الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: البرهان في علوم القرآن (نسخة منقحة)
فَقَوْلُهُ: لَمْ تَزِدْهُ بَيَانُ أَنَّهَا لِلْإِطْنَابِ وَالثَّنَاءِ لَا لِلتَّعْرِيفِ وَالتَّبْيِينِ.وَقِيلَ: إِنَّ الصِّفَاتِ الْجَارِيَةَ عَلَى الْقَدِيمِ سُبْحَانَهُ الْمُرَادُ بِهَا التَّعْرِيفُ فَإِنَّ تِلْكَ الصِّفَاتِ حَاصِلَةٌ لَهُ لَا لِمُجَرَّدِ الثَّنَاءِ وَلَوْ كَانَتْ لِلثَّنَاءِ لَكَانَ الِاخْتِيَارُ قَطْعَهَا وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا} فَهَذَا الْوَصْفُ لِلْمَدْحِ لَيْسَ غَيْرُ لِأَنَّهُ لَيْسَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ ثَمَّةَ نَبِيُّونَ غَيْرَ مُسْلِمِينَ كَذَا قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ قَالَ: وَأُرِيدَ بِهَا التَّعْرِيضُ باليهود وأنهم بعداء من ملة اإسلام التي هي دين الأنبياء كلهم في القديم والحديث وَأَنَّ الْيَهُودَ بِمَعْزِلٍ عَنْهَا.وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ هَذِهِ الصفة للتمييز وقد أطلق الله وصف الإسلام عَلَى الْأَنْبِيَاءِ وَأَتْبَاعِهِمْ وَالْأَصْلُ فِي الْمَدْحِ التَّمْيِيزُ بَيْنَ الْمَمْدُوحِ وَغَيْرِهِ بِالْأَوْصَافِ الْخَاصَّةِ وَالْإِسْلَامُ وَصْفٌ عَامٌّ فَوَصْفُهُمْ بِالْإِسْلَامِ إِمَّا بِاعْتِبَارِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ أَوِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ بَعْدَ النُّبُوَّةِ تَعْظِيمًا وَتَشْرِيفًا له أَوْ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُمْ بَلَغُوا مِنْ هَذَا الْوَصْفِ غَايَتَهُ لِأَنَّ مَعْنَى ذَلِكَ يَرْجِعُ إِلَى مَعْنَى الِاسْتِسْلَامِ وَالطَّاعَةِ الرَّاجِعَيْنِ إِلَى تَحْقِيقِ مَعْنَى الْعُبُودِيَّةِ الَّتِي هِيَ أَشْرَفُ أَوْصَافِ الْعِبَادِ فَكَذَلِكَ يُوصَفُونَ بِهَا فِي أَشْرَفِ حَالَاتِهِمْ وَأَكْمَلِ أَوْقَاتِهِمْ وَقَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ إِبْرَاهِيمَ وإسماعيل: {ربنا واجعلنا مسلمين لك} أَيْ: مُسْتَسْلِمَيْنِ لِأَمْرِكَ لِقَضَائِكَ وَكَذَا قَوْلُ يُوسُفَ: {توفني مسلما} وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا} تَنْوِيهٌ بِقَدْرِ الْإِسْلَامِ وَتَنْبِيهٌ عَلَى عِظَمِ أَمْرِهِ فَإِنَّ الصِّفَةَ تُعَظَّمُ بِعِظَمِ مَوْصُوفِهَا كَمَا وُصِفَتِ الملائكة المقربون بالإيمان في قوله: {يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به} تَنْوِيهًا بِقَدْرِ الْإِيمَانِ وَحَضًّا لِلْبَشَرِ عَلَى التَّحَلِّي بِهِ لِيَكُونُوا كَالْمُقَرَّبِينَ فِي وَصْفِ الْإِيمَانِ حَتَّى قِيلَ أَوْصَافُ الْأَشْرَافِ أَشْرَفُ الْأَوْصَافِ.الثَّانِي: لِزِيَادَةِ الْبَيَانِ كَذَا قَالَهُ ابْنُ مَالِكٍ وَمَثَّلَهُ بِقَوْلِهِ تعالى: {فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي} وَلَيْسَ مَا قَالَهُ بِوَاضِحٍ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ كَمَا يُسْتَعْمَلُ فِي نَبِيِّنَا صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ يُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِهِ بِطَرِيقِ الْوَضْعِ وَتَعْرِيفُهُ إِنَّمَا حَصَلَ بِالْإِضَافَةِ.