فصل: تفسير الآيات (31- 40):

صباحاً 7 :44
/ﻪـ 
1446
جمادى الاخرة
13
السبت
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: أنوار التنزيل وأسرار التأويل المشهور بـ «تفسير البيضاوي»



.سورة الزخرف:

مكية وقيل إلا قوله: واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا وآيها تسع وثمانون آية.

.تفسير الآيات (1- 14):

{حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4) أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ (5) وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (6) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (7) فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (8) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (10) وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (11) وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ (12) لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ (14)}
{حم} {والكتاب المبين} {إِنَّا جعلناه قُرْءاناً عَرَبِيّاً} أقسم بالقرآن على أنه جعله قرآناً عربياً، وهو من البدائع لتناسب القسم والمقسم عليه كقول أبي تمام:
وَثَنَايَاكَ أَنَّهَا إِغْرِيضُ

ولعل إقسام الله بالأشياء استشهاد بما فيها من الدلالة على المقسم عليه، وبالقرآن من حيث أنه معجز مبين لطرق الهدى وما يحتاج إليه في الديانة، أو بين للعرب ما يدل على أنه تعالى صيره كذلك {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} لكي تفهموا معانيه.
{وَإِنَّهُ} عطف على انا، وقرأ حمزة والكسائي بالكسر على الاستئناف. {فِى أُمّ الكتاب} في اللوح المحفوظ فإنه أصل الكتب السماوية، وقرئ أم الكتاب بالكسر. {لَدَيْنَا} محفوظاً عندنا عن التغيير. {لَّعَليٌّ} رفيع الشأن في الكتب لكونه معجزاً من بينها. {حَكِيمٌ} ذو حكمة بالغة، أو محكم لا ينسخه غيره. وهما خبران لأن {وَفِى أُمِّ الكتاب} متعلق ب {لَّعَليٌّ} واللام لا تمنعه، أو حال منه و{لَدَيْنَا} بدل منه أو حال من {أُمِّ الكتاب}.
{أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذكر صَفْحاً} أفنذوده ونبعده عنكم مجاز من قولهم: ضرب الغرائب عن الحوض، قال طرفة:
اضْرِبْ عَنْكَ الهُمُومَ طَارِقَهَا ** ضَرْبكَ بِالسَّيْفِ قَوْنَس الفَرَسِ

