الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: البرهان في علوم القرآن (نسخة منقحة)
.(إِنَّمَا): وَفَرَّقَ الْبَيَانِيُّونَ بَيْنَهُمَا فَقَالُوا: الْأَصْلُ أَنْ يَكُونَ مَا يُسْتَعْمَلُ لَهُ إِنَّمَا مِمَّا يَعْلَمُهُ الْمُخَاطَبُ وَلَا يُنْكِرُهُ كَقَوْلِكَ إِنَّمَا هُوَ أَخُوكَ وَإِنَّمَا هُوَ صَاحِبُكَ الْقَدِيمُ لِمَنْ يَعْلَمُ ذَلِكَ وَيُقِرُّ بِهِ وَمَا يُسْتَعْمَلُ لَهُ النَّفْيُ وَالِاسْتِثْنَاءُ عَلَى الْعَكْسِ فَأَصْلُهُ أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَجْهَلُهُ الْمُخَاطَبُ وَيُنْكِرُهُ نَحْوُ: {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا الله}. ثُمَّ إِنَّهُ قَدْ يُنْزَلُ الْمَعْلُومُ مَنْزِلَةَ الْمَجْهُولِ لِاعْتِبَارٍ مُنَاسِبٍ فَيُسْتَعْمَلُ لَهُ النَّفْيُ وَالِاسْتِثْنَاءُ نَحْوُ: {وما محمد إلا رسول} الْآيَةَ وَنَحْوُ: {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا} وَالرُّسُلُ مَا كَانُوا عَلَى دَفْعِ الْبَشَرِيَّةِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ وَادِّعَاءُ الْمَلَائِكِيَّةِ لَكِنَّ الْكُفَّارَ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ اللَّهَ لَا يُرْسِلُ إِلَّا الْمَلَائِكَةَ وَجَعَلُوا أَنَّهُمْ بِادِّعَائِهِمُ النُّبُوَّةَ يَنْفُونَ عَنْ أَنْفُسِهِمُ الْبَشَرِيَّةَ فَأُخْرِجَ الْكَلَامُ مَخْرَجَ مَا يَعْتَقِدُونَ وَأُخْرِجَ الْجَوَابُ أَيْضًا مَخْرَجَ مَا قَالُوا حِكَايَةً لِقَوْلِهِمْ كَمَا يَحْكِي الْمُجَادِلُ كَلَامَ خَصْمِهِ ثُمَّ يَكُرُّ عَلَيْهِ بِالْإِبْطَالِ كَأَنَّهُ قِيلَ الْأَمْرُ كَمَا زَعَمْتُمْ أَنَّنَا بَشَرٌ وَلَكِنْ لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا زَعَمْتُمْ مِنِ اخْتِصَاصِ الْمَلَائِكَةِ بِالرِّسَالَةِ فَإِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ. وَقَدْ يُنَزَّلُ الْمَجْهُولُ مَنْزِلَةَ الْمَعْلُومِ لِادِّعَاءِ الْمُتَكَلِّمِ ظُهُورَهُ فَيُسْتَعْمَلُ لَهُ إنما كقوله تعالى: {إنما نحن مصلحون} فَإِنَّ كَوْنَهُمْ مُصْلِحِينَ مُنْتَفٍ فَهُوَ مَجْهُولٌ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَمْ يُعْلَمْ بَيْنَهُمْ صَلَاحٌ فَقَدْ نَسَبُوا الْإِصْلَاحَ إِلَى أَنْفُسِهِمْ وَادَّعَوْا أَنَّهُمْ كَذَلِكَ ظَاهِرٌ جَلِيٌّ وَلِذَلِكَ جَاءَ الرَّدُّ عَلَيْهِمْ مُؤَكَّدًا مِنْ وجوه. .(إلى): وَاخْتُلِفَ فِي دُخُولِ مَا بَعْدَهَا فِي حُكْمِ مَا قَبْلَهَا عَلَى مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا: لَا تَدْخُلُ إِلَّا مَجَازًا لِأَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى غَايَةِ الشَّيْءِ وَنِهَايَتِهِ الَّتِي هِيَ حَدُّهُ وَمَا بَعْدَ الْحَدِّ لَا يَدْخُلُ فِي الْمَحْدُودِ وَلِهَذَا لَمْ يَدْخُلْ شَيْءٌ مِنَ اللَّيْلِ فِي الصَّوْمِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى الليل}. الثَّانِي: عَكْسُهُ أَيْ أَنَّهُ يَدْخُلُ وَلَا يَخْرُجُ إِلَّا مَجَازًا