الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»
.تفسير الآية رقم (39): قوله تعالى: {لِيُبَيِّنَ لَهُمُ} أي ليظهر لهم. {الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ} أي من أمر البعث. {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا} بالبعث وأقسموا عليه {أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ} وقيل: المعنى ولقد بعثنا في كل أمة رسولا ليبين لهم الذي يختلفون فيه، والذي اختلف فيه المشركون والمسلمون أمور: منها البعث، ومنها عبادة الأصنام، ومنها إقرار قوم بأن محمدا حق ولكن منعهم من اتباعه التقليد، كأبي طالب. .تفسير الآية رقم (40): أعلمهم سهولة الخلق عليه، أي إذا أردنا أن نبعث من يموت فلا تعب علينا ولا نصب في إحيائهم، ولا في غير ذلك مما نحدثه، لأنا إنما نقول له كن فيكون. قراءة ابن عامر والكسائي {فَيَكُونُ} نصبا عطفا على أن نقول. وقال الزجاج: يجوز أن يكون نصبا على جواب {كُنْ}. الباقون بالرفع على معنى فهو يكون. وقد مضى القول فيه في البقرة مستوفى. وقال ابن الأنباري: أوقع لفظ الشيء على المعلوم عند الله قبل الخلق لأنه بمنزلة ما وجد وشوهد. وفى الآية دليل على أن القرآن غير مخلوق، لأنه لو كان قوله: {كُنْ} مخلوقا لاحتاج إلى قول ثان، والثاني إلى ثالث وتسلسل وكان محالا. وفيها دليل على أن الله سبحانه مريد لجميع الحوادث كلها خيرها وشرها نفعها وضرها، والدليل على ذلك أن من يرى في سلطانه ما يكرهه ولا يريده فلأحد شيئين: إما لكونه جاهلا لا يدرى، وإما لكونه مغلوبا لا يطيق، ولا يجوز ذلك في وصفه سبحانه، وقد قام الدليل على أنه خالق لاكتساب العباد، ويستحيل أن يكون فاعلا لشيء وهو غير مريد له، لان أكثر أفعالنا يحصل على خلاف مقصودنا وإرادتنا، فلو لم يكن الحق سبحانه مريدا لها لكانت تلك الافعال تحصل من غير قصد، وهذا قول الطبيعيين، وقد أجمع الموحدون على خلافه وفساده. .تفسير الآية رقم (41): قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا} قد تقدم في النساء معنى الهجرة، هي ترك الأوطان والأهل والقرابة في الله أو في دين الله، وترك السيئات. وقيل: {في} بمعنى اللام، أي لله. مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا أي عذبوا في الله. نزلت في صهيب وبلال وخباب وعمار، عذبهم أهل مكة حتى قالوا لهم ما أرادوا، فلما خلوهم هاجروا إلى المدينة، قاله الكلبي. وقيل: نزلت في أبى جندل بن سهيل. وقال قتادة: المراد أصحاب محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ظلمهم المشركون بمكة وأخرجوهم حتى لحق طائفة منهم بالحبشة، ثم بوأهم الله تعالى دار الهجرة وجعل لهم أنصارا من المؤمنين. والآية تعم الجميع. {لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً} في الحسنة ستة أقوال: الأول- نزول المدينة، قاله ابن عباس والحسن والشعبي وقتادة. الثاني- الرزق الحسن، قاله مجاهد. الثالث- النصر على عدوهم، قاله الضحاك. الرابع- إنه لسان صدق، حكاه ابن جريج. الخامس- ما استولوا عليه من فتوح البلاد وصار لهم فيها من الولايات. السادس: ما بقي لهم في الدنيا من الثناء، وما صار فيها لأولادهم من الشرف. وكل ذلك اجتمع لهم بفضل الله، والحمد لله. {وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ} أي ولأجر دار الآخرة أكبر، أي أكبر من أن يعلمه أحد قبل أن يشاهده، {وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً}. {لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ} أي لو كان هؤلاء الظالمون يعلمون ذلك. قيل: هو راجع إلى المؤمنين. أي لو رأوا ثواب الآخرة وعاينوه لعلموا أنه أكبر من حسنة الدنيا. وروى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إذا دفع إلى المهاجرين العطاء قال: هذا ما وعدكم الله في الدنيا وما أدخر لكم في الآخرة أكثر، ثم تلا عليهم هذه الآية. .