فصل: (فَرْعٌ): (متى لا يَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِوَعْدٍ):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى



.(فَرْعٌ): [متى لا يَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِوَعْدٍ]:

(لَا يَلْزَمُ حُكْمًا)؛ أَيْ: فِي الظَّاهِرِ (الْوَفَاءُ بِوَعْدٍ) نَصَّ عَلَيْهِ، وَقَالَهُ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ (وَيَحْرُمُ حَلِفُهُ) عَلَى مُسْتَقْبَلٍ (بِلَا اسْتِثْنَاءٍ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} أَيْ: لَا تَقُولَنَّ: ذَلِكَ إلَّا مُعَلَّقًا بِإِنْ شَاءَ اللَّهُ.
قَالَ الْقَرَافِيُّ فِي قَوَاعِدِهِ: اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى الِاسْتِدْلَالِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} وَوَجْهُ الدَّلِيلِ مِنْهُ فِي غَايَةِ الْإِشْكَالِ؛ فَإِنَّ إلَّا لَيْسَتْ لِلتَّعْلِيقِ، وَأَنْ الْمَفْتُوحَةُ لَيْسَتْ لِلتَّعْلِيقِ، فَمَا بَقِيَ فِي الْآيَةِ شَيْءٌ يَدُلُّ عَلَى التَّعْلِيقِ وَلَا الِالْتِزَامِ، فَكَيْفَ يَصِحُّ الِاسْتِدْلَال بِشَيْءٍ لَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ. وَطُولَ الْأَيَّامِ يُحَاوِلُونَ الِاسْتِدْلَالَ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَلَا يَكَادُ يُتَفَطَّنُ لِوَجْهِ الدَّلِيلِ مِنْهَا، وَلَيْسَ فِيهَا إلَّا الِاسْتِثْنَاءُ وَأَيُّ شَيْءٍ هُوَ، وَمَا هُوَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ فَتَأَمَّلْهُ؛ فَهُوَ فِي غَايَةِ الْإِشْكَالِ وَهُوَ أَصْلٌ فِي اشْتِرَاطِ الْمَشِيئَةِ عِنْدَ النُّطْقِ بِالْأَفْعَالِ. وَالْجَوَابُ أَنَّا نَقُولُ: هَذَا اسْتِثْنَاءٌ مِنْ الْأَحْوَالِ وَالْمُسْتَثْنَى حَالَةٌ مِنْ الْأَحْوَالِ وَهِيَ مَحْذُوفَةٌ قَبْلَ النَّاصِبَةِ، وَلَا يَفْعَلُونَ لِهَذَا الِاسْتِثْنَاءِ عَامِلٌ فِي أَنْ النَّاصِبَةِ، وَتَقْرِيرُهُ {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} فِي حَالٍ مِنْ الْأَحْوَالِ إلَّا مُعَلَّقًا بِأَنْ النَّاصِبَةِ، الشَّرْطِيَّةِ، وَلَا يَفْعَلُونَ لِهَذَا الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ؛ أَيْ: يَشَاءُ اللَّهُ، ثُمَّ حَذَفْتَ مُعَلَّقًا وَالْبَاءَ مِنْ أَنْ، فَيَكُونُ النَّهْيُ الْمُتَقَدِّمُ مَعَ إلَّا الْمُتَأَخِّرَةِ قَدْ حَصَرَتْ الْقَوْلَ فِي هَذِهِ الْحَالِ دُونَ سَائِرِ الْأَحْوَالِ، فَتَخْتَصُّ هَذِهِ الْحَالُ بِالْإِبَاحَةِ، وَغَيْرُهَا بِالتَّحْرِيمِ، وَتَرْكُ الْمُحَرَّمِ وَاجِبٌ، وَلَيْسَ شَيْءٌ هُنَاكَ يُتْرَكُ بِهِ الْحَرَامُ إلَّا هَذِهِ؛ فَتَكُونُ وَاجِبَةً، فَهَذَا مُدْرَكُ الْوُجُوبِ، وَأَمَّا مُدْرَكُ التَّعْلِيقِ فَهُوَ كَقَوْلِنَا مُعَلَّقًا؛ فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَلَّقَ فِي تِلْكَ الْحَالِ، كَمَا إذَا قَالَ لَا تَخْرُجْ إلَّا ضَاحِكًا، فَإِنَّهُ يُفِيدُ الْأَمْرَ بِالضَّحِكِ وَالْخُرُوجِ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. (وَيَتَّجِهُ) لَا يَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِوَعْدٍ لِوَاعِدٍ (مُتَرَدِّدٌ) بَيْنَ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ (أَوْ عَازِمٍ عَلَى التَّرْكِ) أَيْ: تَرْكِ الْوَفَاءِ مِنْ حِينِ الْوَعْدِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ صَادِقًا بِوَعْدِهِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَفِيَ (لَا) إنْ كَانَ عَازِمًا عَلَى (الْفِعْلِ حَالَ الْوَعْدِ ثُمَّ بَدَا لَهُ أَنَّ مَا وَعَدَ بِهِ؛ فَيَلْزَمُهُ الْفِعْلُ؛ لِأَنَّهُ) أَيْ: الْوَعْدَ الْمُصَمِّمَ عَلَى فِعْلِهِ (إذَنْ لَيْسَ بِكَذِبٍ) وَحِينَئِذٍ فَيَحْرُمُ حَلِفُهُ عَلَى إنْجَازِ الْوَعْدِ بِلَا اسْتِثْنَاءٍ، وَعَلَيْهِ الْوَفَاءُ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} وَحَدِيثِ: الْعِدَةُ عَطِيَّة. وَقِيلَ لِأَحْمَدَ بِمَ يُعْرَفُ الْكَذَّابُونَ؟ قَالَ بِخُلْفِ الْمَوَاعِيدِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ شُبْرُمَةَ وَابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ وَغَيْرِهِمَا، وَهُوَ مُتَّجِهٌ.

.كِتَابُ الْقَضَاءِ وَالْفُتْيَا:

قَدَّمَهُ لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ، وَبَدَأَ بِأَحْكَامِهَا قَبْلَهُ لِطُولِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ.

.[بابٌ في معنى الْفُتْيَا والْقَضَاءِ]:

(وَهِيَ) أَيْ: الْفُتْيَا اسْمُ مَصْدَرٍ مِنْ أَفْتَى يُفْتِي إفْتَاءً (تَبْيِينُ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ) لِلسَّائِلِ عَنْهُ وَالْإِخْبَارُ بِلَا إلْزَامٍ، وَالْقَضَاءُ تَبْيِينُ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ وَالْإِلْزَامُ بِهِ، فَامْتَازَ بِالْإِلْزَامِ، وَقَالَ الْخَطِيبُ: يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَتَصَفَّحَ أَحْوَالَ الْمُفْتِينَ، فَمَنْ صَلَحَ لِلْفُتْيَا أَقَرَّهُ، وَمَنْ لَا يَصْلُحُ مَنَعَهُ وَنَهَاهُ أَنْ يَعُودَ، وَتَوَاعَدَهُ بِالْعُقُوبَةِ إنْ عَادَ، وَطَرِيقُ الْإِمَامِ إلَى مَعْرِفَةِ مَنْ يَصْلُحُ لِلْفَتْوَى أَنْ يَسْأَلَ عُلَمَاءَ وَقْتِهِ، وَيَعْتَمِدَ أَخْبَارَ الْمَوْثُوقِ بِهِمْ. ثُمَّ رَوَى بِإِسْنَادِهِ عَنْ مَالِكٍ قَالَ: مَا أَفْتَيْتُ حَتَّى شَهِدَ لِي سَبْعُونَ أَنِّي أَهْلٌ لِذَلِكَ. وَفِي رِوَايَةٍ: مَا أَفْتَيْتُ حَتَّى سَأَلْتُ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنِّي هَلْ تُرَانِي مَوْضِعًا لِذَلِكَ؟ قَالَ مَالِكٌ: وَلَا يَنْبَغِي لِرَجُلٍ أَنْ يَرَى نَفْسَهُ أَهْلًا لِشَيْءٍ حَتَّى يَسْأَلَ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ. (وَيَنْبَغِي لِلْمُسْتَفْتِي أَنْ يَحْفَظَ الْأَدَبَ مَعَ الْمُفْتِي وَيُجِلَّهُ وَيُعَظِّمَهُ، وَلَا يَفْعَلُ مَا جَرَتْ عَادَةُ الْعَوَامّ بِهِ كَإِيمَاءٍ بِيَدِهِ فِي وَجْهِهِ، أَوْ يَقُولُ لَهُ مَا مَذْهَبُ إمَامِكَ فِي كَذَا؟ أَوْ مَا تَحْفَظُهُ) أَيْ: فِي كَذَا، أَوْ أَفْتَانِي غَيْرُكَ بِكَذَا، أَوْ كَذَا قُلْتُ أَنَا (أَوْ إنْ كَانَ جَوَابُكَ مُوَافِقًا فَاكْتُبْ وَإِلَّا فَلَا تَكْتُبْ، وَلَا يُطَالِبُهُ بِالْحُجَّةِ)؛ أَيْ: لَا يَطْلُبُ الْمُسْتَفْتِي مِنْ الْمُفْتِي الدَّلِيلَ عَلَى مَا قَالَهُ لَهُ؛ لِأَنَّ فِيهِ اتِّهَامًا لَهُ (لَكِنْ إنْ عَلِمَ الْمُفْتِي غَرَضَ السَّائِلِ فِي شَيْءٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكْتُبَ بِغَيْرِهِ) لِأَنَّهُ يُفْسِدُ عَلَيْهِ رُقْعَتَهُ وَيُحْوِجُهُ إلَى إبْدَالِهَا. (وَيَحْرُمُ الْحُكْمُ وَالْفُتْيَا بِالْهَوَى) وَكَذَلِكَ يَحْرُمُ الْقَضَاءُ وَالْفُتْيَا (بِقَوْلٍ) وَثَمَّ غَيْرُهُ (أَوْ وَجْهٍ) وَثَمَّ غَيْرُهُ (مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ فِي التَّرْجِيحِ إجْمَاعًا؛ وَيَجِبُ أَنْ يَعْمَلَ بِمُوجِبِ اعْتِقَادِهِ فِيمَا لَهُ وَعَلَيْهِ) قَالَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ (وَكَانَ السَّلَفُ) رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى (يَهَابُونَ الْفُتْيَا وَيُشَدِّدُونَ فِيهَا وَيَتَدَافَعُونَهَا) قَالَ النَّوَوِيُّ: رَوَيْنَا عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ: أَدْرَكْتُ عِشْرِينَ وَمِائَةً مِنْ الْأَنْصَارِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسْأَلُ أَحَدُهُمْ عَنْ الْمَسْأَلَةِ فَيَرُدُّهَا هَذَا إلَى هَذَا وَهَذَا إلَى هَذَا حَتَّى تَرْجِعَ إلَى الْأَوَّلِ، (وَأَنْكَرَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ عَلَى مَنْ يَهْجُمُ عَلَى الْجَوَابِ) لِخَبَرِ: «أَجْرَؤُكُمْ عَلَى الْفُتْيَا أَجْرَؤُكُمْ عَلَى النَّارِ»
(وَقَالَ أَحْمَدُ: لَا يَنْبَغِي لِلرَّجُلِ أَنْ يُجِيبَ فِي كُلِّ مَا يُسْتَفْتَى فِيهِ، وَقَالَ: إذَا هَابَ الرَّجُلُ شَيْئًا لَا يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ عَلَى مَا يَقُولُ).
