فصل: (فَصْلٌ): فيما يجب على مَنْ أَرَادَ الْخُرُوجَ مِنْ مَكَّةَ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: كشاف القناع عن متن الإقناع



.(فَصْلٌ): فيما يجب على مَنْ أَرَادَ الْخُرُوجَ مِنْ مَكَّةَ:

(فَإِذَا أَرَادَ الْخُرُوجَ) مِنْ مَكَّةَ (لَمْ يَخْرُجْ حَتَّى يُوَدِّعَ الْبَيْتَ بِالطَّوَافِ إذَا فَرَغَ مِنْ جَمِيعِ أُمُورِهِ إنْ لَمْ يُقِمْ بِمَكَّةَ أَوْ حَرَمِهَا) لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ «أُمِرَ النَّاسُ أَنْ يَكُونَ عَهْدَهُمْ بِالْبَيْتِ إلَّا أَنَّهُ خُفِّفَ عَنْ الْمَرْأَةِ الْحَائِضِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَفِي لَفْظِ مُسْلِمٍ قَالَ «كَانَ النَّاسُ يَنْصَرِفُونَ فِي كُلِّ وَجْهٍ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَنْفِرَنَّ أَحَدٌ حَتَّى يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِ بِالْبَيْتِ» وَلِأَبِي دَاوُد حَتَّى يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ.
(وَمَنْ كَانَ خَارِجَهُ) أَيْ: خَارِجَ الْحَرَمِ ثُمَّ أَرَادَ الْخُرُوجَ مِنْ مَكَّةَ (فَعَلَيْهِ الْوَدَاعُ) سَوَاءٌ أَرَادَ الرُّجُوعَ إلَى بَلَدِهِ أَوْ غَيْرِهَا لِمَا تَقَدَّمَ.
(وَهُوَ عَلَى كُلِّ خَارِجٍ مِنْ مَكَّةَ) قَالَ الْقَاضِي وَالْأَصْحَابُ: إنَّمَا يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ عِنْدَ الْعَزْمِ عَلَى الْخُرُوجِ وَاحْتَجَّ بِهِ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الْحَجِّ (ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ خَلْفَ الْمَقَامِ) كَسَائِرِ الطَّوَّافَاتِ (وَيَأْتِي الْحَطِيمَ وَهُوَ تَحْتَ الْمِيزَابِ فَيَدْعُو ثُمَّ يَأْتِي زَمْزَمَ فَيَشْرَبُ مِنْهَا ثُمَّ يَسْتَلِمُ الْحَجَرَ وَيُقَبِّلهُ وَيَدْعُو فِي الْمُلْتَزَمِ بِمَا يَأْتِي) مِنْ الدُّعَاءِ.
(فَإِنْ وَدَّعَ ثُمَّ اشْتَغَلَ بِغَيْرِ شَدِّ رَحْلٍ وَنَحْوِهِ أَوْ اتَّجَرَ أَوْ أَقَامَ أَعَادَ الْوَدَاعَ) وُجُوبًا؛ لِأَنَّ طَوَافَ الْوَدَاعِ إنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ خُرُوجِهِ، لَيَكُونَ آخِرَ عَهْدِهِ بِالْبَيْتِ وَلَا يُعِيدُ الْوَدَاعَ (إنْ اشْتَرَى حَاجَةً فِي طَرِيقِهِ) أَوْ اشْتَرَى زَادَا أَوْ شَيْئًا لِنَفْسِهِ (أَوْ صَلَّى)؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَمْنَعُ أَنَّ آخِرَ عَهْدِهِ بِالْبَيْتِ الطَّوَافُ.
(فَإِنْ خَرَجَ قَبْلَهُ) أَيْ: قَبْلَ الْوَدَاعِ (فَعَلَيْهِ الرُّجُوعُ إلَيْهِ) أَيْ: إلَى الْوَدَاعِ (لِفِعْلِهِ إنْ كَانَ قَرِيبًا) دُونَ مَسَافَةِ الْقَصْرِ وَلَمْ (يَخَفْ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ مَالِهِ أَوْ فَوَاتِ رُفْقَتِهِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ) مِنْ الْأَعْذَارِ (وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ إذَا رَجَعَ) قَرِيبًا سَوَاءٌ كَانَ مِمَّنْ لَهُ عُذْرٌ يُسْقِطُ عَنْهُ الرُّجُوعَ أَوْ لَا؛ لِأَنَّ الدَّمَ لَمْ يَسْتَقِرّ عَلَيْهِ لِكَوْنِهِ فِي حُكْمِ الْحَاضِرِ (فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ) الرُّجُوعُ لِعُذْرٍ مِمَّا تَقَدَّمَ أَوْ لِغَيْرِهِ (أَوْ أَمْكَنَهُ) الرُّجُوعُ لِلْوَدَاعِ.