فَإِنْ قَالَ: قَدْ كَثُرَ اسْتِعْمَالُهُ فِي نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى إِنَّهُ لَمْ يَبْقَ الذِّهْنُ يَتَبَادَرُ إِلَّا إِلَيْهِ!قُلْنَا: لَيْسَ هَذَا مِنْ وَضْعِهِ بَلْ ذَلِكَ مِنَ الِاسْتِعْمَالِ وَقَدِ اسْتُعْمِلَ فِي غَيْرِهِ قال تعالى: {فآمنوا بالله ورسوله} وفي موضع آخر: {رسل الله} وَفِي حَقِّ عِيسَى: {وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ} وَفِي حَقِّ مُوسَى: {كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رسولا}.ثُمَّ إِنَّ الصِّفَةَ إِنَّمَا تَكُونُ مِثْلَ الْمَوْصُوفِ أَوْ دُونَهُ فِي التَّعْرِيفِ وَأَمَّا أَنْ تَكُونَ فَوْقَهُ فَلَا لِأَنَّهَا عَلَى كُلِّ حَالٍ تَابِعَةٌ وَالتَّابِعُ دُونَ الْمَتْبُوعِ.فَإِنْ: قِيلَ كَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يُزَالَ إِبْهَامُ الشَّيْءِ بِمَا هُوَ أَبْهَمُ مِنْهُ؟فَالْجَوَابُ إِنَّ التَّعْرِيفَ لَمْ يَقَعْ بِمُجَرَّدِ الصِّفَةِ وَإِنَّمَا حَصَلَ بِمَجْمُوعِ الصِّفَةِ وَالْمَوْصُوفِ لِأَنَّهُمَا كَالشَّيْءِ الْوَاحِدِ.الثَّالِثُ: لِتَعْيِينِهِ لِلْجِنْسِيَّةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يطير بجناحيه} لِأَنَّ الْمَعْنَى بِدَابَّةٍ وَالَّذِي سِيقَ لَهُ الْكَلَامُ الْجِنْسِيَّةُ لَا الْإِفْرَادُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} فَجَمْعُ {أُمَمٍ} مُحَقِّقٌ إِرَادَةَ الْجِنْسِ مِنَ الْوَصْفِ اللَّازِمِ لِلْجِنْسِ الْمَذْكُورِ وَهُوَ كَوْنُ الدَّابَّةِ غَيْرَ مُنْفَكَّةٍ عَنْ كَوْنِهَا فِي الْأَرْضِ وَكَوْنُ الطَّائِرِ غَيْرَ مُنْفَكٍّ كَوْنُهُ طَائِرًا بِجَنَاحَيْهِ لِيَنْتَفِيَ تَوَهُّمُ الْفَرْدِيَّةِ هَذَا مَعْنَى مَا أَشَارَ إِلَيْهِ السَّكَّاكِيُّ فِي الْمِفْتَاحِ.وَحَمَلَ بَعْضُهُمْ كَلَامَهُ عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا ذَكَرَ الْوَصْفَ لِيُعْلَمُ أَنَّ الْمُرَادَ لَيْسَ دَابَّةً مَخْصُوصَةً وَهُوَ بَعِيدٌ لِأَنَّ ذَلِكَ مَعْلُومٌ قَطْعًا بِدُونِ الْوَصْفِ لِأَنَّ النَّكِرَةَ المنفية-لاسيما مَعَ (مِنْ) الِاسْتِغْرَاقِيَّةِ- قَطْعِيَّةٌ.وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ إِنَّ مَعْنَى زِيَادَةِ: {فِي الْأَرْضِ} وَ: {يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} يفيد زيادة التَّعْمِيمِ وَالْإِحَاطَةِ حَتَّى كَأَنَّهُ قِيلَ: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ مِنْ جَمِيعِ مَا فِي الْأَرْضِ وَمَا من طائر في جو السماء من جميع ما يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم محفوظة أحوالها غير مهمل أمرها.وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الطَّيَرَانَ لَمَّا كَانَ يوصف به من يعقل كالجان والملائكة فلولم يقل: {بجناحيه} لتوهم الاقتصار على حبسها مِمَّنْ يَعْقِلُ فَقِيلَ: {بِجَنَاحَيْهِ} لِيُفِيدَ إِرَادَةَ هَذَا الطَّيْرِ الْمُعْتَقَدِ فِيهِ عَدَمَ الْمَعْقُولِيَّةِ بِعَيْنِهِ.