَا إلَى مَنْ فِي الْقَبْرِ، وَيَحُلُّ عُقَدَ الْكَفَنِ وَقَالَهُ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ وَبَعْضُ أَصْحَابِهِ.
(وَاللَّحْدُ) بِفَتْحِ اللَّامِ مَثَلًا وَالضَّمُّ لُغَةً (أَفْضَلُ) مِنْ الشَّقِّ؛ لِمَا رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَنَّهُ قَالَ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ «أَلْحِدُوا لِي لَحْدًا وَانْصِبُوا عَلَيَّ اللَّبِنَ نَصْبًا كَمَا فُعِلَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» (وَهُوَ) أَيْ: اللَّحْدُ فِي الْأَصْلِ: الْمَيْلُ وَالْمُرَادُ هُنَا (أَنْ يَحْفِرَ فِي أَرْضِ الْقَبْرِ) أَيْ: فِي أَسْفَلِ حَائِطِ الْقَبْرِ (مَا يَلِي الْقِبْلَةَ مَكَانًا يُوضَعُ فِيهِ الْمَيِّتُ) وَلَا يُعَمِّقَ تَعْمِيقًا يَنْزِلُ فِيهِ جَسَدُ الْمَيِّتِ كَثِيرًا، بَلْ بِقَدْرِ مَا يَكُونُ الْجَسَدُ غَيْرَ مُلَاصِقٍ لِلَّبِنِ (وَيُكْرَهُ الشَّقُّ) قَالَ أَحْمَدُ: لَا أُحِبُّ الشَّقَّ لِقَوْلِهِ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «اللَّحْدُ لَنَا وَالشَّقُّ لِغَيْرِنَا» رَوَاه أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُمَا لَكِنَّهُ ضَعِيفٌ.
(وَهُوَ أَنْ يَبْنِيَ جَانِبَا الْقَبْرِ بِلَبِنٍ أَوْ غَيْرِهِ) وَيُسَمُّونَهُ بِبِلَادِ مِصْرَ مَنَامَةً (أَوْ يَشُقَّ) أَيْ: يَحْفِرَ (وَسَطَهُ) أَيْ: الْقَبْرِ (فَيَصِيرُ) وَسَطُهُ (كَالْحَوْضِ، ثُمَّ يُوضَعُ الْمَيِّتُ فِيهِ) أَيْ: فِي شِبْهِ الْحَوْضِ.
(وَيُسْقَفُ عَلَيْهِ بِبَلَاطٍ أَوْ غَيْرِهِ) كَأَحْجَارٍ كَبِيرَةٍ (فَإِنْ كَانَتْ الْأَرْضُ رِخْوَةً لَا يَثْبُتُ فِيهَا اللَّحْدُ، شَقَّ فِيهَا لِلْحَاجَةِ).
وَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ يَجْعَلَ فِيهَا اللَّحْدَ مِنْ الْجَنَادِلِ وَاللَّبِنِ وَالْحِجَارَةِ جَعَلْ نَصَّ عَلَيْهِ وَلَمْ يَعْدِلْ إلَى الشَّقِّ لِمَا تَقَدَّمَ (وَيُسَنُّ تَعْمِيقُهُ) أَيْ: الْقَبْرِ بِلَا حَدٍّ (وَتَوْسِيعُهُ بِلَا حَدٍّ) لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَتْلَى أُحُدٍ: «احْفِرُوا وَأَوْسِعُوا وَأَعْمِقُوا» قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَلِأَنَّ تَعْمِيقَ الْقَبْرِ أَنْفَى لِظُهُورِ الرَّائِحَةِ الَّتِي تَسْتَضِرُّ بِهَا الْأَحْيَاءُ، وَأَبْعَدُ لِقُدْرَةِ الْوَحْشِ عَلَى نَبْشِهِ وَآكَدُ لِسَتْرِ الْمَيِّتِ وَالتَّوْسِيعُ: الزِّيَادَةُ فِي الطُّولِ وَالْعَرْضِ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِحَفَّارٍ «أَوْسِعْ مِنْ قِبَلِ الرَّأْسِ، وَمِنْ قِبَلِ الرِّجْلَيْنِ» وَالتَّعْمِيقُ بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ- الزِّيَادَةُ فِي النُّزُولِ.
(وَقَالَ الْأَكْثَرُ: قَامَةُ وَسَطٍ وَبَسْطَةٌ، وَهِيَ بَسْطُ يَدِهِ قَائِمَةً وَيَكْفِي مَا) أَيْ: التَّعْمِيقَ (يَمْنَعُ الرَّائِحَةَ وَالسِّبَاعَ) لِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِيهِ تَقْدِيرٌ، فَيُرْجَعَ فِيهِ إلَى مَا يُحَصِّلُ الْمَقْصُودَ.
(وَ) يُسَنُّ أَنْ (يَنْصِبَ عَلَيْهِ) أَيْ: عَلَى الْمَيِّتِ بَعْدَ وَضْعِهِ فِي اللَّحْدِ (اللَّبِنَ نَصْبًا) لِمَا تَقَدَّمَ عَنْ سَعْدِ بْنِ وَقَّاصٍ (وَهُوَ) أَيْ: اللَّبِنُ (أَفْضَلُ مِنْ الْقَصَبِ) لِأَنَّهُ مِنْ جِنْسِ الْأَرْضِ، وَأَبْعَدُ مِنْ أَبْنِيَةِ الدُّنْيَا بِخِلَافِ الْقَصَبِ وَاللَّبِنُ وَاحِدَتُهُ لَبِنَةٌ مَا ضُرِبَ مِنْ الطِّينِ مُرَبَّعًا لِلْبِنَاءِ قَبْلَ أَنْ يُشْوَى بِالنَّارِ فَإِذَا شُوِيَ بِهَا سُمِّيَ آجُرًّا.
(وَيَجُوزُ) تَغْطِيَةُ اللَّحْدِ (بِبَلَاطٍ) لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى اللَّبِنِ فِيمَا سَبَقَ (وَيَسُدُّ مَا بَيْنَ اللَّبِنِ أَوْ غَيْرِهِ) مِنْ الْفُرَجِ (بِطِينٍ لِئَلَّا يَنْهَارَ عَلَيْهِ التُّرَابُ) وَلَيْسَ هَذَا بِشَيْءٍ، وَلَكِنْ يُطَيِّبُ نَفْسَ الْحَيِّ رَوَاهُ أَحْمَدُ عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوعًا.
(وَيُكْرَهُ دَفْنُهُ) أَيْ: الْمَيِّتُ (فِي تَابُوتٍ وَلَوْ امْرَأَةً) لِقَوْلِ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ: كَانُوا يَسْتَحِبُّونَ اللَّبِنَ وَيَكْرَهُونَ الْخَشَبَ، وَلَا يَسْتَحِبُّونَ الدَّفْنَ فِي تَابُوتٍ لِأَنَّهُ خَشَبٌ وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا عَنْ أَصْحَابِهِ.
وَفِيهِ تَشَبُّهٌ بِأَهْلِ الدُّنْيَا وَالْأَرْضُ أَنْشَفُ لِفَضَلَاتِهِ وَلِهَذَا زَادَ بَعْضُهُمْ: أَوْ فِي حَجَرٍ مَنْقُوشٍ (وَيُكْرَهُ إدْخَالُهُ) أَيْ: الْقَبْرِ (خَشَبًا إلَّا لِضَرُورَةٍ وَ) يُكْرَهُ إدْخَالُهُ (مَا مَسَّتْهُ نَارٌ) تَفَاؤُلًا، وَحَدِيدٌ، وَلَوْ أَنَّ الْأَرْضَ رِخْوَةٌ أَوْ نَدِيَّةٌ (وَيُسْتَحَبُّ قَوْلُ مَنْ يُدْخِلُهُ) الْقَبْرَ (عِنْدَ وَضْعِهِ) فِيهِ (بِسْمِ اللَّهِ وَعَلَى مِلَّةِ رَسُولِ اللَّهِ) لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إذَا وَضَعْتُمْ مَوْتَاكُمْ فِي الْقُبُورِ، فَقُولُوا: بِسْمِ اللَّهِ وَعَلَى مِلَّةِ رَسُولِ اللَّهِ» رَوَاه أَحْمَدُ.
وَفِي لَفْظٍ «كَانَ إذَا وَضَعَ الْمَيِّتَ فِي الْقَبْرِ قَالَ: بِسْمِ اللَّهِ وَعَلَى مِلَّةِ رَسُولِ اللَّهِ» رَوَاه الْخَمْسَةُ إلَّا النَّسَائِيَّ (وَإِنْ أَتَى عِنْدَ وَضْعِهِ وَلَحْدِهِ بِذِكْرٍ أَوْ دُعَاءٍ يَلِيقُ) بِالْحَالِ (فَلَا بَأْسَ) بِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ: حَضَرْتُ ابْنَ عُمَرَ فِي جِنَازَةٍ فَلَمَّا وَضَعَهَا فِي اللَّحْدِ قَالَ: «اللَّهُمَّ أَجِرْهَا مِنْ الشَّيْطَانِ وَمِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، اللَّهُمَّ جَافِ الْأَرْضَ عَنْ جَنْبَيْهَا، وَصَعِّدْ رُوحَهَا، وَلَقِّهَا مِنْكَ رِضْوَانًا وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: سَمِعْتُهُ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» رَوَاه ابْنُ مَاجَهْ وَعَنْ بِلَالٍ أَنَّهُ دَخَلَ مَعَ أَبِي بَكْرٍ فِي قَبْرٍ، فَلَمَّا خَرَجَ قِيلَ لِبِلَالٍ: مَا قَالَ؟ قَالَ: قَالَ: أَسْلَمَهُ إلَيْكَ الْأَهْلُ وَالْمَالُ وَالْعَشِيرَةُ وَالذَّنْبُ الْعَظِيمُ، وَأَنْتَ غَفُورٌ رَحِيمٌ فَاغْفِرْ لَهُ رَوَاهُ سَعِيدٌ.
(وَيُسْتَحَبُّ الدُّعَاءُ لَهُ) أَيْ: لِلْمَيِّتِ (عِنْدَ الْقَبْرِ بَعْدَ دَفْنِهِ وَاقِفًا) نَصَّ عَلَيْهِ وَقَالَ: قَدْ فَعَلَهُ عَلِيٌّ وَالْأَحْنَفُ بْنُ قَيْسٍ لِحَدِيثِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا فَرَغَ مِنْ دَفْنِ الْمَيِّتِ وَقَفَ عَلَيْهِ وَقَالَ: اسْتَغْفِرُوا لِأَخِيكُمْ وَسَلُوا لَهُ التَّثْبِيتَ فَإِنَّهُ الْآنَ يُسْأَلُ» رَوَاه أَبُو دَاوُد وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «كَانَ يَقِفُ عَلَى الْقَبْرِ بَعْدَ مَا يُسَوِّي عَلَيْهِ، فَيَقُولُ: اللَّهُمَّ نَزَلَ بِكَ صَاحِبُنَا وَخَلَّفَ الدُّنْيَا خَلْفَ ظَهْرِهِ، اللَّهُمَّ ثَبِّتْ عِنْدَ الْمَسْأَلَةِ مَنْطِقَهُ، وَلَا تَبْتَلِهِ فِي قَبْرِهِ بِمَا لَا طَاقَةَ لَهُ بِهِ» رَوَاه سَعِيدٌ فِي سُنَنِهِ وَالْأَخْبَارُ بِنَحْوِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ وَقَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ فِي قَوْله تَعَالَى فِي الْمُنَافِقِينَ: {وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} مَعْنَاهُ: بِالدُّعَاءِ لَهُ وَالِاسْتِغْفَارِ، بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ دَفْنِهِ فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَانَ عَادَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمُسْلِمِينَ وَنَقَلَ مُحَمَّدُ بْنُ حَبِيبٍ النَّجَّارُ قَالَ كُنْتُ مَعَ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ فِي جِنَازَةٍ فَأَخَذَ بِيَدِي فَقُمْنَا نَاحِيَةً فَلَمَّا فَرَغَ النَّاسُ مِنْ دَفْنِهِ وَانْقَضَى الدَّفْنُ، جَاءَ إلَى الْقَبْرِ، وَأَخَذَ بِيَدِي وَجَلَسَ وَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى الْقَبْرِ وَقَالَ: اللَّهُمَّ إنَّكَ قُلْتَ فِي كِتَابِكَ {فَأَمَّا إنْ كَانَ مِنْ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ} وَقَرَأَ إلَى آخِرِ السُّورَةِ، ثُمَّ قَالَ: «اللَّهُمَّ وَإِنَّا نَشْهَدُ أَنَّ هَذَا فُلَانَ بْنَ فُلَانٍ مَا كَذَّبَ بِكَ وَلَقَدْ كَانَ يُؤْمِنُ بِكَ وَبِرَسُولِكَ فَاقْبَلْ شَهَادَتَنَا لَهُ وَدَعَا لَهُ وَانْصَرَفَ».