(وَقَالَ: لَا يَنْبَغِي لِلرَّجُلِ أَنْ يُنَصِّبَ نَفْسَهُ لِلْفُتْيَا حَتَّى يَكُونَ فِيهِ خَمْسُ خِصَالٍ) أَوَّلُهَا (أَنْ تَكُونَ لَهُ نِيَّةٌ) أَيْ: أَنْ يُخْلِصَ فِي ذَلِكَ لِلَّهِ تَعَالَى، وَلَا يَقْصِدُ رِئَاسَةً وَنَحْوَهَا (فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ نُورٌ، وَلَا عَلَى كَلَامِهِ نُورٌ) إذْ الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى. وَالثَّانِيَةُ (أَنْ يَكُونَ لَهُ حِلْمٌ وَوَقَارٌ وَسَكِينَةٌ) وَإِلَّا لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ فِعْلِ مَا تَصَدَّى لَهُ مِنْ بَيَانِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ. وَالثَّالِثَةُ (أَنْ يَكُونَ قَوِيًّا عَلَى مَا هُوَ فِيهِ وَعَلَى مَعْرِفَتِهِ) وَإِلَّا فَقَدْ عَرَّضَ نَفْسَهُ لِعَظِيمٍ.
(وَ) الرَّابِعَةُ (أَنْ يَكُونَ لَهُ كِفَايَةٌ وَإِلَّا بَغَضَهُ النَّاسُ؛ فَإِنَّهُ إذَا لَمْ) تَكُنْ لَهُ كِفَايَةٌ (احْتَاجَ) إلَى النَّاسِ وَإِلَى الْأَخْذِ، فَأَخَذَ (مِمَّا فِي أَيْدِيهِمْ) فَيَنْفِرُونَ مِنْهُ. وَالْخَامِسَةُ أَنْ يَكُونَ بَصِيرًا بِالْأَحْوَالِ وَالِاصْطِلَاحَاتِ (لِيَعْرِفَ مَكْرَ النَّاسِ وَخِدَاعَهُمْ، وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُحْسِنَ الظَّنَّ بِهِمْ، بَلْ يَكُونُ حَذِرًا فَطِنًا مِمَّا يُصَوِّرُونَهُ فِي سُؤَالَاتِهِمْ) لِئَلَّا يُوقِعُوهُ فِي الْمَكْرُوهِ، وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ «احْتَرِسُوا مِنْ النَّاسِ بِسُوءِ الظَّنِّ». (وَسُئِلَ أَحْمَدُ أَيَكْفِي الرَّجُلَ مِائَةُ أَلْفِ حَدِيثٍ حَتَّى يُفْتِيَ؟ قَالَ لَا، حَتَّى قِيلَ لَهُ خَمْسُمِائَةِ أَلْفِ حَدِيثٍ قَالَ أَرْجُو أَنْ لَا يَكُونَ بِهِ بَأْسٌ وَاعْتَرَضَ) أَيْ: اعْتَرَضَ بَعْضُ النَّاسِ (عَلَى) أَبِي إِسْحَاقَ (بْنِ شَاقِلَا بِهَذَا) فَقِيلَ لَهُ أَنْتَ تُفْتِي وَلَسْتَ تَحْفَظُ هَذَا الْقَدْرَ (فَقَالَ: إنْ كُنْتُ لَا أَحْفَظُهُ، فَإِنِّي أُفْتِي بِقَوْلِ مَنْ يَحْفَظُ أَكْثَرَ مِنْهُ) يَعْنِي بِهِ الْإِمَامَ أَحْمَدَ، وَقَالَ: إنَّهُ يَحْفَظُ أَلْفَ أَلْفِ حَدِيثٍ، وَمَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ يُعْتَبَرُ فِي الْمُجْتَهِدِ، وَأَمَّا الْمُقَلِّدُ فَغَرَضُهُ مَعْرِفَةُ مَذْهَبِ إمَامِهِ بِالنَّقْلِ عَنْهُ، وَلَا يَحْصُلُ غَرَضُهُ مِنْ جِهَةِ نَفْسِهِ، لِأَنَّهُ لَا يَحْسُنُ الْجَمْعُ، وَلَا يَعْلَمُ التَّارِيخَ، لِعَدَمِ ذِكْرِهِ، وَلَا التَّرْجِيحِ عِنْدَ التَّعَارُضِ بَيْنَهُمَا، لِتَعَذُّرِهِ مِنْهُ.
(وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا وَهُوَ: ابْنُ بَشَّارٍ: مَا أَعِيبُ عَلَى مَنْ يَحْفَظُ خَمْسَ مَسَائِلَ لِأَحْمَدَ يُفْتِي بِهَا) قَالَ الْقَاضِي: هَذَا مِنْ ابْنِ بَشَّارٍ مُتَابَعَةٌ فِي فَضْلِهِ، وَظَاهِرُ نَقْلِ عَبْدِ اللَّهِ: يُفْتِي غَيْرُ مُجْتَهِدٍ. ذَكَرَهُ الْقَاضِي، وَحَمَلَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ عَلَى الْحَاجَةِ،
(وَقَالَ الشَّيْخُ) تَقِيُّ الدِّينِ (النَّاظِرُ الْمُجَرَّدُ) إذَا لَمْ يَكُنْ مُتَبَحِّرًا فِي الْمَذْهَبِ الَّذِي يُفْتِي بِهِ عَالِمًا بِغَوَامِضِهِ وَحَقَائِقِهِ؛ (يَكُونُ حَاكِيًا) مَذْهَبَ مَنْ قَلَّدَهُ (لَا مُفْتِيًا بِهِ)، فَلَا يَنْسِبُ مَا قَالَهُ لِنَفْسِهِ، بَلْ يُضِيفُهُ إلَيَّ غَيْرِهِ، وَيَحْكِيهِ عَنْ إمَامِهِ الَّذِي قَلَّدَهُ؛ لِصِحَّةِ تَقْلِيدِ الْمَيِّتِ؛ لِأَنَّ الْمُقَلِّدِينَ لَيْسَ عَلَى الْحَقِيقَةِ مِنْ الْمُفْتِينَ، وَلَكِنْ قَامُوا مَقَامَهُمْ، وَأَدَّوْا عَنْهُمْ فَعُدُوا مَعَهُمْ، وَسَبِيلُهُمْ فِي ذَلِكَ أَنْ يَقُولُوا مَثَلًا: مَذْهَبُ أَحْمَدَ كَذَا وَكَذَا، وَمُقْتَضَى مَذْهَبِهِ: كَذَا وَكَذَا، وَنَحْوَ ذَلِكَ.