بِدَلِيلِ آيَةِ الْوُضُوءِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا مُشْتَرَكَةٌ فِيهِمَا لِوُجُودِ الدُّخُولِ وَعَدَمِهِ. وَالرَّابِعُ: إِنْ كَانَ مَا بَعْدَهَا مِنْ جِنْسِ مَا قَبْلَهَا أَوْ جُزْءًا كَالْمَرَافِقِ دَخَلَ وَإِلَّا فَلَا وَالْحَقُّ أَنَّهُ لَا يُطْلَقُ فَقَدْ يَدْخُلُ نَحْوُ: {وَأَيْدِيَكُمْ إلى المرافق} وَقَدْ لَا يَدْخُلُ نَحْوُ: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إلى الليل}. وَقِيلَ: فِي آيَةِ الْمَرَافِقِ: إِنَّهَا عَلَى بَابِهَا وَذَلِكَ أَنَّ الْمِرْفَقَ هُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي يَتَّكِئُ الْإِنْسَانُ عَلَيْهِ فِي رَأْسِ الْعَضُدِ وَذَلِكَ هُوَ الْمِفْصَلُ وَفَرِيقُهُ فَيَدْخُلُ فِيهِ مِفْصَلُ الذِّرَاعِ وَلَا يَجِبُ فِي الْغَسْلِ أَكْثَرُ مِنْهُ. وَقِيلَ: إِلَى تَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْغَسْلِ إِلَى الْمَرَافِقِ وَلَا يَنْبَغِي وُجُوبُ غَسْلِ الْمِرْفَقِ. لِأَنَّ الْحَدَّ لَا يَدْخُلُ فِي الْمَحْدُودِ وَلَا يَنْفِيهِ التَّحْدِيدُ كَقَوْلِكَ سِرْتُ إِلَى الْكُوفَةِ فَلَا يَقْتَضِي دُخُولَهَا وَلَا يَنْفِيهِ كَذَلِكَ الْمَرَافِقُ إِلَّا أَنَّ غَسْلَهُ ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ. وَمَنْشَأُ الْخِلَافِ فِي آيَةِ الْوُضُوءِ أَنَّ إِلَى حَرْفٌ مُشْتَرَكٌ يَكُونُ لِلْغَايَةِ وَالْمَعِيَّةِ وَالْيَدُ تُطْلَقُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَعَانٍ عَلَى الْكَفَّيْنِ فَقَطْ وَعَلَى الْكَفِّ وَالذِّرَاعِ وَالْعَضُدِ فَمَنْ جَعَلَ إِلَى بِمَعْنَى مَعَ وَفَهِمَ مِنَ الْيَدِ مَجْمُوعَ الثَّلَاثَةِ أَوْجَبَ دُخُولَهُ فِي الْغَسْلِ وَمَنْ فَهِمَ مِنْ إِلَى الْغَايَةَ وَمِنَ الْيَدِ مَا دُونَ الْمِرْفَقِ لَمْ يُدْخِلْهَا فِي الْغَسْلِ. قَالَ الْآمِدِيُّ: وَيَلْزَمُ مَنْ جَعَلَهَا بِمَعْنَى مَعَ أَنْ يُوجِبَ غَسْلَهَا إِلَى الْمَنْكِبِ لِأَنَّ الْعَرَبَ تُسَمِّيهِ يَدًا. وَقَدْ تَأْتِي بِمَعْنَى مَعَ كَقَوْلِهِ: {مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ}. {ويزدكم قوة إلى قوتكم}. {ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم}. {وأيديكم إلى المرافق}. {وإذا خلوا إلى شياطينهم}. وَقِيلَ: تَرْجِعُ إِلَى الِانْتِهَاءِ وَالْمَعْنَى فِي الْأَوَّلِ مَنْ يُضِيفُ نُصْرَتَهُ إِلَى نُصْرَةِ اللَّهِ وَمَوْضِعُهَا حَالٌ أَيْ مَنْ أَنْصَارِي مُضَافًا إِلَى اللَّهِ؟ وَالْمَعْنَى فِي الْأُخْرَى: وَلَا تُضِيفُوا أَمْوَالَكُمْ إِلَى أَمْوَالِهِمْ وَكُنِّيَ عَنْهُ بِالْأَكْلِ كَمَا قَالَ: {وَلَا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل} أَيْ لَا تَأْخُذُوا. وَقَدْ تَأْتِي لِلتَّبْيِينِ قَالَ ابْنُ مَالِكٍ وَهِيَ الْمُعَلَّقَةُ فِي تَعَجُّبٍ أَوْ تَفْضِيلٍ بِحُبٍّ أَوْ بُغْضٍ مُبَيِّنَةً لِفَاعِلِيَّةِ مَصْحُوبِهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالَ رَبِّ السجن أحب إلي}. ولموافقة