والفاء للعطف على محذوف أي انهملكم فنضرب {عَنكُمُ الذكر}، و{صَفْحاً} مصدر من غير لفظه فإن تنحية الذكر عنهم إعراض أو مفعول له أو حال بمعنى صافحين، وأصله أن تولي الشيء صفحة عنقك. وقيل إنه بمعنى الجانب فيكون ظرفاً ويؤيده أنه قرئ: {صَُفْحاً} بالضم، وحينئذ يحتمل أن يكون تخفيف صفح جمع صفوح بمعنى صافحين، والمراد إنكار أن يكون الأمر على خلاف ما ذكر من إنزال الكتاب على لغتهم ليفهموه. {أَن كُنتُمْ قَوْماً مُّسْرِفِينَ} أي لأن كنتم، وهو في الحقيقة علة مقتضية لترك الإِعراض عنهم، وقرأ نافع وحمزة والكسائي {إن} بالكسر على أن الجملة شرطية مخرجة للمحقق مخرج المشكوك استجهالاً لهم، وما قبلها دليل الجزاء.
{وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِن نَّبِيٍّ في الأولين} {وَمَا يَأْتِيهِم مّنْ نَّبِيٍ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءونَ} تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن استهزاء قومه.
{فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُم بَطْشاً} أي من القوم المسرفين لأنه صرف الخطاب عنهم إلى الرسول مخبراً عنهم. {ومضى مَثَلُ الأولين} وسلف في القرآن قصتهم العجيبة، وفيه وعد للرسول ووعيد لهم بمثل ما جرى على الأولين.
{وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السموات والأرض لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ العزيز العليم} لعله لازم مقولهم أو ما دل عليه إجمالاً أقيم مقامه تقريراً لإِلزام الحجة عليهم، فكأنهم قالوا: {الله} كما حكي عنهم في مواضع أخر وهو الذي من صفته ما سرد من الصفات، ويجوز أن يكون مقولهم وما بعده استئناف {الذى جَعَلَ لَكُمُ الأرض مَهْداً} فتستقرون فيها وقرئ غير الكوفيين {مهاداً} بالإلف.
{وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً} تسلكونها. {لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} لكي تهتدوا إلى مقاصدكم، أو إلى حكمة الصانع بالنظر في ذلك.
{والذى نَزَّلَ مِنَ السماء مَاءً بِقَدَرٍ} بمقدار ينفع ولا يضر. {فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً} مال عنه الماء. وتذكيره لأن البلدة بمعنى البلد والمكان. {كذلك} مثل ذلك الإِنشار. {تُخْرَجُونَ} تنشرون من قبوركم، وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي {تخْرَجُونَ} بفتح التاء وضم الراء.
{والذى خَلَقَ الأزواج كُلَّهَا} أصناف المخلوقات. {وَجَعَلَ لَكُمْ مّنَ الفلك والأنعام مَا تَرْكَبُونَ} ما تركبونه على تغليب المتعدي بنفسه على المتعدي بغيره إذ يقال: ركبت الدابة وركبت في السفينة، أو المخلوق للركوب على المصنوع له أو الغالب على النادر ولذلك قال: {لِتَسْتَوُواْ على ظُهُورِهِ} أي ظهور ما تركبون وجمعه للمعنى. {ثُمَّ تَذْكُرُواْ نِعْمَةَ رَبّكُمْ إِذَا استويتم عَلَيْهِ} تذكروها بقلوبكم معترفين بها حامدين عليها. {وَتَقُولُواْ سبحان الذي سَخَّرَ لَنَا هذا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} مطيقين من أقرن الشيء إذا أطاقه، وأصله وجد قرينته إذ الصعب لا يكون قرينة الضعيف. وقرئ بالتشديد والمعنى واحد. وعنه عليه الصلاة والسلام: «أنه كان إذا وضع رجله في الركاب قال: {بسم الله} فإذا استوى على الدابة قال: الحمد لله على كل حال» {سبحان الذي سَخَّرَ لَنَا هذا} إلى قوله: {وَإِنَّا إلى رَبّنَا لَمُنقَلِبُونَ} أي راجعون، واتصاله بذلك لأن الركوب للتنقل والنقلة العظمى هو الانقلاب إلى الله تعالى، أو لأنه مخطر فينبغي للراكب أن لا يغفل عنه ويستعد للقاء الله تعالى.

.تفسير الآيات (15- 21):

{وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (15) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ (16) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (17) أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18) وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ (19) وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (20) أَمْ آَتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21)}
{وَجَعَلُواْ لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءاً} متصل بقوله: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ} أي وقد جعلوا له بعد ذلك الاعتراف من عباده ولداً فقالوا الملائكة بنات الله، ولعله سماه جزءاً كما سمي بعضاً لأنه بضعة من الوالد دلالة على استحالته على الواحد الحق في ذاته، وقرأ أبو بكر {جزأ} بضمتين. {إِنَّ الإنسان لَكَفُورٌ مُّبِينٌ} ظاهر الكفران ومن ذلك نسبة الولد إلى الله لأنها من فرط الجهل به والتحقير لشأنه.
{أَمِ اتخذ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وأصفاكم بالبنين} معنى الهمزة في {أَمْ} للإِنكار والتعجب من شأنهم حيث لم يقنعوا بأن جعلوا له جزءاًً حتى جعلوا له من مخلوقاته أجزاء أخس مما اختير لهم وأبغض الأشياء إليهم، بحيث إذا بشر أحدهم بها اشتد غمه به كما قال.
{وَإِذَا بُشّرَ أَحَدُهُم بِمَا ضَرَبَ للرحمن مَثَلاً} بالجنس الذي جعله له مثلاً إذ الولد لابد وأن يماثل الوالد. {ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً} صار وجهه أسود في الغاية لما يعتريه من الكآبة. {وَهُوَ كَظِيمٌ} مملوء قلبه من الكرب، وفي ذلك دلالات على فساد ما قالوه، وتعريف البنين بما مر في الذكور، وقرئ: {مسود} و{مسواد} على أن في {ظِلّ} ضمير المبشر و{وَجْهُهُ مُسْوَدّ} جملة وقعت خبراً.
{أَوْ مِن يُنَشَّأُ في الحلية} أي أو جعلوا له، أو اتخذ من يتربى في الزينة يعني البنات. {وَهُوَ في الخصام} في المجادلة. {غَيْرُ مُبِينٍ} مقرر لما يدعيه من نقصان العقل وضعف الرأي، ويجوز أن يكون من مبتدأ محذوف الخبر أي أو من هذا حالة ولده و{فِى الخصام} متعلق ب {مُّبِينٌ}، وإضافة {غَيْرِ} إليه لا يمنعه لما عرفت. وقرأ حمزة والكسائي وحفص {يُنَشَّأُ} أي يربي. وقرئ: {يُنَشَّأُ} و{يناشأ} بمعناه ونظير ذلك أعلاه وعلاه وعالاه بمعنى.
{وَجَعَلُواْ الملئكة الذين هُمْ عِبَادُ الرحمن إناثا} كفر آخر تضمنه مقالهم شنع به عليهم، وهو جعلهم أكمل العباد وأكرمهم على الله تعالى أنقصهم رأياً وأخسهم صنفاً. وقرئ عبيد وقرأ الحجازيان وابن عامر ويعقوب {عند} على تمثيل زلفاهم. وقرئ: {أنثاً} وهو جمع الجمع. {أَشَهِدُواْ خَلْقَهُمْ} أحضروا خلق الله إياهم فشاهدوهم إناثاً، فإن ذلك مما يعلم بالمشاهدة وهو تجهيل وتهكم به. وقرأ نافع {أَشْهَدُواْ} بهمزة الاستفهام وهمزة مضمومة بين بين، و{آأشهدوا} بمدة بينهما. {سَتُكْتَبُ شهادتهم} التي شهدوا بها على الملائكة. {وَيُسْئَلُونَ} أي عنها يوم القيامة، وهو وعيد شديد. وقرئ: {سيكتب} و{سنكتب} بالياء والنون. و{شهاداتهم} وهي أن الله جزء أو أن له بنات وهن الملائكة ويساءلون من المساءلة.
{وَقَالُواْ لَوْ شَاءَ الرحمن مَا عبدناهم} أي لو شاء عدم عبادة الملائكة ما عبدناهم فاستدلوا بنفي مشيئته عدم العبادة على امتناع النهي عنها أو على حسنها، وذلك باطل لأن المشيئة ترجح بعض الممكنات على بعض مأموراً كان أو منهياً حسناً كان أو غيره، ولذلك جهلهم فقال: {مَّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ} يتمحلون تمحلاً باطلاً، ويجوز أن تكون الإِشارة إلى أصل الدعوى كأنه لما أبدى وجوه فسادها وحكى شبهتهم المزيفة نفى أن يكون لهم بها علم من طريق العقل، ثم أضرب عنه إلى إنكار أن يكون لهم سند من جهة النقل فقال: {أَمْ ءاتيناهم كتابا مّن قَبْلِهِ} من قبل القرآن أو ادعائهم ينطق على صحة ما قالوه.
{فَهُم بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ} بذلك الكتاب متمسكون.

.تفسير الآيات (22- 30):

{بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22) وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آَبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (24) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (25) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27) وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (28) بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاءِ وَآَبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (29) وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ (30)}
{بَلْ قَالُواْ إِنَّا وَجَدْنَا ءَابَاءنَا على أُمَّةٍ وَإِنَّا على ءاثارهم مُّهْتَدُونَ} أي لا حجة لهم على عقلية ولا نقلية، وإنما جنحوا فيه إلى تقليد آبائهم الجهلة، وال {أُمَّةٍ} الطريقة التي تؤم كالراحلة للمرحول إليه، وقرئت بالكسر وهي الحالة التي يكون عليها الأم أي القاصد ومنها الدين.
{وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ في قَرْيَةٍ مّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا ءَابَاءَنَا على أُمَّةٍ وَإِنَّا على ءاثارهم مُّقْتَدُونَ} تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ودلالة على أن التقليد في نحو ذلك ضلال قديم، وأن مقدميهم أيضاً لم يكن لهم سند منظور إليه، وتخصيص المترفين إشعار بأن التنعم وحب البطالة صرفهم عن النظر إلى التقليد.
{قُلْ أَوَلَوْ جِئْتُكُم بأهدى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ ءَابَاءَكُمْ} أي أتتبعون آبائكم ولو جئتكم بدين أهدى من دين آبائكم، وهي حكاية أمر ماض أوحي إلى النذير، أو خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ويؤيد الأول أنه قرأ ابن عامر وحفص {قَالَ} وقوله: {قَالُواْ إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافرون} أي وإن كان أهدى إقناطاً للنذير من أن ينظروا أو يتفكروا فيه.
{فانتقمنا مِنْهُمْ} بالاستئصال. {فانظر كَيْفَ كَانَ عاقبة المكذبين} ولا تكترث بتكذيبهم.
{وَإِذْ قَالَ إبراهيم} واذكر وقت قوله هذا ليروا كيف تبرأ عن التقليد وتمسك بالدليل، أو ليقلدوه إن لم يكن لهم بد من التقليد فإنه أشرف آبائهم. {لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِى بَرَاءٌ مّمَّا تَعْبُدُونَ} بريء من عبادتكم أو معبودكم، مصدر نعت به ولذلك استوى فيه الواحد والمتعدد والمذكر والمؤنث، وقرئ: {بريء} و{براء} ككريم وكرام.
{إِلاَّ الذي فَطَرَنِى} استثناء منقطع أو متصل على أن {ما} يعم أولي العلم وغيرهم، وأنهم كانوا يعبدون الله والأصنام والأوثان، أو صفة على أن {ما} موصوفة أي إنني بريء من آلهة تعبدونها غير الذي فطرني. {فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} سيثبتني على الهداية، أو سيهديني إلى ما وراء ما هداني إليه.
{وَجَعَلَهَا} وجعل إبراهيم عليه الصلاة والسلام أو الله كلمة التوحيد. {كَلِمَةً باقية في عَقِبِهِ} في ذريته فيكون فيهم أبداً من يوحد الله ويدعو إلى توحيده، وقرئ: {كَلِمَةَ} و{فِى عَقِبِهِ} على التخفيف و{في عاقبه} أي فيمن عقبه. {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} يرجع من أشرك بدعاء من وحد.
{بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلاَءِ وَءَابَاءَهُمْ} هَؤُلاَء المعاصرين للرسول صلى الله عليه وسلم من قريش وآباءهم بالمد في العمر والنعمة، فاغتروا لذلك وانهمكوا في الشهوات. وقرئ: {مَتَّعْتُ} بالفتح على أنه تعالى اعترض به على ذاته في قوله: {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً باقية} مبالغة في تعييرهم. {حتى جَاءهُمُ الحق} دعوة التوحيد أو القرآن. {وَرَسُولٌ مُّبِينٌ} ظاهر الرسالة بما له من المعجزات، أو {مُّبِينٌ} للتوحيد بالحجج والآيات.
{وَلَمَّا جَاءَهُمُ الحق} لينبههم عن غفلتهم {قَالُواْ هذا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كافرون} زادوا شرارة فضموا إلى شركهم معاندة الحق والاستخفاف به، فسموا القرآن سحراً وكفروا به واستحقروا الرسول.

.تفسير الآيات (31- 40):

{وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآَنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32) وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ (34) وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35) وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37) حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38) وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (39) أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (40)}
{وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزّلَ هذا القرءان على رَجُلٍ مّنَ القريتين} من إحدى القريتين مكة والطائف. {عظِيمٌ} بالجاه والمال كالوليد بن المغيرة وعروة بن مسعود الثقفي، فإن الرسالة منصب عظيم لا يليق إلا بعظيم، ولم يعلموا أنها رتبة روحانية تستدعي عظم النفس بالتحلي بالفضائل والكمالات القدسية، لا التزخرف بالزخارف الدنيوية.
{أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتِ رَبّكَ} إنكار فيه تجهيل وتعجيب من تحكمهم، والمراد بالرحمة النبوة. {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ في الحياة الدنيا} وهم عاجزون عن تدبيرها وهي خويصة أمرهم في دنياهم، فمن أين لهم أن يدبروا أمر النبوة التي هي أعلى المراتب الإنسية، وإطلاق المعيشة يقتضي أن يكون حلالها وحرامها من الله. {وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ درجات} وأوقعنا بينهم التفاوت في الرزق وغيره. {لّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً} ليستعمل بعضهم بعضاً في حوائجهم فيحصل بينهم تآلف وتضام ينتظم بذلك نظام العالم، لا لكمال في الموسع ولا لنقص في المقتر، ثم إنه لا اعتراض لهم علينا في ذلك ولا تصرف فكيف يكون فيما هو أعلى منه. {وَرَحْمَتُ رَبَّكَ} يعني هذه النبوة وما يتبعها. {خَيْرٌ مّمَّا يَجْمَعُونَ} من حطام الدنيا والعظيم من رزق منها لا منه.
{وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ الناس أُمَّةً واحدة} لولا أن يرغبوا في الكفر إذا رأوا الكفار في سعة وتنعم لحبهم الدنيا فيجتمعوا عليه. {لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بالرحمن لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ} ومصاعد جمع معراج، وقرئ و{معاريج} جمع معراج. {عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ} يعلون السطوح لحقارة الدنيا، و{لِبُيُوتِهِمْ} بدل من {لِمَنْ} بدل الاشتمال أو على كقولك: وهبت له ثوباً لقميصه، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو {وسقفاً} اكتفاء بجميع البيوت، وقرئ: {سقفاً} بالتخفيف و{سقوفاً} و{سقفاً} وهي لغة في سقف. {وَلِبُيُوتِهِمْ أبوابا وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ} أي أبواباً وسرراً من فضة.
{وَزُخْرُفاً} وزينة عطف على {سَقْفاً} أو ذهباً عطف على محل من فضة {وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا متاع الحياة الدنيا} إِن هي المخففة واللام هي الفارقة. وقرأ عاصم وحمزة وهشام بخلاف عنه لما بالتشديد بمعنى إلا وأن نافية، وقرئ به مع أن وما {والأخرة عِندَ رَبّكَ لِلْمُتَّقِينَ} عَن الكفر والمعاصي، وفيه دلالة على أن العظيم هو العظيم في الآخرة لا في الدنيا، وإشعار بما لأجله لم يجعل ذلك للمؤمنين حتى يجتمع الناس على الإِيمان، وهو أنه تمتع قليل بالإِضافة إلى ما لهم في الآخرة مخل به في الأغلب لما فيه من الآفات قل من يتخلص عنها كما أشار إليه بقوله: {وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرحمن} يتعام ويعرض عنه لفرط اشتغاله بالمسحوسات وإنهماكه في الشهوات، وقرئ: {يَعْشَ} بالفتح أي يعم يقال عشي إذا كان في بصره آفة وعشى إذا تعشى بلا آفة كعرج وعرج، وقرئ: {يعشو} على أن {مِنْ} موصولة.
{نُقَيّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} يوسوسه ويغويه دائماً، وقرأ يعقوب بالياء على إسناده إلى ضمير {الرحمن}، ومن رفع {يعشو} ينبغي أن يرفع {نُقَيّضْ}.
{وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السبيل} عن الطريق الذي من حقه أن يسبل، وجمع الضميرين للمعنى إذ المراد جنس العاشي والشيطان المقيض له. {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ} الضمائر الثلاثة الأول له والباقيان للشيطان.
{حتى إِذَا جَاءَنَا} أي العاشي، وقرأ الحجازيان وابن عامر وأبو بكر {جاءانا} أي العاشي والشيطان. {قَالَ} أي العاشي للشيطان. {ياليت بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ المشرقين} بعد المشرق من المغرب، فغلب المشرق وثنى وأضيف البعد إليهما. {فَبِئْسَ القرين} أنت.
{وَلَن يَنفَعَكُمُ اليوم} أي ما أنتم عليه من التمني. {إِذ ظَّلَمْتُمْ} إذ صح إنكم ظلمتم أنفسكم في الدنيا بدل من {اليوم}. {أَنَّكُمْ في العذاب مُشْتَرِكُونَ} لأن حقكم أن تشتركوا أنتم وشياطينكم في العذاب كما كنتم مشتركين في سببه، ويجوز أن يسند الفعل إليه بمعنى. ولن ينفعكم اشتراككم في العذاب كما ينفع الواقعين في أمر صعب معاونتهم في تحمل أعبائه وتقسمهم لمكابدة عنائه، إذ لكل منكم ما لا تسعه طاقته. وقرئ: {إِنَّكُمْ} بالكسر وهو يقوي الأول.
{أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصم أَوْ تَهْدِى العمى} إِنكار وتعجب من أن تحمل هو الذي يقدر على هدايتهم بعد تمرنهم على الكفر واستغراقهم في الضلال بحيث صار عشاهم عمى مقروناً بالصمم. كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعب نفسه في دعاء قومه وهم لا يزيدون إلا غياً فنزلت. {وَمَن كَانَ في ضلال مُّبِينٍ} عطف على {العمى} باعتبار تغاير الوصفين، وفيه إشعار بأن الموجب لذلك تمكنهم في ضلال لا يخفى.