(وَقَالَ بَعْضُهُمْ) أَيْ: الْأَصْحَابِ: لَا تَجُوزُ (مُخَالَفَةُ الْمُفْتِي) الْمُقَلِّدِ (نَصَّ إمَامِهِ الَّذِي قَلَّدَهُ)، بَلْ عَلَيْهِ مُرَاعَاةُ أَلْفَاظِ إمَامِهِ وَمُتَأَخِّرِهَا، وَيُقَلِّدُ كِبَارَ مَذْهَبِهِ، فَإِنْ خَالَفَ حَرُمَ عَلَيْهِ (كَمُخَالَفَةِ الْمُفْتِي) الْمُجْتَهِدَ (نَصَّ الشَّارِعِ) الصَّرِيحَ انْتَهَى.
(وَحَرُمَ أَنْ يُفْتِيَ فِي حَالِ لَا يَحْكُمُ فِيهَا كَغَضَبٍ وَنَحْوِهِ كَحَرٍّ) مُفْرِطٍ وَبَرْدٍ مُفْرِطٍ وَمَلَلٍ وَنَحْوِهِ مِمَّا يُغَيِّرُ الْفِكْرَ، (فَإِنْ أَفْتَى) فِي تِلْكَ الْحَالِ (وَأَصَابَ الْحَقَّ)؛ صَحَّ جَوَابُهُ، وَكُرِهَ.

.فَصْلٌ: [صِحَّةُ الْفَتْوَى بِإِشَارَةٍ مَفْهُومَةٍ أَوْ كِتَابَةٍ]:

(وَيَصِحُّ فَتْوَى عَبْدٍ وَامْرَأَةٍ وَقَرِيبٍ وَأُمِّيٍّ وَأَخْرَسَ) بِإِشَارَةٍ مَفْهُومَةٍ أَوْ كِتَابَةٍ كَخَبَرِهِمْ، وَتَصِحُّ الْفُتْيَا (مَعَ جَرِّ نَفْعٍ وَدَفْعِ ضَرَرٍ وَعَلَى عَدُوٍّ) وَأَنْ يُفْتِيَ أَبَاهُ وَابْنَهُ وَشَرِيكَهُ وَسَائِرَ مَنْ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لَهُ كَزَوْجَتِهِ وَمُكَاتَبِهِ، لِأَنَّ الْقَصْدَ بَيَانُ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ، وَهُوَ لَا يَخْتَلِفُ، وَلَيْسَ مِنْهُ إلْزَامٌ، بِخِلَافِ الْحَاكِمِ. وَلَا (تَصِحُّ) الْفُتْيَا، (مِنْ فَاسِقٍ) لِغَيْرِهِ (وَلَوْ مَسْتُورًا) لِأَنَّهُ لَيْسَ بِأَمِينٍ عَلَى مَا يَقُولُ (وَيُفْتِي مُجْتَهِدٌ فَاسِقٌ نَفْسَهُ) لِأَنَّهُ لَا يُتَّهَمُ بِالنِّسْبَةِ إلَى نَفْسِهِ وَلَيْسَ لِغَيْرِ الْفَاسِقِ فِي الْفُتْيَا أَنْ يَسْأَلَهُ، لِعَدَمِ حُصُولِ الْوُثُوقِ بِهِ، وَالْحَاكِمُ كَغَيْرِهِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْقَضَاءِ وَغَيْرِهِ. (وَيُقَلِّدُ) الْمُجْتَهِدَ (الْعَدْلَ وَلَوْ مَيِّتًا، وَهُوَ)؛ أَيْ: تَقْلِيدُهُ (كَالْإِجْمَاعِ فِي هَذِهِ الْأَعْصَارِ) لِقُصُورِ الْهِمَمِ عَنْ تَحْصِيلِ الْكِمَالَاتِ، وَلِبَقَاءِ قَوْلِ الْمُجْتَهِدِ فِي الْإِجْمَاعِ، وَكَالْحَاكِمِ وَالشَّاهِد لَا يَبْطُلُ حُكْمُهُ وَلَا شَهَادَتُهُ بِمَوْتِهِ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: الْمَذَاهِبُ لَا تَمُوتُ بِمَوْتِ أَرْبَابِهَا، وَيَجُوزُ أَنْ (يُقَلِّدَ عَامِّيٌّ مَنْ ظَنَّهُ عَالِمًا) وَلَوْ عَبْدًا أَوْ أُنْثَى أَوْ أَخْرَسَ بِإِشَارَةٍ مَفْهُومَةٍ، أَوْ كِتَابَةٍ، وَكَذَا مَنْ رَآهُ مُنْتَصِبًا لِلْإِفْتَاءِ وَالتَّدْرِيسِ مُعَظَّمًا لِأَنَّهُ دَلِيلُ عِلْمِهِ (لَا إنْ جَهِلَ عَدَالَتَهُ) فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَلِّدَهُ عَلَى الصَّحِيحِ مِنْ الْمَذْهَبِ، جَزَمَ بِهِ الْمُوَفَّقُ فِي الرَّوْضَةِ وَقَدَّمَهُ ابْنُ مُفْلِحٍ فِي أُصُولِهِ، وَالطُّوفِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ وَغَيْرُهُمَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَحَقَّقْ شَرْطُ جَوَازِ التَّقْلِيدِ. (وَيَجُوزُ تَقْلِيدُ مَفْضُولٍ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ) مَعَ وُجُودِ أَفْضَلَ مِنْهُ؛ لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} وَقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمْ اقْتَدَيْتُمْ اهْتَدَيْتُمْ» وَفِيهِمْ الْأَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهِ، وَكَانَ الْمَفْضُولُ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالسَّلَفِ يُفْتِي مَعَ وُجُودِ الْأَفْضَلِ بِلَا نَكِيرٍ، خُصُوصًا وَالْعَامِّيُّ يُقَصِّرُ عَنْ التَّرْجِيحِ.
فَائِدَةٌ:
لَا يَجُوزُ التَّقْلِيدُ فِي مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَالتَّوْحِيدِ وَالرِّسَالَةِ، ذَكَرَهُ الْقَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ وَأَبُو الْخَطَّابِ، وَذَكَرَهُ عَنْ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ؛ وَذَكَرَ غَيْرُهُ أَنَّهُ قَوْلُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ، وَاسْتَدَلَّ لِذَلِكَ بِأَمْرِهِ تَعَالَى بِالتَّدَبُّرِ وَالتَّفَكُّرِ وَفِي صَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ لَمَّا نَزَلَ قَوْله تَعَالَى: {إنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} الْآيَةَ. قَالَ: وَيْلٌ لِمَنْ قَرَأَهُنَّ وَلَمْ يَتَدَبَّرْهُنَّ وَيْلٌ لَهُ وَيْلٌ لَهُ وَالْإِجْمَاعُ عَلَى وُجُوبِ مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا تَحْصُلُ بِتَقْلِيدٍ، لِجَوَازِ كَذِبِ الْمُخْبِرِ وَاسْتِحَالَةِ حُصُولِهِ، كَمَنْ قَلَّدَ فِي حُدُوثِ الْعَالَمِ وَكَمَنْ قَلَّدَ فِي قِدَمِهِ، وَلِأَنَّ التَّقْلِيدَ لَوْ أَفَادَ عِلْمًا فَإِمَّا بِالضَّرُورَةِ وَهُوَ بَاطِلٌ، وَإِمَّا بِالنَّظَرِ فَيَسْتَلْزِمُ الدَّلِيلَ وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ، وَالْعِلْمُ يَحْصُلُ بِالنَّظَرِ، وَاحْتِمَالِ الْخَطَأِ لِعَدَمِ تَمَامِ مُرَاعَاةِ الْقَانُونِ الصَّحِيحِ، وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَمَّ التَّقْلِيدَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {إنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} وَهِيَ فِيمَا يُطْلَبُ لِلْعِلْمِ فَلَا يَلْزَمُ الْفُرُوعُ. (وَيَحْرُمُ تَسَاهُلُ مُفْتٍ) بِالْإِفْتَاءِ، لِئَلَّا يَقُولَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ وَيَحْرُمُ (تَقْلِيدُ مَعْرُوفٍ بِهِ) أَيْ: بِالتَّسَاهُلِ فِي الْإِفْتَاءِ، (لِعَدَمِ الْوُثُوقِ بِهِ) قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ (لَا يَجُوزُ اسْتِفْتَاءٌ إلَّا مَنْ يُفْتِي بِعِلْمٍ وَعَدْلٍ) لِأَنَّ أَمْرَ الْفُتْيَا خَطَرٌ فَيَنْبَغِي أَنْ يُحْتَاطَ.
(وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ يَجِبُ سُؤَالُ أَهْلِ الْفِقْهِ وَالْخَيْرِ، فَإِنْ جَهِلَ عَدَالَتَهُ حَرُمَ تَقْلِيدُهُ) لِاحْتِمَالِ فِسْقِهِ (وَيَلْزَمُ الْمُفْتِيَ تَكْرِيرُ النَّظَرِ عِنْدَ تَكْرَارِ الْوَاقِعَةِ) كَالْمُجْتَهِدِ فِي الْقِبْلَةِ يَجْتَهِدُ لِكُلِّ صَلَاةٍ، أَمَّا الْعَامِّيُّ إذَا وَقَعَتْ لَهُ مَسْأَلَةٌ فَسَأَلَ عَنْهَا، ثُمَّ وَقَعَتْ لَهُ ثَانِيًا فَلَمْ أَرَ لِأَصْحَابِنَا فِيهَا شَيْئًا. وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ الشَّافِعِيُّ: يَلْزَمُهُ السُّؤَالُ ثَانِيًا، إلَّا أَنْ تَكُونَ مَسْأَلَةً يَكْثُرُ وُقُوعُهَا وَيَشُقُّ عَلَيْهِ إعَادَةُ السُّؤَالِ عَنْهَا، فَلَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ وَيَكْفِيهِ السُّؤَالُ الْأَوَّلُ لِلْمَشَقَّةِ، نَقَلَهُ عَنْهُ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: لَا يَلْزَمُهُ فِي الْأَصَحِّ؛ لِأَنَّهُ قَدْ عَرَفَ الْحُكْمَ الْأَوَّلَ، وَالْأَصْلُ اسْتِمْرَارُ الْمُفْتِي عَلَيْهِ انْتَهَى.
قَالَ فِي شَرْحِ الْإِقْنَاعِ (وَإِنْ حَدَثَ مَا لَا قَوْلَ فِيهِ لِلْعُلَمَاءِ تَكَلَّمَ فِيهِ حَاكِمٌ وَمُجْتَهِدٌ وَمُفْتٍ فَيَرُدُّهُ إلَى الْأُصُولِ وَالْقَوَاعِدِ، وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُشَاوِرَ) مَنْ عِنْدَهُ (مَنْ يَثِقُ بِعِلْمِهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ فِي ذَلِكَ إفْشَاءُ سِرِّ السَّائِلِ أَوْ تَعْرِيضُهُ لِلْأَذَى أَوْ) يَكُونُ (فِيهِ مَفْسَدَةٌ لِبَعْضِ الْحَاضِرِينَ) فَيُخْفِيهِ إزَالَةً لِذَلِكَ (وَفِي آدَابِ الْمُفْتِي لَيْسَ لَهُ أَنْ يُفْتِيَ فِي شَيْءٍ مِنْ مَسَائِلِ الْكَلَامِ مُفَصَّلًا، بَلْ يَمْنَعُ السَّائِلَ وَسَائِرَ الْعَامَّةِ مِنْ الْخَوْضِ فِي ذَلِكَ أَصْلًا) قَالَ فِي الْمُبْدِعِ لَا تَجُوزُ الْفَتْوَى فِي عِلْمِ الْكَلَامِ، بَلْ يَنْهَى السَّائِلَ عَنْهُ وَالْعَامَّةَ أَوْلَى، وَيَأْمُرُ الْكُلَّ بِالْإِيمَانِ الْمُجْمَلِ وَمَا يَلِيقُ بِاَللَّهِ تَعَالَى، وَلَا يَجُوزُ التَّقْلِيدُ فِيمَا يُطْلَبُ بِهِ الْجَزْمُ، وَلَا إثْبَاتُهُ بِدَلِيلٍ ظَنِّيٍّ وَلَا الِاجْتِهَادُ فِيهِ، وَيَجُوزُ فِيمَا يُطْلَبُ فِيهِ الظَّنُّ وَإِثْبَاتُهُ بِدَلِيلٍ ظَنِّيٍّ وَالِاجْتِهَادُ فِيهِ. (وَلَا يَلْزَمُ الْمُفْتِيَ جَوَابُ مَا لَمْ يَقَعْ) لِحَدِيثِ أَحْمَدَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ: لَا تَسْأَلُوا عَمَّا لَمْ يَكُنْ فَإِنَّ عُمَرَ نَهَى عَنْ ذَلِكَ. (وَيُنْدَبُ) لِلْمُفْتِي إجَابَةُ السَّائِلِ عَمَّا لَمْ يَقَعْ؛ لِئَلَّا يَدْخُلَ فِي خَبَرِ: «مَنْ كَتَمَ عِلْمًا سُئِلَهُ» الْحَدِيثُ. وَلَا يَلْزَمُ جَوَابُ (مَا لَا يَحْتَمِلُهُ سَائِلٌ) قَالَ الْبُخَارِيُّ: قَالَ عَلِيٌّ: حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ أَتُرِيدُونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَفِي مُقَدِّمَةِ مُسْلِمٍ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ: مَا أَنْتَ بِمُحَدِّثٍ قَوْمًا حَدِيثًا لَا تَبْلُغُهُ عُقُولُهُمْ إلَّا كَانَ فِتْنَةً لِبَعْضِهِمْ. وَلَا يَلْزَمُ جَوَابُ مَا لَا نَفْعَ فِيهِ؛ لِخَبَرِ أَحْمَدَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ عَنْ الصَّحَابَةِ: مَا كَانُوا يَسْأَلُونَ إلَّا عَمَّا يَنْفَعُهُمْ (وَسُئِلَ أَحْمَدُ عَنْ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ) أَمُسْلِمُونَ هُمْ (فَقَالَ لِلسَّائِلِ: أَحْكَمْتَ الْعِلْمَ حَتَّى تَسْأَلَ) عَنْ ذَا. وَسُئِلَ عَنْ مَسْأَلَةٍ فِي اللِّعَانِ، فَقَالَ: سَلْ رَحِمَكَ اللَّهُ (عَمَّا اُبْتُلِيتَ) بِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لِعِكْرِمَةَ: مَنْ سَأَلَكَ عَمَّا لَا يَعْنِيهِ فَلَا تُفْتِهِ. وَسَأَلَ مُهَنَّا أَحْمَدَ عَنْ مَسْأَلَةٍ فَغَضِبَ وَقَالَ: خُذْ وَيْحَكَ تَنْتَفِعُ بِهِ، وَإِيَّاكَ وَهَذِهِ الْمَسَائِلَ الْمُحْدَثَةَ، وَخُذْ فِيمَا فِيهِ حَدِيثٌ. (وَمَنْ عَدِمَ مُفْتِيًا فِي بَلَدِهِ وَغَيْرِهِ؛ فَحُكْمُهُ حُكْمُ مَا قَبْلَ الشَّرْعِ) عَلَى الْخِلَافِ فِي الْأَشْيَاءِ: الْإِبَاحَةِ وَالْحَظْرِ وَالْوَقْفِ، وَرُجِّحَ الْأَوَّلُ (وَقِيلَ مَتَى خَلَتْ الْبَلَدُ مِنْ مُفْتٍ حَرُمَ السُّكْنَى بِهَا) قَالَ النَّوَوِيُّ: وَالْأَصَحُّ لَا يَحْرُمُ إنْ أَمْكَنَ الذَّهَابُ إلَى مُفْتٍ. (وَلِمُفْتٍ رَدُّ الْفُتْيَا إنْ) خَافَ غَائِلَتَهَا (أَوْ كَانَ بِالْبَلَدِ قَائِمٌ مَقَامَهُ) فِي الْفُتْيَا، لِأَنَّ الْإِفْتَاءَ فِي حَقِّهِ مَعَ وُجُودِ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ سُنَّةٌ، وَإِلَّا أَيْ: وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْبَلَدِ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ (لَمْ يَجُزْ لَهُ) رَدُّ الْفُتْيَا (وَتَعَيَّنَ عَلَيْهِ الْجَوَابُ) وَالتَّعْلِيمُ كَذَلِكَ، كَمَا لَا يَجُوزُ (قَوْلُ حَاكِمٍ لِمَنْ ارْتَفَعَ إلَيْهِ) فِي حُكُومَةٍ (امْضِ إلَى غَيْرِي) وَلَوْ كَانَ بِالْبَلَدِ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ (مِنْ الْحُكَّامِ) لِأَنَّ تَدَافُعَ الْحُكُومَاتِ يُؤَدِّي إلَى ضَيَاعِ الْحُقُوقِ.