اللام كقوله: {والأمر إليك} وَقِيلَ لِلِانْتِهَاءِ وَأَصْلُهُ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ. وَكَقَوْلِهِ: {وَيَهْدِي من يشاء إلى صراط مستقيم} وَمُوَافَقَةِ (فِي) فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {هَلْ لَكَ إلى أن تزكى} وَقِيلَ الْمَعْنَى بَلْ أَدْعُوكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى. وَزَائِدَةً كَقِرَاءَةِ بَعْضِهِمْ: {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تهوي إليهم} بِفَتْحِ الْوَاوِ. وَقِيلَ: ضَمَّنَ تَهْوَى مَعْنَى تَمِيلُ. .تَنْبِيهٌ: وَلَمْ يقف الشيخ ابن حَيَّانَ عَلَى هَذَا فَقَالَ فِي تَفْسِيرِهِ فِي قوله: {وهزي إليك بجذع النخلة}، وقوله: {واضمم إليك جناحك} إِلَى حَرْفُ جَرٍّ بِالْإِجْمَاعِ وَظَاهِرُهَا أَنَّهَا مُتَعَلِّقَةٌ بـ: {هزي}. وَكَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ مَعَ الْقَاعِدَةِ الْمَشْهُورَةِ أَنَّ الْفِعْلَ لَا يَتَعَدَّى إِلَى ضَمِيرٍ مُتَّصِلٍ. وَقَدْ يرفع المتصل وهما المدلول وَاحِدٍ فَلَا تَقُولُ ضَرَبْتَنِي وَلَا ضَرَبْتُكَ إِلَّا فِي بَابِ ظَنَّ وَالضَّمِيرُ الْمَجْرُورُ عِنْدَهُمْ بِالْحَرْفِ كَالْمَنْصُوبِ الْمُسْتَقِلِّ فَلَا تَقُولُ هَزَزْتَ إِلَيَّ وَلَا هززت إليك. .(أَلَا) بِالْفَتْحِ وَالتَّخْفِيفِ: {أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ ألا إنه بكل شيء محيط}. {ألا لعنة الله على الظالمين}. {أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لثمود}. {ألا يوم يأتيهم ليس مصروفا عنهم}. {ألا حين يستغشون ثيابهم}. وَتَأْتِي مُرَكَّبَةً مِنْ كَلِمَتَيْنِ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ وَلَا النَّافِيَةِ. وَالِاسْتِفْهَامُ إِذَا دَخَلَ عَلَى النَّفْيِ أَفَادَ تَحْقِيقًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ}. وقوله: {قال ألا تأكلون}. وَالتَّقْدِيرُ أَنَّهُمْ لَيْسُوا بِمُتَّقِينَ وَلَيْسُوا بِآكِلِينَ. وَلِلْعَرْضِ وَهُوَ طَلَبٌ بِلِينٍ نَحْوُ: {أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يغفر الله لكم}. {ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم}. .(أَلَّا) بِالْفَتْحِ وَالتَّشْدِيدِ: ثم قيل: المشددة أصل والمخففة فرع قيل بِالْعَكْسِ. وَقِيلَ: الْهَمْزَةُ بَدَلٌ مِنَ الْهَاءِ وَبِالْعَكْسِ حَكَاهُ ابْنُ هِشَامٍ الْخَضْرَاوِيُّ فِي حَاشِيَةِ سِيبَوَيْهِ. .(إِلَّا): الْأَوَّلُ: الِاسْتِثْنَاءُ وَيَنْقَسِمُ إِلَى مُتَّصِلٍ وَهُوَ مَا كَانَ الْمُسْتَثْنَى مِنْ جِنْسِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ نَحْوُ جَاءَ الْقَوْمُ إِلَّا زَيْدًا وَإِلَى مُنْقَطِعٍ وَهُوَ مَا كَانَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ. وَتُقَدَّرُ بِـ: (لَكِنْ) كَقَوْلِهِ: {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بمصيطر إلا من تولى وكفر} و: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا من شاء} وقوله: {إلا الذين آمنوا} في سورة