(وَاسْتَحَبَّ الْأَكْثَرُ تَلْقِينَهُ بَعْدَ دَفْنِهِ، فَيَقُومُ الْمُلَقِّنُ عِنْدَ رَأْسِهِ بَعْدَ تَسْوِيَةِ التُّرَابِ عَلَيْهِ فَيَقُولُ: يَا فُلَانُ ابْنَ فُلَانَةَ ثَلَاثًا فَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ اسْمَ أُمِّهِ نَسَبَهُ إلَى حَوَّاءَ ثُمَّ يَقُولُ: اُذْكُرْ مَا خَرَجَتْ عَلَيْهِ مِنْ الدُّنْيَا شَهَادَةَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ وَأَنَّكَ رَضِيتَ بِاَللَّهِ رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا وَبِالْقُرْآنِ إمَامًا وَبِالْكَعْبَةِ قِبْلَةً وَبِالْمُؤْمِنِينَ إخْوَانًا وَأَنَّ الْجَنَّةَ حَقٌّ، وَأَنَّ النَّارَ حَقٌّ، وَأَنَّ الْبَعْثَ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا، وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ) لِحَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إذَا مَاتَ أَحَدُكُمْ فَسَوَّيْتُمْ عَلَيْهِ التُّرَابَ فَلْيَقُمْ عَلَى رَأْسِ قَبْرِهِ ثُمَّ لْيَقُلْ يَا فُلَانُ ابْنَ فُلَانَةَ فَإِنَّهُ يَسْمَعُ وَلَا يُجِيبُ ثُمَّ لْيَقُلْ يَا فُلَانُ ابْنَ فُلَانَةَ ثَانِيَةً فَإِنَّهُ يَسْتَوِي قَاعِدًا، ثُمَّ لِيَقُلْ يَا فُلَانُ ابْنَ فُلَانَةَ ثَالِثًا فَإِنَّهُ يَقُول: أَرْشِدْنَا يَرْحَمْكَ اللَّهُ وَلَكِنْ لَا تَسْمَعُونَ فَيَقُولُ: اُذْكُرْ مَا خَرَجْتَ عَلَيْهِ مِنْ الدُّنْيَا شَهَادَةَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ وَأَنَّكَ رَضِيتَ بِاَللَّهِ رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا وَبِالْقُرْآنِ إمَامًا فَإِنَّ مُنْكَرًا وَنَكِيرًا يَقُولَانِ: مَا يُقْعِدُنَا عِنْدَهُ وَقَدْ لُقِّنَ حُجَّتَهُ؟ فَقَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ: فَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ اسْمَ أُمِّهِ قَالَ: فَلْيَنْسُبْهُ إلَى حَوَّاءَ» قَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: هَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ فِي الشَّافِي وَقَالَ فِي الْفُرُوعِ رَوَاهُ أَبُو بَكْرٍ فِي الشَّافِي وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ شَاهِينَ وَغَيْرُهُمْ وَهُوَ ضَعِيفٌ وَلِلطَّبَرَانِيِّ أَوْ لِغَيْرِهِ فِيهِ «وَأَنَّ الْجَنَّةَ حَقٌّ وَأَنَّ النَّارَ حَقٌّ، وَأَنَّ الْبَعْثَ حَقٌّ: وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا، وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ» وَفِيهِ «وَأَنَّكَ رَضِيتَ بِاَللَّهِ رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا وَبِالْكَعْبَةِ قِبْلَةً، وَبِالْمُؤْمِنِينَ إخْوَانًا» وَقَالَ الْأَثْرَمُ قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: هَذَا الَّذِي يَصْنَعُونَ إذَا دُفِنَ الْمَيِّتُ يَقْفُ الرَّجُلُ، وَيَقُولُ يَا فُلَانُ بْنَ فُلَانَةَ اُذْكُرْ مَا فَارَقْتَ عَلَيْهِ الدُّنْيَا شَهَادَةَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ فَقَالَ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا نَقَلَ هَذَا إلَّا أَهْلَ الشَّامِ، حِينَ مَاتَ أَبُو الْمُغِيرَةِ جَاءَ إنْسَانٌ فَقَالَ ذَاكَ وَكَانَ أَبُو الْمُغِيرَةِ يَرْوِي فِيهِ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ عَنْ أَشْيَاخِهِمْ، أَنَّهُمْ كَانُوا يَفْعَلُونَهُ.
(قَالَ أَبُو الْمَعَالِي: لَوْ انْصَرَفُوا قَبْلَهُ لَمْ يَعُودُوا) لِأَنَّ الْخَبَرَ يُلَقِّنُونَهُ قَبْلَ انْصِرَافِهِمْ لِيَتَذَكَّرَ حُجَّتَهُ.
(وَهَلْ يُلَقَّنُ غَيْرُ الْمُكَلَّفِ؟) وَجْهَانِ وَهَذَا الْخِلَافُ (مَبْنِيٌّ عَلَى نُزُولِ الْمَلَكَيْنِ إلَيْهِ) النَّفْيُ قَوْلُ الْقَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ وِفَاقًا لِلشَّافِعِيِّ وَالْإِثْبَاتُ قَوْلُ أَبِي حَكِيمٍ وَغَيْرِهِ وَحَكَاهُ ابْنُ عَبْدُوسٍ عَنْ الْأَصْحَابِ (الْمُرَجَّحُ النُّزُولُ) فَيَكُونُ الْمُرَجَّحُ تَلْقِينُهُ (وَصَحَّحَهُ الشَّيْخُ) وَاحْتَجَّ بِمَا رَوَاهُ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَرُوِيَ مَرْفُوعًا أَنَّهُ «صَلَّى عَلَى طِفْلٍ لَمْ يَعْمَلْ خَطِيئَةً قَطُّ فَقَالَ: اللَّهُمَّ قِه عَذَابَ الْقَبْرِ وَفِتْنَةَ الْقَبْرِ» قَالَ فِي الْفُرُوعِ: وَلَا حُجَّةَ فِيهِ، لِلْجَزْمِ بِنَفْيِ التَّعْذِيبِ فَقَدْ يَكُونُ أَبُو هُرَيْرَةَ يَرَى الْوَقْفَ فِيهِمْ ا هـ وَكَذَلِكَ أَجَابَ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي كِتَابِ الرُّوحِ بِأَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ بِعَذَابِ الْقَبْرِ فِيهِ عُقُوبَةَ الطِّفْلِ قَطْعًا لِأَنَّ اللَّهَ لَا يُعَذِّبُ أَحَدًا بِلَا ذَنْبٍ عَمِلَهُ بَلْ الْمُرَادُ الْأَلَمُ الَّذِي يَحْصُلُ لِلْمَيِّتِ بِسَبَبٍ غَيْرِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عُقُوبَةً عَلَى عَمَلِهِ وَقَالَ الْآخَرُونَ: أَيْ: الْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ لَا يُسْأَلُ.
السُّؤَالُ إنَّمَا يَكُونُ لِمَنْ يَعْقِلُ الرَّسُولَ وَالْمُرْسَلَ فَيَسْأَلُ هَلْ آمَنَ بِالرَّسُولِ وَأَطَاعَهُ أَمْ لَا؟ فَأَمَّا الطِّفْلُ الَّذِي لَا تَمْيِيزَ لَهُ بِوَجْهٍ فَيُقَالُ لَهُ: مَا كُنْتَ تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي بُعِثَ فِيكُمْ وَلَوْ رُدَّ إلَيْهِ عَقْلُهُ فِي الْقَبْرِ، فَإِنَّهُ لَا يُسْأَلُ عَمَّا لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ مَعْرِفَتِهِ وَالْعَلَمِ بِهِ فَلَا فَائِدَةَ فِي هَذَا السُّؤَالِ.
(قَالَ ابْنُ عَبْدُوسٍ: يُسْأَلُ الْأَطْفَالُ عَنْ الْإِقْرَارِ الْأَوَّلِ، حِينَ الذُّرِّيَّةِ) يُشِيرُ بِهِ إلَى قَوْله تَعَالَى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} قَالَ بَعْضُهُمْ وَهُوَ سُؤَالُ تَكْرِيمٍ، وَسُؤَالُ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- إنْ ثَبَتَ- فَهُوَ سُؤَالُ تَشْرِيفٍ وَتَعْظِيمٍ كَمَا أَنَّ التَّكَالِيفَ فِي دَارِ الدُّنْيَا لِبَعْضٍ تَكْرِيمٌ وَلِبَعْضٍ امْتِحَانٌ وَنَكَالٌ (وَالْكِبَارُ يُسْأَلُونَ عَنْ مُعْتَقَدِهِمْ فِي الدُّنْيَا) وَعَنْ (إقْرَارِهِمْ الْأَوَّلِ) حِينَ الذُّرِّيَّةِ.
(وَيُسَنُّ وَضْعُهُ فِي لَحْدِهِ عَلَى جَنْبِهِ الْأَيْمَنِ) لِأَنَّ هَذِهِ سُنَّةُ النَّائِمِ وَهُوَ يُشْبِهُهُ (وَوَضْعُ لَبِنَةٍ أَوْ حَجَرٍ أَوْ شَيْءٍ مُرْتَفِعٍ) تَحْتَ رَأْسِهِ (كَمَا يَضَعُ الْحَيُّ تَحْتَ رَأْسِهِ) قَالَ فِي الْمُنْتَهَى وَشَرْحِهِ: وَيُوضَعُ تَحْتَ رَأْسِهِ لَبِنَةً، فَإِنْ لَمْ تُوجَدْ فَحَجَرٌ فَإِنْ عُدِمَ فَقَلِيلٌ مِنْ تُرَابٍ، لَا آجُرَّةَ لِأَنَّهُ مِمَّا مَسَّتْهُ النَّارُ وَيُفْضِي بِخَدِّهِ الْأَيْمَنِ إلَى الْأَرْضِ بِأَنْ يُزَالَ الْكَفَنُ عَنْهُ وَيُلْصَقَ بِالْأَرْضِ لِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي الِاسْتِكَانَةِ وَالتَّضَرُّعِ وَلِقَوْلِ عُمَرَ «إذَا أَنَا مِتَّ فَافْضُوَا بِخَدِّي إلَى الْأَرْضِ».
(وَتُكْرَهْ مِخَدَّةٌ) بِكَسْرِ الْمِيمِ تُجْعَلُ تَحْتَ رَأْسِهِ نَصَّ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ وَغَيْرُ لَائِقٍ بِالْحَالِ (وَالْمَنْصُوصُ: وَ) تُكْرَهُ (مِضْرَبَةٌ وَقَطِيفَةٌ تَحْتَهُ) قَالَ أَحْمَدُ: مَا أُحِبُّ أَنْ يَجْعَلُوا فِي الْأَرْضِ مِضْرَبَةٌ، وَلِأَنَّهُ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَرِهَ أَنْ يُلْقَى تَحْتَ الْمَيِّتِ فِي الْقَبْرِ شَيْءٌ، ذَكَرَهُ التِّرْمِذِيُّ وَعَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ «لَا تَجْعَلُوا بَيْنِي وَبَيْنَ الْأَرْضِ شَيْئًا» وَالْقَطِيفَةُ الَّتِي وُضِعَتْ تَحْتَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا وَضَعَهَا شُقْرَانُ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عَنْ اتِّفَاقٍ مِنْ الصَّحَابَةِ.