تَنْبِيهٌ:
إذَا كَانَ الَّذِي يَقُومُ مَقَامَهُ مَعْرُوفًا عِنْدَ الْعَامَّةِ مُفْتِيًا وَهُوَ جَاهِلٌ؛ تَعَيَّنَ الْجَوَابُ عَلَى الْعَالِمِ؛ لِتَعَيُّنِ الْإِفْتَاءِ عَلَيْهِ؛ إذَنْ قَالَ فِي عُيُونِ الْمَسَائِلِ الْحُكْمُ يَتَعَيَّنُ بِوِلَايَتِهِ؛ أَيْ: الْحُكْمِ حَتَّى لَا يُمْكِنَهُ رَدُّ مُحْتَكِمَيْنِ إلَيْهِ، وَيُمْكِنُهُ رَدُّ مَنْ يَسْتَشْهِدُهُ وَإِنْ كَانَ مُتَحَمِّلًا شَهَادَةً فَنَادِرٌ أَنْ لَا يَكُونَ سِوَاهُ، أَيْ: مَعَهُ مُتَحَمِّلًا لِتِلْكَ الشَّهَادَةِ، فَلَا يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَدَاؤُهَا؛ إذْ يُمْكِنُ نِيَابَةُ غَيْرِهِ عَنْهُ، وَأَمَّا فِي الْحُكْمِ فَإِنَّهُ لَا يَنُوبُ الْبَعْضُ عَنْ الْبَعْضِ. (وَيَحْرُمُ) عَلَى مُفْتٍ (إطْلَاقُ الْفُتْيَا فِي أَمْرٍ مُشْتَرَكٍ إجْمَاعًا) قَالَهُ ابْنُ عَقِيلٍ (وَالْمُرَادُ حَيْثُ لَا ظَاهِرَ) فَإِنْ كَانَ الْأَمْرُ ظَاهِرًا فَلَا يَفْتَقِرُ إلَى تَفْصِيلِ الْجَوَابِ (وَمَنْ سُئِلَ أَيُؤْكَلُ بِرَمَضَانَ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ؟ لَا بُدَّ أَنْ يَقُولَ الْفَجْرِ الْأَوَّلِ أَوْ الْفَجْرِ الثَّانِي، أَوْ) سُئِلَ (هَلْ يَسْتَحِقُّ أُجْرَةً مَنْ قَصَّرَ ثَوْبًا وَجَحَدَهُ؟ فَيَقُولُ إنْ قَصَّرَهُ الْقَصَّارُ قَبْلَ جُحُودِهِ فَلَهُ) الْأُجْرَةُ. (وَإِنْ) قَصَّرَهُ (بَعْدَهُ)؛ أَيْ: الْجُحُودِ فَلَا أَجْرَ لَهُ (لِأَنَّهُ قَصَّرَهُ لِنَفْسِهِ) وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ (هِيَ مَسْأَلَةُ الْإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَبِي يُوسُفَ) كَانَ امْتَحَنَهُ بِهَا، وَقَالَ إنْ قَالَ نَعَمْ أَوْ لَا أَخْطَأَ، فَفَطِنَ أَبُو يُوسُفَ، وَأَجَابَ بِمَا ذُكِرَ، وَسَأَلَ أَبُو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ قَوْمًا مِنْ أَصْحَابِهِ عَنْ بَيْعِ رَطْلِ تَمْرٍ بِرَطْلِ تَمْرٍ، فَقَالُوا: يَجُوزُ، فَخَطَّأَهُمْ فَقَالُوا: لَا، فَخَطَّأَهُمْ، فَخَجِلُوا، فَقَالَ: إنْ تَسَاوَيَا كَيْلًا جَازَ، فَهَذَا يُوَضِّحُ خَطَأَ الْمُطْلَقِ فِي كُلِّ مَا يَحْتَمِلُ التَّفْصِيلَ.
قَالَ ابْنُ مُفْلِحٍ عَنْ قَوْلِ ابْنِ عَقِيلٍ الْمَذْكُورِ كَذَا قَالَ: وَيَتَوَجَّهُ عَمَلُ بَعْضِ أَصْحَابِنَا بِظَاهِرِ. انْتَهَى.
قَالَ فِي شَرْحِ الْإِقْنَاعِ قُلْتُ: وَلَمْ تَزَلْ الْعُلَمَاءُ يُجِيبُونَ بِحَسَبِ مَا يَظْهَرُ لَهُمْ مِنْ الْمُتَبَادَرِ إلَى الْفَهْمِ، وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ جِبْرِيلَ لَمَّا سَأَلَ عَنْ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ وَالْإِحْسَانِ، وَلَمْ يَسْتَفْصِلْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ السُّؤَالُ عَنْ حَقَائِقِهَا أَوْ شُرُوطِهَا أَوْ أَرْكَانِهَا وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ مُتَعَلِّقَاتِهَا. (وَلَيْسَ عَلَيْهِ) أَيْ الْمُفْتِي (أَنْ يَذْكُرَ الْمَانِعَ فِي الْمِيرَاثِ مِنْ الْكُفْرِ وَغَيْرِهِ وَكَذَا فِي بَقِيَّةِ الْعُقُودِ مِنْ إجَارَةٍ وَنِكَاحٍ) وَبَيْعٍ وَصُلْحٍ وَنَحْوِهَا (فَلَا يَجِبُ عَلَى الْمُفْتِي أَنْ يَذْكُرَ الْجُنُونَ وَالْإِكْرَاهَ عَمَلًا بِظَاهِرِ الْحَالِ) وَهُوَ الصِّحَّةُ، وَيَنْبَغِي لِلْمُفْتِي أَنْ يُكْثِرَ الدُّعَاءَ بِالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ وَهُوَ:( «اللَّهُمَّ رَبَّ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ اهْدِنِي لِمَا اُخْتُلِفَ فِيهِ مِنْ الْحَقِّ بِإِذْنِكَ إنَّكَ تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ»). وَيَقُولُ إذَا أَشْكَلَ عَلَيْهِ شَيْءٌ: يَا مُعَلِّمَ إبْرَاهِيمُ عَلِّمْنِي (وَإِذَا سُئِلَ عَنْ شَرْطِ الْوَاقِفِ لَمْ يُفْتِ بِإِلْزَامِ الْعَمَلِ بِهِ حَتَّى يَعْلَمَ هَلْ الشَّرْطُ مَعْمُولٌ بِهِ فِي الشَّرْعِ أَوْ لَا، كَشَرْطِ صَلَاةٍ فِي تُرْبَةٍ دُفِنَ بِهَا وَاقِفٌ، وَشُعِلَ قِنْدِيلٌ بِهَا)، أَيْ: التُّرْبَةِ (وَشَرْطُ سُكَّانٍ نَحْوِ زَاوِيَةٍ) كَمَدْرَسَةٍ وَرِبَاطٍ (مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ كَشِيعَةٍ) وَخَوَارِجَ وَمُعْتَزِلَةٍ وَجَهْمِيَّةٍ (وَمُشْتَغِلِينَ بِرَقْصٍ) وَإِشَارَاتٍ وَأَكْلِ حَيَّاتٍ وَأَشْبَاهِ الذُّبَابِ؛ فَلَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِالشَّرْطِ الْمَذْكُورِ فَضْلًا عَنْ وُجُوبِ اتِّبَاعِهِ.

.فَصْلٌ: [الْمُفْتِي يَخَيِّرُ مَنْ اسْتَفْتَاهُ بَيْنَ قَوْلِهِ وَقَوْلِ مُخَالِفِهِ]:

(وَلِلْمُفْتِي تَخْيِيرُ مَنْ اسْتَفْتَاهُ بَيْنَ قَوْلِهِ وَقَوْلِ مُخَالِفِهِ، وَاسْتَحَبَّهُ ابْنُ عَقِيلٍ كَمَا هُوَ فِي الْخُلْعِ وَيَتَخَيَّرُ) مُسْتَفْتٍ (وَإِنْ لَمْ يُخَيِّرْهُ مُفْتٍ) لِأَنَّ فِي إلْزَامِهِ بِالْأَخْذِ بِقَوْلٍ مُعَيَّنٍ تَرْجِيحٌ بِلَا مُرَجِّحٍ (وَلُزُومُ الْمُتَمَذْهِبِ بِمَذْهَبٍ وَامْتِنَاعُ الِانْتِقَالِ إلَى غَيْرِهِ الْأَشْهَرُ عَدَمُهُ) قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: الْعَامِّيُّ هَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَلْتَزِمَ مَذْهَبًا مُعَيَّنًا يَأْخُذُ بِعَزَائِمِهِ وَرُخَصِهِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَالْجُمْهُورُ مِنْ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ لَا يُوجِبُونَ ذَلِكَ، وَاَلَّذِينَ يُوجِبُونَ يَقُولُونَ إذَا الْتَزَمَهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَخْرُجَ عَنْهُ مَا دَامَ مُلْتَزِمًا لَهُ، أَوْ مَا لَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُ أَنَّ غَيْرَهُ أَوْلَى بِالِالْتِزَامِ مِنْهُ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْتِزَامَ الْمَذَاهِبِ وَالْخُرُوجَ عَنْهَا إنْ كَانَ لِغَيْرِ أَمْرٍ دِينِيٍّ مِثْلُ أَنْ يَلْتَمِسَ مَذْهَبًا لِحُصُولِ غَرَضٍ دُنْيَوِيٍّ مِنْ مَالٍ أَوْ جَاهٍ وَنَحْوِهِ ذَلِكَ، فَهَذَا مِمَّا لَا يُحْمَدُ عَلَيْهِ، بَلْ يُذَمُّ عَلَيْهِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَلَوْ كَانَ مَا انْتَقَلَ إلَيْهِ خَيْرًا مِمَّا انْتَقَلَ مِنْهُ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ يُسْلِمُ لَا يُسْلِمُ إلَّا لِغَرَضٍ دُنْيَوِيٍّ، أَوْ يُهَاجِرُ مِنْ مَكَّةَ إلَى الْمَدِينَةِ لِامْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا أَوْ دُنْيَا يُصِيبُهَا. قَالَ: وَأَمَّا إنْ كَانَ انْتِقَالُهُ مِنْ مَذْهَبٍ إلَى مَذْهَبٍ لِأَمْرٍ دِينِيٍّ فَهُوَ مُثَابٌ عَلَى ذَلِكَ، بَلْ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ إذَا تَبَيَّنَ لَهُ حُكْمُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فِي أَمْرٍ أَنْ لَا يَعْدِلَ عَنْهُ، وَلَا يَتَّبِعَ أَحَدًا فِي مُخَالَفَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ فَرَضَ طَاعَةَ رَسُولِهِ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ فِي كُلِّ حَالٍ. انْتَهَى.