(وَلَمْ يَرْجِعْ أَوْ بَعْدَ مَسَافَةِ قَصْرٍ) عَنْ مَكَّةَ (فَعَلَيْهِ دَمٌ رَجَعَ) إلَى مَكَّةَ وَطَافَ لِلْوَدَاعِ (أَوْ لَا)؛ لِأَنَّهُ قَدْ اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ بِبُلُوغِهِ مَسَافَةَ الْقَصْرِ فَلَمْ يَسْقُطْ بِرُجُوعِهِ كَمَنْ تَجَاوَزَ الْمِيقَاتَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ ثُمَّ أَحْرَمَ ثُمَّ رَجَعَ إلَى الْمِيقَاتِ (وَسَوَاءٌ تَرَكَهُ) أَيْ: طَوَافَ الْوَدَاعِ (عَمْدًا أَوْ خَطَأً أَوْ نِسْيَانًا) لِعُذْرٍ أَوْ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ وَاجِبَاتِ الْحَجِّ فَاسْتَوَى عَمْدُهُ وَخَطَؤُهُ وَالْمَعْذُورُ وَغَيْرُهُ كَسَائِرِ وَاجِبَاتِ الْحَجِّ (وَمَتَى رَجَعَ مَعَ الْقُرْبِ لَمْ يَلْزَمْهُ إحْرَامٌ)؛ لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ الْحَاضِرِ (وَيَلْزَمُهُ مَعَ الْبُعْدِ الْإِحْرَامُ بِعُمْرَةٍ يَأْتِي بِهَا) فَيَطُوفُ وَيَسْعَى وَيَحْلِقُ أَوْ يُقَصِّرُ (ثُمَّ يَطُوفُ لِلْوَدَاعِ) إذَا فَرَغَ مِنْ أُمُورِهِ.
(وَإِنْ أَخَّرَ طَوَافَ الزِّيَارَةِ) وَنَصَّهُ (أَوْ الْقُدُومِ فَطَافَهُ عِنْدَ الْخُرُوجِ كَفَاهُ) ذَلِكَ الطَّوَافُ (عَنْهُمَا)؛ لِأَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ أَنْ يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِ بِالْبَيْتِ الطَّوَافَ وَقَدْ فَعَلَ؛ وَلِأَنَّ مَا شُرِعَ مِثْلُ تَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ يُجْزِئ عَنْهُ الْوَاجِبُ مِنْ جِنْسِهِ كَإِجْزَاءِ الْمَكْتُوبَةِ عَنْ تَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ وَكَإِجْزَاءِ الْمَكْتُوبَةِ أَيْضًا عَنْ رَكْعَتَيْ الطَّوَافِ وَعَنْ رَكْعَتَيْ الْإِحْرَامِ فَإِنْ نَوَى بِطَوَافِهِ الْوَدَاعَ لَمْ يُجْزِئهُ عَنْ طَوَافِ الزِّيَارَةِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى».
(وَلَا وَدَاعَ عَلَى حَائِضٍ وَنُفَسَاءَ) لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ «إلَّا أَنَّهُ خُفِّفَ عَنْ الْحَائِضِ» وَالنُّفَسَاءُ فِي مَعْنَاهَا (وَلَا فِدْيَةَ عَلَى الْحَائِضِ أَوْ النُّفَسَاءِ) لِظَاهِرِ حَدِيثِ صَفِيَّةَ فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَأْمُرْهَا بِفِدْيَةٍ (إلَّا أَنْ تَطْهُرَ قَبْلَ مُفَارَقَةِ الْبُنْيَانِ فَتَرْجِعُ وَتَغْتَسِلُ) لِلْحَيْضِ أَوْ النِّفَاسِ.
(وَتُوَدِّعُ)؛ لِأَنَّهَا فِي حُكْمِ الْحَاضِرَةِ (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ) أَيْ: تَرْجِعُ لِلْوَدَاعِ مَعَ طُهْرِهَا قَبْلَ مُفَارَقَةِ الْبُنْيَانِ (وَلَوْ لِعُذْرٍ فَعَلَيْهَا دَمٌ) لِتَرْكِهَا نُسُكًا وَاجِبًا.
(فَإِذَا فَرَغَ مِنْ الْوَدَاعِ وَاسْتَلَمَ الْحَجَرَ وَقَبَّلَهُ وَقَفَ فِي الْمُلْتَزَمِ) وَهُوَ (مَا بَيْنَ) الرُّكْنِ الَّذِي بِهِ (الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ وَبَابُ الْكَعْبَةِ) وَذَرْعُهُ أَرْبَعَةُ أَذْرُعٍ (فَيَلْتَزِمَهُ) أَيْ: الْمُلْتَزَمَ (مُلْصِقًا بِهِ صَدْرَهُ وَوَجْهَهُ وَبَطْنَهُ وَيَبْسُطُ يَدَيْهِ عَلَيْهِ وَيَجْعَلُ يَمِينَهُ نَحْوَ الْبَابِ وَيَسَارَهُ نَحْوَ الْحَجَرِ) لِمَا رَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ «طُفْتُ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ فَلَمَّا جَاءَ دُبُرَ الْكَعْبَةِ قُلْتُ: أَلَا تَتَعَوَّذُ؟ قَالَ نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ النَّارِ ثُمَّ اسْتَلَمَ الْحَجَرَ فَقَامَ بَيْنَ الرُّكْنِ وَالْبَابِ فَوَضَعَ صَدْرَهُ وَذِرَاعَيْهِ وَكَفَّيْهِ هَكَذَا وَبَسَطَهُمَا بَسْطًا وَقَالَ: هَكَذَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد.