وَقِيلَ: إِنَّ الطَّيَرَانَ يُسْتَعْمَلُ لُغَةً فِي الْخِفَّةِ وَشِدَّةِ الْإِسْرَاعِ فِي الْمَشْيِ كَقَوْلِ الْحَمَاسِيِّ: فَقَوْلُهُ: {يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} رَافِعٌ لِاحْتِمَالِ هَذَا الْمَعْنَى.وَقِيلَ لَوِ اقْتَصَرَ عَلَى ذِكْرِ الطَّائِرِ فَقَالَ: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ} لَكَانَ ظَاهِرُ الْعَطْفِ يُوهِمُ وَلَا طَائِرٍ فِي الْأَرْضِ لِأَنَّ الْمَعْطُوفَ عَلَيْهِ إِذَا قُيِّدَ بِظَرْفٍ أَوْ حَالٍ يُقَيَّدُ بِهِ الْمَعْطُوفُ وَكَانَ ذَلِكَ يُوهِمُ اخْتِصَاصَهُ بِطَيْرِ الْأَرْضِ الَّذِي لَا يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ كَالدَّجَاجِ وَالْإِوَزِّ وَالْبَطِّ وَنَحْوِهَا فَلَمَّا قَالَ: {يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} زَالَ هَذَا الْوَهْمُ وَعُلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ بِطَائِرٍ مُقَيَّدٍ إِنَّمَا تَقَيَّدَتْ بِهِ الدَّابَّةُ.وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذَا قِيلَ لهم لا تفسدوا في الأرض} مَعَ أَنَّ الْمَعْلُومَ أَنَّ الْفَسَادَ لَا يَقَعُ إِلَّا فِي الْأَرْضِ قِيلَ فِي ذكرها تنبيه على أن الْمَحَلَّ الَّذِي فِيهِ شَأْنُكُمْ وَتَصَرُّفُكُمْ وَمِنْهُ مَادَّةُ حَيَاتِكُمْ-وَهِيَ سُتْرَةُ أَمْوَالِكُمْ- جَدِيرٌ أَلَّا يُفْسَدَ فيه إذا مَحَلُّ الْإِصْلَاحِ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُجْعَلَ مَحَلَّ الْإِفْسَادِ.وَهَذَا بِخِلَافِ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ بَرَاءَةٍ: {وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ ولا نصير} لِأَنَّ الْمُرَادَ نَفْيُ النَّصِيرِ عَنْهُمْ فِي جَمِيعِ الْأَرْضِ فَلَوْ لَمْ يُذْكَرْ لَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ خَاصًّا بِبَعْضِهَا.وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {ذَلِكَ قولهم بأفواههم} وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصدور} وَنَحْوَهَا مِنَ الْمُقَيَّدِ-إِذِ الْقَوْلُ لَا يَكُونُ إِلَّا بِالْفَمِ وَالْأَكْلُ إِنَّمَا يَكُونُ فِي الْبَطْنِ- فَفَوَائِدُهُ مُخْتَلِفَةٌ.فَقِيلَ: {بِأَفْوَاهِهِمْ} لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُ قَوْلٌ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ بَلْ لَيْسَ فِيهِ إِلَّا مُجَرَّدُ اللِّسَانِ أَيْ لَا يُعَضِّدُهُ حُجَّةٌ وَلَا بُرْهَانٌ وَإِنَّمَا هُوَ لَفْظٌ فَارِغٌ مِنْ مَعْنًى تَحْتَهُ كَالْأَلْفَاظِ الْمُهْمَلَةِ الَّتِي هِيَ أَجْرَاسٌ وَنَغَمٌ لَا تَدُلُّ عَلَى شَيْءٍ مُؤَثِّرٍ لِأَنَّ الْقَوْلَ الدَّالَّ عَلَى مَعْنًى قَوْلٌ بِالْفَمِ وَمُؤَثِّرٌ فِي الْقَلْبِ وَمَا لَا مَعْنَى لَهُ مَقُولٌ بِالْفَمِ لَا غَيْرَ أَوِ الْمُرَادُ بِالْقَوْلِ الْمَذْهَبُ أَيْ هُوَ مَذْهَبُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ لَا بِقُلُوبِهِمْ لِأَنَّهُ لَا حُجَّةَ عَلَيْهِ تُوجِبُ اعْتِقَادَهُ بِالْقَلْبِ.