(وَنَصُّهُ) أَيْ: الْإِمَامِ (لَا بَأْسَ بِهَا) أَيْ: الْمِضْرَبَةِ أَوْ الْقَطِيفَةِ (مِنْ عِلَّةٍ وَيُسْنَدُ) الْمَيِّتُ (خَلْفَهُ) بِتُرَابٍ، لِئَلَّا يَنْقَلِبَ (وَ) يُسْنَدُ (أَمَامَهُ بِتُرَابٍ لِئَلَّا يَسْقُطَ) فَيَنْكَبَّ عَلَى وَجْهِهِ وَيَنْبَغِي أَنْ يُدْنَى مِنْ الْحَائِطِ لِئَلَّا يَنْكَبَّ عَلَى وَجْهِهِ.
(وَيَجِبُ اسْتِقْبَالُهُ) أَيْ: أَنْ يُدْفَنَ مُسْتَقْبِلَ (الْقِبْلَةِ) لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْكَعْبَةِ: «قِبْلَتِكُمْ أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا» وَلِأَنَّ ذَلِكَ طَرِيقَةُ الْمُسْلِمِينَ، بِنَقْلِ الْخَلَفِ عَنْ السَّلَفِ وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَكَذَا دُفِنَ (وَيُسَنُّ لِكُلِّ مَنْ حَضَرَ) الدَّفْنَ (أَنْ يَحْثُوَ التُّرَابَ فِيهِ) أَيْ: الْقَبْرِ (مِنْ قِبَلِ رَأْسِهِ أَوْ غَيْرِهِ ثَلَاثًا) أَيْ: ثَلَاثَ حَثَيَاتٍ (بِالْيَدِ، ثُمَّ يُهَالُ عَلَيْهِ التُّرَابُ) لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى عَلَى جِنَازَةٍ ثُمَّ أَتَى قَبْرَ الْمَيِّتِ، فَحَثَى عَلَيْهِ مِنْ قِبَلِ رَأْسِهِ ثَلَاثًا» رَوَاه ابْنُ مَاجَهْ وَعَنْ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَة «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى عَلَى عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ؛ فَكَبَّرَ عَلَيْهِ أَرْبَعًا، وَأَتَى الْقَبْرَ فَحَثَى عَلَيْهِ ثَلَاثَ حَثَيَاتٍ، وَهُوَ قَائِمٌ عِنْدَ رَأْسِهِ» رَوَاه الدَّارَقُطْنِيّ، وَلِأَنَّ مُوَارَاتَهُ فَرْضُ كِفَايَةٍ، وَبِالْحَثْيِ يَصِيرُ مِمَّنْ شَارَكَ فِيهَا وَفِي ذَلِكَ أَقْوَى عِبْرَةٍ وَتَذْكَارٍ، فَاسْتُحِبَّ لِذَلِكَ.

.(فَصْلٌ): في صفة القبر:

(وَيُسْتَحَبُّ رَفْعُ الْقَبْرِ) عَنْ الْأَرْضِ (قَدْرَ شِبْرٍ).
لِيُعْرَفَ أَنَّهُ قَبْرٌ، فَيُتَوَقَّى، وَيُتَرَحَّمَ عَلَى صَاحِبِهِ وَقَدْ رَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ جَابِرٍ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَفَعَ قَبْرَهُ عَنْ الْأَرْضِ قَدْرَ شِبْرٍ».
وَعَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ قَالَ لِعَائِشَةَ يَا أُمَّاهُ، اكْشِفِي لِي عَنْ قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَاحِبَيْهِ فَكَشَفَتْ لِي عَنْ ثَلَاثَةِ قُبُورٍ، لَا مُشْرِفَةً وَلَا لَاطِئَةً مَبْطُوحَةً بِبَطْحَاءِ الْعَرْصَةِ الْحَمْرَاءِ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد.
(وَيُكْرَهُ) رَفْعُ الْقَبْرِ (فَوْقَهُ) أَيْ: فَوْقَ شِبْرٍ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَلِيٍّ: «لَا تَدَعْ تِمْثَالًا إلَّا طَمَسْتَهُ وَلَا قَبْرًا مُشْرِفًا إلَّا سَوَّيْتَهُ» رَوَاه مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ وَالْمُشْرِفُ مَا رُفِعَ كَثِيرًا، بِدَلِيلِ مَا سَبَقَ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ «لَا مُشْرِفَةً وَلَا لَاطِئَةً» (وَتَسْنِيمُهُ) أَيْ: الْقَبْرِ (أَفْضَلُ مِنْ تَسْطِيحِهِ) لِقَوْلِ سُفْيَانَ التَّمَّارِ رَأَيْتُ قَبْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسَنَّمًا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَعَنْ الْحَسَنِ مِثْلُهُ وَلِأَنَّ التَّسْطِيحَ أَشْبَهُ بِأَبْنِيَةِ أَهْلِ الدُّنْيَا (إلَّا بِدَارِ حَرْبٍ، إذَا تَعَذَّرَ نَقْلُهُ) أَيْ: الْمَيِّتُ (فَالْأَوْلَى تَسْوِيَتُهُ) أَيْ: الْقَبْرُ (بِالْأَرْضِ وَإِخْفَاؤُهُ) أَوْلَى مِنْ إظْهَارِهِ، وَتَسْنِيمِهِ، خَوْفًا مِنْ أَنْ يُنْبَشَ، فَيُمَثَّلَ بِهِ.
(وَيُسَنُّ أَنْ يُرَشَّ عَلَيْهِ) أَيْ: الْقَبْرِ (الْمَاءُ، وَيُوضَعَ عَلَيْهِ حَصًى صِغَارٌ مُحَلَّلٌ بِهِ، لِيَحْفَظَ تُرَابَهُ) لِمَا رَوَى جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَشَّ عَلَى قَبْرِ ابْنِهِ إبْرَاهِيمَ مَاءً وَوَضَعَ عَلَيْهِ حَصْبَاءَ» رَوَاه الشَّافِعِيُّ وَلِأَنَّ ذَلِكَ أَثْبَتُ لَهُ، وَأَبْعَدُ لِدُرُوسِهِ، وَأَمْنَعُ لِتُرَابِهِ مِنْ أَنْ تُذْهِبَهُ الرِّيَاحُ، وَالْحَصْبَاءُ صِغَارُ الْحَصَا (وَلَا بَأْسَ بِتَطْيِينِهِ) أَيْ: الْقَبْرِ،
لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ فِي وَصْفِ قَبْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَبْرِ صَاحِبَيْهِ مَبْطُوحَةً بِبَطْحَاءِ الْعَرْصَةِ الْحَمْرَاءِ.
(وَ) لَا بَأْسَ أَيْضًا بِ (تَعْلِيمِهِ بِحَجَرٍ أَوْ خَشَبَةٍ أَوْ نَحْوِهِمَا) كَلَوْحٍ لِمَا رَوَى أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادِهِ عَنْ الْمَطْلَبِ قَالَ «لَمَّا مَاتَ عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ أُخْرِجَ بِجِنَازَتِهِ، فَدُفِنَ فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نَأْتِيَهُ بِحَجَرٍ فَلَمْ نَسْتَطِعْ حَمْلَهُ فَقَامَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَسَرَ عَنْ ذِرَاعَيْهِ، فَحَمَلَهَا فَوَضَعَهَا عِنْدَ رَأْسِهِ وَقَالَ: أُعَلِّمُ بِهَا قَبْرَ أَخِي، أَدْفِنُ إلَيْهِ مَنْ مَاتَ مِنْ أَهْلِي» رَوَاه ابْنُ مَاجَهْ مِنْ رِوَايَةِ أَنَسٍ.
(وَيُكْرَهُ الْبِنَاءُ عَلَيْهِ) أَيْ: الْقَبْرِ (سَوَاءٌ لَاصَقَ الْبِنَاءَ الْأَرْضَ أَوْ لَا وَلَوْ فِي مُلْكِهِ مِنْ قُبَّةٍ أَوْ غَيْرِهَا لِلنَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ) لِحَدِيثِ جَابِرٍ قَالَ «نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُجَصَّصَ الْقَبْرُ، وَأَنْ يُبْنَى عَلَيْهِ، وَأَنْ يُقْعَدَ عَلَيْهِ» رَوَاه مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَزَادَ «وَأَنْ يُكْتَبَ عَلَيْهِ» وَقَالَ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
(وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي) كِتَابِهِ (إغَاثَةِ اللَّهْفَانِ) مِنْ مَكَايِدِ الشَّيْطَانِ (يَجِبُ هَدْمُ الْقِبَابِ الَّتِي عَلَى الْقُبُورِ لِأَنَّهَا أُسِّسَتْ عَلَى مَعْصِيَةِ الرَّسُولِ انْتَهَى وَهُوَ) أَيْ: الْبِنَاءُ (فِي) الْمَقْبَرَةِ (الْمُسَبَّلَةِ أَشَدُّ كَرَاهَةً) لِأَنَّهُ تَضْيِيقٌ بِلَا فَائِدَةٍ، وَاسْتِعْمَالٌ لِلْمُسَبَّلَةِ فِيمَا لَمْ تُوضَعْ لَهُ (وَعَنْهُ: مَنْعُ الْبِنَاءِ فِي وَقْفٍ عَامٍّ) وِفَاقًا لِلشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ وَقَالَ: رَأَيْتُ الْأَئِمَّةَ بِمَكَّةَ يَأْمُرُونَ بِهَدْمِ مَا يُبْنَى وَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ: هُوَ مَعْنَى كَلَامِ ابْنِ تَمِيمٍ قَالَ فِي الْفُرُوعِ: فَظَاهِرُ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ تَمِيمٍ: أَنَّ الْأَشْهَرَ لَا يُمْنَعَ وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّ الْمَنْقُولَ فِي هَذَا: مَا سَأَلَهُ أَبُو طَالِبٍ عَمَّنْ اتَّخَذَ حُجْرَةً فِي الْمَقْبَرَةِ قَالَ: لَا يُدْفَنُ فِيهَا وَالْمُرَادُ: لَا يَخْتَصُّ بِهِ وَهُوَ كَغَيْرِهِ.
وَجَزَمَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ بِأَنَّهُ يَحْرُمُ حَفْرُ قَبْرٍ فِي مُسَبَّلَةٍ قَبْلَ الْحَاجَةِ إلَيْهِ فَهَهُنَا أَوْلَى.
(قَالَ الشَّيْخُ) مَنْ بَنَى مَا يَخْتَصُّ بِهِ فِيهَا فَ (هُوَ غَاصِبٌ) وَهَذَا مَذْهَبُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ وَقَالَ أَبُو الْمَعَالِي: فِيهِ تَضْيِيقٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَفِيهِ فِي مِلْكِهِ إسْرَافٌ وَإِضَاعَةُ مَالٍ وَكُلٌّ مَنْهِيٌّ عَنْهُ.
(قَالَ أَبُو حَفْصٍ تُحَرَّمُ الْحُجْرَةُ بَلْ تُهْدَمُ، وَهُوَ) أَيْ: الْقَوْلُ بِتَحْرِيمِ الْبِنَاءِ فِي الْمُسَبَّلَةِ (الصَّوَابُ) لِمَا يَأْتِي فِي الْوَقْفِ أَنَّهُ يَجِبُ صَرْفُهُ لِلْجِهَةِ الَّتِي عَيَّنَهَا الْوَاقِفُ.