(وَيَدْعُو بِمَا أَحَبَّ مِنْ خَيْرَيْ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنْهُ: اللَّهُمَّ هَذَا بَيْتُكَ وَأَنَا عَبْدُكَ وَابْنُ عَبْدِكَ وَابْنُ أَمَتِكَ حَمَلْتَنِي عَلَى مَا سَخَّرْتَ لِي مِنْ خَلْقِكَ وَسَيَّرْتنِي فِي بِلَادِكَ حَتَّى بَلَّغْتَنِي بِنِعْمَتِكَ إلَى بَيْتِكَ، وَأَعَنْتَنِي عَلَى أَدَاءِ نُسُكِي فَإِنْ كُنْتَ رَضِيتَ عَنِّي فَازْدَدْ عَنِّي رِضًا، وَإِلَّا فَمُنَّ) الْوَجْهُ فِيهِ ضَمُّ الْمِيمِ وَتَشْدِيدُ النُّونِ عَلَى أَنَّهُ صِيغَةُ أَمْرٍ مِنْ مَنَّ يَمُنُّ مَقْصُودًا بِهِ الدُّعَاءَ وَيَجُوزُ كَسْرُ الْمِيمِ وَفَتْحُ النُّونِ عَلَى أَنَّهُ حَرْفُ جَرٍّ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ (الْآنَ) أَيْ: هَذَا الْوَقْتُ الْحَاضِرُ وَجَمْعُهُ آوِنَةٌ كَزَمَانٍ وَأَزْمِنَةٍ (قَبْلَ أَنْ تَنْأَى) أَيْ: تَبْعُدَ (عَنْ بَيْتِكَ دَارِي، فَهَذَا أَوَانُ انْصِرَافِي) أَيْ: زَمَنُهُ (إنْ أَذِنْتَ لِي غَيْرُ مُسْتَبْدِلٍ بِكَ وَلَا بِبَيْتِكَ وَلَا رَاغِبٌ عَنْكَ وَلَا عَنْ بَيْتِكَ اللَّهُمَّ فَأَصْحَبَنِي) بِقَطْعِ الْهَمْزَةِ (الْعَافِيَةَ فِي بَدَنِي وَالصِّحَّةَ فِي جِسْمِي وَالْعِصْمَةَ فِي دِينِي) وَهِيَ الْمَنْعُ مِنْ الْمَعَاصِي.
(وَأَحْسِنْ) بِقَطْعِ الْهَمْزَةِ (مُنْقَلَبِي وَارْزُقْنِي طَاعَتَكَ مَا أَبْقَيْتَنِي وَاجْمَعْ لِي خَيْرَيْ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ إنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٍ وَإِنْ أَحَبَّ دَعَا بِغَيْرِ ذَلِكَ وَيُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا خَرَجَ وَلَّاهَا ظَهْرَهُ وَلَا يَلْتَفِتُ) قَالَ أَحْمَدُ فَإِذَا وَلَّى لَا يَقِفُ وَلَا يَلْتَفِتُ (فَإِنْ فَعَلَ) أَيْ: الْتَفَتَ (أَعَادَ الْوَدَاعَ) نَصَّ عَلَيْهِ يَعْنِي: (اسْتِحْبَابًا) قَالَ فِي الشَّرْحِ: إذْ لَا نَعْلَمُ لِإِيجَابِ ذَلِكَ عَلَيْهِ دَلِيلًا.
(وَقَدْ قَالَ مُجَاهِدٌ إذَا كِدْتَ تَخْرُجَ مِنْ الْمَسْجِدِ فَالْتَفِتْ ثُمَّ اُنْظُرْ إلَى الْكَعْبَةِ فَقُلْ: اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلهُ آخِرَ الْعَهْدِ) وَرَوَى حَنْبَلٌ عَنْ الْمُهَاجِرِ قَالَ قُلْتُ: لِجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الرَّجُلُ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ وَيُصَلِّي فَإِذَا انْصَرَفَ خَرَجَ، ثُمَّ اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ؟ فَقَالَ جَابِرٌ مَا كُنْتُ أَحْسَبُ يَصْنَعُ هَذَا إلَّا الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَكَرَهُ ذَلِكَ (وَالْحَائِضُ) أَوْ النُّفَسَاءُ (تَقِفُ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ) الْحَرَامِ (وَتَدْعُو بِذَلِكَ) الدُّعَاءِ اسْتِحْبَابًا لِتَعَذُّرِ دُخُولِهِ عَلَيْهَا.

.(فَصْلٌ): في زِيَارَةِ الْمُصْطَفَى:

وَإِذَا فَرَغَ مِنْ الْحَجِّ اُسْتُحِبَّ لَهُ زِيَارَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَبْرَيْ صَاحِبَيْهِ) أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ (رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا) لِحَدِيثِ الدَّارَقُطْنِيّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَنْ حَجَّ فَزَارَ قَبْرِي بَعْدَ وَفَاتِي فَكَأَنَّمَا زَارَنِي فِي حَيَاتِي».
وَفِي رِوَايَةٍ «مَنْ زَارَ قَبْرِي وَجَبَتْ لَهُ شَفَاعَتِي» رَوَاهُ بِاللَّفْظِ الْأَوَّلِ سَعِيدٌ.
تَنْبِيهٌ:
قَالَ ابْنُ نَصْرِ اللَّهِ: لَازِمُ اسْتِحْبَابِ زِيَارَةِ قَبْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتِحْبَابُ شَدِّ الرِّحَالِ إلَيْهَا؛ لِأَنَّ زِيَارَتَهُ لِلْحَاجِّ بَعْدَ حَجِّهِ لَا تُمْكِنُ بِدُونِ شَدِّ الرَّحْلِ فَهَذَا كَالتَّصْرِيحِ بِاسْتِحْبَابِ شَدِّ الرَّحْلِ لِزِيَارَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
(قَالَ) الْإِمَامُ (أَحْمَدُ إذَا حَجَّ الَّذِي لَمْ يَحُجَّ قَطُّ يَعْنِي مِنْ غَيْرِ طَرِيقِ الشَّامِ لَا يَأْخُذُ عَلَى طَرِيقِ الْمَدِينَةِ؛ لِأَنَّهُ إنْ حَدَثَ بِهِ حَدَثُ الْمَوْتِ كَانَ فِي سَبِيلِ الْحَجِّ) وَهُوَ مِنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَيَكُونُ شَهِيدًا، عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَحْثُهُ عَنْ صَاحِبِ الْفُرُوعِ وَعِبَارَةُ الشَّرْحِ وَشَرْحِ الْمُنْتَهَى: لَا يَأْخُذُ عَلَى طَرِيقِ الْمَدِينَةِ لِأَنِّي أَخَافُ أَنْ يَحْدُثَ بِهِ حَدَثٌ فَيَنْبَغِي أَنْ يَقْصِدَ مَكَّةَ مِنْ أَقْصَرِ الطَّرِيقِ وَلَا يَتَشَاغَلَ بِغَيْرِهِ (وَإِنْ كَانَ) الْحَجُّ (تَطَوُّعًا بَدَأَ بِالْمَدِينَةِ) قَالَ ابْنُ نَصْرِ اللَّهِ فِي هَذَا: إنَّ الزِّيَارَةَ أَفْضَلُ مِنْ حَجِّ التَّطَوُّعِ وَإِنَّ حَجَّ الْفَرْضِ أَفْضَلُ مِنْهَا انْتَهَى قُلْتُ: قَدْ يَتَوَقَّفُ فِي ذَلِكَ، وَإِنَّمَا أَرَادَ الْإِمَامُ أَنْ يَنْضَمَّ إلَى قَصْدِ الْحَجِّ قَصْدُ الزِّيَارَةِ، فَيُثَابُ عَلَيْهِمَا بِخِلَافِ حَجِّ الْفَرْضِ فَيُمَحِّضُ النِّيَّةَ لَهُ.
(فَإِذَا دَخَلَ مَسْجِدَهَا) أَيْ: مَسْجِدَ الْمَدِينَةِ (سُنَّ لَهُ أَنْ يَقُولَ) عِنْدَ دُخُولِهِ (مَا يَقُولَ فِي دُخُولِ غَيْرِهِ مِنْ الْمَسَاجِدِ) وَتَقَدَّمَ فِي صِفَةِ الصَّلَاةِ (ثُمَّ يُصَلِّيَ تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ) لِعُمُومِ الْأَوَامِرِ (ثُمَّ يَأْتِيَ الْقَبْرَ الشَّرِيفَ، فَيَقِفَ قُبَالَةَ وَجْهِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسْتَدْبِرَ الْقِبْلَةِ، وَيَسْتَقْبِلَ جِدَارَ الْحُجْرَةِ، وَ) يَسْتَقْبِلَ (الْمِسْمَارَ الْفِضَّةَ فِي الرُّخَامَةِ الْحَمْرَاءِ) وَيُسْمَى الْآنَ بِالْكَوْكَبِ الدُّرِّيِّ (فَيُسَلِّمَ عَلَيْهِ) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَيَقُولَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَانَ) عَبْدُ اللَّهِ (ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) وَعَنْ أَبِيهِ وَعَنْ سَائِرِ الصَّحَابَةِ (لَا يَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ وَإِنْ زَادَ) عَلَيْهِ (فَحَسَنٌ).
قَالَ فِي الشَّرْحِ وَشَرْحِ الْمُنْتَهَى: وَيَقُولُ: السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ وَخِيرَتِهِ مِنْ خَلْقِهِ وَعِبَادِهِ أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ أَشْهَدُ أَنَّكَ بَلَّغْتَ رِسَالَاتِ رَبِّكَ، وَنَصَحْتَ لِأُمَّتِكَ وَدَعَوْتَ إلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَعَبَدْتَ اللَّهَ حَتَّى أَتَاكَ الْيَقِينُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْكَ كَثِيرًا كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى اللَّهُمَّ أَجْزِ عَنَّا نَبِيَّنَا أَفْضَلَ مَا جَزَيْتَ أَحَدًا مِنْ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ، وَابْعَثْهُ مَقَامًا مَحْمُودًا الَّذِي وَعَدْتَهُ يَغْبِطُهُ بِهِ الْأَوَّلُونَ وَالْآخِرُونَ اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ اللَّهُمَّ إنَّكَ قُلْتَ وَقَوْلُكَ الْحَقُّ {وَلَوْ أَنَّهُمْ إذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} وَقَدْ أَتَيْتُكَ مُسْتَغْفِرًا مِنْ ذُنُوبِي مُسْتَشْفِعًا بِكَ إلَى رَبِّكَ فَأَسْأَلُكَ يَا رَبِّ أَنْ تُوجِبَ لِي الْمَغْفِرَةَ كَمَا أَوْجَبْتَهَا لِمَنْ آتَاهُ فِي حَيَاتِهِ.
اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ أَوَّلَ الشَّافِعِينَ، وَأَنْجَحَ السَّائِلِينَ وَأَكْرَمَ الْأَوَّلِينَ، وَالْآخِرِينَ، بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ ثُمَّ يَدْعُو لِوَالِدَيْهِ وَلِإِخْوَانِهِ وَلِلْمُسْلِمِينَ أَجْمَعِينَ.