وَفِي الرِّعَايَةِ مَنْ الْتَزَمَ مَذْهَبًا أُنْكِرَ عَلَيْهِ مُخَالَفَتُهُ بِلَا دَلِيلٍ وَلَا تَقْلِيدٍ سَائِغٍ وَلَا عُذْرٍ، وَمُرَادُهُ بِقَوْلِهِ بِلَا دَلِيلٍ إذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ، وَقَوْلُهُ وَلَا تَقْلِيدٍ سَائِغٍ، أَيْ: لِعَالِمٍ أَفْتَاهُ إذَا لَمْ يَكُنْ أَهْلًا لِلِاجْتِهَادِ وَقَوْلُهُ وَلَا عُذْرٍ أَيْ: يُبِيحُ لَهُ مَا فَعَلَهُ، فَيُنْكِرُ عَلَيْهِ حِينَئِذٍ لِأَنَّهُ يَكُونُ مُتَّبِعًا لِهَوَاهُ. (وَلَا يَلْزَمُ الْعَامِّيَّ أَنْ يَتَمَذْهَبَ بِمَذْهَبٍ مُعَيَّنٍ كَمَا لَمْ يَلْزَمْ ذَلِكَ فِي عَصْرِ أَوَائِلِ الْأُمَّةِ) كَالصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فَإِنَّ مَذَاهِبَهُمْ كَانَتْ كَثِيرَةً مُتَبَايِنَةً، وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ أَنَّهُ قَالَ لِمَنْ اسْتَفْتَاهُ: الْوَاجِبُ عَلَيْكَ أَنْ تُرَاعِيَ أَحْكَامَ مَذْهَبِ مَنْ قَلَّدْتَهُ؛ لِئَلَّا تُلَفِّقَ فِي عِبَادَتِكَ بَيْنَ مَذْهَبَيْنِ فَأَكْثَرَ، بَلْ كَانَ مَنْ سَأَلَ مِنْهُمْ عَنْ مَسْأَلَةٍ أَفْتَاهُ فِيهَا بِمَا يَرَاهُ مَذْهَبُهُ مُجِيزًا لَهُ الْعَمَلَ مِنْ غَيْرِ فَحْصٍ وَلَا تَفْصِيلٍ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ لَازِمًا لَمَا أَهْمَلُوهُ، خُصُوصًا مَعَ كَثْرَةِ تَبَايُنِ أَقْوَالِهِمْ. وَقَالَ الْمُوَفَّقُ (فِي الْمُغْنِي النِّسْبَةُ إلَى إمَامٍ فِي الْفُرُوعِ كَالْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ لَيْسَتْ بِمَذْمُومَةٍ، فَإِنَّ اخْتِلَافَهُمْ رَحْمَةٌ، وَاتِّفَاقَهُمْ حُجَّةٌ قَاطِعَةٌ.
قَالَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ: وَفِيهِ) أَيْ: قَوْلِ الْمُوَفَّقِ (نَظَرٌ فَإِنَّ الْإِجْمَاعَ لَيْسَ عِبَارَةً عَنْ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَأَصْحَابِهِمْ قَالَ فِي الْفُرُوعِ وَلَيْسَ فِي كَلَامِ الشَّيْخِ) أَيْ: الْمُوَفَّقِ (مَا فَهِمَهُ هَذَا الْحَنَفِيُّ. انْتَهَى) قَالَ الْخَطَّابِيِّ وَغَيْرُهُ: رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ «اخْتِلَافُ أُمَّتِي رَحْمَةٌ» ذَكَرَهُ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ فِي الْوَصَايَا (وَفِي الْإِفْصَاحِ) لِابْنِ هُبَيْرَةَ: الْإِجْمَاعُ انْعَقَدَ عَلَى تَقْلِيدِ كُلٍّ مِنْ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ وَأَنَّ الْحَقَّ لَا يَخْرُجُ عَنْهُمْ، انْتَهَى.
(وَيَتَّجِهُ وَفِيهِ)؛ أَيْ: كَلَامِ الْإِفْصَاحِ (نَظَرٌ بَلْ يَجُوزُ) تَقْلِيدُ غَيْرِهِمْ مِنْ الثِّقَاتِ (حَيْثُ لَا تَحْتَمِلُ الْمَسْأَلَةُ قَيْدًا كَمُقَلِّدِ دَاوُد) الظَّاهِرِيِّ (فِي حِلِّ شَحْمِ الْخِنْزِيرِ، وَمُقَلِّدِ ابْنِ حَزْمٍ فِي اللُّبْثِ بِمَسْجِدٍ لِلْجُنُبِ وَمُقَلِّدِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ) وَابْنِ الْقَيِّمِ (وَغَيْرِهِمَا) مِمَّنْ يُفْتِي (فِي أَنَّ الطَّلَاقَ الثَّلَاثَ إذَا كَانَ دَفْعَةً) كَأَنْتَ طَالِقٌ ثَلَاثًا وَنَحْوُهُ (لَا يَقَعُ غَيْرَ وَاحِدَةٍ، وَفِي عَلَيَّ الطَّلَاقُ) لَأَفْعَلَنَّ كَذَا، وَلَمْ يَفْعَلْهُ (لَا يَقَعُ شَيْءٌ، فَإِنْ احْتَمَلَ التَّقَيُّدَ امْتَنَعَ كَمُقَلَّدِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ فِي حِلِّ الْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ مَعَ الْحِيلَةِ) لِأَنَّ الْحِيَلَ لَا تَجُوزُ فِي شَيْءٍ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ (وَمُقَلَّدُ نَافِعٍ وَابْنِ عُمَرَ فِي الْوَطْءِ فِي الدُّبُرِ حَالَةَ الْحَيْضِ وَأَمْثَالِ هَذَا الِاحْتِمَالُ أَنَّهُمَا لَا يَرَيَانِ ذَلِكَ حِينَئِذٍ) وَلِانْفِرَادِهِمَا بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ دُونَ غَيْرِهِمَا، وَقَدْ أُنْكِرَ عَلَيْهِمَا وَمُعَاصِرُوهُمَا فَمَنْ بَعْدَهُمْ، وَقَالُوا: لَيْسَ لَهُمَا فِي ذَلِكَ دَلِيلٌ مِنْ كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ دَاوُد فَإِنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ. لَا يَأْبَاهَا، وَبِخِلَافِ مَسْأَلَةِ ابْنِ حَزْمٍ فَإِنَّ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ قَدْ قَالَ بِهَا، وَبِخِلَافِ مَسْأَلَةِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ فَإِنَّ الْقَائِلِينَ بِهَا كَثِيرُونَ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَالْأَئِمَّةِ الْمَهْدِيِّينَ وَقَدْ أَنْهَيْنَا الْكَلَامَ عَلَيْهَا فِي بَابِ مَا يَخْتَلِفُ بِهِ عَدَدُ الطَّلَاقِ، فَمَنْ وَقَفَ عَلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ وَثَبَتَ عِنْدَهُ صِحَّةُ نِسْبَتِهَا لِهَؤُلَاءِ الرِّجَالِ يَجُوزُ لَهُ الْعَمَلُ بِمُقْتَضَاهَا عِنْدَ الِاحْتِيَاجِ إلَيْهِ خُصُوصًا إذَا دَعَتْهُ الضَّرُورَةُ إلَيْهِ وَهُوَ مُتَّجِهٌ. (وَلَا يَجُوزُ لِلْمُفْتِي وَلَا لِغَيْرِهِ تَتَبُّعُ الْحِيَلِ الْمُحَرَّمَةِ وَالْمَكْرُوهَةِ، وَلَا تَتَبُّعُ الرُّخَص لِمَنْ أَرَادَ نَفْعَهُ، فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ) أَيْ: تَتَبَّعَ الْحِيَلَ الْمَكْرُوهَةَ وَالْمُحَرَّمَةَ وَالرُّخَصَ (فَسَقَ، وَحَرُمَ اسْتِفْتَاؤُهُ وَإِنْ حَسُنَ قَصْدُهُ).