الانشقاق و: {إلا من تولى وكفر} فِي آخِرِ الْغَاشِيَةِ. وكذلك: {إلا من ارتضى من رسول} وَدُخُولُ الْفَاءِ فِي {فَإِنَّهُ يَسْلُكُ} دَلِيلُ انْقِطَاعِهِ وَلَوْ كَانَ مُتَّصِلًا لَتَمَّ الْكَلَامُ عِنْدَ قَوْلِهِ رسول. وقوله: {إلا تذكرة لمن يخشى} وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ {تَذْكِرَةً} بَدَلًا مِنْ {لِتَشْقَى} وهو منصوب بـ: (أنزلنا) تَقْدِيرُهُ مَا أَنْزَلَنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ إِلَّا تَذْكِرَةً. وَقَوْلِهِ: {وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى} فَابْتِغَاءُ وَجْهِ رَبِّهِ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ النِّعَمِ الَّتِي تُجْزَى. وَقَوْلِهِ: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} فَقَوْلُهُمْ: {رَبُّنَا اللَّهُ} لَيْسَ بِحَقٍّ يُوجِبُ إِخْرَاجَهُمْ. وَقَوْلِهِ: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} لَا حَرَجَ عَلَيْهِمْ فِي قُعُودِهِمْ وَإِنَّمَا كَانَ مُنْقَطِعًا لِأَنَّ الْقَاعِدَ عَنْ ضَرَرٍ وَإِنْ كَانَتْ لَهُ نِيَّةُ الْجِهَادِ لَيْسَ مُسْتَوِيًا فِي الْأَجْرِ مَعَ الْمُجَاهِدِ لِأَنَّ الْأَجْرَ عَلَى حَسَبِ الْعَمَلِ وَالْمُجَاهِدُ يَعْمَلُ بِبَدَنِهِ وَقَلْبِهِ وَالْقَاعِدُ بِقَلْبِهِ. وَقَوْلِهِ: {فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إيمانها إلا قوم يُونُسَ}. إِذْ لَوْ كَانَ مُتَّصِلًا لَكَانَ الْمَعْنَى فَهَلْ آمَنَتْ قَرْيَةٌ إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ فَلَا يُؤْمِنُونَ فَيَكُونُ طَلَبُ الْإِيمَانِ مِنْ خِلَافِ قَوْمِ يُونُسَ وَذَلِكَ بَاطِلٌ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَطْلُبُ مِنْ كُلِّ شَخْصٍ الْإِيمَانَ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى لَكِنْ قَوْمَ يُونُسَ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: يُمْكِنُ اتِّصَالُهُ لِأَنَّ قَوْلَهُ: {فَلَوْلَا} فِي الْمَعْنَى نَفْيٌ فَإِنَّ الْخِطَابَ لَمَا يَقَعُ مِنْهُ الْإِيمَانُ وَذَلِكَ إِذَا كَانَ الْكَلَامُ نَفْيًا كَانَ مَا بَعْدَ إِلَّا يُوجَبُ إِنْكَارُهُ قَالَ: مَا مِنْ قَرْيَةٍ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ. وَقَدْ رَدَّ عَلَيْهِ الْآمِدِيُّ بِأَنْ جعل إلا متقطعة عَمَّا قَبْلَهَا لُغَةً فَصِيحَةً وَإِنْ كَانَ جَعْلُهَا مُتَّصِلَةً أَكْثَرَ وَحَمْلُ الْكَلَامِ عَلَى الْمَعْنَى لَيْسَ بِقِيَاسٍ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إلا من رحم} فَإِنَّ مَنْ رَحِمَ بِمَعْنَى الْمَرْحُومِ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الْعَاصِمِينَ وَإِنَّمَا هُوَ مَعْصُومٌ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا بِمَعْنَى لَكِنْ. فَإِنْ قِيلَ: يُمْكِنُ اتِّصَالُهُ عَلَى أَنَّ {مَنْ رَحِمَ} بِمَعْنَى الرَّاحِمِ أَيِ الَّذِي يَرْحَمُ فَيَكُونُ الثَّانِي مِنْ جِنْسِ الْأَوَّلِ. قِيلَ: حَمْلُ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ عَلَى الْقِرَاءَةِ الْأُخْرَى أعني قراءة {من رُحِمَ} بِضَمِّ الرَّاءِ حَتَّى يَتَّفِقَ مَعْنَى الْقِرَاءَتَيْنِ. الثَّانِي: بِمَعْنَى بَلْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {طه مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى إلا تذكرة} أَيْ بَلْ تَذْكِرَةً. الثَّالِثُ: عَاطِفَةً بِمَعْنَى الْوَاوِ فِي التَّشْرِيكِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عليكم حجة إلا الذين ظلموا} معناه ولا الذين ظلموا وقوله: {إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ إِلَّا مَنْ ظلم} أَيْ وَمَنْ ظَلَمَ تَأَوَّلَهَا الْجُمْهُورُ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ المنقطع. الرَّابِعُ: بِمَعْنَى (غَيْرَ) إِذَا كَانَتْ صِفَةً وَيُعْرَبُ الِاسْمُ بَعْدَ إِلَّا إِعْرَابَ غَيْرَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا}، وَلَيْسَتْ هُنَا لِلِاسْتِثْنَاءِ وَإِلَّا لَكَانَ التَّقْدِيرُ: لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ لَيْسَ فِيهِمُ اللَّهُ لَفَسَدَتَا وَهُوَ بَاطِلٌ. وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَمْ يَكُنْ لهم شهداء إلا أنفسهم}، فَلَوْ كَانَ اسْتِثْنَاءً لَكَانَ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ لِأَنَّ أَنْفُسَهُمْ لَيْسَ شُهُودًا عَلَى الزِّنَا لِأَنَّ الشُّهَدَاءَ عَلَى الزِّنَا يُعْتَبَرُ فِيهِمُ الْعَدَدُ وَلَا يَسْقُطُ الزِّنَا الْمَشْهُودُ بِهِ بِيَمِينِ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ. وَإِذَا جُعِلَ وَصْفًا فَقَدْ أُمِنَ فِيهِ مُخَالَفَةُ الْجِنْسِ فَـ: (إِلَّا) هِيَ بِمَنْزِلَةِ غَيْرَ لَا بِمَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ إِمَّا مِنْ جِنْسِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ أَوْ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ وَمَنْ تَوَهَّمَ فِي صِفَةِ اللَّهِ وَاحِدًا مِنَ الْأَمْرَيْنِ فَقَدْ أَبْطَلَ. قَالَ: الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَاهِرِ الْجُرْجَانِيُّ: هَذَا تَوَهُّمٌ مِنْهُ وَخَاطِرٌ خَطَرَ مِنْ غَيْرِ أَصْلٍ وَيَلْزَمُ عَلَيْهِ أَنْ تَكُونَ إِلَّا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ العالمين} وقوله: ضل من تدعون إلا إياه اسْتِثْنَاءً وَأَنْ تَكُونَ بِمَنْزِلَةِ غَيْرَ وَذَلِكَ لَا يَقُولُهُ أَحَدٌ لِأَنَّ إِلَّا إِذَا كَانَتْ صِفَةً كَانَ إِعْرَابُ الِاسْمِ الْوَاقِعِ بَعْدَهَا إِعْرَابَ الْمَوْصُوفِ بِهَا وَكَانَ تَابِعًا لَهُ فِي الرَّفْعِ وَالنَّصْبِ والجر. وقال: وَالِاسْمُ بَعْدَ إِلَّا فِي الْآيَتَيْنِ مَنْصُوبٌ كَمَا تَرَى وَلَيْسَ قَبْلَ إِلَّا فِي وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَنْصُوبٌ بِإِلَّا. وَاعْلَمْ أَنَّهُ يُوصَفُ بِمَا بَعُدَ إِلَّا سَوَاءٌ كَانَ اسْتِثْنَاءً مُنْقَطِعًا أَوْ مُتَّصِلًا قَالَ الْمُبَرِّدُ وَالْجَرْمِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلَّا قليلا ممن أنجينا منهم} لَوْ قُرِئَ بِالرَّفْعِ قَلِيلٌ عَلَى الصِّفَةِ لَكَانَ حَسَنًا وَالِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعٌ. الْخَامِسُ: بِمَعْنَى بَدَلَ وَجَعَلَ ابْنُ الضَّائِعِ مِنْهُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا الله لفسدتا} أَيْ بَدَلُ اللَّهِ أَيْ عِوَضُ اللَّهِ وَبِهِ يَخْرُجُ عَلَى الْإِشْكَالِ الْمَشْهُورِ فِي الِاسْتِثْنَاءِ وَفِي الْوَصْفِ بِـ: (إِلَّا) مِنْ جِهَةِ الْمَفْهُومِ. بَقِيَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ ابْنَ مَالِكٍ جَعَلَهَا فِي الْآيَةِ صِفَةً وَأَنَّهَا لِلتَّأْكِيدِ لَا لِلتَّخْصِيصِ لِأَنَّهُ لَوْ قِيلَ لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ فَسَدَتَا لَصَحَّ لَأَنَّ الْفَسَادَ مُرَتَّبٌ عَلَى تَعَدُّدِ الْآلِهَةِ. فيقال: ما فائدة الوصف المقتضي ها هنا لِلتَّأْكِيدِ؟ وَجَوَابُهُ أَنَّ آلِهَةً تَدُلُّ عَلَى الْجِنْسِ أَوْ عَلَى الْجَمْعِ فَلَوِ اقْتُصِرَ عَلَيْهِ لَتُوُهِّمَ أَنَّ الْفَسَادَ مُرَتَّبٌ عَلَى الْجِنْسِ مِنْ حَيْثُ هُوَ فَأَتَى بِقَوْلِهِ: {إِلَّا اللَّهَ} لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ الْفَسَادَ مُرَتَّبٌ عَلَى التَّعَدُّدِ وَهَذَا نَظِيرُ قولهم في: {إلهين اثنين} أَنَّ الْوَصْفَ هُنَا مُخَصَّصٌ لَا مُؤَكَّدٌ لِأَنَّ: {إلهين} يدل على الجنسية وعلى التثنية فلوا اقْتَصَرَ عَلَيْهِ لَمْ يُفْهَمُ النَّهْيُ عَنْ أَحَدِهِمَا فأتى بـ: (اثنين) لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ عَنِ الِاثْنَيْنِ عَلَى مَا سَبَقَ. السَّادِسُ: لِلْحَصْرِ إِذَا تَقَدَّمَهَا نَفْيٌ: إِمَّا صَرِيحٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} أَوْ مُقَدَّرٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا على الخاشعين} فَإِنَّ إِلَّا مَا دَخَلَتْ بَعْدَ لَفْظِ الْإِيجَابِ إِلَّا لِتَأْوِيلِ مَا سَبَقَ إِلَّا بِالنَّفْيِ أَيْ فَإِنَّهَا لَا تَسْهُلُ وَهُوَ مَعْنَى كَبِيرَةٌ وَإِمَّا لِأَنَّ الْكَلَامَ صَادِقٌ مَعَهَا أَيْ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ بِخِلَافِ ضَرَبْتُ إِلَّا زَيْدًا فَإِنَّهُ لَا يَصْدُقُ. السابع: مركبة من إن الشرطية ولا النَّافِيَةِ وَوَقَعَتْ فِي عِدَّةِ مَوَاقِعَ مِنَ الْقُرْآنِ نحو: {إلا تنصروه فقد نصره الله}. {إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض}. {إلا تنفروا يعذبكم}. {وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ}. {وإلا تصرف عني كيدهن}. وَلِأَجْلِ الشَّبَهِ الصُّورِيِّ غَلِطَ بَعْضُهُمْ فَقَالَ فِي إِلَّا تَفْعَلُوهُ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مُنْقَطِعٌ أَوْ مُتَّصِلٌ. وَعَجِبْتُ مِنَ ابْنِ مَالِكٍ فِي شَرْحِ التَّسْهِيلِ حَيْثُ عَدَّهَا فِي أَقْسَامِ إِلَّا لَكِنَّهُ فِي شَرْحِ الْكَافِيَةِ قَالَ فِي بَابِ الِاسْتِثْنَاءِ لَا حَاجَةَ لِلِاحْتِرَازِ عَنْهَا.
|