فَائِدَةٌ:
يُرْوَى عَنْ الْعُتْبِيِّ قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَاءَ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ سَمِعْتُ اللَّهَ يَقُولُ {وَلَوْ أَنَّهُمْ إذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} وَقَدْ جِئْتُكَ مُسْتَغْفِرًا مِنْ ذُنُوبِي مُسْتَشْفِعًا بِكَ إلَى رَبِّي ثُمَّ أَنْشَأَ يَقُولُ: يَا خَيْرَ مَنْ دُفِنَتْ بِالْقَاعِ أَعْظُمُهُ فَطَابَ مِنْ طِيبِهِنَّ الْقَاعُ وَالْأَكَمُ نَفْسِي الْفِدَاءُ لِقَبْرٍ أَنْتَ سَاكِنُهُ فِيهِ الْعَفَافُ وَفِيهِ الْجُودُ وَالْكَرَمُ ثُمَّ انْصَرَفَ الْأَعْرَابِيُّ، فَحَمَلَتْنِي عَيْنَيَّ فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النَّوْمِ فَقَالَ: يَا عُتْبِيُّ الْحَقْ الْأَعْرَابِيَّ فَبَشِّرْهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ غَفَرَ لَهُ.
(وَلَا يَرْفَعُ صَوْتَهُ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ} وَحُرْمَتُهُ مَيِّتًا كَحُرْمَتِهِ حَيَّا (ثُمَّ يَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ و) يَجْعَلُ (الْحُجْرَةَ عَنْ يَسَارِهِ قَرِيبًا لِئَلَّا يَسْتَدْبِرَ قَبْرَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَدْعُو) بِمَا أَحَبَّ (ثُمَّ يَتَقَدَّمُ قَلِيلًا مِنْ مَقَامِ سَلَامِهِ) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (نَحْو ذِرَاعٍ عَلَى يَمِينِهِ، فَيُسَلِّمُ عَلَى أَبِي بَكْرٍ) الصِّدِّيقِ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) فَيَقُولُ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقِ (ثُمَّ يَتَقَدَّمُ نَحْوَ ذِرَاعٍ عَلَى يَمِينِهِ فَيُسَلِّمُ عَلَى عُمَرَ) بْنِ الْخَطَّابِ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) فَيَقُولُ السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا عُمَرَ الْفَارُوقِ، وَيَقُولُ: السَّلَامُ عَلَيْكُمَا يَا صَاحِبَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَضَجِيعَيْهِ، وَوَزِيرَيْهِ اللَّهُمَّ اجْزِهِمَا عَنْ نَبِيِّهِمَا وَعَنْ الْإِسْلَامِ خَيْرًا، {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْهُ آخِرَ الْعَهْدِ مِنْ قَبْرِ نَبِيِّكَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمِنْ حَرَمِ مَسْجِدَكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ.
قَالَ فِي الشَّرْحِ وَشَرْحِ الْمُنْتَهَى (وَلَا يَتَمَسَّحُ وَلَا يَمَسُّ قَبْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا حَائِطَهُ وَلَا يُلْصِقُ بِهِ صَدْرَهُ وَلَا يُقَبِّلَهُ) أَيْ: يُكْرَهُ ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ إسَاءَةِ الْأَدَبِ وَالِابْتِدَاعِ قَالَ الْأَثْرَمُ: رَأَيْتُ أَهْلَ الْعِلْمِ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَا يَمَسُّونَ قَبْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ يَقُومُونَ مِنْ نَاحِيَةٍ فَيُسَلِّمُونَ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ وَهَكَذَا كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَفْعَلُ وَأَمَّا الْمِنْبَرُ فَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَضَعُ يَدَهُ عَلَى مَقْعَدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْمِنْبَرِ ثُمَّ يَضَعَهَا عَلَى وَجْهِهِ.
(قَالَ الشَّيْخُ: وَيَحْرُمُ طَوَافُهُ بِغَيْرِ الْبَيْتِ الْعَتِيقِ اتِّفَاقًا) وَقَالَ: وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يُقَبِّلُهُ وَلَا يَتَمَسَّحُ بِهِ فَإِنَّهُ مِنْ الشِّرْكِ وَقَالَ وَالشِّرْكُ لَا يَغْفِرَهُ اللَّهُ، وَلَوْ كَانَ أَصْغَرَ.
(قَالَ) أَبُو الْوَفَاءِ عَلِيٌّ (ابْنُ عَقِيلٍ وَ) أَبُو الْفَرَجِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ (بْنُ الْجَوْزِيِّ: يُكْرَهُ قَصْدُ الْقُبُورِ لِلدُّعَاءِ) فَعَلَيْهِ لَا يَتَرَخَّصُ مَنْ سَافَرَ لَهُ.
(قَالَ الشَّيْخُ: وَ) يُكْرَهُ (وُقُوفُهُ عِنْدَهَا) أَيْ: الْقُبُورِ (لَهُ) أَيْ: لِلدُّعَاءِ.
(أَيْضًا، وَتُسْتَحَبُّ الصَّلَاةُ بِمَسْجِدِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ بِأَلْفِ صَلَاةٍ، وَ) الصَّلَاةُ (بِالْمَسْجِدِ الْحَرَام بِمِائَةِ أَلْفِ) صَلَاةٍ.
(وَ) الصَّلَاةُ (فِي) الْمَسْجِدِ (الْأَقْصَى بِخَمْسِمِائَةِ) صَلَاةٍ وَتَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي الِاعْتِكَافِ مُسْتَوْفًى بِأَدِلَّتِهِ.