(وَكَرِهَ أَحْمَدُ الْفُسْطَاطَ وَالْخَيْمَةَ عَلَى الْقَبْرِ) لِأَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ أَوْصَى حِينَ حَضَرَهُ الْمَوْتُ أَنْ لَا تَضْرِبُوا عَلَيَّ فُسْطَاطًا رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ وَرَأَى ابْنُ عُمَرَ فُسْطَاطًا عَلَى قَبْرِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَقَالَ: انْزِعْهُ يَا غُلَامُ فَإِنَّمَا يُظِلُّهُ عَمَلُهُ وَلِأَنَّ الْخِيَامَ بُيُوتُ أَهْلِ الْبَرِّ فَكُرِهَتْ، كَمَا كُرِهَتْ بُيُوتُ أَهْلِ الْمُدُنِ (وَتَغْشِيَةُ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ) أَيْ: سَتْرُهَا بِغَاشِيَةٍ (لَيْسَ مَشْرُوعًا فِي الدِّينِ) قَالَهُ الشَّيْخُ وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: فِي كِسْوَةِ الْقَبْرِ بِالثِّيَابِ: اتَّفَقَ الْأَئِمَّةُ عَلَى أَنَّ هَذَا مُنْكَرٌ، إذَا فُعِلَ بِقُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ فَكَيْفَ بِغَيْرِهِمْ؟.
(وَتُكْرَهْ الزِّيَادَةُ عَلَى تُرَابِ الْقَبْرِ مِنْ غَيْرِهِ) لِحَدِيثِ جَابِرٍ قَالَ «نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُبْنَى عَلَى الْقَبْرِ أَوْ يُزَادَ عَلَيْهِ» رَوَاه النَّسَائِيُّ وَأَبُو دَاوُد.
وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ لَا يُجْعَلُ عَلَى الْقَبْرِ مِنْ التُّرَابِ أَكْثَرُ مِمَّا يُخْرَجُ مِنْهُ حِينَ حُفِرَ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَلِأَنَّ الْعَادَةَ أَنْ يَفْضُلَ مِنْ التُّرَابِ عَنْ مُسَاوَاةِ الْأَرْضِ لِمَكَانِ الْمَيِّتِ مِنْ الْقَبْرِ مَا يَكْفِي لِسُنَّةِ التَّسْنِيمِ فَلَا حَاجَةَ إلَى الزِّيَادَةِ (إلَّا أَنْ يُحْتَاجَ إلَيْهِ) أَيْ: الزَّائِدِ، فَلَا كَرَاهَةَ.
(وَيُكْرَهُ الْمَبِيتُ عِنْدَهُ) أَيْ الْقَبْرِ (وَتَجْصِيصُهُ وَتَزْوِيقُهُ، وَتَخْلِيقُهُ وَتَقْبِيلُهُ وَالطَّوَافُ بِهِ وَتَبْخِيرُهُ وَكِتَابَةُ الرِّقَاعِ إلَيْهِ، وَدَسِّهَا فِي الْأَنْقَابِ وَالِاسْتِشْفَاءُ بِالتُّرْبَةِ مِنْ الْأَسْقَامِ) لِأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مِنْ الْبِدَعِ.
(وَ) تُكْرَهُ (الْكِتَابَةُ عَلَيْهِ) لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ.
(وَ) يُكْرَهُ (الْجُلُوسُ) عَلَيْهِ لِمَا رَوَى أَبُو مَرْثَدٍ الْغَنَوِيُّ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَا تَجْلِسُوا عَلَى الْقُبُورِ وَلَا تُصَلُّوا إلَيْهَا» رَوَاه مُسْلِمٌ.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَأَنْ يَجْلِسَ أَحَدُكُمْ عَلَى جَمْرَةٍ فَتَحْرِقَ ثِيَابَهُ، فَتَخْلُصَ إلَى جِلْدِهِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَجْلِسَ عَلَى قَبْرِ مُسْلِمٍ» رَوَاه مُسْلِمٌ.
(وَ) يُكْرَهُ (الْوَطْءُ عَلَيْهِ) أَيْ: عَلَى الْقَبْرِ لِقَوْلِ الْخَطَّابِي: ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى أَنْ تُوطَأَ الْقُبُورُ (قَالَ بَعْضُهُمْ: إلَّا لِحَاجَةٍ) إلَى ذَلِكَ.
(وَ) يُكْرَهُ (الِاتِّكَاءُ عَلَيْهِ) لِمَا رُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «رَأَى رَجُلًا قَدْ اتَّكَأَ عَلَى قَبْرٍ فَقَالَ: لَا تُؤْذِ صَاحِبَ الْقَبْرِ» (وَيَحْرُمُ التَّخَلِّي عَلَيْهَا) أَيْ: الْقُبُورِ (وَبَيْنَهَا) لِحَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ:
قَالَ النَّبِيُّ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَأَنْ أَطَأَ عَلَى جَمْرَةٍ أَوْ سَيْفٍ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَطَأَ عَلَى قَبْرِ مُسْلِمٍ وَلَا أُبَالِي أَوَسَطَ الْقُبُورِ قَضَيْتُ حَاجَتِي أَوْ وَسَطَ السُّوقِ» رَوَاه الْخَلَّالُ وَابْنُ مَاجَهْ.
(وَالدَّفْنُ فِي صَحْرَاء أَفْضَلُ) مِنْ الدَّفْنِ بِالْعُمْرَانِ لِأَنَّهُ أَقَلُّ ضَرَرًا عَلَى الْأَحْيَاءِ مِنْ الْوَرَثَةِ وَأَشْبَهَ بِمَسَاكِنِ الْآخِرَةِ وَأَكْثَرُ لِلدُّعَاءِ لَهُ وَالتَّرَحُّمِ عَلَيْهِ وَلَمْ تَزَلْ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ فَمَنْ بَعْدَهُمْ يُقْبِرُونَ فِي الصَّحْرَاءِ (سِوَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) فَإِنَّهُ قُبِرَ فِي بَيْتِهِ قَالَتْ عَائِشَةُ لِئَلَّا يُتَّخَذَ قَبْرُهُ مَسْجِدًا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَلِأَنَّهُ رُوِيَ «تُدْفَنُ الْأَنْبِيَاءُ حَيْثُ يَمُوتُونَ» مَعَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَدْفِنُ أَصْحَابَهُ بِالْبَقِيعِ وَفِعْلُهُ أَوْلَى مِنْ فِعْلِ غَيْرِهِ وَإِنَّمَا أَصْحَابُهُ رَأَوْا تَخْصِيصَهُ بِذَلِكَ صِيَانَةً عَنْ كَثْرَةِ الطَّرْقِ، وَتَمْيِيزًا لَهُ عَنْ غَيْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَاخْتَارَ صَاحِبَاهُ) أَبُو بَكْر وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا (الدَّفْنَ مَعَهُ تَشَرُّفًا وَتَبَرُّكًا وَلَمْ يَزِدْ عَلَيْهِمَا لِأَنَّ الْخَرْقَ يَتَّسِعُ، وَالْمَكَانُ ضَيِّقٌ وَجَاءَتْ أَخْبَارٌ تَدُلَّ عَلَى دَفْنِهِمْ كَمَا وَقَعَ) ذَلِكَ (ذَكَرَهُ الْمَجْدُ وَغَيْرُهُ وَيَحْرُمُ إسْرَاجُهَا) أَيْ: الْقُبُورِ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «: لَعَنَ اللَّهُ زَوَّارَاتِ الْقُبُورِ وَالْمُتَّخِذِينَ عَلَيْهَا الْمَسَاجِدَ وَالسُّرُجَ» رَوَاه أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ بِمَعْنَاهُ وَلَوْ أُبِيحَ لَمْ يَلْعَنْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ فَعَلَهُ وَلِأَنَّ فِي ذَلِكَ تَضْيِيعًا لِلْمَالِ مِنْ غَيْرِ فَائِدَةٍ، وَمُغَالَاةً فِي تَعْظِيمِ الْأَمْوَاتِ يُشْبِهُ تَعْظِيمَ الْأَصْنَامِ.
(وَ) يَحْرُمُ (اتِّخَاذُ الْمَسْجِدِ عَلَيْهَا) أَيْ: الْقُبُورِ (وَبَيْنَهَا لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ») مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (وَتَتَعَيَّنُ إزَالَتُهَا) أَيْ: الْمَسَاجِدِ، إذَا وُضِعَتْ عَلَى الْقُبُورِ، أَوْ بَيْنَهَا (وَفِي كِتَابِ الْهَدْيِ) النَّبَوِيِّ لِابْنِ قَيِّمٍ الْجَوْزِيَّةِ (لَوْ وُضِعَ الْمَسْجِدُ وَالْقَبْرُ مَعًا لَمْ يَجُزْ وَلَمْ يَصِحَّ الْوَقْفُ وَلَا الصَّلَاةُ) تَغْلِيبًا لِجَانِبِ الْحَظْرِ (وَتَقَدَّمَ) ذَلِكَ (فِي) بَابِ اجْتِنَابِ النَّجَاسَةِ.
(وَيُكْرَهُ الْمَشْيُ بِالنَّعْلِ فِيهَا) أَيْ: فِي الْمَقْبَرَةِ، لِمَا رَوَى بَشِيرُ ابْنُ الْخَصَاصِيَةِ قَالَ «بَيْنَمَا أَنَا أُمَاشِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا رَجُلٌ يَمْشِي بَيْنَ الْقُبُورِ، عَلَيْهِ نَعْلَانِ فَقَالَ لَهُ: يَا صَاحِبَ السِّبْتِيَّتَيْنِ أَلْقِ سِبْتِيَّتَيْكَ فَنَظَرَ الرَّجُلُ فَلَمَّا عَرَفَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَلَعَهُمَا فَرَمَى بِهِمَا» رَوَاه أَبُو دَاوُد وَقَالَ أَحْمَدُ: إسْنَادُهُ جَيِّد وَلِأَنَّ خَلْعَ النَّعْلَيْنِ أَقْرُبُ إلَى الْخُشُوعِ وَزِيُّ أَهْلِ التَّوَاضُعِ، وَاحْتِرَامُ أَمْوَاتِ الْمُسْلِمِينَ (حَتَّى التَّمَشُّكُ- بِضَمِّ التَّاءِ وَالْمِيمِ وَسُكُونِ الشِّينِ) الْمُعْجَمَةِ (لِأَنَّهُ) أَيْ: التَّمَشُّكُ (نَوْعٌ مِنْهَا) أَيْ: مِنْ النِّعَالِ، فَيَتَنَاوَلُهُ مَا سَبَقَ وَهُوَ مَعْرُوفٌ بِبَغْدَادَ (لَا) يُكْرَهُ الْمَشْيُ بَيْنَ الْقُبُورِ (بِخُفٍّ) لِأَنَّهُ لَيْسَ بِنَعْلٍ وَلَا فِي مَعْنَاهُ وَيَشُقُّ نَزْعُهُ وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ كَانَ إذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ إلَى الْجِنَازَةِ لَبِسَ خُفَّيْهِ وَأَمَّا وَطْءُ الْقَبْرِ نَفْسِهِ فَمَكْرُوهٌ مُطْلَقًا لِمَا سَبَقَ.
وَفِي عِبَارَةِ الْمُنْتَهَى إبْهَامٌ (وَيُسَنُّ خَلْعُ النَّعْلِ إذَا دَخَلَهَا) أَيْ: الْمَقْبَرَةَ، لِمَا سَبَقَ (إلَّا خَوْفَ نَجَاسَةٍ أَوْ شَوْكٍ وَنَحْوِهِ) مِمَّا يُتَأَذَّى بِهِ، كَحَرَارَةِ الْأَرْضِ لِأَنَّهُ عُذْرٌ (وَمَنْ سَبَقَ) إلَى مَقْبَرَةٍ (مُسَبَّلَةٍ قُدِّمَ) عِنْدَ التَّزَاحُمِ وَضِيقِ الْمَحَلِّ، كَمَا لَوْ تَنَازَعَا فِي رِحَابِ الْمَسَاجِدِ، وَمَقَاعِدِ الْأَسْوَاقِ (وَيُقْرَعُ إنْ جَاءَا مَعًا) فَيُقَدَّمُ مَنْ خَرَجَتْ لَهُ الْقُرْعَةُ لِأَنَّهَا وُضِعَتْ لِتَمْيِيزِ مَا أُبْهِمَ.