وَقِيلَ: إِنَّهُ رَافِعٌ لِتَوَهُّمِ إِرَادَةِ حَدِيثِ النَّفْسِ كَمَا في قوله تعالى: {ويقولون في أنفسهم}.وَقِيلَ: لِأَنَّ الْقَوْلَ يُطْلَقُ عَلَى الِاعْتِقَادِ فَأَفَادَ: {بِأَفْوَاهِهِمُ} التَّنْصِيصَ عَلَى أَنَّهُ بِاللِّسَانِ دُونَ الْقَلْبِ وَلَوْ لَمْ يُقَيَّدْ لَمْ يُسْتَفَدْ هَذَا الْمَعْنَى وَيَشْهَدُ لَهُ: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إنك} الْآيَةَ فَلَمْ يُكَذِّبْ أَلْسِنَتَهُمْ بَلْ كَذَّبَ مَا انْطَوَى عَنْ ضَمَائِرِهِمْ مِنْ خِلَافِهِ وَإِنَّمَا قَالَ: {في بطونهم نارا} لِأَنَّهُ يُقَالُ: أَكَلَ فِي بَطْنِهِ إِذَا أَمْعَنَ وَفِي بَعْضِ بَطْنِهِ إِذَا اقْتَصَرَ قَالَ: فَكَأَنَّهُ قِيلَ: يَأْكُلُونَ مَا يُجَرُّ-إِذَا امْتَلَأَتْ بُطُونُهُمْ- نَارًا وَإِنَّمَا قَالَ: {الَّتِي فِي الصدور} فإنه سبحانه لما دعاهم إلى التفكير وَالتَّعَقُّلِ وَسَمَاعِ أَخْبَارِ مَنْ مَضَى مِنَ الْأُمَمِ وَكَيْفَ أَهْلَكَهُمْ بِتَكْذِيبِهِمْ رُسُلَهُ وَمُخَالَفَتِهِمْ لَهُمْ قَالَ: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يعقلون بها أو آذان يسمعون بها}.قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: وَهَلْ شَيْءٌ أَبْلَغُ فِي الْعَظَمَةِ وَالْعِزَّةِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَرَادَ: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا إِلَى آثَارِ قَوْمٍ أَهْلَكَهُمُ اللَّهُ بِالْكُفْرِ وَالْعُتُوِّ فَيَرَوْا بُيُوتًا خَاوِيَةً قَدْ سَقَطَتْ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرًا يَشْرَبُ أَهْلُهَا فِيهَا قَدْ عُطِّلَتْ وَقَصْرًا بَنَاهُ مَلِكُهُ بِالشِّيدِ خَلَا مِنَ السَّكَنِ وَتَدَاعَى بِالْخَرَابِ فَيَتَّعِظُوا بِذَلِكَ وَيَخَافُوا مِنْ عُقُوبَةِ اللَّهِ مِثْلَ الَّذِي نَزَلَ بِهِمْ!ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّ أَبْصَارَهُمُ الظَّاهِرَةَ لَمْ تَعْمَ عَنِ النَّظَرِ وَالرُّؤْيَةِ وَإِنْ عَمِيَتْ قُلُوبُهُمُ الَّتِي فِي صُدُورِهِمْ.وَقِيلَ: لَمَّا كَانَتِ الْعَيْنُ قَدْ يُعْنَى بِهَا الْقَلْبُ فِي نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذكري} جَازَ أَنْ يُعْنَى بِالْقَلْبِ الْعَيْنُ فَقَيَّدَ الْقُلُوبَ بِذِكْرِ مَحَلِّهَا رَفْعًا لِتَوَهُّمِ إِرَادَةِ غَيْرِهَا.وَقِيلَ: ذِكْرُ مَحَلِّ الْعَمَى الْحَقِيقِيِّ الَّذِي هُوَ أَوْلَى بِاسْمِ الْعَمَى مِنْ عَمَى الْبَصَرِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ» أَيْ: هَذَا أَوْلَى بِأَنْ يَكُونَ شَدِيدًا مِنْهُ فَعَمَى الْقَلْبِ هُوَ الْحَقِيقِيُّ لَا عَمَى الْبَصَرِ فَأَعْمَى الْقَلْبِ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ أَعْمَى مِنْ أَعْمَى الْعَيْنِ فَنَبَّهَ بِقَوْلِهِ: {الَّتِي فِي الصدور} عَلَى أَنَّ الْعَمَى الْبَاطِنَ فِي الْعُضْوِ الَّذِي عَلَيْهِ الصَّدْرُ لَا الْعَمَى الظَّاهِرُ فِي الْعَيْنِ الَّتِي مَحَلُّهَا الْوَجْهُ.
|