، أَيْ: الْمُفْتِي (فِي حِيلَةٍ جَائِزَةٍ، وَلَا شُبْهَةَ فِيهَا، وَلَا مَفْسَدَةَ، لِيَتَخَلَّصَ الْمُسْتَفْتِي بِهَا مِنْ حَرَجٍ جَازَ كَمَا «أَرْشَدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلَالًا إلَى بَيْعِ التَّمْرِ بِدَرَاهِمَ، ثُمَّ يَشْتَرِي بِالدَّرَاهِمِ تَمْرًا؛ فَيَتَخَلَّصُ مِنْ الرِّبَا») بِذَلِكَ، وَهَذَا إذَا كَانَ قَبَضَ الدَّرَاهِمَ، أَوْ اشْتَرَى فِي ذِمَّتِهِ بِدَرَاهِمَ مِنْ جِنْسِ الْأُولَى عَلَى صِفَتِهَا؛ فَتَحْصُلُ الْمُقَاصَّةُ، وَيَتَخَلَّصُ مِنْ الرِّبَا وَمَا إذَا اشْتَرَى بِعَيْنِ تِلْكَ الدَّرَاهِمِ قَبْلَ قَبْضِهَا مِمَّا يُشَارِكُهُ فِي الْعِلَّةِ فَلَا، كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْبَيْعِ (وَلَيْسَ لِمَنْ انْتَسَبَ إلَى مَذْهَبِ إمَامٍ أَنْ يَتَخَيَّرَ فِي مَسْأَلَةٍ ذَاتِ قَوْلَيْنِ) لِإِمَامِهِ، أَوْ وَجْهَيْنِ لِأَحَدِ أَصْحَابِهِ؛ فَيُفْتِيَ أَوْ يَحْكُمَ بِحَسَبِ مَا يَخْتَارُهُ مِنْهُمَا (بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَنْظُرَ أَيُّهُمَا أَرْجَحُ، فَيَعْمَلُ بِهِ، لِقُوَّتِهِ وَقَالَ الْقَاضِي فِيمَا إذَا اعْتَدِلْ عِنْدَهُ قَوْلَانِ مِنْ غَيْرِ تَرْجِيحٍ، يُفْتِي بِأَيِّهِمَا شَاءَ لِاسْتِوَائِهِمَا). (وَمَنْ قَوِيَ عِنْدَهُ مَذْهَبُ غَيْرِ إمَامِهِ) لِظُهُورِ الدَّلِيلِ مَعَهُ، أَفْتَى بِهِ، أَيْ: بِمَا تَرَجَّحَ عِنْدَهُ مِنْ مَذْهَبِ غَيْرِ إمَامِهِ (وَأَعْلَمَ السَّائِلَ) بِذَلِكَ؛ لِيَكُونَ عَلَى بَصِيرَةٍ فِي تَقْلِيدِهِ. (قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ إذَا جَاءَتْ الْمَسْأَلَةُ لَيْسَ فِيهَا أَثَرٌ) أَيْ: حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ وَلَا مَوْقُوفٌ؛ لِأَنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ عِنْدَهُ حُجَّةٌ إذَا لَمْ يُخَالِفْهُ غَيْرُهُ (فَأَفْتِ فِيهَا بِقَوْلِ الشَّافِعِيِّ) وَفِي الْمُبْدِعِ قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ الْمَرُّوذِيِّ: إذَا سُئِلْتُ عَنْ مَسْأَلَةٍ لَمْ أَعْرِفْ فِيهَا خَبَرًا قُلْتُ فِيهَا بِقَوْلِ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ إمَامٌ عَالِمٌ مِنْ قُرَيْشٍ، وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «يَمْلَأُ الْأَرْضَ عِلْمًا» (وَمَنْ لَمْ يَجِدْ إلَّا مُفْتِيًا) وَاحِدًا (لَزِمَهُ أَخْذُهُ بِقَوْلِهِ، كَمَا لَوْ حَكَمَ عَلَيْهِ بِهِ حَاكِمٌ) قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَلَا يَتَوَقَّفُ ذَلِكَ عَلَى الْتِزَامِهِ وَلَا سُكُونِ نَفْسِهِ إلَى صِحَّتِهِ (وَكَذَا مُلْتَزِمُ قَوْلِ مُفْتٍ وَثَمَّ غَيْرُهُ) قَالَ فِي شَرَحَ التَّحْرِيرِ (فَلَوْ أَفْتَى الْمُقَلِّدَ مُفْتٍ) وَاحِدٌ (وَعَمِلَ بِهِ الْمُقَلِّدُ؛ لَزِمَهُ قَطْعًا، وَلَيْسَ لَهُ الرُّجُوعُ عَنْهُ إلَى فَتْوَى غَيْرِهِ فِي تِلْكَ الْحَادِثَةِ إجْمَاعًا نَقَلَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ وَالْهِنْدِيُّ وَغَيْرُهُمَا) وَإِنْ لَمْ يَعْمَلْ بِهِ فَالصَّحِيحُ مِنْ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ بِالْتِزَامِهِ.
قَالَ ابْنُ مُفْلِحٍ فِي أُصُولِه: هَذَا الْأَشْهَرُ.
تَتِمَّةٌ:
وَإِنْ جَعَلَ أَهْلُ بَلَدٍ لِلْمُفْتِي رِزْقًا لِيَتَفَرَّغَ لَهُمْ؛ جَازَ لَهُ أَخْذُهُ، وَجَعْلُ الْأَرْزَاقِ مَعْرُوفٌ غَيْرُ لَازِمٍ لِجِهَةٍ مُعَيَّنَةٍ.
قَالَ الْقَرَافِيُّ: وَلَا يُورَثُ، بِخِلَافِ الْأُجْرَةِ قَالَ: وَبَابُ الْأَرْزَاقِ أَدْخَلُ فِي بَابِ الْإِحْسَانِ وَأَبْعَدُ فِي بَابِ الْمُعَاوَضَةِ، وَبَابُ الْإِجَارَةِ أَبْعَدُ عَنْ بَابِ الْمُسَامَحَةِ وَأَدْخَلُ فِي بَابِ الْمُكَاسَبَةِ، وَلِلْمُفْتِي قَبُولُ هَدِيَّةٍ لَا لِيُفْتِيَهُ بِمَا يُرِيدُهُ مِمَّا لَا يُفْتِي بِهِ غَيْرُهُ، وَإِنْ أَخَذَهَا لِيُفْتِيَهُ بِمَا يُرِيدُهُ؛ حَرُمَ عَلَيْهِ أَخْذُهَا.

.فَصْلٌ: [ما يَكْتُبُهُ الْمُفْتِي فِي أَوَّلِ فَتْوَاهُ]:

(يُسْتَحَبُّ لِمَنْ أَفْتَى خَطًّا)؛ أَيْ: كِتَابَةً لَا لَفْظًا (أَنْ يَكْتُبَ فِي أَوَّلِ فَتْوَاهُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، وَفِي آخِرِهَا: وَاَللَّهُ أَعْلَمُ، وَكَتَبَهُ فُلَانٌ الْحَنْبَلِيُّ أَوْ الشَّافِعِيُّ وَنَحْوُهُ) كَالْمَالِكِيِّ وَالْحَنَفِيِّ اقْتِدَاءً بِمَنْ سَلَفَ وَ(يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُكْتَبَ الْجَوَابُ بِخَطٍّ وَاضِحٍ، وَيُقَارِبُ سُطُورَهُ وَخَطَّهُ لِئَلَّا يُزَوِّرَ أَحَدٌ عَلَيْهِ، ثُمَّ يَتَأَمَّلُ الْجَوَابَ بَعْدَ كِتَابَتِهِ خَوْفَ غَلَطٍ أَوْ سَهْوٍ، وَإِذَا رَأَى فِي آخِرِ سَطْرٍ الْفُتْيَا أَوْ فِي خِلَالِهَا بَيَاضًا يُحْتَمَلُ أَنْ يُلْحَقَ بِهِ مَا يُفْسِدُ الْجَوَابَ؛ فَلْيَحْتَرِزْ مِنْهُ بِالْأَمْرِ بِكِتَابَةِ غَيْرِ الْوَرَقَةِ أَوْ يَشْغَلُهُ بِشَيْءٍ) لِيَأْمَنَ مِنْ الزِّيَادَةِ (وَإِنْ رَأَى لَحْنًا فَاحِشًا فِي الرُّقْعَةِ) الْمَكْتُوبِ فِيهَا السُّؤَالُ (أَوْ رَأَى خَطًّا يُحِيلُ بِهِ الْمَعْنَى أَصْلَحَهُ) لِأَنَّ إجَابَتَهُ تَتَوَقَّفُ عَلَى ذَلِكَ الْفَهْمِ الْمَقْصُودِ (وَيَنْبَغِي) لِلْمُفْتِي (أَنْ يَكُونَ جَوَابُهُ مَوْصُولًا بِآخِرِ سَطْرٍ فِي الْوَرَقَةِ) وَلَا يَدَعُ بَيْنَهُمَا فُرْجَةً خَوْفًا مِنْ أَنْ يُثْبِتَ السَّائِلُ فِيهَا غَرَضًا لَهُ ضَارًّا.