(وَلَا بَأْسَ بِتَحْوِيلِ الْمَيِّتِ وَنَقْلِهِ إلَى مَكَان آخَرَ بَعِيدًا لِغَرَضٍ صَحِيحٍ كَبُقْعَةٍ شَرِيفَةٍ، وَمُجَاوِرَةِ صَالِحٍ مَعَ أَمْنِ التَّغَيُّرِ) لِمَا فِي مُوَطَّأِ مَالِكٍ أَنَّهُ سَمِعَ غَيْرَ وَاحِدٍ يَقُولُ: إنَّ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ وَسَعِيدَ بْنَ زَيْدٍ مَاتَا بِالْعَقِيقِ فَحُمِلَا إلَى الْمَدِينَةِ وَدُفِنَا بِهَا وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ مَاتَ ابْنُ عُمَرَ هَا هُنَا، وَأَوْصَى أَنْ لَا يُدْفَنَ هَاهُنَا، وَأَنْ يُدْفَنَ بِسَرِفٍ ذَكَرَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَتَقَدَّمَ بَعْضُهُ (إلَّا الشَّهِيدَ) إذَا دُفِنَ بِمَصْرَعِهِ فَلَا يُنْقَلُ مِنْهُ وَدَفْنُهُ بِهِ سُنَّةٌ (حَتَّى وَلَوْ نُقِلَ) مِنْ مَصْرَعِهِ (رُدَّ إلَيْهِ) قَالَ أَحْمَدُ: أَمَّا الْقَتْلَى فَعَلَى حَدِيثِ جَابِرٍ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «ادْفِنُوا الْقَتْلَى فِي مَصَارِعِهِمْ» (وَيَجُوزُ نَبْشُهُ) أَيْ: الْمَيِّتِ (لِغَرَضٍ صَحِيحٍ، كَتَحْسِينِ كَفَنِهِ) لِحَدِيثِ جَابِرٍ «أَتَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ بَعْدَ مَا دُفِنَ، فَأَخْرَجَهُ فَنَفَثَ فِيهِ مِنْ رِيقِهِ، وَأَلْبَسَهُ قَمِيصَهُ» أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ.
(وَ) يَجُوزُ نَقْلُهُ لِ (بُقْعَةٍ خَيْرٍ مِنْ بُقْعَتِهِ كَ) نَبْشِهِ لِ (إفْرَادِهِ عَمَّنْ دُفِنَ مَعَهُ) لِقَوْلِ جَابِرٍ دُفِنَ مَعَ أَبِي رَجُلٌ فَلَمْ تَطِبْ نَفْسِي حَتَّى أَخْرَجْتُهُ فَجَعَلْتُهُ فِي قَبْرٍ عَلَى حِدَةٍ.
وَفِي رِوَايَةٍ كَانَ أَبِي أَوَّلَ قَتِيلٍ يَعْنِي يَوْمَ أُحُدٍ- فَدُفِنَ- مَعَهُ آخَرُ فِي قَبْرِهِ، ثُمَّ لَمْ تَطِبْ نَفْسِي أَنْ أَتْرُكَهُ مَعَ الْآخَرِ فَاسْتَخْرَجْتُهُ بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَإِذَا هُوَ كَيَوْمِ وَضَعْتُهُ غَيْرَ أُذُنِهِ رَوَاهُمَا الْبُخَارِيُّ (وَتَقَدَّمَ) ذَلِكَ أَوَّلَ الْغُسْلِ.
(وَيُسْتَحَبُّ جَمْعُ الْأَقَارِبِ) الْمَوْتَى فِي الْمَقْبَرَةِ الْوَاحِدَةِ وَيُقَارَبُ بَيْنَ قُبُورِهِمْ لِأَنَّهُ أَسْهَلُ لِزِيَارَتِهِمْ، وَأَبْعَدُ لِانْدِرَاسِ قُبُورِهِمْ وَيُعَضِّدُهُ قَوْلُهُ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا دَفَنَ عُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ وَعَلَّمَ قَبْرَهُ «أَدْفِنُ إلَيْهِ مَنْ مَاتَ مِنْ أَهْلِي» وَيُسْتَحَبُّ أَيْضًا الدَّفْنُ (فِي الْبِقَاعِ الشَّرِيفَةِ) لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا «أَنَّ مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا حَضَرَهُ الْمَوْتُ سَأَلَ رَبَّهُ أَنْ يُدْنِيَهُ مِنْ الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ رَمْيَةَ حَجَرٍ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَوْ كُنْتُ ثَمَّ لَأَرَيْتُكُمْ قَبْرَهُ، عِنْدَ الْكَثِيبِ الْأَحْمَرِ» وَقَالَ عُمَرُ: «اللَّهُمَّ اُرْزُقْنِي شَهَادَةً فِي سَبِيلِكَ وَاجْعَلْ مَوْتِي فِي بَلَدِ رَسُولِكَ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا (وَ) يُسْتَحَبُّ أَيْضًا الدَّفْنُ فِي (مَا كَثُرَ فِيهِ الصَّالِحُونَ) لِتَنَالَهُ بَرَكَتُهُمْ وَلِذَلِكَ الْتَمَسَ عُمَرُ الدَّفْنَ عِنْدَ صَاحِبَيْهِ وَسَأَلَ عَائِشَةَ، حَتَّى أَذِنَتْ لَهُ.
(وَيَحْرُمُ قَطْعُ شَيْءٍ مِنْ أَطْرَافِ الْمَيِّتِ وَإِتْلَافُ ذَاتِهِ، وَإِحْرَاقُهُ) لِحَدِيثِ «كَسْرُ عَظْمِ الْمَيِّتِ كَكَسْرِ عَظْمِ الْحَيِّ» وَلِبَقَاءِ حُرْمَتِهِ.
(وَلَوْ أَوْصَى بِهِ) أَيْ: بِمَا ذُكِرَ مِنْ الْقَطْعِ وَالْإِتْلَافِ وَالْإِحْرَاقِ فَلَا نَتَّبِعُ وَصِيَّتَهُ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى (وَلَا ضَمَانَ فِيهِ) أَيْ: الْمَيِّتِ إذَا قُطِعَ طَرَفُهُ أَوْ أُتْلِفَ أَوْ أُحْرِقَ (وَلِوَلِيِّهِ) أَيْ: الْمَيِّتِ (أَنْ يُحَامِيَ عَنْهُ) أَيْ: يَدْفَعَ عَنْهُ مَنْ أَرَادَ قَطْعَ طَرَفِهِ وَنَحْوِهِ بِالْأَسْهَلِ فَالْأَسْهَلِ، كَدَفْعِ الصَّائِلِ.
(وَإِنْ آلَ ذَلِكَ إلَى إتْلَافِ الْمُطَالِبِ، فَلَا ضَمَانَ) عَلَى الدَّافِعِ، كَمَا فِي دَفْعِ الصَّائِلِ (وَمَنْ أَمْكَنَ غُسْلُهُ فَدُفِنَ قَبْلَهُ، لَزِمَ نَبْشُهُ) تَدَارُكًا لِلْوَاجِبِ (وَ) لَزِمَ (تَغْسِيلُهُ) وَتَكْفِينُهُ وَالصَّلَاةُ عَلَيْهِ (وَتَقَدَّمَ) ذَلِكَ فِي الْغُسْلِ.
(وَيَحْرُمُ دَفْنُ اثْنَيْنِ فَأَكْثَرَ فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ) لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَدْفِنُ كُلَّ مَيِّتٍ فِي قَبْرٍ وَعَلَى هَذَا اسْتَمَرَّ فِعْلُ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ (إلَّا لِضَرُورَةٍ أَوْ حَاجَةٍ) كَكَثْرَةِ الْمَوْتَى وَقِلَّةِ مَنْ يَدْفِنُهُمْ، وَخَوْفِ الْفَسَادِ عَلَيْهِمْ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ: «ادْفِنُوا الِاثْنَيْنِ وَالثَّلَاثَةِ فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ» رَوَاه النَّسَائِيُّ وَإِذَا دُفِنَ اثْنَيْنِ فَأَكْثَرَ فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ فَ (إنْ شَاءَ سَوَّى بَيْنَ رُءُوسِهِمْ، وَإِنْ شَاءَ حَفَرَ قَبْرًا طَوِيلًا، وَجَعَلَ رَأْسَ كُلِّ وَاحِدٍ) مِنْ الْمَوْتَى (عِنْدَ رِجْلِ الْآخَرِ أَوْ) عِنْدَ (وَسَطِهِ، كَالدَّرَجِ وَيَجْعَلُ رَأْسَ الْمَفْضُولِ عِنْدَ رِجْلَيْ الْفَاضِلِ وَيُسَنُّ حَجْزُهُ بَيْنَهُمَا بِتُرَابٍ) لِيَصِيرَ كُلُّ وَاحِدٍ، كَأَنَّهُ فِي قَبْرٍ مُنْفَرِدٍ (وَالتَّقْدِيمُ إلَى الْقِبْلَةِ كَالتَّقْدِيمِ إلَى الْإِمَامِ فِي الصَّلَاةِ فَيُسَنُّ).
أَنْ يُقَدَّمَ الْأَفْضَلُ فَالْأَفْضَلُ إلَى الْقِبْلَةِ فِي الْقَبْرِ، لِحَدِيثِ هِشَامِ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: «شُكِيَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَثْرَةُ الْجِرَاحَاتِ يَوْمَ أُحُدٍ، فَقَالَ: احْفِرُوا وَوَسِّعُوا، وَأَحْسِنُوا، وَادْفِنُوا الِاثْنَيْنِ وَالثَّلَاثَةَ فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ، وَقَدِّمُوا أَكْثَرَهُمْ قُرْآنًا» رَوَاه التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَسَنٌ صَحِيحٌ (وَتَقَدَّمَ) ذَلِكَ (فِي صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ) عِنْدَ بَيَانِ مَوْقِفِ الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ (وَلَا يُنْبَشُ قَبْرُ مَيِّتٍ بَاقٍ، لِمَيِّتٍ آخَرَ) أَيْ: يَحْرُمُ ذَلِكَ، لِمَا فِيهِ مِنْ هَتْكِ حُرْمَتِهِ.
(وَمَتَى عُلِمَ) أَنَّ الْمَيِّتَ بَلِيَ وَصَارَ رَمِيمًا (وَمُرَادُهُمْ) أَيْ: الْأَصْحَابِ (ظُنَّ أَنَّهُ بَلِيَ، وَصَارَ رَمِيمًا؛ جَازَ نَبْشُهُ، وَدُفِنَ غَيْرُهُ فِيهِ) أَيْ: الْقَبْرِ مَكَانَهُ، وَيَخْتَلِفُ ذَلِكَ بِاخْتِلَافِ الْبِلَادِ وَالْهَوَاءِ، وَهُوَ فِي الْبِلَادِ الْحَارَّةِ أَسْرَعُ مِنْهُ فِي الْبَارِدَةِ.
(وَإِنْ شُكَّ فِي ذَلِكَ) أَيْ: فِي أَنَّهُ بَلِيَ وَصَارَ رَمِيمًا (رُجِعَ إلَى قَوْلِ أَهْلِ الْخِبْرَةِ) أَيْ: الْمَعْرِفَةِ بِذَلِكَ (فَإِنْ حَفَرَ فَوَجَدَ فِيهَا) أَيْ: الْأَرْضِ (عِظَامًا دَفَنَهَا) أَيْ: الْعِظَامَ، أَيْ: أَبْقَاهَا مَكَانَهَا، وَأَعَادَ التُّرَابَ كَمَا كَانَ وَلَمْ يَجُزْ دَفْنُ مَيِّتٍ آخَرَ عَلَيْهِ نَصًّا (وَحَفَرَ فِي مَكَان آخَرَ) خَالٍ مِنْ الْأَمْوَاتِ.