(وَحَسَنَاتُ الْحَرَمِ) فِي الْمُضَاعَفَةِ (كَصَلَاتِهِ) لِمَا تَقَدَّمَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعَا «مَنْ حَجَّ مِنْ مَكَّةَ مَاشِيًا حَتَّى يَرْجِعَ إلَى مَكَّةَ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِكُلِّ خُطْوَةٍ سَبْعَمِائَةِ حَسَنَةٍ مِنْ حَسَنَاتِ الْحَرَمِ قِيلَ لَهُ: وَمَا حَسَنَاتُ الْحَرَمِ؟ قَالَ: بِكُلِّ حَسَنَةٍ مِائَةُ أَلْفِ حَسَنَةٍ» (وَتَعْظُمُ السَّيِّئَاتُ بِهِ) سُئِلَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ: هَلْ تُكْتَبُ السَّيِّئَةُ أَكْثَرُ مِنْ وَاحِدَةٍ؟ قَالَ: لَا إلَّا بِمَكَّةَ لِتَعْظِيمِ الْبَلَدِ وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا بِعَدَنٍ وَهَمَّ أَنْ يَقْتُلَ عِنْدَ الْبَيْتِ أَذَاقَهُ اللَّهُ مِنْ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ انْتَهَى وَظَاهِرُ كَلَامِهِ: أَنَّ الْمُضَاعَفَةَ فِي الْكَيْفِ لَا الْكَمِّ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ وَظَاهِرُ كَلَامِهِ فِي الْمُنْتَهَى تَبَعًا لِلْقَاضِي وَغَيْرِهِ: أَنَّ التَّضَاعُفَ فِي الْكَمِّ، كَمَا هُوَ ظَاهِرُ نَصِّ الْإِمَامِ، وَكَلَامُ ابْنِ عَبَّاسٍ «مَالِي وَبَلَدٍ تَتَضَاعَفُ فِيهِ السَّيِّئَاتُ كَمَا تَتَضَاعَفُ الْحَسَنَاتُ؟» وَهُوَ خَاصٌّ فَلَا يُعَارِضُهُ عُمُومُ الْآيَاتِ بَلْ تُخَصَّصُ بِهِ؛ لِأَنَّ مِثْلَهُ لَا يُقَالُ مِنْ قِبَلِ الرَّأْيِ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمَرْفُوعِ.
(وَيُسَنُّ أَنْ يَأْتِيَ مَسْجِدَ قُبَا) بِضَمِّ الْقَافِ يُقْصَرُ وَيُمَدُّ وَيُصْرَفُ وَلَا يُصْرَفُ عَلَى مِيلَيْنِ مِنْ الْمَدِينَةِ مِنْ جِهَةِ الْجَنُوبِ قَالَ فِي الْحَاشِيَةِ (فَيُصَلِّيَ فِيهِ) لِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَأْتِيَهُ رَاكِبًا وَمَاشِيًا؛ فَيُصَلِّيَ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ وَفِيهِمَا كَانَ يَأْتِيهِ كُلَّ سَبْتٍ رَاكِبًا وَمَاشِيًا وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَفْعَلهُ.
(وَإِذَا أَرَادَ الْخُرُوجَ) مِنْ الْمَدِينَةِ لِيَعُودَ إلَى وَطَنِهِ- بَعْدَ فِعْلِ مَا تَقَدَّمَ- وَزِيَارَةِ الْبَقِيعِ، وَمَنْ فِيهِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَالْعُلَمَاءِ وَالصَّالِحِينَ (عَادَ إلَى الْمَسْجِدِ) النَّبَوِيِّ (فَيُصَلِّي فِيهِ رَكْعَتَيْنِ، وَعَادَ إلَى قَبْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَدَّعَ وَأَعَادَ الدُّعَاءَ قَالَهُ فِي الْمُسْتَوْعِبِ، وَقَالَ: وَيَعْزِمُ عَلَى أَنْ لَا يَعُودَ إلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ قَبْلَ حَجِّهِ، مِنْ عَمَلٍ لَا يُرْضِي) فَفِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ يَعُودُ كَيَوْمِ وَلَدْتَهُ أُمُّهُ وَيُسْتَجَابُ دُعَاؤُهُ إلَى أَرْبَعِينَ يَوْمًا قَالَهُ فِي الْمُسْتَوْعِبِ وَرَوَى أَبُو الشَّيْخِ الْأَصْفَهَانِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ رِوَايَةِ لَيْثٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: قَالَ عُمَرُ «يُغْفَرُ لِلْحَاجِّ وَلِمَنْ اسْتَغْفَرَ لَهُ الْحَاجُّ بَقِيَّةَ ذِي الْحِجَّةِ وَمُحَرَّمٍ، وَصَفَرٍ وَعَشْرٍ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ» اقْتَصَرَ عَلَيْهِ فِي اللَّطَائِفِ.
(وَيُسَنُّ أَنْ يَقُولَ عِنْدَ مُنْصَرَفِهِ مِنْ حَجِّهِ مُتَوَجِّهًا) إلَى بَلَدِهِ (لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٍ آيِبُونَ) أَيْ: رَاجِعُونَ (تَائِبُونَ، عَابِدُونَ لِرَبِّنَا، حَامِدُونَ صَدَقَ اللَّهُ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ) لِمَا رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «كَانَ إذَا قَفَلَ مِنْ غَزْوٍ أَوْ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ يُكَبِّرُ عَلَى كُلِّ شَرَفٍ مِنْ الْأَرْضِ، ثُمَّ يَقُولُ- فَذَكَرَهُ».