تفسير الآية رقم (42): قيل: {الَّذِينَ} بدل من {الَّذِينَ} الأول. وقيل: من الضمير في {لَنُبَوِّئَنَّهُمْ} وقيل: هم الذين صبروا على دينهم. {وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} في كل أمورهم. وقال بعض أهل التحقيق: خيار الخلق من إذا نابه أمر صبر، وإذا عجز عن أمر توكل، قال الله تعالى: {الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}. .تفسير الآيات (43- 44): قوله تعالى: {وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ} قراءة العامة {يوحى} بالياء وفتح الحاء. وقرأ حفص عن عاصم {نوحي إليهم} بنون العظمة وكسر الحاء نزلت في مشركي مكة حيث أنكروا نبوة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقالوا: الله أعظم من أن يكون رسوله بشرا، فهلا بعث إلينا ملكا، فرد الله تعالى عليهم بقوله: {وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ} إلى الأمم الماضية يا محمد {إِلَّا رِجالًا} آدميين. {فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ} قال سفيان: يعني مؤمنى أهل الكتاب. {إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} يخبرونكم أن جميع الأنبياء كانوا بشرا. وقيل: المعنى فاسألوا أهل الكتاب فإن لم يؤمنوا فهم معترفون بأن الرسل كانوا من البشر روى معناه عن ابن عباس ومجاهد. وقال ابن عباس: أهل الذكر أهل القرآن وقيل: أهل العلم، والمعنى متقارب. {بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ} قيل: {بِالْبَيِّناتِ} متعلق ب {أَرْسَلْنا}. وفى الكلام تقديم وتأخير، أي ما أرسلنا من قبلك بالبينات والزبر إلا رجالا- أي غير رجال، ف {إِلَّا} بمعنى غير، كقوله: لا إله إلا الله، وهذا قول الكلبي- نوحي إليهم. وقيل: في الكلام حذف دل عليه {أَرْسَلْنا} أي أرسلناهم بالبينات والزبر. ولا يتعلق {بِالْبَيِّناتِ} ب {أَرْسَلْنا} الأول على هذا القول، لان ما قبل {إِلَّا} لا يعمل فيما بعدها، وإنما يتعلق بأرسلنا المقدرة، أي أرسلناهم بالبينات. وقيل: مفعول ب {تَعْلَمُونَ} والباء زائدة، أو نصب بإضمار أعنى، كما قال الأعشى: أي أعنى المتعيب. والبينات: الحجج والبراهين. والزبر: الكتب. وقد تقدم في آل عمران. {وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ} يعني القرآن. {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} في هذا الكتاب من الأحكام والوعد والوعيد بقولك وفعلك، فالرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مبين عن الله عز وجل مراده مما أجمله في كتابه من أحكام الصلاة والزكاة، وغير ذلك مما لم يفصله. وقد تقدم هذا المعنى مستوفى في مقدمة الكتاب، والحمد لله. {وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} فيتعظون. .تفسير الآيات (45- 47): قوله تعالى: {أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ} أي بالسيئات، وهذا وعيد للمشركين الذين احتالوا في إبطال الإسلام. {أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ} قال ابن عباس: كما خسف بقارون، يقال: خسف المكان يخسف خسوفا ذهب في الأرض، وخسف الله به الأرض خسوفا أي غاب به فيها، ومنه قوله: {فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ}. وخسف هو في الأرض وخسف به. والاستفهام بمعنى الإنكار، أي يجب ألا يأمنوا عقوبة تلحقهم كما لحقت المكذبين. {أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ} كما فعل بقوم لوط وغيرهم. وقيل: يريد يوم بدر، فإنهم أهلكوا ذلك اليوم، ولم يكن شيء منه في حسابهم. {أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ} أي في أسفارهم وتصرفهم، قاله قتادة. {فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ} أي سابقين لله ولا فائتيه. وقيل: {فِي تَقَلُّبِهِمْ} على فراشهم أينما كانوا. وقال الضحاك: بالليل والنهار. {أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ} قال