(وَإِذَا صَارَ) الْمَيِّتُ (رَمِيمًا، جَازَتْ الزِّرَاعَةُ وَالْحِرَاثَةُ) أَيْ: مَوْضِعَ الدَّفْنِ (وَغَيْرُ ذَلِكَ) كَالْبِنَاءِ قَالَهُ أَبُو الْمَعَالِي (وَإِلَّا) أَيْ: وَإِنْ لَمْ يَصِرْ (فَلَا) يَجُوزُ ذَلِكَ قَالَ فِي الْفُرُوعِ: (وَالْمُرَادُ) أَيْ: بِقَوْلِ أَبِي الْمَعَالِي: تَجُوزُ الزِّرَاعَةُ وَالْحَرْثُ وَنَحْوُهُمَا إذَا صَارَ رَمِيمًا (إذَا لَمْ يُخَالَفْ شَرْطُ وَاقِفٍ، لِتَعْيِينِهِ الْجِهَةِ) بِأَنْ عَيَّنَ الْأَرْضَ لِلدَّفْنِ فَلَا يَجُوزُ حَرْثُهَا وَلَا غَرْسُهَا وَتَحْرُمُ عِمَارَةُ الْقَبْرِ إذَا دَثَرَ الَّذِي غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ بَلَاءُ صَاحِبِهِ وَتَسْوِيَةُ التُّرَابِ عَلَيْهِ فِي الْمَقْبَرَةِ الْمُسَبَّلَةِ لِئَلَّا يَتَصَوَّرَ بِصُورَةِ الْجَدِيدِ فَيَمْتَنِعُ النَّاسُ مِنْ الدَّفْنِ فِيهِ قِيَاسًا عَلَى تَحْرِيمِ الْحَفْرِ فِيهَا قَبْلَ الْحَاجَةِ إلَيْهِ.
(وَيَجُوزُ نَبْشُ قُبُورِ الْمُشْرِكِينَ لِيُتَّخَذَ مَكَانُهَا مَسْجِدًا) لِأَنَّ مَوْضِعَ مَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ قُبُورًا لِلْمُشْرِكِينَ، فَأَمَرَ بِنَبْشِهَا وَجَعْلِهَا مَسْجِدًا (أَوْ) أَيْ: وَيَجُوزُ نَبْشُ قُبُورِ الْمُشْرِكِينَ (لِمَالٍ فِيهَا، كَقَبْرِ أَبِي رِغَالٍ) لِمَا رَوَى أَبُو دَاوُد أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «هَذَا قَبْرُ أَبِي رِغَالٍ وَآيَةُ ذَلِكَ: أَنَّ مَعَهُ غُصْنًا مِنْ ذَهَبٍ، إنْ رَأَيْتُمْ نَبَشْتُمْ عَنْهُ أَصَبْتُمُوهُ مَعَهُ، فَابْتَدَرَهُ النَّاسُ فَاسْتَخْرَجُوا الْغُصْنَ» وَنَقَلَ الْمَرُّوذِيُّ فِيمَنْ أَوْصَى بِبِنَاءِ دَارِهِ مَسْجِدًا فَخَرَجَتْ مَقْبَرَةٌ، فَإِنْ كَانُوا مُسْلِمِينَ لَمْ يُخْرَجُوا وَإِلَّا أُخْرِجَتْ عِظَامُهُمْ تَنْبِيهٌ أَبُو رِغَالٍ: يُرْجَمُ قَبْرُهُ وَكَانَ دَلِيلًا لِلْحَبَشَةِ، حَيْثُ تَوَجَّهُوا إلَى مَكَّةَ فَمَاتَ فِي الطَّرِيقِ قَالَهُ فِي الصِّحَاحِ.
(وَلَوْ وَصَّى بِدَفْنِهِ فِي مِلْكِهِ دُفِنَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ لِأَنَّهُ) أَيْ: دَفْنُهُ بِمِلْكِهِ (يَضُرُّ الْوَرَثَةَ) لِمَنْعِهِمْ مِنْ التَّصَرُّفِ فِيهِ، فَيَكُونُ مَنْفِيًّا لِحَدِيثِ «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ» (وَلَا بَأْسَ بِشِرَائِهِ مَوْضِعَ قَبْرِهِ، وَيُوصِي بِدَفْنِهِ فِيهِ) فَعَلَهُ عُثْمَانُ وَعَائِشَةُ قَالَ فِي الْفُرُوعِ: فَلِهَذَا حَمَلَ صَاحِبُ الْمُحَرَّرِ: الْأَوَّلَ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُخْرَجْ مِنْ ثُلُثِهِ وَمَا قَالَهُ مُتَّجَهٌ وَبَعَّدَهُ بَعْضُهُمْ.
وَفِي الْوَسِيلَةِ: فَإِنْ أَذِنُوا كُرِهَ دَفْنُهُ فِيهِ نَصَّ عَلَيْهِ انْتَهَى وَمُرَادُ صَاحِبِ الْفُرُوعِ بِالْأَوَّلِ: مَا إذَا أَوْصَى بِدَفْنِهِ فِي مِلْكِهِ قُلْتُ: الْأَوْلَى حَمْلُ الْأَوَّلِ عَلَى مِلْكٍ فِي الْعُمْرَانِ، كَمَا يَدُلَّ عَلَيْهِ كَلَامُهُ فِي الْوَسِيلَةِ وَالتَّعْلِيلِ السَّابِقِ وَحُمِلَ الثَّانِي عَلَى شِرَائِهِ مَوْضِعَ قَبْرِهِ فِي مَقْبَرَةٍ غَيْرِ مُسَبَّلَةٍ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا اسْتَدَلُّوا بِهِ مِنْ فِعْلِ عُثْمَانَ وَعَائِشَةَ، فَإِنَّهُمَا فِي الْبَقِيعِ.
(وَيَصِحُّ بِيَعُ مَا دُفِنَ فِيهِ مِنْ مِلْكِهِ) لِبَقَاءِ مَالِيَّتِهِ (مَا لَمْ يُجْعَلْ) مَا دُفِنَ فِيهِ مَقْبَرَةً، بِأَنْ وُقِفَ لِلدَّفْنِ فِيهِ (أَوْ يَصِرْ مَقْبَرَةً) بِأَنْ تَكْثُرَ فِيهِ الْمَوْتَى وَعِبَارَةُ الْمُنْتَهَى مَعَ شَرْحِهِ: مَا لَمْ يُجْعَلْ، أَيْ: يَصِيرْ مَقْبَرَةً نَصَّ عَلَيْهِ وَمَنَعَ ابْنُ عَقِيلٍ بَيْعَ مَوْضِعِ الْقَبْرِ، مَعَ بَقَاءِ رِمَّتِهِ قَالَ فِي الْفُنُونِ: لِأَنَّهَا مَا لَمْ تَسْتَحِلْ تُرَابًا هِيَ مُحْتَرَمَةٌ قَالَ: وَإِنْ نُقِلَتْ الْعِظَامُ وَجَبَ الرَّدُّ لِتَعْيِينِهِ لَهَا.
(وَيَحْرُمُ حُفْرَةٌ فِي) مَقْبَرَةٍ (مُسَبَّلَةٍ قَبْلَ الْحَاجَةِ) إلَيْهِ أَيْ: الدَّفْنِ، كَمَنْ يَتَّخِذُ قَبْرًا لِيَدْفِنَ فِيهِ مَنْ سَيَمُوتُ ذَكَرَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ وَإِنْ ثَبَتَ قَوْلٌ بِجَوَازِ بِنَاءِ بَيْتٍ وَنَحْوِهِ، فَهَاهُنَا كَذَلِكَ وَأَوْلَى وَيَتَوَجَّهُ هُنَا مَا سَبَقَ فِي الْمُصَلَّى الْمَفْرُوشِ قَالَهُ فِي الْفُرُوعِ.
(وَ) يَحْرُمُ (دَفْنُهُ فِي مَسْجِدٍ وَنَحْوِهِ) كَمَدْرَسَةٍ وَرِبَاطٍ لِتَعْيِينِ الْوَاقِفِ الْجِهَةَ لِغَيْرِ ذَلِكَ (وَيُنْبَشُ) مَنْ دُفِنَ بِمَسْجِدٍ وَنَحْوِهِ، وَيُخْرَجُ نَصًّا تَدَارُكًا لِلْعَمَلِ بِشَرْطِ الْوَاقِفِ.
(وَ) يَحْرُمُ دَفْنٌ (فِي مِلْكِ غَيْرِهِ) بِلَا إذْنِ رَبِّهِ، لِلْعُدْوَانِ (وَلِلْمَالِكِ إلْزَامُ دَافِنِهِ بِنَقْلِهِ) لِيُفْرِغَ لَهُ مِلْكَهُ عَمَّا شَغَلَهُ بِهِ بِغَيْرِ حَقٍّ.
(وَالْأَوْلَى) لِلْمَالِكِ (تَرْكُهُ) أَيْ: الْمَيِّتِ، حَتَّى يَبْلَى لِمَا فِيهِ مِنْ هَتْكِ حُرْمَتِهِ وَكَرِهَهُ أَبُو الْمَعَالِي لِذَلِكَ (وَيَحْرُمُ أَنْ يُدْفَنَ مَعَ الْمَيِّتِ حُلِيٌّ أَوْ ثِيَابُ غَيْرُ كَفَنِهِ كَإِحْرَاقِ ثِيَابِهِ وَتَكْسِيرِ أَوَانِيهِ وَنَحْوِهَا) لِأَنَّهُ إضَاعَةُ مَالٍ بِلَا فَائِدَةٍ.
(وَإِنْ وَقَعَ فِي الْقَبْرِ مَالَهُ قِيمَةٌ عُرْفًا، أَوْ رَمَاهُ رَبُّهُ فِيهِ نُبِشَ) الْقَبْرُ (وَأُخِذَ) ذَلِكَ مِنْهُ لِمَا رُوِيَ أَنَّ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ وَضَعَ خَاتَمَهُ فِي قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ: خَاتَمِي فَدَخَلَ وَأَخَذَهُ وَكَانَ يَقُولُ: أَنَا أَقْرَبُكُمْ عَهْدًا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ أَحْمَدُ: إذَا نَسِيَ الْحَفَّارُ مِسْحَاتَهُ فِي الْقَبْرِ جَازَ أَنْ يُنْبَشَ انْتَهَى وَلِتَعَلُّقِ حَقِّ رَبِّهِ بِعَيْنِهِ، مَعَ عَدَمِ الضَّرَرِ فِي أَخْذِهِ.
(وَإِنْ كُفِّنَ بِثَوْبٍ غُصِبَ) وَطَلَبَهُ رَبُّهُ لَمْ يُنْبَشْ وَغُرْمُ ذَلِكَ مِنْ تَرِكَتِهِ، لِإِمْكَانِ دَفْعِ الضَّرَرِ مَعَ عَدَمِ هَتْكِ حُرْمَتِهِ (أَوْ بَلَعَ مَالَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ وَتَبْقَى مَالِيَّتُهُ، كَخَاتَمٍ، طَلَبَهُ رَبُّهُ لَمْ يُنْبَشْ وَغُرْمُ ذَلِكَ مِنْ تَرِكَتِهِ) صَوْنًا لِحُرْمَتِهِ مَعَ عَدَمِ الضَّرَرِ (كَمَنْ غَصَبَ عَبْدًا فَأَبِقَ؛ تَجِبُ قِيمَتُهُ) عَلَى الْغَاصِبِ (لِأَجْلِ الْحَيْلُولَةِ) أَيْ: حَيْلُولَتِهِ بَيْنَ الْمَالِ وَرَبِّهِ (فَإِنْ تَعَذَّرَ الْغُرْمُ) أَيْ: غُرْمُ الْكَفَنِ الْمَغْصُوبِ أَوْ الْمَالِ الَّذِي بَلَعَهُ الْمَيِّتُ (لِعَدَمِ تَرِكَةٍ وَنَحْوِهِ نُبِشَ) الْقَبْرُ (وَأُخِذَ الْكَفَنُ) الْغَصْبُ فَدُفِعَ لِرَبِّهِ.