(وَلَا بَأْسَ أَنْ يُقَالَ لِلْحَاجِّ إذَا قَدِمَ: تَقَبَّلَ اللَّهُ نُسُكَكَ وَأَعْظَمَ أَجْرَكَ، وَأَخْلَفَ نَفَقَتَكَ) رَوَاهُ سَعِيدٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ.
(قَالَ فِي الْمُسْتَوْعِبِ: وَكَانُوا) أَيْ: السَّلَفُ (يَغْتَنِمُونَ أَدْعِيَةَ الْحَاجِّ قَبْلَ أَنْ يَتَلَطَّخُوا بِالذُّنُوبِ).
وَفِي الْخَبَرِ «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْحَاجِّ وَلِمَنْ اسْتَغْفَرَ لَهُ الْحَاجُّ».

.(فَصْلٌ: فِي صِفَةِ الْعُمْرَةِ) وَمَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ:

(مَنْ كَانَ فِي الْحَرَمِ مِنْ مَكِّيٍّ وَغَيْرِهِ) وَأَرَادَ الْعُمْرَةَ (خَرَجَ إلَى الْحِلِّ فَأَحْرَمَ مِنْ أَدْنَاهُ) أَيْ: أَقْرَبَهُ إلَى الْحَرَمِ.
(وَ) إحْرَامُهُ (مِنْ التَّنْعِيمِ أَفْضَلُ)؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَمَرَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ أَنْ يُعْمِرَ عَائِشَةَ مِنْ التَّنْعِيمِ» وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ: بَلَغَنِي أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «وَقَّتَ لِأَهْلِ مَكَّةَ التَّنْعِيمَ» وَإِنَّمَا لَزِمَ الْإِحْرَامُ مِنْ الْحِلِّ لِيَجْمَعَ فِي النُّسُكِ بَيْنَ الْحِلِّ وَالْحَرَمِ ثُمَّ يَلِي الْإِحْرَامَ مِنْ التَّنْعِيمِ فِي الْأَفْضَلِيَّةِ الْإِحْرَامُ (مِنْ الْجِعْرَانَةِ) بِكَسْرِ الْجِيمِ وَإِسْكَانِ الْعَيْنِ وَقَدْ تُكْسَرُ الْعَيْنُ وَتُشَدَّدُ الرَّاءِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: التَّشْدِيدُ خَطَأٌ وَهِيَ مَوْضِعٌ بَيْنَ مَكَّةَ وَالطَّائِفِ، خَارِجٌ مِنْ حُدُودِ الْحَرَمِ، يُعْتَمَرُ مِنْهُ، سُمِّيَ بِرَيْطَةَ بِنْتِ سَعْدٍ وَكَانَتْ تُلَقَّبُ بِالْجِعْرَانَةِ قَالَ فِي الْقَامُوسِ وَهِيَ الْمُرَادُ فِي قَوْله تَعَالَى {كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا} (ثُمَّ) يَلِي الْإِحْرَامَ مِنْ الْجِعْرَانَةِ فِي الْأَفْضَلِيَّةِ: الْإِحْرَامُ مِنْ (الْحُدَيْبِيَةِ) مُصَغَّرَةٌ، وَقَدْ تُشَدَّدُ- بِئْرٌ قُرْبَ مَكَّةَ أَوْ شَجَرَةٌ حَدْبَاءُ كَانَتْ هُنَاكَ (ثُمَّ) يَلِي مَا سَبَقَ (مَا بَعُدَ) عَنْ الْحَرَمِ وَعَنْهُ فِي الْمَكِّيِّ: كُلَّمَا تَبَاعَدَ فِي الْعُمْرَةِ فَهُوَ أَعْظَمُ لِلْأَجْرِ.
(وَمَنْ كَانَ خَارِجَ الْحَرَمَ) أَيْ: حَرَمِ مَكَّةَ (دُونَ الْمِيقَاتِ) أَيْ: الْمَوَاقِيتِ الَّتِي سَبَقَتْ فَمِيقَاتُ إحْرَامِهِ بِالْحَجِّ أَوْ الْعُمْرَةِ (مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ) كَمَا تَقَدَّمَ فِي بَابِ الْمَوَاقِيتِ لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ السَّابِقِ هُنَاكَ.
(وَإِنْ كَانَ فِي قَرْيَةٍ) وَأَرَادَ الْإِحْرَامَ (ف) إنَّهُ يَحْرُمُ مِنْ (الْجَانِبِ الْأَقْرَبِ مِنْ الْبَيْتِ) أَيْ: الْحَرَمِ.
(وَ) إحْرَامُهُ (مِنْ) الْجَانِبِ (الْأَبْعَدِ أَفْضَلُ) كَمَنْ بِالْمِيقَاتِ فَإِنَّ إحْرَامَهُ مِنْ الْجَانِبِ الْأَبْعَدِ عَنْ الْحَرَمِ أَفْضَلُ (وَتَقَدَّمَ) فِي الْمَوَاقِيتِ.
(وَتُبَاحُ) الْعُمْرَةُ (كُلَّ وَقْتٍ) مِنْ أَوْقَاتِ السَّنَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَغَيْرِهَا (فَلَا يُكْرَهُ الْإِحْرَامُ بِهَا يَوْمَ عَرَفَةَ وَ) لَا يَوْمَ (النَّحْرِ وَ) لَا أَيَّامَ (التَّشْرِيقِ)؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ الْإِبَاحَةُ وَلَا دَلِيلَ عَلَى الْكَرَاهَةِ.