ابن عباس ومجاهد وغيرهما: أي على تنقص من أموالهم ومواشيهم وزروعهم. وكذا قال ابن الاعرابي: أي على تنقص من الأموال والأنفس والثمرات حتى أهلكهم كلهم. وقال الضحاك: هو من الخوف، المعنى: يأخذ طائفة ويدع طائفة، فتخاف الباقية أن ينزل بها ما نزل بصاحبتها. وقال الحسن: {عَلى تَخَوُّفٍ} أن يأخذ القرية فتخافه القرية الأخرى، وهذا هو معنى القول الذي قبله بعينه، وهما راجعان إلى المعنى الأول، وأن التخوف التنقص، تخوفه تنقصه، وتخوفه الدهر وتخونه- بالفاء والنون بمعنى، يقال: تخوننى فلان حقي إذا تنقصك. قال ذو الرمة: وقال لبيد: أي تنقص لحمها وشحمها. وقال الهيثم بن عدى: التخوف بالفاء التنقص، لغة لازد شنوءة. وأنشد: وقال سعيد بن المسيب: بينما عمر بن الخطاب رضي الله عنه على المنبر قال: يا أيها الناس، ما تقولون في قول الله عز وجل: {أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ} فسكت الناس، فقال شيخ من بنى هذيل: هي لغتنا يا أمير المؤمنين، التخوف التنقص. فخرج رجل فقال: يا فلان، ما فعل دينك؟ قال: تخوفته، أي تنقصته، فرجع فأخبر عمر فقال عمر: أتعرف العرب ذلك في أشعارهم؟ قال نعم، قال شاعرنا أبو كبير الهذلي يصف ناقة تنقص السير سنامها بعد تمكه واكتنازه: فقال عمر: يا أيها الناس، عليكم بديوانكم شعر الجاهلية فإن فيه تفسير كتابكم ومعاني كلامكم. تمك السنام يتمك تمكا، أي طال وارتفع، فهو تأمك. والسفن والمسفن ما ينجر به الخشب. وقال الليث بن سعد: {عَلى تَخَوُّفٍ} على عجل. وقال: على تقريع بما قدموه من ذنوبهم، وهذا مروي عن ابن عباس أيضا. وقال قتادة: {عَلى تَخَوُّفٍ} أن يعاقب أو يتجاوز. {فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ} أي لا يعاجل بل يمهل. .تفسير الآية رقم (48): قرأ حمزة والكسائي وخلف ويحيى والأعمش {تروا} بالتاء، على أن الخطاب لجميع الناس. الباقون بالياء خبرا عن الذين يمكرون السيئات، وهو الاختيار. {مِنْ شَيْءٍ} يعني من جسم قائم له ظل من شجرة أو جبل، قاله ابن عباس. وإن كانت الأشياء كلها سميعة مطيعة لله تعالى. {يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ} قرأ أبو عمرو ويعقوب وغيرهما بالتاء لتأنيث الظلال. الباقون بالياء، واختاره أبو عبيد. أي يميل من جانب إلى جانب، ويكون أول النهار على حال ويتقلص ثم يعود في آخر النهار على حالة أخرى، فدورانها وميلانها من موضع إلى موضع سجودها، ومنه قيل للظل بالعشي: في، لأنه فاء من المغرب إلى المشرق، أي رجع. والفيء الرجوع، ومنه {حَتَّى تَفِي ءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ}. روى معنى هذا القول عن الضحاك وقتادة وغيرهما، وقد مضى هذا المعنى في سورة الرعد. وقال الزجاج: يعني سجود الجسم، وسجوده انقياده وما يرى فيه من أثر الصنعة، وهذا عام في كل جسم. ومعنى {وَهُمْ داخِرُونَ} أي خاضعون صاغرون. والدخور: الصغار والذل. يقال: دحر الرجل بالفتح فهو داخر، وأدخره الله. وقال ذو الرمة: كذا نسبه الماوردي لذي الرمة، ونسبه الجوهري للفرزدق وقال: المخيس اسم سجن كان بالعراق، أي موضع التذلل، وقال: ووحد اليمين في قوله: {عَنِ الْيَمِينِ} وجمع الشمال، لان معنى اليمين وإن كان واحدا الجمع. ولو قال: عن الايمان والشمائل، واليمين والشمال، أو اليمين والشمال لجاز، لان المعنى للكثرة. وأيضا فمن شأن العرب إذا اجتمعت علامتان في شيء واحد أن تجمع إحداهما وتفرد الأخرى، كقوله تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وكقوله تعالى:} وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ ولو قال على أسماعهم وإلى الأنوار لجاز. ويجوز أن يكون رد اليمين على لفظ {ما} والشمال على معناه. ومثل هذا في الكلام كثير. قال الشاعر: ولم يقل جلود. وقيل: وحد اليمين لام الشمس إذا طلعت وأنت متوجه إلى القبلة انبسط الظل عن اليمين ثم في حال يميل إلى جهة الشمال ثم حالات، فسماها شمائل.
|