(فِي) الْمَسْأَلَةِ (الْأُولَى وَشُقَّ جَوْفُهُ فِي) الْمَسْأَلَةِ (الثَّانِيَةِ، وَأُخِذَ الْمَالُ) فَدُفِعَ لِرَبِّهِ (إنْ لَمْ يُبْذَلْ لَهُ قِيمَتُهُ) أَيْ: إنْ لَمْ يَتَبَرَّعْ وَارِثٌ أَوْ غَيْرُهُ بِبَذْلِ قِيمَةِ الْكَفَنِ أَوْ الْمَالِ لِرَبِّهِ وَإِلَّا فَلَا يُنْبَشُ لِمَا سَبَقَ (وَإِنْ بَلَعَهُ) أَيْ: مَالَ الْغَيْرِ (بِإِذْنِ رَبِّهِ أُخِذَ إذَا بَلِيَ) الْمَيِّتُ، لِأَنَّ مَالِكَهُ هُوَ الْمُسَلَّطُ لَهُ عَلَى مَالِهِ بِالْإِذْنِ لَهُ.
(وَلَا يُعْرَضُ لَهُ) أَيْ: لِلْمَيِّتِ (قَبْلَهُ) أَيْ: قَبْلَ أَنْ يَبْلَى لِمَا تَقَدَّمَ (وَلَا يُضَمِّنْهُ) أَيْ: الْمَال الَّذِي بَلَعَهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ فَلَا طَلَبَ لِرَبِّهِ عَلَى تَرِكَتِهِ لِأَنَّهُ الَّذِي سَلَّطَهُ عَلَيْهِ.
(وَإِنْ بَلَعَ مَالَ نَفْسِهِ، لَمْ يُنْبَشْ قَبْلَ أَنْ يَبْلَى) لِأَنَّ ذَلِكَ اسْتِهْلَاكٌ لِمَالِ نَفْسِهِ فِي حَيَاتِهِ أَشْبَهَ مَا لَوْ أَتْلَفَهُ (إلَّا أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ دَيْنٌ) فَيُنْبَشُ وَيُشَقُّ جَوْفُهُ فَيُخْرَجُ وَيُوفِي دَيْنَهُ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْمُبَادَرَةِ إلَى تَبْرِئَةِ ذِمَّتِهِ مِنْ الدَّيْنِ (وَلَوْ مَاتَ وَلَهُ أَنْفٌ ذَهَبٍ لَمْ يُقْلَعْ) لِمَا فِيهِ مِنْ الْمُثْلَةِ (لَكِنْ إنْ كَانَ بَائِعُهُ لَمْ يَأْخُذْ ثَمَنَهُ أَخَذَهُ مِنْ تَرِكَتِهِ) كَسَائِرِ الدُّيُونِ (وَمَعَ عَدَمِ التَّرِكَةِ يَأْخُذُهُ) رَبُّهُ (إذَا بَلِيَ) الْمَيِّتُ جَمْعًا بَيْنَ الْمَصْلَحَتَيْنِ.
(وَإِنْ مَاتَتْ حَامِلٌ بِمَنْ يُرْجَى حَيَاتُهُ حَرُمَ شَقُّ بَطْنِهَا) مِنْ أَجْلِ الْحَمْلِ مُسْلِمَةً كَانَتْ أَوْ ذِمِّيَّةً لِمَا فِيهِ مِنْ هَتْكِ حُرْمَةٍ مُتَيَقَّنَةٍ لِإِبْقَاءِ حَيَاةٍ مَوْهُومَةٍ، لِأَنَّ الْغَالِبَ وَالظَّاهِرَ: أَنَّ الْوَلَدَ لَا يَعِيشُ وَاحْتَجَّ أَحْمَدُ عَلَى ذَلِكَ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد بِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «: كَسْرُ عَظْمِ الْمَيِّتِ كَكَسْرِ عَظْمِ الْحَيِّ» رَوَاه أَبُو دَاوُد وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ رِوَايَةِ أُمِّ سَلَمَةَ، وَزَادَ «فِي الْإِثْمِ».
(وَتَسْطُو عَلَيْهِ الْقَوَابِلُ) أَوْ غَيْرُهُنَّ مِنْ النِّسَاءِ فَيُدْخِلْنَ أَيْدِيَهُنَّ فِي فَرْجِهَا (فَيُخْرِجْنَهُ) مِنْ بَطْنِهَا وَاَلَّذِي تُرْجَى حَيَاتُهُ: هُوَ الَّذِي تَمَّ لَهُ سِتَّةُ أَشْهُرٍ وَكَانَ يَتَحَرَّكُ حَرَكَةً قَوِيَّةً وَانْتَفَخَتْ الْمَخَارِجُ (فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ نِسَاءٌ لَمْ يَسْطُ الرِّجَالُ، عَلَيْهَا) لِمَا فِيهِ مِنْ هَتْكِ حُرْمَتِهَا (فَإِنْ تَعَذَّرَ) عَلَيْهِنَّ إخْرَاجُهُ (تُرِكَ حَتَّى يَمُوتَ) وَلَا يُشَقَّ بَطْنُهَا، لِمَا تَقَدَّمَ.
(وَلَا تُدْفَنُ قَبْلَهُ) أَيْ: قَبْلَ مَوْتِ حَمْلِهَا لِمَا يَلْزَمُهُ مِنْ دَفْنِهِ مَعَهَا (وَلَا يُوضَعُ عَلَيْهِ مَا يُمَوِّتُهُ) لِعُمُومِ النَّوَاهِي عَنْ قَتْلِ النَّفْسِ الْمُحَرَّمَةِ (وَلَوْ خَرَجَ بَعْضُهُ) أَيْ: الْحَمْلِ (حَيًّا شُقَّ) بَطْنُهَا (حَتَّى يُخْرَجَ) بَاقِي الْحَمْلِ لِتَيَقُّنِ حَيَاتِهِ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ مَوْهُومَةً (فَلَوْ مَاتَ قَبْلَ خُرُوجِهِ أُخْرِجَ وَغُسِّلَ) كَغَيْرِهِ.
(وَإِنْ تَعَذَّرَ خُرُوجُهُ) أَيْ: خُرُوجُ بَاقِي الْحَمْلِ (تُرِكَ) بِحَالِهِ (وَغُسِّلَ مَا خَرَجَ مِنْهُ) لِأَنَّ لَهُ حُكْمُ السَّقْطِ (وَأَجْزَأَ) غُسْلُهُ (وَمَا بَقِيَ) مِنْ الْحَمْلِ فِي جَوْفِهَا (فَفِي حُكْمِ الْبَاطِنِ لَا يَحْتَاجُ إلَى التَّيَمُّمِ مِنْ أَجْلِهِ) لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ الْحَمْلِ (وَصَلَّى عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى مَنْ خَرَجَ بَعْضُهُ (مَعَهَا) أَيْ: مَعَ أُمِّهِ، بِأَنْ يَنْوِيَ الصَّلَاةَ عَلَيْهِمَا، حَيْثُ تَمَّ لَهُ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ فَأَكْثَرُ.
(وَإِنْ مَاتَتْ ذِمِّيَّةٌ) أَوْ كَافِرَةٌ غَيْرُهَا (حَامِلٌ بِمُسْلِمٍ دَفَنَهَا مُسْلِمٌ وَحْدَهَا) أَيْ: فِي مَكَان غَيْرِ مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِ مَقَابِرِ الْكُفَّارِ نَصَّ عَلَيْهِ وَحَكَاهُ عَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ (إنْ أَمْكَنَ) دَفْنُهَا وَحْدَهَا (وَإِلَّا) بِأَنْ لَمْ يُمْكِنْ دَفْنُهَا وَحْدَهَا فَإِنَّهَا تُدْفَنُ (مَعَ الْمُسْلِمِينَ) لِأَنَّ ذَلِكَ أَوْلَى مِنْ دَفْنِ الْمُسْلِم الَّذِي هُوَ الْجَنِينُ مَعَ الْكُفَّارِ وَكَمَا لَوْ اشْتَبَهَ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ.
(وَجُعِلَ ظَهْرُهَا) أَيْ: الْكَافِرَةِ (إلَى الْقِبْلَةِ) وَتُدْفَنُ (عَلَى جَنْبِهَا الْأَيْسَرِ) لِيَكُونَ الْجَنِينُ عَلَى جَنْبِهِ الْأَيْمَنِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ لِأَنَّ ظَهْرَهُ لِوَجْهِ أُمِّهِ (وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ) أَيْ: جَنِينِ نَحْوِ الذِّمِّيَّةِ (لِأَنَّهُ غَيْرُ مَوْلُودٍ وَلَا سَقْطٍ) وَكَالْمَأْكُولِ بِبَطْنِ الْآكِلِ (وَيُصَلَّى عَلَى مُسْلِمَةٍ حَامِلٍ) وَعَلَى (حَمْلِهَا بَعْد مُضِيِّ زَمَنِ تَصْوِيرِهِ) وَهُوَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ فَيَنْوِيهِمَا بِالصَّلَاةِ (وَإِلَّا) أَيْ: وَإِنْ لَمْ يَمْضِ زَمَنُ تَصْوِيرِهِ صَلَّى (عَلَيْهَا دُونَهُ) وَإِنَّمَا صَحَّتْ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ مَعَهَا بَعْدَ مُضِيِّ زَمَنِ تَصْوِيرِهِ تَبَعًا لَهَا بِخِلَافِ الْكَافِرَةِ (وَيَلْزَمُ تَمْيِيزُ قُبُورِ أَهْلِ الذِّمَّةِ) عَنْ مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ، كَحَالِ الْحَيَاةِ وَأَوْلَى (وَيَأْتِي) فِي أَحْكَامِ الذِّمَّةِ.
(وَلَا تُكْرَهُ الْقِرَاءَةُ عَلَى الْقَبْرِ وَ) لَا (فِي الْمَقْبَرَةِ بَلْ تُسْتَحَبُّ) لِمَا رَوَى أَنَسٌ مَرْفُوعًا قَالَ «مَنْ دَخَلَ الْمَقَابِرَ فَقَرَأَ فِيهَا يس خُفِّفَ عَنْهُمْ يَوْمَئِذٍ وَكَانَ لَهُ بِعَدَدِهِمْ حَسَنَاتٌ» وَصَحَّ عَنْ ابْنِ عَمْرٍو أَنَّهُ أَوْصَى إذَا دُفِنَ أَنْ يُقْرَأَ عِنْدَهُ بِفَاتِحَةِ الْبَقَرَةِ وَخَاتِمَتِهَا وَلِهَذَا رَجَعَ أَحْمَدُ عَنْ الْكَرَاهَةِ قَالَهُ أَبُو بَكْر لَكِنْ قَالَ السَّامِرِيُّ: يُسْتَحَبُّ أَنْ يَقْرَأَ عِنْدَ رَأْسِ الْقَبْرِ بِفَاتِحَةُ الْبَقَرَةِ وَعِنْدَ رِجْلَيْهِ بِخَاتِمَتِهَا.
(وَكُلُّ قُرْبَةٍ فَعَلَهَا الْمُسْلِمُ وَجُعِلَ ثَوَابُهَا أَوْ بَعْضُهَا كَالنِّصْفِ وَنَحْوِهِ) كَالثُّلُثِ أَوْ الرُّبُعِ (لِمُسْلِمٍ حَيٍّ أَوْ مَيِّتٍ جَازَ) ذَلِكَ (وَنَفْعُهُ، ذَلِكَ لِحُصُولِ الثَّوَابِ لَهُ، حَتَّى لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) ذَكَرَهُ الْمَجْدُ (مِنْ) بَيَانٌ لِكُلِّ قُرْبَةٍ (تَطَوَّعْ وَوَاجِبٌ تَدْخُلُهُ النِّيَابَةُ كَحَجٍّ وَنَحْوِهِ) كَصَوْمِ نَذْرٍ (أَوْ لَا) تَدْخُلُهُ النِّيَابَةُ (كَصَلَاةٍ وَكَدُعَاءٍ وَاسْتِغْفَارٍ، وَصَدَقَةٍ) وَعِتْقٍ (وَأُضْحِيَّةٍ وَأَدَاءِ دَيْنٍ وَصَوْمٍ وَكَذَا قِرَاءَةٌ وَغَيْرُهَا).