(وَلَا بَأْسَ أَنْ يَعْتَمِرَ فِي السَّنَةِ مِرَارًا) رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَنَسٍ وَعَائِشَةَ؛ لِأَنَّ عَائِشَةَ «اعْتَمَرَتْ فِي شَهْرٍ مَرَّتَيْنِ بِأَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُمْرَةً مَعَ قِرَانِهَا وَعُمْرَةً بَعْدَ حَجِّهَا» وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «الْعُمْرَةُ إلَى الْعُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَقَالَ عَلِيٌّ فِي كُلِّ شَهْرٍ مَرَّةٌ وَكَانَ أَنَسٌ إذَا حَجَّمَ رَأْسَهُ خَرَجَ فَاعْتَمَرَ رَوَاهُمَا الشَّافِعِيُّ فِي مُسْنَدِهِ.
(وَيُكْرَهُ الْإِكْثَارُ مِنْهَا وَالْمُوَالَاةُ بَيْنَهَا نَصًّا) بِاتِّفَاقِ السَّلَفِ قَالَهُ فِي الْفُرُوعِ قَالَ أَحْمَدُ إنْ شَاءَ كُلَّ شَهْرٍ، وَقَالَ: لَا بُدَّ أَنْ يَحْلِقَ أَوْ يُقَصِّرَ، وَفِي عَشْرَةِ أَيَّامٍ يُمْكِنُهُ وَاسْتَحَبَّهُ جَمَاعَةٌ.
(وَهِيَ) أَيْ: الْعُمْرَةُ (فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ أَفْضَلُ) مِنْهَا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، نَقَلَهُ الْأَثْرَمُ وَابْنُ إبْرَاهِيمَ عَنْ أَحْمَدَ وَاخْتَارَ فِي الْهَدْيِ أَنَّ الْعُمْرَةَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ أَفْضَلُ، وَظَاهِرُ كَلَامِ جَمَاعَةٍ التَّسْوِيَةُ (وَأَفْضَلُهَا فِي رَمَضَانَ وَيُسْتَحَبُّ تَكْرَارُهَا فِيهِ) أَيْ: فِي رَمَضَانَ (؛ لِأَنَّهَا تَعْدِلُ حَجَّةً) لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا «عُمْرَةٌ فِي رَمَضَانَ تَعْدِلُ حَجَّةً» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ قَالَ أَحْمَدُ مَنْ أَدْرَكَ يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ فَقَدْ أَدْرَكَ عُمْرَةَ رَمَضَانَ قَالَ إِسْحَاقُ مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ: مِثْلُ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَنْ قَرَأَ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ فَقَدْ قَرَأَ ثُلُثَ الْقُرْآنِ» وَقَالَ أَنَسٌ «حَجَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَجَّةً وَاحِدَةً وَاعْتَمَرَ أَرْبَعَ عُمَرَ، وَاحِدَةً فِي ذِي الْقِعْدَةِ، وَعُمْرَةَ الْحُدَيْبِيَةِ وَعُمْرَةً مَعَ حِجَّتِهِ، وَعُمْرَةَ الْجِعْرَانَةِ، إذْ قَسَّمَ غَنَائِمَ حُنَيْنٍ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
(وَتُسَمَّى الْعُمْرَةُ حَجًّا أَصْغَرَ) لِمُشَارَكَتِهِمَا لِلْحَجِّ فِي الْإِحْرَامِ وَالطَّوَافِ وَالسَّعْيِ وَالْحَلْقِ أَوْ التَّقْصِيرِ، وَانْفِرَادُهُ بِالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ وَغَيْرِهِ مِمَّا تَقَدَّمَ.
وَإِنْ (أَحْرَمَ) بِالْعُمْرَةِ (مِنْ الْحَرَمِ لَمْ يَجُزْ) لَهُ ذَلِكَ لِتَرْكِهِ مِيقَاتَهُ، وَهُوَ الْحِلُّ (وَيَنْعَقِدُ) إحْرَامُهُ (وَعَلَيْهِ دَمٌ) لِتَرْكِهِ نُسُكًا وَاجِبًا.
(ثُمَّ بَعْدَ الْإِحْرَامِ بِالْعُمْرَةِ) يَطُوفُ (لِعُمْرَتِهِ) وَيَسْعَى، ثُمَّ يَحْلِقُ أَوْ يُقَصِّرُ وَلَا يُحِلُّ قَبْلَ ذَلِكَ (أَيْ: قَبْلَ الْحَلْقِ أَوْ التَّقْصِيرِ فَإِنْ وَطِئَ قَبْلَهُ فَعَلَيْهِ دَمٌ) كَمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَتَقَدَّمَ.
(وَتُجْزِئُ عُمْرَةُ الْقَارِنِ) عَنْ عُمْرَةِ الْإِسْلَامِ (وَ) تُجْزِئُ (عُمْرَةٌ) مِنْ (التَّنْعِيمِ) عَنْ عُمْرَةِ الْإِسْلَامِ لِحَدِيثِ «عَائِشَةَ حِينَ قَرَنَتْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ حَلَّتْ مِنْهُمَا قَدْ حَلَلْتِ مِنْ حَجِّكِ وَعُمْرَتِكِ» وَإِنَّمَا أَعْمَرَهَا مِنْ التَّنْعِيمِ قَصْدًا لِتَطْيِيبِ خَاطِرِهَا وَإِجَابَةِ مَسْأَلَتِهَا لَا؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ وَاجِبَةً عَلَيْهَا.