تَنْبِيهٌ:
إذَا كَانَ فِي مَوْضِعِ الْجَوَابِ وَرَقَةٌ مُلْتَزِقَةٌ كَتَبَ عَلَى مَوْضِعِ الِالْتِزَاقِ، وَشَغَلَهُ بِشَيْءٍ؛ لِئَلَّا يُحَلَّ اللَّزُوقُ، وَيُوصَلَ بِرُقْعَةٍ أُخْرَى. وَقَالَ فِي شَرْحِ الْإِقْنَاعِ قُلْتُ: فَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُلْتَزِقٍ، وَطَلَبَ مِنْهُ الْكِتَابَةَ لِيَلْزَقَ؛ لَمْ يُجِبْ، لِئَلَّا يَلْزَقَ بِغَيْرِ مَا سُئِلَ عَنْهُ مِمَّا يُخَالِفُهُ فِي الْحُكْمِ. (وَلَهُ أَنْ يَقُولَ مَعَ جَوَابِ مَنْ تَقَدَّمَهُ) بِالْفُتْيَا (جَوَابِي كَذَلِكَ، أَوْ الْجَوَابُ صَحِيحٌ) وَبِهِ أَقُولُ طَلَبًا لِلِاخْتِصَارِ مَعَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ (وَإِذَا عَلِمَ صَوَابَ جَوَابِهِ وَمُوَافَقَتِهِ، وَكَانَ أَهْلًا) لِلْفُتْيَا (وَإِلَّا) أَيْ: وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ صَوَابَهُ (اسْتَقَلَّ بِالْجَوَابِ) مَعَهُ فِي الْوَرَقَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَنْ تَقَدَّمَ الْمُفْتِيَ أَهْلًا لِلْفُتْيَا، لَمْ يُفْتِ مَعَهُ، لِأَنَّهُ تَقْرِيرٌ لِلْمُنْكَرِ، وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ الْمُفْتِي اسْمَ مَنْ كَتَبَ قَبْلَهُ، فَلَهُ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ الْفُتْيَا مَعَهُ خَوْفًا مِنْ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ أَهْلٍ، فَيَكُونُ تَقْرِيرًا لِلْمُنْكَرِ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُشِيرَ عَلَى صَاحِبِ الرُّقْعَةِ بِإِبْدَالِهَا إذَا جَهِلَ الْمُفْتِي قَبْلَهُ فِيهَا، فَإِنْ أَبَى إبْدَالَهَا أَجَابَهُ شِفَاهًا (وَإِذَا كَانَ هُوَ الْمُبْتَدِئَ بِالْإِفْتَاءِ فِي الرُّقْعَةِ كَتَبَ فِي النَّاحِيَةِ الْيُسْرَى) لِأَنَّهُ أَمْكَنُ وَإِنْ كَتَبَ فِي الْجَانِبِ الْأَيْمَنِ أَوْ الْأَسْفَلِ جَازَ وَلَا يَكْتُبُ فَوْقَ الْبَسْمَلَةِ احْتِرَامًا لِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى (وَعَلَيْهِ أَنْ يَخْتَصِرَ جَوَابَهُ) لِأَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى مَا يَحْصُلُ بِهِ الْمَقْصُودُ إشْغَالٌ لِلرُّقْعَةِ بِمَا لَا حَاجَةَ إلَيْهِ، وَقَدْ لَا يُرْضِي رَبَّهَا بِذَلِكَ، وَدَلَالَةُ الْحَالِ أَنَّهُ إنَّمَا أَذِنَ فِي قَدْرِ الْحَاجَةِ، وَلَا بَأْسَ أَنْ يَكْتُبَ بَعْدَ جَوَابِهِ عَمَّا فِي الرُّقْعَةِ: زَادَ السَّائِلُ مِنْ لَفْظِهِ كَذَا وَكَذَا وَالْجَوَابُ عَنْهُ كَذَا وَكَذَا، لِأَنَّهُ إخْبَارٌ بِالْوَاقِعِ. (وَإِنْ جَهِلَ الْمُفْتِي لِسَانَ السَّائِلِ) أَيْ: لُغَتَهُ (أَجْزَأَتْ تَرْجَمَةُ وَاحِدٍ ثِقَةٍ) كَالْإِخْبَارِ بِالْقِبْلَةِ وَغَيْرِهَا، بِخِلَافِ التَّرْجَمَةِ عِنْدَ الْحَاكِمِ؛ فَحُكْمُهَا كَالشَّهَادَةِ، وَيَأْتِي (وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُفْتِيَ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِاللَّفْظِ) كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالْأَيْمَانِ وَالْأَقَارِيرِ (بِمَا اعْتَادَهُ هُوَ مِنْ فَهْمِ تِلْكَ الْأَلْفَاظِ، دُونَ أَنْ يَعْرِفَ عُرْفَ أَهْلِهَا وَالْمُتَكَلِّمِينَ بِهَا، بَلْ يَحْمِلُهَا عَلَى مَا اعْتَادُوهُ وَعَرَفُوهُ، وَإِنْ كَانَ) الَّذِي اعْتَادَ (مُخَالِفًا لِحَقَائِقِهَا الْأَصْلِيَّةِ) أَيْ: اللُّغَوِيَّةِ، لِمَا تَقَدَّمَ فِي الْأَيْمَانِ أَنَّ الْعُرْفِيَّ يُقَدَّمُ عَلَى الْحَقِيقَةِ الْمَهْجُورَةِ. (وَلَا يَجُوزُ لِلْمُفْتِي أَنْ يُلْقِيَ السَّائِلَ فِي الْحَيْرَةِ، كَأَنْ يَقُولَ فِي مَسْأَلَةٍ فِي الْفَرَائِضِ تُقْسَمُ عَلَى فَرَائِضِ اللَّهِ) تَعَالَى، أَوْ يَقُولَ: فِيهَا، أَيْ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي سُئِلَ عَنْهَا (قَوْلَانِ، بَلْ يُبَيِّنُ بَيَانًا مُزِيلًا لِلْإِشْكَالِ) لِأَنَّ الْفُتْيَا تُبَيِّنُ الْحُكْمَ. (وَمَنْ كَتَبَ عَلَى فُتْيَا أَوْ شَهَادَةٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُكَبِّرَ خَطَّهُ، وَلَا أَنْ يُوَسِّعَ السُّطُورَ بِلَا إذْنٍ أَوْ حَاجَةٍ) لِأَنَّهُ غَيْرُ مَأْذُونٍ فِيهِ لَفْظًا وَلَا عُرْفًا (وَيُكْرَهُ أَنْ يَكُونَ السُّؤَالُ بِخَطِّهِ لَا بِإِمْلَائِهِ) وَتَهْذِيبِهِ (وَإِذَا كَانَ فِي رُقْعَةِ الِاسْتِفْتَاءِ مَسَائِلُ؛ فَالْأَحْسَنُ تَرْتِيبُ الْجَوَابِ عَلَى تَرْتِيبِ الْمَسَائِلِ) لِيَحْصُلَ التَّنَاسُبُ. (وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَكْتُبَ الْجَوَابَ عَلَى مَا يَعْلَمُهُ مِنْ صُورَةِ الْوَاقِعَةِ) إذَا لَمْ يَكُنْ فِي الرُّقْعَةِ تَعَرُّضٌ لَهُ (بَلْ يَذْكُرُ جَوَابَ مَا فِي الرُّقْعَةِ؛ فَإِنْ أَرَادَ الْجَوَابَ عَلَى خِلَافِ مَا فِيهَا؛ فَلْيَقُلْ وَإِنْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَا فَجَوَابُهُ كَذَا)، وَإِنْ أَمَرَ السَّائِلُ بِتَغْيِيرِ الرُّقْعَةِ فَهُوَ أَوْلَى (وَلَهُ) أَيْ: الْمُفْتِي الْعُدُولُ (عَنْ جَوَابِ السُّؤَالِ إلَى مَا هُوَ أَنْفَعُ لِلسَّائِلِ) قَالَ تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ}. وَيَجُوزُ لِلْمُفْتِي (أَنْ يُجِيبَهُ بِأَكْثَرَ مِمَّا سَأَلَهُ) عَنْهُ؛ كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَقَدْ سُئِلَ عَنْ مَاءِ الْبَحْرِ: «هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ» وَلِلْمُفْتِي (أَنْ يُنَبِّهَهُ) أَيْ: الْمُسْتَفْتِيَ (عَلَى مَا يَجِبُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ) لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ قَبِيلِ الْهِدَايَةِ لِدَفْعِ الْمَضَارِّ (وَإِنْ كَانَ الْحُكْمُ مُسْتَغْرَبًا وَطَّأَ قَبْلَهُ مَا هُوَ كَالْمُقَدِّمَةِ) لَهُ لِيُزِيلَ اسْتِغْرَابَهُ. (وَلْيَحْذَرْ الْمُفْتِي أَنْ يَمِيلَ فِي فُتْيَاهُ مَعَ الْمُسْتَفْتِي أَوْ مَعَ خَصْمِهِ بِأَنْ يَكْتُبَ فِي جَوَابِهِ مَا هُوَ لَهُ) أَيْ: لِلْمُسْتَفْتِي (وَيَسْكُتَ عَمَّا هُوَ عَلَيْهِ وَنَحْوُهُ) كَأَنْ يُحَاوِلَ فِي جَوَابِ الْمَسْأَلَةِ، وَيَجْعَلَهُ كَالْمُعْمَى فَيَنْفِرُ بِسَبَبِ ذَلِكَ السَّائِلُ أَوْ خَصْمُهُ، وَلَهُ؛ أَيْ: الْمُسْتَفْتِي (الْعَمَلُ بِخَطِّ الْمُفْتِي، وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْ الْفَتْوَى مِنْ لَفْظِهِ إذَا عَرَفَ أَنَّهُ خَطُّهُ) لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يَكْتُبُ لِعُمَّالِهِ وَوُلَاتِهِ وَسُعَاتِهِ، وَيَعْمَلُونَ بِذَلِكَ. وَلِدُعَاءِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ، بِخِلَافِ حُكْمِ الْحَاكِمِ.
قَالَ فِي شَرْحِ الْإِقْنَاعِ قُلْتُ: وَمِنْ ذَلِكَ الْعَمَلُ بِكُتُبِ الْأَئِمَّةِ إذَا عَلِمَ أَنَّهَا خَطُّهُمْ، أَوْ نَقَلَهَا الثِّقَةُ مِنْ خَطِّهِمْ.