قَالَ أَحْمَدُ: الْمَيِّتُ يَصِلُ إلَيْهِ كُلُّ شَيْءٍ مِنْ الْخَيْرِ، لِلنُّصُوصِ الْوَارِدَةِ فِيهِ وَلِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ يَجْتَمِعُونَ فِي كُلِّ مِصْرٍ وَيَقْرَءُونَ وَيَهْدُونَ لِمَوْتَاهُمْ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ فَكَانَ إجْمَاعًا وَقَالَ الْأَكْثَرُ: لَا يَصِلُ إلَى الْمَيِّتِ ثَوَابُ الْقِرَاءَةِ وَأَنَّ ذَلِكَ لِفَاعِلِهِ وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إلَّا مَا سَعَى} وَ{لَهَا مَا كَسَبَتْ} وَبِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ» الْخَبَرُ وَجَوَابُهُ عَنْ الْآيَةِ الْأُولَى: بِأَنَّ ذَلِكَ فِي صُحُفِ إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى قَالَ عِكْرِمَةُ: هَذَا فِي حَقِّهِمْ خَاصَّةً بِخِلَافِ شَرْعِنَا؛ بِدَلِيلِ حَدِيثِ الْخَثْعَمِيَّةِ، أَوْ بِأَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ: {وَاَلَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ} أَوْ أَنَّهَا مُخْتَصَّةٌ بِالْكَافِرِ أَيْ: لَيْسَ لَهُ مِنْ الْخَيْرِ إلَّا جَزَاءُ سَعْيِهِ، يُوَفَّاهُ فِي الدُّنْيَا وَمَالَهُ فِي الْآخِرَة مِنْ نَصِيبٍ أَوْ أَنَّ مَعْنَاهَا لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إلَّا مَا سَعَى عَدْلًا، وَلَهُ مَا سَعَى غَيْرُهُ فَضْلًا أَوْ أَنَّ اللَّامَ بِمَعْنَى عَلَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى {أُولَئِكَ لَهُمْ اللَّعْنَةُ} وَعَنْ الثَّانِيَةِ: بِأَنَّهَا تَدُلَّ بِالْمَفْهُومِ وَمَنْطُوقُ السُّنَّةِ بِخِلَافِهِ وَعَنْ الْحَدِيثِ بِأَنَّ الْكَلَامَ فِي عَمَلِ غَيْرِهِ لَا عَمَلِهِ.
وَلَا يَضُرُّ جَهْلُ الْفَاعِلِ بِالثَّوَابِ لِأَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ: أَوْ لَا كَصَلَاةٍ: هُوَ مَعْنَى قَوْلِ الْقَاضِي: إذَا صَلَّى فَرْضًا وَأَهْدَى ثَوَابَهُ صَحَّتْ الْهَدِيَّةُ وَأَجْزَأَ مَا عَلَيْهِ قَالَ فِي الْمُبْدِعِ: وَفِيهِ بُعْدٌ وَعُلِمَ مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّهُ إذَا جَعَلَهَا لِغَيْرِ مُسْلِمٍ لَا يَنْفَعُهُ وَهُوَ صَحِيحٌ لِنَصٍّ وَرَدَ فِيهِ قَالَهُ فِي الْبِدْعِ، فَعَلَى هَذَا، لَا يُفْتَقَرُ أَنْ يَنْوِيَهُ حَالَ الْقِرَاءَةِ نَصَّ عَلَيْهِ (وَاعْتَبَرَ بَعْضُهُمْ) فِي حُصُولِ الثَّوَابِ لِلْمَجْعُولِ لَهُ (إذَا نَوَاهُ حَالَ الْفِعْلِ) أَيْ: الْقِرَاءَةِ أَوْ الِاسْتِغْفَارِ وَنَحْوِهِ (أَوْ) نَوَاهُ (قَبْلَهُ) أَيْ: قَبْلَ الْفِعْلِ دُونَ مَا نَوَاهُ بَعْدَهُ نَقَلَهُ فِي الْفُرُوعِ عَنْ مُفْرَدَاتِ ابْنِ عَقِيلٍ، وَرَدَّهُ (وَيُسْتَحَبُّ إهْدَاءُ ذَلِكَ، فَيَقُولُ: اللَّهُمَّ اجْعَلْ ثَوَابَ كَذَا لِفُلَانٍ) وَذَكَر الْقَاضِي أَنَّهُ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إنْ كُنْتَ أَثَبْتَنِي عَلَى هَذَا فَاجْعَلْهُ أَوْ مَا تَشَاءُ مِنْهُ لِفُلَانٍ، وَ(قَالَ ابْنُ تَمِيمٍ: وَالْأَوْلَى أَنْ يَسْأَلَ الْأَجْرَ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى، ثُمَّ يَجْعَلُهُ لَهُ) أَيْ: لِلْمُهْدَى لَهُ (فَيَقُولُ: اللَّهُمَّ أَثِبْنِي بِرَحْمَتِكَ عَلَى ذَلِكَ وَاجْعَلْ ثَوَابَهُ لِفُلَانٍ) وَلِلْمُهْدِي ثَوَابُ الْإِهْدَاءِ وَذَكَرَ الْقَاضِي: وَلِلْمُهْدِي ثَوَابُ الْإِهْدَاءِ وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: يُثَابُ كُلٌّ مِنْ الْمُهْدِي وَالْمُهْدَى لَهُ وَفَضْلُ اللَّهِ وَاسِعٌ.
(وَيُسَنُّ أَنْ يُصْنَعَ لِأَهْلِ الْمَيِّتِ طَعَامٌ يُبْعَثُ بِهِ إلَيْهِمْ ثَلَاثًا) أَيْ: ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، لِقَوْلِهِ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «اصْنَعُوا لِآلِ جَعْفَرَ طَعَامًا فَقَدْ أَتَاهُمْ مَا يَشْغَلُهُمْ» رَوَاه الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ قَالَ الزُّبَيْرُ فَعَمَدَتْ سَلْمَى مَوْلَاةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى شَعِيرٍ فَطَحَنَتْهُ وَأَدَمَتْهُ بِزَيْتٍ جُعِلَ عَلَيْهِ، وَبَعَثَتْ بِهِ إلَيْهِمْ وَيُرْوَى عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ أَنَّهُ قَالَ فَمَا زَالَتْ السُّنَّةُ فِينَا حَتَّى تَرَكَهَا مَنْ تَرَكَهَا وَسَوَاءٌ كَانَ الْمَيِّتُ حَاضِرًا أَوْ غَائِبًا وَأَتَاهُمْ نَعْيُهُ، وَيَنْوِي فِعْلَ ذَلِكَ لِأَهْلِ الْمَيِّتِ (لَا لِمَنْ يَجْتَمِعُ عِنْدَهُمْ، فَيُكْرَهُ) لِأَنَّهُ مَعُونَةٌ عَلَى مَكْرُوهٍ، وَهُوَ اجْتِمَاعُ النَّاسِ عِنْدَ أَهْلِ الْمَيِّتِ نَقَلَ الْمَرُّوذِيُّ عَنْ أَحْمَدَ هُوَ مِنْ أَفْعَالِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَأَنْكَرَ شَدِيدًا، وَلِأَحْمَدَ وَغَيْرِهِ عَنْ جَرِيرٍ وَإِسْنَادُهُ ثِقَاتٌ قَالَ: «كُنَّا نَعُدُّ الِاجْتِمَاعَ إلَى أَهْلِ الْمَيِّتِ وَصَنْعَةَ الطَّعَامِ بَعْدَ دَفْنِهِ مِنْ النِّيَاحَةِ».
(وَيُكْرَهُ فِعْلُهُمْ) أَيْ: فِعْلُ أَهْلِ الْمَيِّتِ (ذَلِكَ) أَيْ: الطَّعَامِ (لِلنَّاسِ) الَّذِينَ يَجْتَمِعُونَ عِنْدَهُمْ، لِمَا تَقَدَّمَ (قَالَ الْمُوَفَّقُ وَغَيْرُهُ) كَالشَّارِحِ (إلَّا مِنْ حَاجَةٍ) تَدْعُو إلَى فِعْلِهِمْ الطَّعَامَ لِلنَّاسِ (كَأَنْ يَجِيئَهُمْ مَنْ يَحْضُرُ مِنْهُمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى الْبَعِيدَةِ وَيَبِيتُ عِنْدَهُمْ، فَلَا يُمْكِنُهُمْ) عَادَةً (إلَّا أَنْ يُطْعِمُوهُ) فَيَصْنَعُونَ مَا يُطْعِمُونَهُ لَهُ.
(وَيُكْرَهُ الْأَكْلُ مِنْ طَعَامِهِمْ، قَالَهُ فِي النَّظْمِ وَإِنْ كَانَ مِنْ التَّرِكَةِ وَفِي الْوَرَثَةِ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ) أَوْ مَنْ لَمْ يَأْذَنْ (حَرُمَ فِعْلُهُ، وَ) حَرُمَ (الْأَكْلُ مِنْهُ) لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي مَالِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ، أَوْ مَالِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ.
(وَيُكْرَهُ الذَّبْحُ عِنْدَ الْقَبْرِ وَالْأَكْلُ مِنْهُ) لِخَبَرِ أَنَسٍ «لَا عَقْرَ فِي الْإِسْلَامِ» رَوَاه أَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ قَالَ فِي الْفُرُوعِ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَقَالَ: قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَكَانُوا يَعْقِرُونَ عِنْدَ الْقَبْرِ بَقَرَةً أَوْ شَاةً وَقَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ الْمَرُّوذِيِّ: كَانُوا إذَا مَاتَ لَهُمْ الْمَيِّتُ نَحَرُوا جَزُورًا فَنَهَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ: وَفَسَّرَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ بِغَيْرِ هَذَا.
(قَالَ الشَّيْخُ) يَحْرُمُ الذَّبْحُ (وَالتَّضْحِيَةُ) عِنْدَ الْقَبْرِ (وَلَوْ نَذَرَ ذَلِكَ نَاذِرٌ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُوفِيَ بِهِ) كَمَا يَأْتِي فِي نَذْرِ الْمَكْرُوهِ وَالْمُحَرَّمِ (فَلَوْ شَرَطَهُ وَاقِفٌ لَكَانَ شَرْطًا فَاسِدًا وَأُنْكِرَ) أَيْ: أُدْخِلَ فِي الْمُنْكَرِ (مِنْ ذَلِكَ) أَيْ: مِنْ الذَّبْحِ عِنْدَ الْقَبْرِ وَالْأَكْلِ مِنْهُ (أَنْ يُوضَعَ عَلَى الْقَبْرِ الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ، لِيَأْخُذَهُ النَّاسُ، وَإِخْرَاجُ الصَّدَقَةِ مَعَ الْجِنَازَةِ) كَالَّتِي يُسَمُّونَهَا بِمِصْرَ كَفَّارَةً (بِدْعَةٌ مَكْرُوهَةٌ) إنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْوَرَثَةِ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ: أَوْ غَائِبٌ، وَإِلَّا فَحَرَامٌ (وَفِي مَعْنَى ذَلِكَ) أَيْ: الذَّبْحِ عِنْدَ الْقَبْرِ (الصَّدَقَةُ عِنْدَ الْقَبْرِ) فَإِنَّ ذَلِكَ مُحْدَثٌ وَفِيهِ رِيَاءٌ.